ان زيارة الأربعين بتجمهرها المليوني كانت ولا زالت تظاهرة حسينية فاضحة للزيف والتزييف الذي غطى على مساحات واسعة من فكر الجمهور المسلم المتعطش لمعرفة الحقائق كما هي ، حتى أضحى ذلك الجمهور لَا يُفَرِّقُ بين الشعارات الصادقة وتلك الكاذبة التي لا تمتلك مقومات البقاء، الأمر الذي يسبب الفتنة فعلا أو يشعلها ، ومن ثم يحجب الرؤية الواضحة عن النفوس البريئة التي تتأثر بالشعار ولا تغوص في أعماق الأمور.
من هنا جاءت زيارة الأربعين لتمثل انتصار الشعار الصادق على رهافة السيف الظالم، ولتخلق روح التوافق والالتحام ، فان اجتماع مجموعة من الناس واتحادهم في عمل ما بدافع العقيدة سيولد لامحالة وشائج وثيقة بين الأفراد ويعزز العلاقات الاجتماعية بينهم لا سيما وان العامل المشترك بين الجميع هو عمل عبادي يبغي من ورائه نيل الثواب وهذا ما ينطبق تماماً على مراسم زيارة الأربعين ونشاط مواكبها ، مضافاً الى أنها دعوة صادقة للسلام يرتفع نداؤها ليغطي على طبول الظلم الزائفة.
ان زيارة الأربعين هي تجسيد لقتل الظلمة والطغاة بلا قتال ، وقد اثار ذلك حفيظة الظالمين فجدّوا في منع الموالين من احياء تلك الشعيرة ، والتنكيل بهم ، والتشنيع عليهم بمختلف الأساليب ، من هنا كانت زيارة الأربعين عملا إعلاميا ضخما، وتبليغيا بالغ الصعوبة والتعقيد لكنها في الوقت نفسه تكشف المعالم الحقيقية للدين ، فهي تجعل من الإنسان مادة للرسالة ، ذلك الإنسان المجرد من كل الأسلحة إلا سلاح الولاء واحترام الذات ، فهو في زيارة الأربعين كائن مقدس يمشي نحو قبلة الطهر والقداسة لا يتعدى حدوده ، يمشي على سكينة ووقار عالماً بحرمة الدماء وقداستها ، كما قرر الإسلام ذلك ، فالله تعالى يقول {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة : 32] , وكما أكدت عليه الروايات الشريفة الواردة عن أهل البيت، نذكر من ذلك:
عن أبي ذر عن النبي (صلى الله عليه واله) في وصية له قال: «يا ابا ذر سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، واكل لحمه من معاصي الله، وحرمة ماله كحرمة دمه»(1).
عن أبي بصير عن ابي جعفر(عليه السلام) ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه واله): «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية لله، وحرمة ماله كحرمة دمه»(2).
3- عن حبة العرني قال : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «من ائتمن رجلاً على دمه ثم خاس – غدر – به ، فأنا من القاتل بريء ، وان كان المقتول في النار»(3).
لقد استوعبت زيارة الأربعين كل تلك المعاني والإشارات، وعمقت عشق ثورة الإمام الحسين في قلوب وضمائر الناس باعتباره ما خرج إلا لطلب الإصلاح في أمة جده (صلى الله عليه واله) ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وهذا هو هدف الإمام في خروجه ، اذ قال (عليه السلام) : «اني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي محمد آمر بالمعروف وانهى عن المنكر(4)» وهذا ما ينبغي ان يكون شعارا لزيارة الأربعين على مدى الدهر.
لقد كانت تلك الزيارة العظيمة سباقة في رفع راية اهل البيت وإسماع دعوتهم لغيرهم لأن تميزهم بإحياء تلك المناسبة ومواظبتهم على رفع شعائر الحب والولاء فيها ، وتأكيدهم على ظلامة أهل البيت(عليهم السلام) واستثارتهم للعواطف بمناسبة ذلك يلفت أنظار الآخرين إليهم ، ويحملهم على الاحتكاك بهم ، والتعرف على ما عندهم، ولاسيما ان احياء هذه المناسبة يكون غالبا بنحو مثير وملفت للنظر، يساعد على ذلك كله تأييد الله تعالى لهذه الطائفة المنصورة ، فها نحن نرى هذه الايام اثر هذه الزيارة وغيرها في الفات نظر العالم وتوجيه وسائل الإعلام المختلفة نحو فاجعة الطف في مواسمها المشهودة، لينظر العالم بعينه مدى استماتة الموالين في احياء تلك المناسبة وغيرها مضحين بالغالي والنفيس في سبيل إحيائها، غير مكترثين بالمخاطر والظروف التي قد تكون غير مهيأة لتلك الشعائر.
«وذلك يفسر ما رواه معاوية بن وهب من دعاء الإمام الصادق لزوار الإمام الحسين(عليه السلام) – لعلمه بتلك الظروف التي قد يكون فيها مخاطر جمّة على الموالين – حيث قال «اللهم ان أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا، خلافا منهم على من خالفنا، فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تتقلب على حفرة ابي عبد الله (عليه السلام) ، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا....»(5)
____________
(1) وسائل الشيعة ج12 ص281 – ط : مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
(2) وسائل الشيعة ج12 ص281 – ط : مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) .
(3) نفس المصدر ج15 ص69.
(4) مناقب آل ابي طالب لابن شهر آشوب ج3 ص123.
(5) كامل الزيارات لابن قولويه ص228-229 نقلا عن فاجعة الطف لأية الله العظمى محمد سعيد الحكيم «بتصرف».