لقد نال الإمام الحسين (عليه السلام) أعظم وسام خصه الله سبحانه وتعالى لعباده المخلصين، وهو وسام الشهادة في سبيل رفع كلمة التوحيد ومحاربة الظلم والجور، ومن ذلك الحين تربع الحسين (عليه السلام) على عرش الشهادة ولم يدانيه أحدا، وسجل أعظم ملحمة من ملاحم البطولة والفداء في التاريخ، وشهدت كربلاء هذه الملحمة التاريخية التي لم يخبرنا التاريخ عن وقع ملحمة أعظم منها، ولم يخبرنا التاريخ أيضا عن بطولة كبطولة الحسين (عليه السلام)، لقد شاهد أهل بيته وأصحابه يتهاوون صرعى على رمضاء كربلاء وهو قوي الجنان رابط الجأش، فحاز الإمام الشهيد (عليه السلام) منزلة الشرف والتقديس، حتى غدت كربلاء التي سال على رمضائها دم الحسين (عليه السلام) تضاهي بقاع العالم قدسية وشرفا، وأصبحت مهوى لقلوب المسلمين، وغدا قبره الشريف (عليه السلام) وسام عز وشرف لكربلاء، وصار مسجده أفضل مسجد أسس على التقوى، ومشهده أشرف مشهد، فأن يكون بيت الحرام قبلة للأنام ومعدن البركات، فكربلاء بحلول سبط المصطفى في تربتها حازت شرفا لا يعلوه شرف، وفخرا لا يعلوه فخر.
فشرف الكعبة بمولد سيد الوصيين كان مقدار ساعة، وشرف كربلاء بضريح سبط خاتم النبيين إلى قيام الساعة، إن يكون الطواف بالكعبة به تمام الحج والعمرة، فالطواف بضريحه يعدل ثوابه ثواب ذلك ألف مرة، إن تكن الكعبة قبلة جباه المسلمين، فكربلاء وجهة قلوب المؤمنين، إن تكن الصلاة عزيمة وفريضة، فبغير ولايته وولاية آبائه وأبنائه لا تعادل عند الله جناح يعوضه، إن يكن البيت العتيق عتيق من الطوفان والغرق، فمقامه (صلوات الله عليه) لما أجرى الماء عليه حار وما انطلق، إن تكن أفئدة من الناس تهوي إلى البيت، فقلوب المؤمنين تحن على زيارته على الدوام .
ولله در الشاعر دعبل الخزاعي حيث يقول في زيارة قبر سيد الشهداء:
زر خير قبر بالعراق يزار * واعص الحمار فمن نهاك حمار
لم لا أزورك يا حسين لك الفدى * قومي ومن عطفت عليه نزار
ولك المودة في قلوب أولي النهي * وعلى عدوك مقتة ودثار
لقد أصبح قبر الحسين (عليه السلام) محط أنظار المسلمين وكان لأهل البيت (عليهم السلام) دورا بارزا في توجيههم وحثهم على زيارة القبر الشريف، وما لزيارته من فضل عظيم عند الله سبحانه وتعالى، ومن قبلهم كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبر بفضل زيارته (عليه السلام) وأن زواره هم الصديقون من أمته، كما جاء عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا دخل الحسين (عليه السلام) اجتذبه إليه ثم يقول لأمير المؤمنين (عليه السلام): أمسكه، ثم يقع عليه فيقبله ويبكي، يقول: يا أبه لم تبكي؟ فيقول: يا بني أقبل موضع السيوف منك وابكي، قال: يا أبه وأقتل؟ قال: إي والله وأبوك وأخوك وأنت، قال: يا أبه فمصارعنا شتى؟ قال: نعم يا بني، قال: فمن يزورنا من أمتك؟ قال: لا يزورني ويزور أباك وأخاك وأنت إلا الصديقون من أمتي " .
وفي رواية ابن قولويه بسند عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " كان الحسين بن علي في حجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يلاعبه ويضاحكه، فقالت عائشة: يا رسول الله ما أشد إعجابك بهذا الصبي؟ فقال لها: ويلك وكيف لا أحبه ولا أعجب به، وهو ثمرة فؤادي وقرة عيني، أما إن أمتي ستقتله، فمن زاره بعد وفاته كتب الله حجة من حججي، قالت: يا رسول الله حجة من حججك؟ قال: نعم وحجتين من حججي، قالت: يا رسول الله حجتين من حججك؟ قال: نعم، وأربعة، قال: فلم تزل تزاده ويزيد ويضعفه حتى بلغ تسعين حجة من حجج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأعمارها " .
ومن حديث له (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أبنته الزهراء (عليها السلام) عندما أخبرها بمقتل فلذة كبدها الحسين (عليه السلام) وبكت قال لها من جملة ما قال: أما ترضين أن يكون من أتاه زائرا في ضمان الله، ويكون من أتاه بمنزلة من حج إلى بيت الله الحرام واعتمر، ولم يخل من الرحمة طرفة عين، وإذا مات مات شهيدا، وإن بقي لم تزل الحفظة تدعو له ما بقي، ولم يزل في حفظ الله وأمنه حتى يفارق الدنيا .
فكان الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) يصف زوار الحسين بالصديقين من أمته، ومرة أخرى يعتبر زيارة الحسين (صلى الله عليه وآله وسلم) تعادل تسعين حجة وعمرة من حجج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإذا مات زائر الحسين مات شهيدا، عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حق الحسين (عليه السلام): " يا ابن عباس من زاره عارفا بحقه كتب له ثواب ألف حجة وألف عمرة، ألا ومن زاره فكأنما زارني، ومن زارني فكأنما قد زار الله، وحق الزائر على الله أن لا يعذبه بالنار " .
هذه منزلة الحسين (عليه السلام) عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينطق عن الهوى، ثم جاء ولده الأئمة من بعده بكشف الحجاب المرخى على فضائل هذا القبر الشريف، فقال المرحوم الدكتور جواد الكليدار عن هذا المعنى: " ولذلك جاءت الأحاديث عن الأئمة وكلها ناطقة بهذا المعنى، فجعلوا لزيارة بطل الإسلام الشهيد ابن الشهيد أبي الشهداء، وزيارة مرقده الخالد مناسك مثل ما لحج بيت الله الحرام، لأن الزائر بحضرته أمام شخصية إسلامية عظيمة لم تمت بمنطوق الآية الكريمة: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] , وآي شهيد أعظم منزلة، وأعلى قدرا ومكانة عند الله من الحسين سيد الشهداء وأبي أئمة العرب الأطهار ومن أصحابه؟ وهم شهداء ليس مثلهم شهداء إلا شهداء بدر الذين ضحوا بأنفسهم لتثبت دعائم الدعوة الإسلامية .
حتى أصبحت زيارة الحسين فرض على كل مسلم، فالتزم بها الشيعة بشكل دقيق، وهم ينصتون للإمام الباقر (عليه السلام) يقول: " مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين (عليه السلام)، فأن إتيانه مفترض على كل مؤمن يقر للحسين بالإمامة من الله عز وجل " .
من هنا أصبحت زيارة الحسين فريضة على كل من يقر للحسين (عليه السلام) بالإمامة، وكان عارفا له حقه وحرمته وولايته، أما الجاحدون لأهل البيت (عليهم السلام) فهم خارجون عن شرط الزيارة، ففي حديث هارون بن خارجه، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
" إنهم يرون إنه من زار الحسين كانت له حجة وعمرة؟ قال: ومن زاره - والله - عارفا بحقه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر " .
وعن مولانا موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام): " أدنى ما يثاب به زائر أبي عبد الله (عليه السلام) بشط الفرات إذا عرف حقه وحرمته وولايته، أن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر " .
وفي حديث الوشاء، قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: " إن لكل إمام عهدا في عنق أوليائه وشيعته، وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقا لما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاؤهم يوم القيامة " .
وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يصرح بثواب زيارة الحسين (عليه السلام) بقوله: كمن حج ثلاث حجج مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
الإمام الصادق (عليه السلام) وزوار القبر الشريف أصبحت الشيعة في عهد الإمام الصادق (عليه السلام) تأخذ منحا جديدا سواء من الناحية الفكرية أو العددية، خصوصا في نهاية الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية، وقد استطاع الإمام الصادق (عليه السلام) وهو القائد الروحي للشيعة أن يوجه أصحابه نحو المسار الصحيح الذي يتبناه أئمة الهدى (عليهم السلام) في تطبيق الشريعة المحمدية الأصيلة، بعيدا عن الزيف والانحراف الذي أخذ يدب في أوصال الأمة عند ولادة المذاهب التي انحرفت عن مسار أهل البيت (عليهم السلام) وكانت بتشجيع من حكام السوء.
ففي هذا الجو المشحون بالمتناقضات كانت الشيعة تلتف حول قيادة الإمام الصادق (عليه السلام) يأخذون عنه الحديث، ويدونون الرواية، ويستفسرون عما أشكل عليهم من أمورهم الدينية، ومنها الأسئلة التي تدور حول فضل وثواب زيارة قبر سيد الشهداء (عليه السلام).
ففي رواية هشام بن سالم قال: أتيت الإمام الصادق فقلت له: يا ابن رسول الله هل يزار والدك؟ قال: نعم ويصلى عنده، قال: فما لمن تركه رغبة عنه؟ قال: الحسرة يوم الحسرة، قال: فما لمن أقام عنده؟ قال: وكل يوم بألف شهر، قال: فما للمنفق في خروجه إليه والمنفق عنده؟ قال: درهم بألف درهم، قال: فما لمن مات في سفره إليه؟ قال: تشيعه الملائكة وتأتيه بالحنوط والكسوة من الجنة، وتصلي عليه إذا كفن فوق أكفانه، وتفرش له الريحان تحته، وتدفع الأرض حتى تصور من بين يديه مسيرة ثلاثة أميال، ومن خلفه مثل ذلك، وعند رأسه مثل ذلك، وعند رجليه مثل ذلك، ويفتح له باب من الجنة إلى قبره، ويدخل عليه روحها وريحانها حتى تقوم الساعة!
قلت: فما لمن صلى عنده؟ قال: من صلى عنده ركعتين لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه، قلت: فما لمن اغتسل من ماء الفرات، ثم أتاه؟ قال: إذا اغتسل من ماء الفرات وهو يريده تساقطت عنه خطاياه كيوم ولدته أمه، قال: قلت: فما لمن يجهز إليه ولم يخرج لعلة تصيبه؟ قال: يعطيه الله بكل درهم أنفقه مثل أحد من الحسنات، ويخلف عليه أضعاف ما أنفقه، ويصرف عنه من البلاء مما قد نزل يدفع عنه، ويحفظ في ماله.
قال: قلت: فما لمن قتل عنده، جار عليه سلطان فقتله؟ قال: أول قطرة من دمه يغفر له بها كل خطيئة، وتغسل طينة التي خلق منها الملائكة حتى تخلص كما خلصت الأنبياء المخلصين، ويذهب عنها ما كان خالطها من أجناس طين أهل الكفر، ويغسل قلبه ويشرح صدره ويملأ إيمانا فيلقي الله وهو مخلص من كل ما تخالطه الأبدان والقلوب، ويكتب له شفاعة في أهل بيته وألف من إخوانه، وتولى الصلاة عليه الملائكة مع جبرئيل وملك الموت، ويؤتي بكفنه وحنوطه من الجنة، ويوسع قبره عليه ويوضع له مصابيح في قبره ويفتح له باب من الجنة، وتأتيه الملائكة بالطرف من الجنة، ويرفع بعد ثمانية عشر يوما إلى حظيرة القدس، فلا يزال فيها مع أولياء الله حتى تصيبه النفخة التي لا تبقي شيئا، فإذا كانت النفخة الثانية وخرج من قبره كان أول من صافحه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين والأوصياء (عليهم السلام) ويبشرونه ويقولون له: ألزمنا، ويقيمونه على الحوض فيشرب منه ويسقي من أحب.
قلت: فما لمن حبس في إتيانه؟ قال: له بكل يوم يحبس ويغتم فرحة إلى يوم القيامة، فإن ضرب بعد الحبس في إتيانه كان له بكل ضربة حوراء وبكل وجع يدخل على بدنه ألف ألف حسنة، ويمحى بها عنه ألف ألف سيئة، ويرفع له ألف ألف درجة، ويكون من حملة العرش ويقال له: سل ما أحببت، ويؤتى ضاربه للحساب فلا يسأل عنه شئ ولا يحتسب بشئ ويؤخذ بضبعيه حتى ينتهي به يحبوه ويتحفه بشربة من الحميم، وشربة من الغسلين، ويوضع على مقال في النار، فيقال له: ذق ما قدمت يداك فيما أتيت إلى هذا الذي ضربته، وهو وفد الله ووفد رسوله، ويأتي بالمضروب إلى باب جهنم فيقال له: انظر إلى ضاربك وإلى ما قد لقي فهل شفيت صدرك، وقد
أقتص لك منه؟ فيقول: الحمد لله الذي انتصر لي ولولد رسول الله منه " .
لقد أعطى الإمام الصادق (عليه السلام) جوابا شافيا لكل ما يتعلق بزيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام) وأصبح دستورا عمليا للشيعة يتوارثونه فيما بينهم أبا عن جد، حتى غدت زيارة سيد الشهداء (عليه السلام) فريضة واجبة على المؤمنين الموالين الذين لم تمنعهم تهديدات السلطان وتعليقاته بعدم زيارة القبر الشريف، وعلى الرغم من هذا كله فهم يزدادون لهفة وشوقا لزيارته والتمسك بحبل ولايته، ويزدادون أيضا أكثر ولاء وقربا للإمام الصادق الذي يطرق أسماعهم مرة تلو الأخرى بفضل زيارة القبر الشريف، فهو يقول: " من أتى قبر الحسين (عليه السلام) تشوقا إليه كتبه الله من الآمنين يوم القيامة، وأعطى كتابه بيمينه، وكان تحت لواء الحسين (عليه السلام) حتى يدخل الجنة فيسكنه في درجته، إن الله عزيز حكيم " .
فهل يبقي بعد مجال للشيعة، ومحبي آل البيت (عليهم السلام) أن يتركوا زيارة قبر الحسين (عليه السلام) وهم يسمعون بكرامات وفضائل القبر الشريف؟ ولنستمع أيضا للإمام الصادق (عليه السلام) وهو يحدثهم بكرامات وفضائل القبر الشريف؟ حيث قال ردا على سؤال لمحمد بن مسلم حينما سأله: ما لمن أتى قبر الحسين (عليه السلام)؟ قال: من أتاه تشوقا إليه كان من عباد الله المكرمين، وكان تحت لواء الحسين بن علي (عليه السلام) حتى يدخلهما الله جميعا الجنة " .
إذن كيف تصبر شيعة آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على ترك زيارة سيد شهداء البيت العلوي، ولزيارته ما لا يحصى من الأجر والثواب؟ وهل كانت معرقلات وموانع السلطان التي وضعها في وجه زائري الحسين تنفع في صد زائريه؟ الجواب كما هو معروف أن جميع ما فعلته السلطة الحاكمة، سواء كانت أموية، أو عباسية، بمنع زوار الحسين (عليه السلام) وطمس قبره الشريف باءت بالفشل، فالقبر أخذت تتضح معالمه يوما بعد يوم، وزواره في زيادة مطردة، والسلطة تقف عاجزة، ومبهورة أمام السر العجيب، حتى أصبح حديثا للعام والخاص، يتذاكرون فضله وكراماته وثواب زيارته، وبعد ما شاهدوا كرامات القبر الشريف، ففي رواية الحسين بن بنت أبي حمزة الثمالي قال: " خرجت في آخر زمان بني مروان إلى زيارة الحسين بن علي (عليه السلام) مستخفيا من أهل الشام حتى انتهيت إلى كربلاء، فاختفيت في ناحية القرية، حتى إذا ذهب من الليل نصفه، أقبلت نحو القبر فلما دنوت منه، أقبل نحوي رجل فقال لي: انصرف مأجورا فإنك لا تصل إليه، فرجعت فزعا، حتى إذا طلع الفجر أقبلت نحوه حتى إذا دنوت منه خرج إلي الرجل فقال لي: يا هذا إنك لن تصل إليه، فقلت له: عافاك الله ولم لا أصل إليه وقد أقبلت من الكوفة أريد زيارته؟ فلا تحل بيني هاهنا، قال: فقال لي: اصبر قليلا فإن موسى بن عمران (عليه السلام) سأل الله أن يأذن له في زيارة قبر الحسين (عليه السلام)، فأذن له فهبط من السماء في سبعين ألف ملك فهم بحضرته من أول الليل ينتظرون طلوع الفجر، ثم يعرجون.
قال: فقلت له: فمن أنت عافاك الله، قال: أنا من الملائكة الذين أمروا بحرس قبر الحسين (عليه السلام) والاستغفار لزواره، فانصرفت وقد كاد أن يطير عقلي لما سمعت منه، قال: فأقبلت نحوه فلم يحل بيني وبينه أحد فدنوت منه فسلمت عليه، ودعوت الله على قتلته وصليت الصبح، وأقبلت مسرعا مخافة أهل الشام " .
فإذا كان قبر الحسين (عليه السلام) تزوره الأنبياء والملائكة تقربا لله تعالى، فما بال أهل الدنيا وهم يتلمسون فضائل وكرامات هذا القبر الشريف لا يهرعون لزيارته أفواجا ووحدانا، أليس أجدر بالتقرب إلى الله تعالى، وأقرب بالزلفى لديه، زيارة الضريح الطاهر لأبي الشهداء سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والصلاة والدعاء تحت قبته التي وكل الله تبارك وتعالى بها ملائكة يبكون الحسين (عليه السلام) إلى يوم القيامة، كما جاء في رواية أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " أربعة آلاف ملك عند قبر الحسين (عليه السلام) شعث غبر يبكون إلى يوم القيامة، رئيسهم ملك يقال له: منصور، ولا يزوره زائر إلا استقبلوه، ولا يودعه مودع إلا شيعوه، ولا يمرض إلا عادوه، ولا يموت إلا صلوا عليه وعلى جنازته، واستغفروا له بعد موته " .
وفي رواية بكر بن محمد الأزدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " وكل الله تعالى بقبر الحسين (عليه السلام) سبعين ألف ملك شعثا يبكونه إلى يوم القيامة، يصلون عنده، الصلاة الواحدة من صلاة أحدهم تعدل ألف صلاة من صلاة الآدميين، يكون ثواب صلاته وأجر ذلك لمن زار قبره (عليه السلام) " .
فبعد هذا البيان الضافي يتضح لدى الباحث النابه سر فضيلة زيارة قبر الحسين (عليه السلام) ومبلغ انتسابها إلى الله تعالى، الذي أصبح صاحبها أكثر دنوا واقترابا من العلي الأعلى، أليس هذا القبر هو مثوى حبيبه وابن حبيبه والداعي إليه، والدال عليه، والباذل دون سبيله أهله ونفسه ونفيسه، والواضع دم مهجته في كفه تجاه إعلاء كلمته، ونشر توحيده، وتحكيم معالمه، وتوطيد طريقه وسبيله؟
لقد أصبح قبر الحسين (عليه السلام) صرحا شامخا يهتدي بهديه الصالحون، ويقر له المعاندون والمخالفون بعدما عرفوا هذا الكنز المصون عادوا إليه معتذرين تائبين، فروي عن سليمان الأعمش أنه قال: كنت نازلا بالكوفة، وكان لي جار وكنت آتي إليه وأجلس عنده فأتيت ليلة جمعة إليه، فقلت له: يا هذا ما تقول في زيارة الحسين؟ فقال لي: هي بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
قال سليمان: فقمت من عنده وأنا ممتلئ عليه غيضا فقلت في نفسي: إذا كان وقت السحر أتيته وأحدثه شيئا من فضائل الحسين (عليه السلام) فإذا أصر على العناد قتلته، قال سليمان: فلما كان وقت السحر أتيته وقرعت عليه الباب ودعوته باسمه، فإذا بزوجته تقول لي: إنه قصد إلى زيارة الحسين من أول الليل.
قال سليمان: فسرت في أثره إلى زيارة الحسين (عليه السلام) فلما دخلت إلى القبر فإذا بالشيخ ساجد لله عز وجل وهو يدعو ويبكي في سجوده ويسأله التوبة والمغفرة، ثم رفع رأسه بعد زمان طويل فرآني قريبا منه، فقلت له: يا شيخ بالأمس كنت تقول: زيارة الحسين (عليه السلام) بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، واليوم أتيت تزوره؟ فقال: يا سليمان لا تلمني. فإني ما كنت أتيت لأهل البيت إمامة حتى كانت ليلتي تلك، فرأيت رؤيا هالتني وروعتني، فقلت له: ما رأيت أيها الشيخ؟ قال: رأيت رجلا جليل القدر لا بالطويل الشاهق، ولا بالقصير اللاحق، ولا أقدر أصفه من عظم جلاله وجماله، وبهائه وكماله، وهو مع أقوام يحفون به حفيفا ويزفونه زفيفا، وبين يديه فارس، وعلى رأسه تاج وللتاج أربعة أركان، وفي كل ركن جوهرة تضئ من مسيرة ثلاثة أيام، فقلت لبعض خدامه: من هذا؟ فقال: هذا محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) قلت: ومن هذا الآخر؟ فقال: علي المرتضى وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم مددت نظري فإذا أنا بناقة من نور عليها هودج من نور وفيه امرأتان، والناقة تطير بين السماء والأرض، فقلت: لمن هذه الناقة؟ فقال: لخديجة الكبرى وفاطمة الزهراء (عليها السلام)، فقلت: ومن هذا الغلام؟ فقال: هذا الحسن بن علي (عليه السلام)، فقلت: وإلى أين يريدون بأجمعهم؟ فقال: لزيارة المقتول ظلما شهيد كربلاء الحسين بن علي المرتضى، ثم إني قصدت نحو الهودج الذي فيه فاطمة الزهراء فيه، فإذا أنا برقاع مكتوبة تتساقط من السماء، فسألت ما هذه الرقاع؟ فقال: هذه رقاع فيها أمان من النار لزوار الحسين (عليه السلام) في ليلة الجمعة، فطلبت منه رقعة فقال لي: إنك تقول زيارته بدعة؟ فإنك لا تنالها حتى تزور الحسين (عليه السلام) وتعتقد فضله وشرفه، فانتبهت من نومي فزعا مرعوبا، وقصدت عن وقتي وساعتي إلى زيارة سيدي الحسين (عليه السلام)، وأنا تائب إلى الله تعالى، فوالله يا سليمان لا أفارق قبر الحسين (عليه السلام) حتى تفارق روحي جسدي " .
هذه هي شهادة أحد المعاندين والذي كان يرى زيارة قبرة الحسين بدعة وضلالة، حتى قذف الله سبحانه وتعالى بقلبه حب الحسين (عليه السلام) وأكرمه بزيارة قبره.
وقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) إنه قال: " من أراد الله به السوء قذف في قلبه بغض الحسين وبغض زيارته " ونحن نقول: اللهم ثبت قلوبنا بحب الحسين، واجعلنا ممن يتولى الحسين، وارزقنا زيارة الحسين إنك حميد مجيد , ولم يقتصر على المخالفين والمبغضين لأهل بيت النبوة الذين نور الله قلوبهم بحب الحسين وبموالاة الحسين، حتى تعدى ذلك إلى الجن المعاندين والمبغضين لهم أيضا، عندما شاهدوا كرامات هذا البيت الطاهر، فأقروا لهم بالفضل والكرامة.
فلنستمع إلى شهادة دعبل بن علي الخزاعي: في رواية أبي محمد الكوفي، عن دعبل بن علي الخزاعي قال: لما انصرفت عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) بقصيدتي التائية، نزلت بالري، وأني في ليلة من الليالي وأنا أصوغ قصيدة وقد ذهب من الليل شطره فإذا طارق يطرق الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أخ لك فبدرت إلى الباب ففتحته فدخل شخص اقشعر منه بدني، وذهلت منه نفسي، فجلس ناحية وقال لي: لا ترع أنا أخوك من الجن، ولدت في الليلة التي ولدت فيها ونشأت معك، وإني جئت أحدثك بما يسرك ويقوي نفسك وبصيرتك، قال: فرجعت نفسي وسكن قلبي فقال: يا دعبل، إني كنت من أشد خلق الله بغضا وعداوة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، فخرجت في نفر من الجن المردة العتاة، فمررنا بنفر يريدون زيارة الحسين (عليه السلام) قد جنهم الليل فهممنا بهم وإذا ملائكة تزجرنا من السماء. وملائكة في الأرض تزجر عنهم هوامها، فكأني كنت نائما أو غافلا فتيقظت، وعلمت أن ذلك لعناية بهم من الله تعالى لمكان من قصدوا له، وتشرفوا بزيارته.
فأحدثت توبة وجددت نية وزرت مع القوم، ووقفت بوقوفهم ودعوت بدعائهم، وحججت بحجهم تلك السنة، وزرت قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومررت برجل حوله جماعة، فقلت من هذا؟ فقالوا: هذا ابن رسول الله الصادق (عليه السلام)، قال: فدنوت منه وسلمت عليه فقال لي: مرحبا بك يا أهل العراق، أتذكر ليلتك ببطن كربلاء وما رأيت من كرامة الله تعالى لأوليائنا؟ إن الله قد قبل توبتك، وغفر خطيئتك.
فقلت: الحمد لله الذي من علي بكم، ونور قلبي بنور هدايتكم، وجعلني من المعتصمين بحبل ولايتكم، فحدثني يا بن رسول الله بحديث أنصرف به إلى أهلي وقومي، فقال: نعم، حدثني أبي محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي الجنة محرمة على الأنبياء حتى أدخلها أنا، وعلى الأوصياء حتى تدخلها أنت، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتي، وعلى أمتي حتى يقروا بولايتك، ويدينوا بإمامتك، يا علي والذي بعثني بالحق لا يدخل الجنة إلا من أخذ منك بنسب أو سبب، ثم قال: خذها يا دعبل فلن تسمع بمثلها من مثلي أبدا، ثم ابتلعته الأرض فلم أره .