إن الحديث في هذا الفصل، عن أمرين:
أحدهما: ما دل على جواز فعل ما يؤدي إلى الجرح، أو فقل، ما فيه إلى احتمال الهلاك.
الثاني: ما دل على جواز اللطم، فإلى ما يلي من مطالب.
الجرح واحتمالات الهلاك:
قد كان ما تقدم يدور في فلك الآيات والروايات، وحكم العقل في ما يرتبط بالدائرة الأوسع، التي لا تختص بعاشوراء..
وهذه باقة ريانة من النصوص الدالة على جواز التعرض للأذى، في خصوص مراسم إحياء ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام)، وهي طوائف.
الأولى: ما دل على جواز أن يعرض الإنسان نفسه للقتل، في سبيل إحياء ذكرى الإمام الحسين عليه السلام، ونذكر هنا ما يلي:
1 ـ زيارة الناحية:
قال الشيخ المفيد في كتاب المزار: زيارة أخرى في يوم عاشوراء، برواية أخرى: إذا أردت زيارته بها في هذا اليوم، فقف، فقل... ثم ذكر الزيارة، وهي المعروفة بزيارة الناحية(1) وجاء فيها:
(ولأبكينك بدل الدموع دماً، حسرةً عليك وتأسفاً على ما دهاك، حتى أموت بلوعة المصاب، وغصة الاكتئاب).
وجاء فيها أيضاً: (تلطم عليك فيها الحور العين، وتبكيك السماء وسكانها).
وهذه الزيارة، وإن لم تكن ثابتة من حيث السند، لكن ذلك لا يعني أن تكون مكذوبة ومخترعة.
وإنما نذكرها هنا، لا لتكون وحدها هي الحجة والدليل، بل لتسهم مع مثيلاتها من الروايات الكثيرة، ومنها ما هو صحيح ومعتبر، في تكوين تواتر مقنع، بأن التعرض للأذى، لإحياء أمرهم صلوات الله عليهم، ليس حراماً ذاتاً، ولا هو قبيح عقلاً ـ بل إن إحياء أمرهم (عليهم السلام)، كافٍ في إعطاء صفة المشروعية، أو الرجحان، للأعمال التي يكون فيها درجة من الأذى الجسدي.
وعلى كل حال، فإن هذه الرواية تدل على أنه (عليه السلام) قد أجاز لنفسه، أن تصل به لوعة المصاب، وغصة الاكتئاب على الإمام الحسين (عليه السلام) إلى حد الموت، بسبب ذلك.
2 ـ الزيارة رغم مخاطر الغرق:
ألف: روي عنهم (عليهم السلام)، الحث على زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) حتى مع احتمال الموت غرقاً، فقد ذكر: أنه قيل للإمام الصادق (عليه السلام): يا ابن رسول الله، إن بيننا وبين قبر جدك الحسين لبحراً, وربما انكفأت بنا السفينة في البحر.
فقال:(لا بأس، فإنها إن انكفأت، انكفأت في الجنة).
ب: عن محمد بن جعفر القرشي الدزاز، عن خاله محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن أحمد بن بشير السراج، عن أبي سعيد القاضي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رواية، يقول فيها: (ومن أتاه بسفينة، فكفت بهم سفينتهم نادى منادٍ من السماء: طبتم وطابت لكم الجنة) .
ج: قال ابن قولويه: حدثني أبي (رحمه الله)، وعلي بن الحسين، عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن أحمد بن حمدان العلاني، عن محمد بن الحسين المحاربي، عن أحمد بن ميثم، عن محمد بن عاصم، عن عبد الله بن النجار قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (تزورون الحسين (عليه السلام)، وتركبون السفن؟).
قلت: نعم.
قال:(أما تعلم أنها إذا انكفت بكم نوديتم: ألا طبتم وطابت لكم الجنة؟).
3 ـ محنة الإمام السجاد (عليه السلام):
وفيما يرتبط بمدى حزن الإمام السجاد (عليه السلام) نقول:
ألف: لقد بكى الإمام السجاد (عليه السلام) حزناً على الإمام الحسين (عليه السلام) حتى خيف على عينيه.
وفي سياق آخر، قيل له: إنك لتبكي دهرك، فلو قتلت نفسك لما زدت على هذا.
ب: حدثني أبي (رحمه الله) عن جماعة مشايخي، عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن الحسين ابن أبي الخطاب، عن أبي داود المسترق، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:(بكى علي بن الحسين على أبيه حسين بن علي (صلوات الله عليهما) عشرين سنة، أو أربعين سنة، وما وضع بين يديه طعاماً إلا بكى على الحسين، حتى قال له مولى له: جعلت فداك يا بن رسول الله، إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين. قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون: إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة لذلك) .
ج: عن أحمد بن محمد بن عياش، عن جعفر بن محمد بن قولويه، عن عبيد الله بن الفضل بن محمد، عن سعيد بن محمد، عن محمد بن سلام بن يسار (سيار خ ل) الكوفي، عن أحمد بن محمد الواسطي، عن عيسى بن أبي شيبة, عن نوح بن دراج، عن قدامة بن زايدة، عن أبيه، عن الإمام السجاد (عليه السلام)، في حديث قال ـ واصفاً حاله حين حملت النساء على الأقتاب، ورأى الشهداء صرعى ـ: (... فيعظم ذلك في صدري، واشتد ـ لِما أرى منهم ـ قلقي، فكادت نفسي تخرج، وتبينت ذلك مني عمتي زينب الكبرى بنت علي (عليه السلام)، فقالت: ما لي أراك تجود بنفسك، يا بقية جدي، وأبي، وإخوتي، الخ...) .
4 ـ البكاء حتى العمى:
كما أن النبي يعقوب (عليه السلام) قد بكى على ولده يوسف حتى ابيضت عيناه من الحزن، وخافوا عليه من الهلاك، أو أشرف عليه: (قَالُوا تَاللّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ) [سورة يوسف : 85] .
فلو كان هذا وذاك حراماً ذاتاً، أو قبيحاً عقلاً، فلا يمكن أن يصدر من الإمام السجاد (عليه السلام)، أو من يعقوب النبي (عليه السلام)، إذ لا يتصور في حقهما، أن يخالفا الشرع، أو أن يكونا غير قادرين على إدراك قبح هذا الأمر، فإن الأنبياء، والأوصياء، هم أتم الناس عقلاً.
واحتمال: أن يكون البكاء حتى العمى، جائز في شرع السابقين دون شرعنا. لا يلتفت إليه، ما لم يثبت النسخ بدليل قاطع. خصوصاً مع ذكر الله تعالى لذلك في كتابه الكريم الذي يريد به تعليمنا وهدايتنا.
5 ـ زيارة الحسين (عليه السلام) رغم المخاطر:
ومما يدل دلالة واضحة على أن اللطم والجرح تابع للوجوه والاعتبارات فإذا كان بعنوان إحياء ذكرهم جاز فعله.
إن الأئمة (عليهم السلام) لم يقيموا وزناً للأخطار التي يواجهها زائر قبر الإمام الحسين (عليه السلام). فشجعوا على الزيارة رغم وجود الخوف المستمر، وحيث كانت القوات المسلحة ترصد الطرق، وتأخذ كل من يحاول الوصول إلى كربلاء، ليواجه الأذى والتنكيل.
مع أن الزيارة مستحبة، وهؤلاء يدَّعون: أن دفع الضرر المحتمل واجب، فكيف إذا كان هذا الضرر هو الضرب، أو الحبس، أو هلاك النفس؟!.
وكيف إذا كان ذلك الاحتمال قد كبر ونما حتى أوجد حالة قوية من الترقب والخوف؟.
بل إن بعضهم ذكر: أن بعض الشيعة كان يرضى بقطع يده، في سبيل أن يحصل على إجازة بزيارة كربلاء، وما إلى ذلك، لأنه أدرك: أن الحفاظ على الشعائر أولى من حفظ النفس، وقد يقال: إن الكلام إنما هو في أن يجرح الإنسان نفسه، لا في عدوان الظالمين عليه.
ويجاب: بأن قدرتهم على التحرز عن الضرر والهلاك تجعل من إقدامهم عليه أمراً غير مقبول، إذ لا فرق في الحرمة، بين أن يفعل الإنسان نفسه الجرح، أو القتل، ويقدم طائعاً مختاراً لمن يجرحه أو يقتله.
وعلى كل حال، فإننا نذكر في هذا السياق، النصوص التالية:
أ: حدثني محمد بن عبد الله بن جعفر، عن أبيه، عن علي بن محمد بن سالم، عن محمد بن خالد، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عن حماد ذي الناب، عن رومي، عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ما تقول في من زار أباك على خوف؟
قال: (يؤمنه الله يوم الفزع الأكبر...)، الخ.
ب: بإسناده عن الأصم أيضاً، عن ابن بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إني أنزل الأرّجان. وقلبي ينازعني إلى قبر أبيك، فإذا خرجت فقلبي وجل مشفق حتى أرجع خوفاً من السلطان، والسعاة، وأصحاب المسالح.
فقال:(يا ابن بكير، أما تحب أن يراك الله فينا خائفاً؟ أما تعلم أنه من خاف لخوفنا أظله الله في ظل عرشه) الخ.
ج: حدثني حكيم بن داود بن حكيم السراج، عن سلمة بن الخطاب، عن موسى بن عمر، عن حسان البصري، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
(يا معاوية، لا تدع زيارة قبر الحسين (عليه السلام) لخوف. فإن من تركه رأى من الحسرة ما يتمنى أن قبره كان عنده. أما تحب أن يرى الله شخصك وسوادك فيمن يدعو له رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعلي، وفاطمة، والأئمة (عليهم السلام)...) الخ.
د: حدثني محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن علي بن محمد بن سالم، عن محمد بن خالد، عن عبد الله بن حماد البصري، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، قال حدثنا مدلج، عن محمد بن مسلم، في حديث طويل، قال: قال لي أبو جعفر محمد بن علي (عليه السلام) : هل تأتي قبر الحسين (عليه السلام)؟!
قلت: نعم، على خوف ووجل.
فقال:(ما كان من هذا أشد فالثواب فيه على قدر الخوف. ومن خاف في إتيانه آمن الله روعته يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين. وانصرف بالمغفرة، وسلمت عليه الملائكة، وزاره النبي (صلى الله عليه وآله) ودعا له، وانقلب بنعمة من الله وفضل لم يمسسه سوء، واتبع رضوان الله). ثم ذكر الحديث.
هـ: عن أحمد بن محمد بن عياش، عن ابن قولويه، عن عبيد الله بن الفضل، عن سعيد بن محمد، عن محمد بن سلام، عن أحمد بن محمد الواسطي، عن عيسى بن أبي شيبة، عن نوح بن دراج عن قدامة بن زائدة، عن أبيه، قال: قال علي بن الحسين (عليه السلام): بلغني يا زائدة أنك تزور قبر أبي عبد الله أحياناً؟!
فقلت: إن ذلك لكما بلغك.
فقال لي: فلماذا تفعل ذلك، ولك مكان عند سلطانك، الذي لا يحتمل أحداً على محبتنا وتفضيلنا، وذكر فضائلنا، والواجب على هذه الأمة من حقـنا؟
فقلت: والله، ما أريد بذلك إلا الله ورسوله، ولا أحفل بسخط من سخط، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه.
فقال: والله، إن ذلك لكذلك . يقولها ثلاثاً، وأقولها ثلاثاً.
فقال: أبشر، ثم أبشر، ثم أبشر إلخ.
6 ـ ما دل على جرح الجسد:
ونذكر مما دل على جواز جرح الجسد، في نطاق إحياء أمرهم صلوات الله عليهم، ما يلي:
أ: ورد في زيارة الناحية المقدسة: (ولأبكينك بدل الدموع دماً).
فإن الإمام (عليه السلام) وفقا لهذه الرواية قد تعهد بأن يبكي على الإمام الحسين (عليه السلام) ولو أدى ذلك إلى أن تنزف عيناه دماً.
وربما يقال: إن ذلك قد جاء على سبيل المبالغة، أو المجاز.
ونقول: إن ذلك يحتاج إلى ما يثبته، ولا يكفي فيه مجرد الدعوى، والاستحسان. وإن ما جرى لنبي الله يعقوب الذي بكى على ولده ـ الذي كان يعلم أنه حي ـ حتى ابيضت عيناه من الحزن، إن ذلك يجعلنا نتردد كثيراً في قبول دعوى المبالغة، والمجازية.
ب: وروى الصدوق عن جعفر بن محمد بن مسرور، عن الحسين بن محمد بن عامر، عن عمه عبد الله بن عامر، عن إبراهيم بن أبي محمود، عن الإمام الرضا (عليه السلام): (إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا).
فإن القرح هو الجرح. فإذا كان الأئمة (عليهم السلام) قد بكوا على الإمام الحسين (عليه السلام) حتى تقرحت جفونهم، فذلك يدل على كون هذا المقدار من الضرر ليس حراماً ذاتاً، ولا هو قبيح عقلاً، فلماذا لا يجوز لغيرهم أن يتأسى بهم في ذلك؟! فلنلطم صدورنا، ولنفعل ما فيه بعض الألم أو الجرح.
إلا إذا قيل: إن ذلك قد جاء منه (عليه السلام) على سبيل المجاز والكناية عن شدة وكثرة البكاء.
وقد قلنا: إن ذلك لا يصار إليه إلا بدليل، خصوصاً، وأنه (عليه السلام) قد أورد ذلك على سبيل الإخبار عن أمر وقع خارجاً، فلا مجال لدعوى المبالغة في مثل هذه الحال.
ج: وتقدم أن التاريخ قد حدثنا أن الحكام كانوا يرتكبون أعظم الجرائم حتى القتل في حق زوار قبر الإمام الحسين (عليه السلام)، ويقدم الشيعة على هذا الأمر باختيارهم. ولم ينقل عن الأئمة (عليهم السلام) أي اعتراض على ذلك، أو تأفف منه، أو كراهة للإقدام عليه.
بل قد تقدم أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يأمرون شيعتهم بالزيارة, ويحثونهم عليها، رغم الأخطار التي تواجههم.
د: ويذكرون أن الإمام السجاد (عليه السلام) كان يبكي عند شرب الماء، حتى يجري مع الدمع الدم في الإناء، فقيل له في ذلك.
فقال:(كيف لا أبكي؟ وقد منع أبي من الماء، الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش).
هـ: ويذكرون أيضاً: أن السيدة زينب (عليها السلام) قد ضربت جبينها بمقدم المحمل، حتى سال الدم من تحت قناعها.
و: وحين وصل السبايا إلى الكوفة، وخطب الإمام السجاد (عليه السلام)، وفاطمة بنت الحسين، وأم كلثوم بنت علي (عليه السلام) بكى الناس.
أما النساء فقد (خمشن وجوههن ولطمن خدودهن إلخ...) حسبما ذكره السيد ابن طاووس (رحمه الله) تعالى.
إلا أن يقال: إنه لم يكن يمكن للإمام السجاد (عليه السلام)، أن ينهى عن ذلك.
غير أننا نقول: إن خطبته (عليه السلام) فيهم كانت أعظم خطراً عليه، من مجرد نهيه لهم عن فعل الحرام.
ز: وقد قالوا: إنه حين رجوع السبايا إلى المدينة (ما بقيت مخدرة إلا برزن من خدورهن، مخمشة وجوههن، لاطمات خدودهن).
وقد كان ذلك بحضور الإمام السجاد (عليه السلام)، وبمرأى ومسمع منه، ولم ينههن (عليه السلام) عن ذلك. ولا منعتهن عقولهن عنه.
ح: وتقدم أن مما يدل على جواز عمل ما يوجب تلف بعض الأعضاء خصوصاً مع وجود غرض شرعي، مثل إظهار جلالة وعظمة نبي من أنبياء الله (عليهم السلام)، بكاء نبي الله يعقوب (عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام)، على ولده حتى(...ابْيَضّتْ عَينَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيم).
وعمى يعقوب أعظم خطراً من إدماء الرأس أو الظهر على الإمام الحسين الشهيد (عليه الصلاة والسلام)، فضلاً عن اللطم العنيف، أو غير العنيف، في مراسم العزاء.
ط: وتقدم: أن نبي الله يعقوب (عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام) قد بلغ به الحزن على ولده يوسف الذي فارقه، ويتوقع الاجتماع به ـ إلى حد أن أشرف على الهلاك، حتى قال له أبناؤه: {...تَاللّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [ سورة يوسف :85].
ي: أضف إلى ما تقدم ما رواه الصدوق، عن أبيه، عن سعد، رفعه:(أن الدمع قد خدّ خدّي يحيى بن زكريا، وأكل منهما، حتى وضعت أمه عليهما لبداً).
ك: روى الصدوق، عن محمد بن إبراهيم، عن عمر بن يوسف، عن القاسم بن إبراهيم، عن محمد بن أحمد الرقي، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن النبي (صلى الله عليه وآله):(أن شعيب النبي (عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام) قد بكى حتى عمي، فرد الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمي، فرد الله بصره، ثم بكى حتى عمي، فرد الله عليه بصره).
ل: وروى الصدوق عن محمد بن الحسن، عن الصفار، عن العباس بن معروف، عن محمد بن سهل البحراني، يرفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال:(البكاؤون خمسة...) إلى أن قال:(فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية).
م: وقد روي بسند صحيح عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله)، قد أقرَّ نساء الأنصار على ما فعلن بأنفسهن، ولم يعترض عليهن، وذلك حينما رجع من أحد، فبعد أن شرح الإمام الصادق (عليه السلام) بعض ما جرى في أحد، قال (عليه السلام): (ونساء الأنصار في أفنيتهم على أبواب دورهم، وخرج الرجال، يلوذون به، ويثوبون إليه، والنساء ـ نساء الأنصار ـ قد خدشن الوجوه، ونشرن الشعور، وجززن النواصي، وخرقن الجيوب، وحزمن البطون على النبي (صلى الله عليه وآله)... فلما رأينه، قال لهن خيراً، وأمرهن أن يستترن، ويدخلن منازلهن الخ...) .
فيلاحظ: أنه (صلى الله عليه وآله) قد أقرّهن على ما فعلن بأنفسهن من أجله، واكتفى بأمرهن بالتستر، ودخول المنازل، ولم ينههن عن جرح أنفسهن، ولا اعترض على خدش وجوههن.
وبالنسبة لقوله: (وحزمن البطون).
قال المجلسي (رحمه الله): في أكثر النسخ بالحاء والزاء المعجمة، أي كنّ شددن بطونهن لئلا تبدو عوراتهن، لشق الجيوب، من قولهم: حزمت الشيء، أي شددته.
وفي بعضها: (حرصن) بالحاء والصاد المهملتين. أي شققن وخرقن، يقال: حرص القصار الثوب، أي خرقه بالدق.
وفي بعضها: (بالحاء والضاد المعجمة، على وزن التفعيل، يقال: {أحرضه المرض، إذ أفسد بدنه، وأشفى على الهلاك} .
اللطم:
أما بالنسبة إلى اللطم، فقد ورد ذكره في العديد من النصوص أيضاً، نذكر منها:
1 ـ لما مروا بالسبايا على الحسين، وأصحابه صاحت النساء، ولطمن وجوههن، وصاحت زينب: يا محمداه الخ!!.
وقد كان هذا مع حضور الإمام السجاد (عليه السلام)، وعدم نهيه لهن عن ذلك، مع قدرته عليه، وطاعتهن له.
2 ـ في زيارة الناحية المقدسة:(فلما رأين النساء جوادك مخزياً، والسرج عليه ملوياً، خرجن من الخدور، ناشرات الشعور، على الخدود لاطمات، وبالعويل مبادرات...).
وليس بالضرورة أن تكون السيدة زينب (عليها السلام) أو بنات الإمام الحسين [عليه السلام] في جملة من فعلن ذلك. غير أن ما يهمنا هنا هو أن الإمام السجاد (عليه السلام) كان حاضراً وناظراً، ولم ينههن عن ذلك.
3 ـ وقد لطمت النسوة الخدود في ليلة العاشر بحضور الإمام الحسين (عليه السلام)، فقال الإمام الحسين: (يا أختاه يا أم كلثوم، يا فاطمة، إن أنا قُتلت فلا تشققن علي جيباً، ولا تخمشن وجهاً، ولا تنطقن هجراً).
والذي رواه السيد ابن طاووس (رحمه الله)، يوضح سبب نهي الإمام الحسين (عليه السلام) لهن عن ذلك، فقد قال: (فلطمت زينب (عليها السلام) على وجهها، وصاحت. فقال لها الحسين (عليه السلام):(مهلاً لا تشمتي القوم بنا).
كما أنه (عليه السلام) قد أظهر سبب وصيته هذه فيما ذكره في وصيته للنساء في وداعه الثاني، حيث قال لهن: (...فلا تشكّوا، ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم).
فيلاحظ:
أنه (عليه السلام) إنما قد خص نهيه لهن عن فعل ذلك بما بعد موته. وهذا ما صرح به أيضاً حين قال لأخته زينب نفس هذه الكلمات، حيث جاء في آخرها: (...إذا أنا هلكت...).
يضاف إلى ذلك: أنه قد أوضح: أن سبب النهي هو أن لا ينقص ذلك، من قدرهن، وأن لا يشمت الأعداء بهن.
4 ـ وحينما سمعت زينب (عليها السلام) أخاها الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ينشد: (يا دهر أفٍ لك من خليل...) إلخ، لطمت وجهها، وهوت إلى جيبها فشقته، ثم خرت مغشياً عليها) .
5 ـ وحين اقترب جيش ابن سعد من الإمام الحسين (عليه السلام) في اليوم التاسع، وهو جالس مُحتَبٍ بسيفه، قالت له زينب: أخي، أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟!
(فرفع الحسين رأسه وقال:(إني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الساعة في المنام، فقال لي: إنك تروح إلي).
فلطمت أخته وجهها، ونادت بالويل... إلخ.
6 ـ روى الشيخ الطوسي عن أحمد بن محمد بن داود القمي في نوادره، عن محمد بن عيسى، عن أخيه جعفر، عن خالد بن سدير، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام).. إلى أن قال الإمام (عليه السلام): ولقد شققن الجيوب، ولطمن الخدود الفاطميات على الحسين بن علي. وعلى مثله تلطم الخدود، وتشق الجيوب .
وفي هذا الخبر حث ظاهر على اللطم على أبي عبد الله (عليه السلام).
وفي الجواهر: (إن ما يحكى من فعل الفاطميات ربما قيل إنه وقال ابن إدريس: (إن أصحابنا مجمعون عليها في تصانيفهم وفتاواهم).
7 ـ وقد روى الصدوق بأسانيده، وروى غيره: أن دعبل الخزاعي أنشد الإمام الرضا (عليه السلام) تائيته المشهورة، ومنها قوله:
أفاطم لو خلت الحسين iiمجدلاً وقد مات عطشاناً بشط iiفرات
إذن للطمت الخد فاطم iiعنده وأجريت دمع العين في الوجنات
فلم يعترض عليه الإمام (عليه السلام)، ولم يقل له: إن أمنا فاطمة (عليها السلام) لا تفعل ذلك لأنه حرام، بل هو (عليه السلام) قد بكى. وأعطى الشاعر جائزة، وأقره على ما قال.
8 ـ وذكر في اللهوف: أنه لما رجع السبايا إلى كربلاء في طريقهم إلى المدينة، (وجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وجماعة من بني هاشم، ورجالاً من آل الرسول قد وردوا لزيارة قبر الحسين، فتوافوا في وقت واحد، وتلاقوا بالبكاء، والحزن، واللطم، وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد، واجتمع إليهم نساء ذلك السواد، وأقاموا على ذلك أياماً).
فهل كان الإمام السجاد (عليه السلام) غائباً عن كل هذا؟
ألم يكن معهم في كربلاء حين رجوع السبايا؟
أليس قد لطموا، وأقاموا على ذلك أياماً والإمام السجاد (عليه السلام) معهم؟ فلماذا لم ينههم عن ذلك؟!
فلو أنه كان (عليه السلام) قد اعترض عليهم بمخالفة ذلك لأحكام الشريعة، لذكروا لنا ذلك، ولكانوا أطاعوه، ولم يقيموا أياماً، وهم يفعلون ذلك.
9 ـ تقدم أنه حين وصل السبايا إلى الكوفة، واجتمع الناس، وخطبهم الإمام السجاد (عليه السلام) وفاطمة بنت الحسين (عليه السلام)، وأم كلثوم بنت علي (عليه السلام)، بكى الناس.
كما أن النساء (خمشن وجوههن، ولطمن خدودهن، ودعون بالويل والثبور).
10 ـ في كامل الزيارات: (أن الحور قد لطمت على الحسين في أعلى عليين)، فراجع.
11 ـ وتقدم في زيارة الناحية المقدسة، قوله: (تلطم عليك فيها الحور العين) .
12 ـ روي استحباب الجزع على الإمام الحسين (عليه السلام). والأحاديث في ذلك كثيرة.
وقد فسر الإمام الباقر (عليه السلام) الجزع بما يشتمل على لطم الوجه والصدر.
فقد روى الكليني عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، والحسن بن علي جميعاً، عن أبي جميلة، أن جابراً قال للإمام الباقر (عليه السلام): ما الجزع؟!
فقال (عليه السلام): (أشد الجزع الصراخ بالويل، والعويل، ولطم الوجه والصدر...) الخ
وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان، عن أبي جميلة، عن جابر مثله.
فإن قيل: إنه (عليه السلام) قد فسر الجزع، لكنه لم يصرح بجوازه.
فالجواب هو: أن الروايات الصحيحة التي صرحت باستحباب الجزع، على الإمام الحسين (عليه السلام) كافية في إثبات جوازه بجميع مراتبه، حيث لم يقيد فيها الجزع بشيء.
استطراد تاريخي:
وثمة نصوص كثيرة لا تدخل في سياق الاستدلال، غير أننا نذكرها لمجرد إطلاع القارئ عليها، وهي التالية:
1 ـ إنه قد حصل اللطم في بيت يزيد بالذات، فقد ذكروا: أنه لما أدخل السبايا على يزيد،قالت فاطمة ابنة الحسين: يا يزيد، أبنات رسول الله سبايا؟!.
قال: بل حرائر كرام، ادخلي على بنات عمك تجديهن قد فعلن ما فعلت.
قالت: فدخلت إليهن، فما وجدت منهن إلاّ سفيانية متلدمة. واللدم هو اللطم.
2 ـ ويقولون: إن سليمان بن قتة العدوي التيمي مر بكربلاء، فنظر إلى مصارع الشهداء، فبكى حتى كاد أن يموت. وكان مروره هذا بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) بثلاثة أيام(2).
3 ـ إن ابن عمر قد ضرب على رأسه لما بلغه خبر قتل الحسين (عليه السلام)(3).
4 ـ وقد ذكر في البحار قصة الأسد الذي كان يأتي كل ليلة إلى الجثث الطاهرة، فيمرغ وجهه فيها. فراقبه ذلك الرجل الذي رآه ـ وهو من بني أسد ـ حتى اعتكر الظلام.
وإذا الشموع معلقة، ملأت الأرض. وإذا ببكاء، ونحيب، ولطم مفجع، فقصد تلك الأصوات، فتبين له أن هؤلاء من الجن.
5 ـ ونذكر هنا: أنه في سنة 346 هجرية لطم الناشي (الشاعر) لطماً عظيماً على وجهه، حينما علم أن البعض قد رأى السيدة الزهراء (عليها السلام) في المنام. وأشارت إلى قصيدة كان الناشي قد نظمها في الإمام الحسين (عليه السلام)، ولطم أيضاً أحمد المزوّق، والناس كلهم. وكان أشد الناس في ذلك: الناشي، وأحمد المزوّق.
6 ـ ويذكرون أيضاً أن السيد المرتضى (رحمه الله) قد زار الإمام الحسين (عليه السلام) بكربلاء في يوم عاشوراء سنة 396 هجرية، مع جمع من أصحابه وتلامذته، فوجد هناك جمعاً من الأعراب، يضربون على الخدود، ويلطمون على الصدور، وينوحون ويبكون، فدخل معهم السيد وتلامذته، وهو يلطم على صدره. ورأوه ينشد:
كربلا لا زلت كرباً وبلا...
إلى آخر القصيدة التي هي من نظم أخيه الشريف الرضي.
7 ـ وفي سنة 352 هجرية أمر معز الدولة البويهي بتعطيل الأسواق في عاشوراء . (وأن يخرج الرجال والنساء، لاطمي الصدور والوجوه).
ويذكر هذا اللطم أيضاً في سنة 402 هجرية، فراجع. وكذا في سنة 423 هجرية.
ونكتفي بهذا المقدار، فإن المقصود هو مجرد الإشارة.
الإضراب عن الطعام في عاشوراء:
وورد أيضاً ما يدل على جواز الإضراب عن الطعام في يوم عاشوراء، حتى تظهر آثار ذلك في الوجه.
فعن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن علي بن محمد بن سالم، عن محمد بن خالد، عن عبد الله بن حماد البصري، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عن مسمع بن عبد الملك كردين البصري، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا مسمع، أنت من أهل العراق... إلى أن قال: فتجزع؟!.
قلت: إي والله، واستعبر لذلك، حتى يرى أهلي أثر ذلك علي، فامتنع من الطعام حتى يتبين ذلك في وجهي.
قال: رحم الله دمعتك، أما إنك من الذين يعدّون من أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا الخ... .
وذلك معناه: أنه يجوز فعل ما فيه أذى للنفس ومشقة عليها في عاشوراء، بل يستحب ذلك.
تواتر الأخبار:
وبعدما تقدم نقول: إن ما ذكرناه فيما تقدم من آيات وروايات، رغم أننا اكتفينا منه بما تيسر لنا، يوضح بجلاء نظرة الإسلام في هذا الاتجاه. وقد ظهر أن النصوص كثيرة جداً، ودعوى تواترها لابد أن ينظر إليها بجدية، و بخوع تام.