تاريخ كربلاء

البداية الأولى
بعد وقعة الطف عام ٦١ ه‍، واضطراب الوضع السياسي في العراق، سواء عند ظهور التوابين الذين نادوا بالانتقام من الرموز الرئيسية التي ساهمت بقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، وكذلك ظهور المختار المفاجئ، الذي استطاع أن يعلن حكومته الموالية لأهل البيت في الكوفة، والانتقام من القتلة، وبعدها تم القضاء على حملة عبيد الله بن زياد وقتله في معركة الخازر بقيادة إبراهيم بن مالك الأشتر، أصبحت الشيعة تنعم بنوع كبير من الحرية والطمأنينة، فسارعت بزيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام) والشهداء من أهل بيته وأصحابه، فظهر القبر الشريف وأصبح محط أنظار الشيعة خاصة من الكوفة والمدائن والبصرة، وطبيعي أن هؤلاء الزوار الذين يقطعون المسافات البعيدة لزيارة القبر الشريف يحتاجون إلى ظل يستظلون به، وخصوصا إذا كان الزائر يبقى اليوم أو اليومين أو أكثر عند القبر، فمنذ ذلك الحين بني على القبر الشريف سقيفة، فزعم البعض أن بني أسد الذين دفنوا الحسين (عليه السلام) هم أول من بنى هذه السقيفة على القبر، حيث أكد ابن طاووس بقوله: إنهم أقاموا رسما لقبر سيد الشهداء . مما يدل على أن مجئ التوابين إلى القبر الشريف في سنة ٦٣ أو ٦٤ كان ظاهرا معروفا ولا يكون ذلك إلا ببنيانه .
ويرى بعض المؤرخين أن المختار بن أبي عبيدة الثقفي هو الذي قام بتشييد البناء على القبر واتخذ له قرية من حوله .
ومهما يكن من الأمر فإن البناء قد ظهر في الفترة التي حدث فيها انفراج نسبي للشيعة، أي منذ فترة موت يزيد المفاجئ، وهروب عبيد الله بن زياد من العراق، وحتى تولي المختار قيادة السلطة في الكوفة، ثم فترة ما بعد المختار، أي في عهد ولاية مصعب بن الزبير على العراق، نعمت الشيعة بنوع من الحرية، أتاح لها زيارة القبر الشريف لسيد الشهداء (عليه السلام)، وبقي هذا البناء طيلة الحكم الأموي وإلى قيام الدولة العباسية، كما يظهر من رواية صفوان الجمال، عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنه قال: " إذا أردت قبر الحسين في كربلاء، فقف خارج القبة وارم بطرفك نحو القبر، ثم ادخل الروضة وقم بحذائها من حيث يلي الرأس، ثم اخرج من الباب الذي عند رجلي علي بن الحسين (عليه السلام)، ثم توجه إلى الشهداء، ثم امش حتى تأتي
مشهد أبي الفضل العباس فقف على باب السقيفة وسلم ".
نستدل من هذه الرواية بأنه كانت على القبر الشريف قبة، وعلى قبر أبي الفضل العباس سقيفة وباب، للولوج إلى داخل السقيفة. ولصفوان الجمال أيضا حديثا عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إذا أردت زيارة الحسين بن علي، فإذا أتيت الباب فقف خارج القبة، وارم بطرفك نحو القبر (وقل) ثم ادخل اليمنى وأخر اليسرى، ومن ثم ادخل الحائر وقم بحذائه " .
وفي رواية الحسن بن ثور بن أبي فاختة، عن الإمام الصادق (عليه السلام) من حديث طويل حتى قال: " إذا أتيت أبا عبد الله فأغتسل على شاطئ الفرات ثم البس ثيابك الطاهرة، ثم امش حافيا، فإنك في حرم من حرم الله وحرم رسوله، وعليك بالتكبير والتهليل والتمجيد والتعظيم لله كثيرا والصلاة على محمد وأهل بيته، حتى تصير إلى باب الحائر، ثم تقول: " السلام عليك يا حجة الله وابن حجته، السلام عليكم يا ملائكة الله وزوار قبر ابن نبي الله، ثم أخط عشر خطى ثم قف فكبر ثلاثين تكبيرة " .
يستفاد من هذه الروايات، على وجود بناء على الحائر الحسيني في زمن الإمام الصادق (عليه السلام) المولود سنة ٨٠ ه‍ والمتوفى سنة ١٤٠ ه‍، وقد توصل العلامة الشعراني على أن الحائر في تلك الفترة أعظم من الحائر الحالي فقال: " المستفاد من هذا الحديث أن الحائر كان أعظم من الحرم الحالي - أعني: تحت القبة والرواق الواقع على أطرافه -، وذلك لأن الفاصلة بين الباب وما يقف فيه الزائر حول القبر الشريف كان أكثر من عشر خطوات، والضلع الجنوبي من جدار
الحائر، وإلا لوجب بأنك تدور أو تطوف أو تحول حتى تأتيه من قبل وجهه، لكن اكتفى بقوله امش حتى تأتيه " .
وفي رواية أبي حمزة الثمالي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: إذا أردت زيارة قبر العباس بن علي (عليه السلام) - وهو على شط الفرات بحذاء الحائر - فقف على باب السقيفة.
يتضح من الروايات المذكورة: على وجود مسجد للحسين (عليه السلام) وسقيفة، تظلها شجرة السدرة حتى الأيام الأخيرة للعهد الأموي. وذكر محمد بن أبي طالب عند ذكره لمشهد الحسين (عليه السلام): " أنه اتخذ على الرمس الأقدس لعهد الدولة المروانية مسجدا ".
الحائر الحسيني في عهد المنصور
عندما تولى العباسيون السلطة، وتمكنوا من القضاء التام على خصومهم الأمويين، أرادوا التقرب إلى العلويين، وخصوصا في عهد السفاح الذي فسح المجال لزيارة قبر الحسين (عليه السلام)، فلم يزل البناء والمسجد والقبر المطهر بعيدا عن انتهاكات العباسيين في بداية دولتهم، لكن في زمن الخليفة المنصور صاروا يجاهرون بمعاداتهم للعلويين والتضييق عليهم، فنكل المنصور بآل الحسن، فمنهم من قتل ومنهم من هرب على وجه، متذرعا بالثورة عليه التي قام بها محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة، وأخيه إبراهيم الذي ثار من بعده في البصرة.
كما أراد التخلص من بيعة كانت في عنقه لمحمد بن عبد الله بن الحسن الملقب (بالنفس الزكية). ولما انتهت هاتين الثورتين بالفشل تفرغ للتنكيل بآل علي (عليه السلام) فزج عددا كبيرا منهم في السجن، ثم تجاوز باعتداءاته على العلويين، حتى طالت القبر الشريف للإمام الحسين (عليه السلام)، وقبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ففي رواية صفوان الجمال، قال: " أخبرني مولى لنا، عن مولى لبني عباس، قال: قال لي أبو جعفر المنصور: خذ معك معولا وزنبيلا وامض معي، قال: أخذت ما قال وذهبت معه ليلا، حتى ورد الغري فإذا بقبر، فقال: احفر، فحفرت حتى بلغت اللحد " .
لقد دفع المنصور حقده الدفين الذي يكنه لآل علي (عليه السلام)، لأنه يراهم أحق منه بخلافة المسلمين، وإن المجلس الذي أجلس فيه ما كان يأتيه إلا عن طريق شيعة أهل البيت في خراسان والكوفة، ودعوتهم في بداية أمرهم للرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان المنصور نفسه يرى أحقيتهم في الخلافة، فسبق كما قلنا إنه بايع محمد بن عبد الله بن الحسن (ذو النفس الزكية)، في اجتماع ضم بني هاشم لاختيار المرشح للخلافة، عندما بدأ حكم بني أمية في الانحلال في السنين الأخيرة من عهدهم.
وكذلك بايع السفاح والمنصور عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) عندما ثأر في عهد خلافة إبراهيم بن الوليد الأموي، وقد استطاع بن معاوية هذا أن يبسط نفوذه على أصبهان، وقومس، وحلوان، والري، ففي رواية أبي الفرج الأصفهاني أنه قال: " إنه سيطر على مياه البصرة ومياه الكوفة وهمدان وقم والري وفارس وأقام هو بأصبهان " ، " فقصدته بنو هاشم جميعا منهم السفاح والمنصور وعيسى بن علي " .
وعندما انتهت حركة ابن معاوية بالفشل، كان عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس ضمن الأسرى الذين أسرتهم القوات الموالية لبني أمية، ثم شفع فيه وأطلق سراحه .
ولما آلت الأمور إلى بني العباس أرادوا أن يتحرروا من بيعة العلويين، فأرهبوهم بالخوف والترهيب، حتى زجوا بهم في السجون، واستعملوا معهم شتى وسائل القهر والتعذيب، وكان ابتداء هذا الانحراف الذي صار علنا في زمن أبي جعفر المنصور، وإن كان في دولتهم مستورا وخفيف الوطأة في بداية الأمر.
الحائر الحسيني في عهد الرشيد
تمتعت الشيعة ببعض الهدوء النسبي في زمن الخليفة المهدي، فكانت سياسته تتسم باللين وحسن المعاملة، وكان يعطف على العلويين ويبرهم، وعلى الرغم من قصر مدة حكمه، كانت الشيعة تختلف على زيارة الحائر الحسيني بحرية تامة، وكان هذا الحال حتى بعد وفاته واستلام الرشيد لمقاليد الخلافة سنة ١٧٠ ه‍، لكن سرعان ما تغيرت سياسة الرشيد، فأعاد سياسة جده المنصور بالتضييق واستعمال البطش، والقسوة ضد العلويين، فزج الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في السجن، ثم تآمر على قتله وهو في السجن عام ١٨٣ ه‍، ثم نقض العهد الذي أعطاه ليحيى بن عبد الله بن الحسن (أخو محمد ذو النفس الزكية) حينما ظهر بالديلم وقويت شوكته نتيجة سياسة الاضطهاد التي اتبعها الرشيد مع العلويين، وفي المدة الأخيرة من حكمه أي في سنة ١٨٧ ه‍، بدأت تظهر نواياه الخبيثة تجاه القبر الشريف، فقد عمد على كرب القبر المطهر، وقطع السدرة التي كانت بجانب القبر، ففي رواية يحيى بن المغيرة الرازي كما يرويها الشيخ الطوسي في أماليه، قال: " كنت عند جرير بن عبد الحميد إذ جاءه رجل من أهل العراق، فسأله جرير عنخبر الناس، فقال: تركت الرشيد وقد كرب قبر الحسين (عليه السلام)، وأمر أن تقطع السدرة التي فيه فقطعت، قال: فرفع جرير يديه، وقال: الله أكبر قد جاءنا فيه حديث عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: لعن الله قاطع السدرة ثلاثا، فلم نقف على معناه حتى الآن، لأن القصد بقطعه تغيير مصرع الحسين (عليه السلام) حتى لا يقف الناس على
قبره (عليه السلام) " .
لقد حاول الرشيد العباسي أن يطمس آثار القبر، ويمحو رسمه، فكربه وقطع السدرة التي يستظل بها زائري القبر الشريف، ثم هدم الأبنية التي كانت تحيط به ، عندما رأى افتتان الناس بالقبر المقدس، وتهافتهم على زيارته، وهذا بالطبع كان يغيظ الرشيد ولا يروق له، ثم أخذ يتعقب العلويين تحت كل حجر ومدر، وكان يعترف بأعماله الشائنة هذه، فكان يقف على قبر أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فيقول: " أنا والله أعرف فضلك وسابقتك، وبك والله جلست مجلسي الذي أنا فيه، وأنت أنت، ولكن ولدك يؤذونني ويخرجون علي " .
وفي رواية عبد الله بن حازم بن خزيمة، قال: خرجنا مع الرشيد من الكوفة نتصيد، فصرنا إلى ناحية الغريين والثوية وذكر نحو المتن، ثم قال: إن أمير المؤمنين خرج إلى الرقة وأنا معه، فقال ذات ليلة ونحن بالرقة بعد سنة: يا ياسر تذكر ليلة الغريين؟ قلت: نعم، يا أمير المؤمنين، قال: أتدري قبر من ذاك؟ قلت: لا، قال: قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فقلت: يا أمير المؤمنين تفعل هذا بقبره وتحبس أولاده! فقال: ويلك، إنهم يؤذونني ويحوجوني إلى ما أفعل بهم " .
لقد كان العباسيون يعترفون بفضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وسابقته في الإسلام، وأن عرش الخلافة الذي تبوؤا مقعده لا يمكن أن يصير إليهم إلا من طريق علي وآل علي (عليه السلام) حيث استغلوا عواطف الشيعة تجاه البيت العلوي، فبثوا دعاتهم بين أوساطهم، بحجة إعادة الأمر إلى أصحابه الشرعيين، والدعوة إلى الرضا من آل محمد، ثم استحوذوا على مقاليد الحكم، وبعد ذلك عاثوا في الأرض فسادا، وكان للعلويين في عهدهم نصيب كبير من الاضطهاد والجور، حتى قبورهم لم تسلم من العبث والتخريب. ففي بداية الأمر أراد الرشيد التنكيل بالخدم والسدنة القائمين بخدمة الحائر المقدس، فأمر بإحضار سادنه ابن أبي داود لينال العقاب لقاء قيامه بخدمة قبر الحسين (عليه السلام)، ولما أحضر ابن داود سأله الرشيد وهو يستشيط غيظا: ما الذي صيرك في الحير؟
فأجابه: إن الحسن بن راشد هو الذي وضعني في ذلك الموضع، فهز الرشيد رأسه من الغيظ وقال: ما أخلط أن يكون هذا من تخليط الحسن أحضروه! ولما أحضر الحسن قال له: ما حملك على أن صيرت هذا الرجل في الحير؟ فقال الحسن: رحم الله من صيره في الحير، أمرتني أم موسى أن أصيره فيه، وأن أجري عليه في كل شهر ثلاثين درهما.
فسكت الرشيد ولم يحر جوابا، ثم قال: ردوه إلى الحير، وأجروا عليه ما أجرته أم موسى .
لكن الرشيد آل على نفسه على أن يضع حدا لهذا القبر فأخذ بهدمه وتخريبه، ففي رواية محمد بن أبي طالب، حيث قال: " وكان قد بني على قبر الحسين (عليه السلام) مسجد، ولم يزل كذلك بعد بني أمية، وفي زمن بني العباس إلى زمن هارون الرشيد، فإنه خربه وقطع السدرة التي كانت نابتة عنده وكرب موضع القبر " .
فإذا كان بنو أمية تساهلوا بعض الشئ عن التعرض للقبر الشريف، فبني العباس ندموا على عدم مشاركتهم في تصفية الحسين جسديا، فتتبعوه وهو رميما، فلله در الشاعر حيث يقول :
أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا * في قتله فتتبعوه رميما
ولم يقتصر هدم قبر الحسين (عليه السلام) على الرشيد فقط، بل تعدى إلى الولاة من آل بني العباس، فهذا موسى بن عيسى الهاشمي والي الكوفة للرشيد يأمر بهدم وتخريب القبر المطهر، ففي رواية يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال: خرجت أيام ولاية موسى بن عيسى الهاشمي في الكوفة من منزلي فلقيني أبو بكر بن عياش، فقال لي: امض بنا يا يحيى إلى هذا، فلم أدر من يعني، وكنت أجل أبا بكر عن مراجعته، وكان راكبا حمارا، فجعل يسير عليه، وأنا أمشي مع ركابه , فلما صرنا عند الدار المعروفة بدار عبد الله بن حازم، التفت إلي، وقال لي: يا بن الحماني جررتك معي وجشمتك معي أن تمشي خلفي لأسمعك ما أقول لهذا الطاغية، قال: فقلت: من هو يا أبا بكر؟ قال: هذا الفاجر الكافر موسى بن عيسى، فسكت عنه ومضى وأنا أتبعه حتى إذا صرنا إلى باب موسى بن عيسى، وبصر به الحاجب وتبينه، وكان الناس ينزلون عند الرحبة، فلم ينزل أبو بكر هناك، وكان عليه يومئذ قميص وإزار، وهو محلول الأزار.
قال: فدخل على حماره وناداني: تعال يا بن الحماني، فمنعني الحاجب فزجره أبو بكر وقال له: أتمنعه يا فاعل وهو معي؟ فتركني فما زال يسير على حماره حتى دخل الإيوان، فبصر بنا موسى وهو قاعد في صدر الإيوان على سريره بجنبي السرير رجال متسلحون.
فلما رآه موسى رحب به وقربه وأقعده على سريره، ومنعت أنا حين وصلت إلى الإيوان أن أتجاوزه، فلما استقر أبو بكر على السرير التفت إلي حيث أنا واقف فناداني وقال: ويحك، فصرت إليه ونعلي في رجلي وعلي قميص وإزار، فأجلسني بين يديه، فالتفت إليه موسى فقال: هذا رجل كلمنا فيه؟
قال: لا، ولكن جئت به شاهدا عليك، قال: في ماذا؟ قال: إني رأيتك وما صنعت بهذا القبر.
قال: أي قبر؟ قال: قبر الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وكان موسى قد وجه إليه من كربه وكرب جميع أرض الحائر وحرثها وزرع الزرع فيها، فانتفخ موسى حتى كاد أن ينقد، ثم قال: ما أنت وذاك ... إلى آخر الرواية ".
يتضح من رواية الحماني بأن القبر الشريف كان عرضة للعبث والتخريب على أيدي العباسيين خلفاء كانوا أم ولاة.
عمارة المأمون
بعد هدم الرشيد للقبر عام ١٩٣ ه‍، حيث هلك بعده بقليل، ثم تولى الأمين عرش الخلافة بعد أبيه، حدث انفراج نسبي للشيعة، كما استفاد الشيعة من انشغال الأمين بلهوه ومجونه، ومن ثم بعد ذلك النزاع المسلح بينه وبين المأمون، فهرعوا لزيارة القبر بلا خوف ولا وجل.
ويظهر أن الحائر الحسيني لم ينال من الأعمار في عهد الأمين إلا شيئا طفيفا، ويظهر أن الأهالي قاموا بذلك عند تخريب الرشيد للقبر المطهر.
وبعد انتصار المأمون وتسلمه لمقاليد الخلافة، كان قد آثر التقرب للعلويين، وكان قبل هذا قد دعا الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وجعله وليا لعهده، واستبدل لباس السواد بالخضرة.
ففي عهده تمتعت الشيعة بنصيب كبير من حرية الرأي، وفي زمنه ازدادت المناظرات العقائدية والفلسفية، فأصبح لرجال الشيعة الحرية في إبداء آرائهم ومناظرة مخالفيهم، وقد اعترف المأمون بسبقهم الفكري والعقائدي. أما ما يخص الحائر الحسيني فقد أعاد المأمون موضع القبر المطهر، وبنى عليه بناء شامخا بقي حتى سنة ٢٣٢ ه‍ .
الحائر الحسيني في عهد المتوكل
بقيت عمارة المأمون طيلة عهد المعتصم والواثق، والشيعة لا تزال في تلك الفترة تتمتع بنصيب وافر من الحرية في زيارة القبر الشريف، حتى تبوء المتوكل عرش الخلافة في سنة ٢٣٢ ه‍، وفي عهده بدأ في تضييق الخناق على الشيعة، وقد حذا حذو جده الرشيد في متابعة العلويين والتنكيل بهم، فقد وصفه ابن الأثير فقال عنه: " وكان شديد البغض لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولأهل بيته، وكان يقصد من يبلغه أنه يتولى عليا وأهله، يأخذ المال والدم " .
ولم يكتف بذلك حتى امتدت أياديه الآثمة لتطال الضريح المقدس للحسين (عليه السلام)، ففي الفترة من ٢٣٢ - ٢٤٧ ه‍ كان القبر الشريف عرضة للهدم والتخريب عدة مرات، مع إقامة المسالح على الطرق المؤدية إلى كربلاء للترصد، ومراقبة من يأتي لزيارته، وأمر بإنزال العقوبات الشديدة على من يخالف أمره.
وقد وصف أبو الفرج الأصفهاني هذه الفترة بقوله: " وكان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظا على جماعتهم، مهتما بأمورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم وسوء الظن والتهمة لهم، واتفق إن فتح بن خاقان وزيره كان سئ الرأي فيهم يحسن له القبيح في معاملتهم، فبلغ بهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله، وكان من ذلك كرب قبر الحسين (عليه السلام) وعفى آثاره ووضع على سائر طرق الزوار مسالح لا يجدون أحدا زاره إلا أتوا به فقتله أو أنهكه عقوبة " .
وكان ابتداء المتوكل في هدم القبر وتخريبه في سنة ٢٣٣ ه‍، على أثر ذهاب جارية من جواريه لزيارة قبر الحسين (عليه السلام)، والحادثة كما رواها أبو الفرج الأصفهاني حيث ذكر: " إن بعض القينات كانت تبعث بجواريها إلى المتوكل قبل الخلافة يغنين له إذا شرب، فلما بعث إلى تلك المغنية فعرف أنها غائبة، وكانت قد زارت قبر الحسين (عليه السلام)، وبلغها خبره فأسرعت في الرجوع وبعثت إليه بجارية من جواريها كان يألفها، فقال لها: أين كنتم؟ قالت: خرجت مولاتي إلى الحج فأخرجتنا معها، وكان ذلك في شعبان. فقال: أين حججتم في شعبان؟ فقالت: إلى قبر الحسين (عليه السلام)، واستطار غضبا وأتى بمولاتها. فحبست واستصفى أملاكها، وبعث برجل من أصحابه - يقال له الديزج كان يهوديا فأسلم - إلى قبر الحسين (عليه السلام)، وأمره بكرابه وحفره، وإضراب كل ما حوله. فمضى لذلك وضرب ما حوله، وهدم البناء، وكرب ما حوله نحو مائتي جريب، فلما بلغ إلى قبره لم يتقدم إليه أحد، فأحضر قوما من اليهود فكربوه وأجرى الماء حوله، ووكل به مسالح على سائر الطرق بين كل مسلحتين ميل، لا يزوره زائر إلا أخذوه ووجه به إليه فقتله أو أنهكه عقوبة " .
يستفاد من رواية الأصفهاني بأن زيارة قبر الحسين (عليه السلام) اتخذت طابعا ملحوظا خلال تلك الفترة، ولم تقتصر على الشيعة بل امتدت إلى بقية طوائف المسلمين، وأن محبة الحسين قد تغلغلت في قلوبهم، حتى امتدت إلى بعض حاشية الخليفة وخاصة جواريه.
كما يظهر أن الشيعة قد اتخذوا دورا ومنازلا حول القبر الشريف، وهذا ما دعا المتوكل إلى تهديم وتخريب الدور التي حوله، كما أنه أمر بإعادة المسالح للمراقبة ومنع زوار القبر، والتي ألغيت بعد موت الرشيد.
بعد حادثة هدم القبر، هل امتنع الناس من زيارة القبر؟ بالتأكيد لا، فعلى الرغم من وجود المسالح على سائر الطرق المؤدية إلى كربلاء وبين كل مسلحتين ميل، لم يثن الشيعة من زيارة القبر، ويظهر أن الأهالي أعادوا تعمير القبر ولو بشكل بسيط حتى جاءت سنة ٢٣٦ ه‍، ليعيد المتوكل الكرة مرة أخرى بهدمه وهدم ما حوله من الدور والمنازل، وأن يبذر ويسقي موضع القبر، وأن يمنع الناس من إتيانه، " فنادى (عامل صاحب الشرطة) بالناس في تلك الناحية، من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق! فهرب الناس، وتركوا زيارته، وحرث وزرع " .
وفي رواية المسعودي فقد ذكر الحادثة بقوله: " وفي سنة ٢٣٦ ه‍ أمر المتوكل المعروف بالديزج بالمسير إلى قبر الحسين بن علي (رضي الله تعالى عنهما) وهدمه ومحو أرضه، وإزالة أثره، وأن يعاقب من وجد به، فبذل الرغائب لمن تقدم على هذا القبر، فكل خشي العقوبة وأحجم فتناول الديزج مسحاة وهدم أعالي قبر الحسين، فحينئذ أقدم الفعلة فيه " .
ولنستمع إلى شهادة إبراهيم الديزج نفسه حيث يقول: بعثني المتوكل إلى كربلاء لنبش قبر الحسين (عليه السلام)، وكتب معي إلى جعفر بن محمد بن عمار القاضي: أعلمك أني قد بعثت إبراهيم الديزج إلى كربلاء لنبش قبر الحسين (عليه السلام)، فإذا قرأت كتابي هذا فقف على الأمر حتى فعل أو لم يفعل.
قال الديزج: فعرفني جعفر بن محمد ما كتب إليه، ففعلت ما أمرني به جعفر بن محمد بن عمار، ثم أتيته فقال لي: ما صنعت؟ فقلت: قد فعلت ما أمرت به فلم أر شيئا ولم أجد شيئا، فقال لي: أفلا عمقته؟ قلت: قد فعلت فما رأيت. فكتب إلى السلطان إن إبراهيم الديزج قد نبش القبر فلم يجد شيئا، وأمرته فمخره بالماء وكرب القبر.
قال أبو علي العماري: فحدثني إبراهيم الديزج وسألته عن صورة الأمر، فقال لي: " أتيت في خاصة من غلماني فقط، وإني نبشت فوجدت بارية وعليها بدن الحسين (عليه السلام)، ووجدت منه رائحة المسك، فتركت البارية على حالها وبدن الحسين (عليه السلام) على البارية، وأمرت بطرح التراب عليه، واطلقت عليه الماء، وأمرت البقر لتمزجه وتحرثه، فلم تطأه البقر وكانت إذا جاءت إلى الموضع رجعت عنه، فحلفت غلماني بالله وبالإيمان المغلظة لئن ذكر أحد هذه لأقتلنه " .
لكن هل يمكن أن نطمئن إلى رواية إبراهيم الديزج وحديثه لأبي على العماري، بأنه وجد بدن الحسين على حاله، ثم أعاد عليه التراب وهدد غلمانه بكتمان الأمر، وإبراهيم من الموالين للمتوكل، ولم يكلفه المتوكل بهذه المهمة حتى عرف منه بغضه لآل علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولو وجده فعلا كما يدعي لتقرب به إلى السلطان، حتى تعلو منزلته عنده. لكن يظهر من تبريراته هذه أنه كان بعد هذه العملية موضعا للاستهزاء وسخرية الناس.
وبقي المتوكل يتميز غيظا وحقدا على آل المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو يتحين الفرص المناسبة لإفراغ حقده الدفين عليهم، وفي عام ٢٣٧ ه‍، عندما بلغه أن أهل العراق يجتمعون لزيارة قبر الحسين (عليه السلام) فيصير إلى قبره خلق كثير، فأمر أحد قواده وجهزه بقوات من جيشه لتخريب القبر وتهديم المنازل التي حوله، لكن هذه المرة باءت محاولته بالفشل، حيث وقف الناس ضده، وتعاهدوا على مقاومة المعتدين على القبر الشريف، وعندما رأى أن الأمور لا تسير في صالحه أمر قواته بالانسحاب إلى الكوفة.
وقد روى الشيخ الطوسي في أماليه بسنده عن القاسم بن أحمد بن معمر الأسدي الكوفي - وكان له علم بالسير وأيام الناس - قال: " بلغ المتوكل أن أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين (عليه السلام) فيصير إلى قبره منهم جماعة كثيرة، وخلق عظيم، فأنفذ قائدا من قواده، وضم إليه كنفا من الجند كثيرا ليشعث من قبره (عليه السلام)، ويمنع الناس من زيارته والاجتماع عنده. فخرج القائد إلى الطف، وعمل ما أمر به، وذلك في سنة سبع وثلاثين ومائتين، فثار أهل السواد، واجتمعوا عليه، وقالوا: لو قتلنا عن آخرنا لما أمسك منا لزيارته، والاجتماع عنده، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا، فكتب بالأمر إلى الحضرة، فورد كتاب المتوكل إلى القائد بالكف عنهم، والسير إلى الكوفة مظهرا أن مسيره إليها في مصالح أهلها والانكفاء إلى المصر " .
يظهر من هذه الرواية أن هدم القبر لم يكن بالقدر الكبير، لما رأوا من المعارضة الشديدة التي أبداها أهل السواد ضدهم، كما نستخلص منها أيضا بأن القبر قد أعيد بناؤه بعد هدمه في سنة ٢٣٧، ويظهر أيضا أن الناس الغيارى من شيعة آل البيت هم الذين أعادوا بناء القبر في تلك الفترة القصيرة.
لقد أصاب المتوكل الذهول، وهو يرى المشهد المقدس يزداد شموخا سنة بعد أخرى، كما أن عوامل الارهاب والخوف التي ابتدعها ضد زوار الحسين (عليه السلام) لم تجد نفعا، حتى صار مثلا لاستهجان وسخرية المسلمين " وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد " .
كما هجته الشعراء بقصائد لاذعة، كما لتشنيعات زيد المجنون على المتوكل، وأعماله المفضوحة أثرها الفعال في نفس طاغية بني العباس، فارتدع مدة من الزمن من التعرض للقبر المطهر .
بقي القبر الشريف محفوظا من انتهاكات المتوكل مدة عشر سنين، حتى فاض حقده الدفين على العلويين مرة أخرى، يغرونه ندماء السوء بالفتك بآل علي (عليه السلام)، فيذكر ابن الأثير " إنما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي، فيهم: علي بن الجهم الشاعر الشامي، من بني شامه بن لؤي، وعمر بن فرخ الرخجي، وأبو الشمط من ولد مروان بن حفصة، ومن موالي بني أمية، وعبد الله بن محمد بن داود الهاشمي المعروف بابن أترجه.
وكان يخوفونه من العلويين، ويشيرون عليه بإبعادهم، والإعراض عنهم، والإساءة إليهم، ثم حسنوا له الوقيعة في أسلافهم الذين يعتقد الناس علو منزلتهم في الدين، ولم يبرحوا به حتى ظهر منه ما كان، فغطت هذه السيئة جميع سيئاته " .
ففي سنة ٢٤٧ ه‍ قرر الفتك بالعلويين الذين يتواجدون حول الضريح المقدس للحسين (عليه السلام) ووضع حدا لنهاية هذا القبر الذي افتتن الناس به، فكان يتحرى الذرائع لتنفيذ فعلته الشائنة، فاستغل زيارة شعبان حيث يكون زخم كثيف لزوار الحسين (عليه السلام) في هذا الشهر، فيروي الشيخ الطوسي في أماليه: " فبلغ المتوكل مصير الناس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين (عليه السلام)، وأنه قد كثر جمعهم لذلك، وصار لهم سوق عظيم، فأنفذ قائدا في جمع عظيم من الجند، وأمر مناديا ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبره (عليه السلام)، ونبش القبر وحرثه، وانقطع الناس عن الزيارة، وعمل على تتبع آل أبي طالب والشيعة، فقتل لعنه الله، ولم يتم ما قدر " .
وعن شهادة عبد الله بن دانية الطوري، كما ذكر ذلك الشيخ الطوسي في أماليه، قال: " حججت سنة سبع وأربعين ومائتين، فلما صدرت عن الحج صرت إلى العراق، فزرت أمير المؤمنين (عليه السلام) على حال خيفة من السلطان وتقية، ثم توجهت إلى زيارة الحسين (عليه السلام)، فإذا هو قد حرثت أرضه ومخر فيها الماء، وأرسلت الثيران والعوامل في الأرض، فبعيني كنت أرى الثيران تأتي في الأرض فتنساق لهم فيها حتى إذا حاذت مكان القبر يمينا وشمالا، فتضرب بالعصا الضرب الشديد، فلا ينفع ذلك فيها ولا تطأ القبر بوجه من الوجوه ولا سبب، فما أمكنني الزيارة، فتوجهت إلى بغداد وأنا أقول:
تالله إن كانت أمية قد أتت * قتل ابن بنت نبيها مظلوما
فقد أتاك بنو أبيه بمثلها * هذا لعمرك قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا * في قتله فتتبعوه رميما
فلما قدمت بغداد سمعت الهائعة، فقلت: ما الخبر؟
قالوا: وقع الطير بقتل جعفر المتوكل، فعجبت من ذلك وقلت: إلهي ليلة بليلة " .
ويؤيد شهادة عبد الله بن دانية الطوري، رواية محمد بن جعفر بن محمد بن الرج الرخجي، قال: حدثني أبي، عن عمه عمر بن فرج، قال: أنفذني المتوكل في تخريب قبر الحسين (عليه السلام) فصرت إلى الناحية فأمررنا بالبقر بمن فيها على القبور، فمرت عليها كلها، فلما بلغت قبر الحسين (عليه السلام) لم تمر عليه.
قال عمي عمر بن فرج: فأخذت العصا بيدي، فما زلت أضربها حتى انكسرت العصا بيدي، والله ما جازت على قبره، وكان هذا الرجل شديد الانحراف عن آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وقد جاء وصف حالة القبر الشريف ووصف حالة زائريه في تلك الأيام السوداء من حكم المتوكل في رواية لأبي الفرج الأصفهاني عن محمد بن الحسين الأشناني حيث قال: " بعد عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفا، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها، وساعدني رجل من العطارين على ذلك، فخرجنا زائرين نكمن بالنهار ونسير بالليل، حتى أتينا نواحي الغاضرية، وخرجنا منها نصف الليل، فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا، حتى أتينا القبر فخفي علينا، فجعلنا نتسمه ونتحرى جبهته حتى أتيناه، وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق، وأجرى الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق، فزرناه وأكببنا عليه، فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها قط من الطيب، فقلت للعطار الذي كان معي: أي رائحة هذه؟ فقال: لا والله ما شممت مثلها بشئ من العطر، فودعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع، فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتى صرنا إلى القبر، وأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه " .
وفي رواية أخرى بسند عن هشام بن محمد، قال: لما أجري الماء على قبر الحسين (عليه السلام) نضب بعد أربعين يوما، وامتحى أثر القبر فجاء أعرابي من بني أسد، فجعل يأخذ قبضة قبضة ويشمه، حتى وقع على قبر الحسين فبكى وقال: بأبي وأمي ما كان أطيبك وأطيب تربتك ميتا، ثم بكى وأنشأ يقول :
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه * فطيب تراب القبر دل على القبر
هكذا كانت أيام المتوكل حالكة السواد بالنسبة للعلويين والشيعة بشكل عام، فكان يمنع من زيارته فيمتنع الناس مدة، أو تقل زيارتهم، ويزورون خفية ثم تكثر زيارتهم فيمدد المنع إلى أن قتله الله، وقد قال أحد الشعراء :
أيحرث بالطف قبر الحسين * ويعمر قبر بني الزانية
لعل الزمان بهم يعود * ويأتي بدولتهم ثانية
لقد انتهى المتوكل وسقط في قعر الذل والمهانة، وقتل شر قتله، وسجل تاريخه بأحرف سوداء، هي وصمة خزي وعار في جبينه، وقد لقى حتفه على يد أقرب الناس إليه، بعدما تمادى في غيه واستهتاره بالقيم الإسلامية، حتى وضع المنتصر ابنه حدا لهذا الطاغية الأهوج، وقد ذكر ابن الأثير مصرع الطاغية المتوكل بقوله: " وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ولأهل بيته، وكان يقصد من يبلغه أنه يتولى عليا وأهله يأخذ المال والدم، وكان من جملة ندمائه عبادة المخنث، وكان يشد على بطنه، تحت ثيابه مخدة ويكشف رأسه، وهو أصلع،
ويرقص بين يدي المتوكل، والمغنون يغنون: قد أقبل الأصلع البطين، خليفة المسلمين، يحاكي بذلك عليا (عليه السلام) والمتوكل يشرب، ويضحك، ففعل ذلك يوما، والمنتصر حاضرا، فأومأ إلى عبادة يتهدده، فسكت خوفا منه، فقال المتوكل: ما حالك؟ فقام وأخبره، فقال المنتصر: يا أمير المؤمنين إن الذي يحكيه هذا الكاذب، ويضحك منه الناس، هو ابن عمك، وشيخ أهل بيتك، وبه فخرك، فكل أنت لحمه إذا شئت، ولا تطعم هذا الكلب وأمثاله منه! فقال المتوكل للمغنين غنوا جميعا:
غار الفتى لابن عمه * رأس الفتى في حر أمه
فكان هذا من الأسباب التي استحل بها المنتصر قتل المتوكل .
لقد سقط رأس الضلال، وسقطت معه الرؤوس العفنة، التي كانت أدوات طيعة له في تنفيذ أوامره الخبيثة من هدم وتخريب قبر سيد الشهداء (عليه السلام) ومطاردة .
قال ابن حشيش: قال أبو الفضل: إن المنتصر سمع أباه المتوكل يسب فاطمة (عليها السلام) فسأل رجلا من الناس عن ذلك، فقال له: قد وجب عليه القتل، إلا أنه من قتل أباه لم يطل عمره.
قال: ما أبالي إذا أطعت الله بقتله ألا يطول عمري، فقتله وعاش بعده سبعة أشهر.
ففي رواية الفضل بن محمد بن عبد الحميد قال: دخلت على إبراهيم الديزج وكنت جاره أعوده في مرضه الذي مات فيه، فوجدته بحال سوء، فإذا هو كالمدهوش وعنده الطبيب، فسألته عن حاله، وكانت بيني وبينه خلطة وأنس توجب الثقة بي والانبساط إلي، فكاتمني حاله، وأشار إلى الطبيب، فشعر الطبيب بإشارته، ولم يعرف من حاله، ما يصف له من الدواء ما يستعمله، فقام فخرج، وخلا الموضع فسألته عن حاله، فقال: أخبرك والله واستغفر الله إن المتوكل أمرني بالخروج إلى نينوى إلى قبر الحسين (عليه السلام)، فأمرنا أن نكربه ونطمس أثر القبر، فوافيت الناحية مساء، ومعنا الفعلة والدركاريون معهم المساحي والمراود، فتقدمت إلى غلماني وأصحابي أن يأخذوا الفعلة بخراب القبر وحرث أرضه، فطرحت نفسي لما نالني من تعب السفر ونمت فذهب بي النوم فإذا ضوضاء شديدة، وأصوات عالية، وجعل الغلمان ينبهوني فقمت وأنا ذعر، فقلت للغلمان: ما شأنكم؟ قالوا: أعجب شأن، قلت: وما ذاك؟ قالوا: إن بموضع القبر قوما قد حالوا بيننا وبين القبر وهم يرموننا مع ذلك بالنشاب، فقمت معهم لأتبين الأمر فوجدته كما وصفوا، وكان ذلك في أول الليل من ليالي البيض، فقلت: ارموهم فعادت سهامنا إلينا، فما سقط سهم منهم إلا في صاحبه، فاستوحشت لذلك وجزعت، وأخذتني الحمى والقشعريرة، ورحلت عن القبر لوقتي ووطنت نفسي على أن يقتلني المتوكل لما لم أبلغ في القبر ما تقدم إلي به.
قال أبو برزة: فقلت له: قد كفيت ما تحذر من المتوكل، قد قتل بارحة الأولى وأعان عليه في قتله المنتصر، فقال لي: قد سمعت بذلك، وقد نالني في جسمي ما لا أرجو معه البقاء، قال أبو برزة: كان هذا في أول النهار فما أمسى الديزج حتى مات " .
وفي رواية عن أبي عبد الله الباقطاني، قال: ضمني عبيد الله بن خاقان إلى هارون المصري، وكان قائدا من قواد السلطان أكتب له، وكان بدنه كله أبيض شديد البياض، حتى يديه ورجليه كانا كذلك، وكان وجهه أسود شديد السواد، كأنه القير، وكان يتقيأ مع ذلك مدة نتنة، قال: فلما أنس بي سألته عن سواد وجهه فأبى أن يخبرني، ثم إنه مرض مرضه الذي مات فيه، فقعدت فسألته فرأيته كأنه يحب أن يكتم علي، فضمنت له الكتمان.
فحدثني، قال: وجهني المتوكل أنا والديزج لنبش قبر الحسين (عليه السلام) وإجراء الماء عليه فلما عزمت على الخروج والمسير إلى الناحية رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في
المنام، فقال: لا تخرج مع الديزج ولا تفعل ما أمرتم به في قبر الحسين، فلما أصبحنا جاءوا يستحثوني في المسير فسرت معهم حتى وافينا كربلاء، وفعلنا ما أمرنا به فرأيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام، فقال: ألم أمرك أن لا تخرج معهم؟ ولا تفعل فعلهم؟ فلم تقبل حتى فعلت ما فعلوا، ثم لطمني وتفل في وجهي فصار وجهي مسودا كما ترى وجسمي على حالته الأولى " .
لقد انهار عرش المتوكل بين ليلة وضحاها، وكل محاولاته في طمس آثار القبر باءت بالفشل، وبقي قبر الحسين (عليه السلام) شامخا يتحدى الزمن بما حمله من ويلات ومحن، وظل منذ الوهلة الأولى غرة في جبين الدهر، وقد عبر محمد بن أبي طالب صاحب تسلية المجالس عن هذا المعنى بقوله: " كم راموا إخفاء منارها، وإطفاء أنوارها، وإعفاء آثارها، وإهلاك زوارها، وتخريب عامرها، وإدحاض مآثرها، وتتبعوا زعمائها، وأخفوا معالمها، ودرسوا قبورها، وطمسوا مشهورها، وجعلوها لسوامعهم مرتعا، ولحرثهم مزرعا، ولم يتركوا لها علما مشهورا، ولا جذرا معمورا.
وأظهر الله ما أخفوا، وأنار ما أطفوا، طار ذكر بيت نبيه في المغارب والمشارق، وألقى فضلهم على كل لسان ناطق، حتى طبق الآفاق ذكرهم، وعلى السبع الطباق فخرهم، وسطرت في الدفاتر مناقبهم، وشرفت على كل شرف مراتبهم، همتهم تستخرج العذراء من خدرها، وزمام محبتهم تجذب القلوب من برها وبحرها، يقاسي وليهم في هجرته إلى مشاهدهم من أعداء الله ما الموت أيسر بعضه، ويتحمل الأذى في الله ممن خف ميزان يوم حسابه وعرضه، ويستعذب العذيب في مسيره إلى زيارتهم، ويستطيب فراق الحميم والحبيب لمشاهدة أنوار بهجتهم " .
عمارة المنتصر بالله سنة ٢٤٧ ه‍
بعد هلاك المتوكل في شوال سنة ٢٤٧ ه‍، ومجئ ابنه المنتصر بالله على رأس الخلافة العباسية، ألغى سياسة البطش والتنكيل بالعلويين الذي كان المتوكل سيدها ورئيسها.
فعطف هذا على آل أبي طالب وأحسن إليهم، وفرق فيهم الأموال وأعاد القبور في أيامه ، ففي مدة حكمه القصيرة تمتعت الشيعة بحرية تامة في زيارة قبور الأئمة (عليهم السلام) في الغري وكربلاء، وشيد من جديد أضرحة الأئمة علي، والحسين (عليهما السلام)، كما أطلق أوقاف أهل البيت التي كان المتوكل قد صادرها.
ففي رواية المسعودي قال: " وتقدم بالكف عن آل أبي طالب وترك البحث عن أخبارهم، وأن لا يمنع أحد زيارة الحيرة وقبر الحسين (رضي الله عنه) ولا قبر غيره من آل أبي طالب، وترك التعرض لشيعتهم ودفع الأذى عنهم ".
وبنى على المرقد الشريف ميلا عاليا يرشد الناس إليه، وشجع الناس على زيارته.
سقوط سقيفة الحائر سنة ٢٧٣ ه‍
لم تمض عمارة الحائر الحسيني على يد المنتصر بالله أكثر من ٢٦ سنة، حتى سقط سنة ٢٦٣ ه‍ في عهد المعتمد بالله العباسي، ولم يعرف أسباب سقوط السقيفة، هل كان خللا في البناء الذي مضى على بنائه فترة أكثر من ربع قرن، أو كان للسلطات الحاكمة يد في انهيار سقيفة الحائر؟
بعض الباحثين يرى أن للسلطة العباسية يد في سبب سقوط السقيفة وانهيارها في ذي الحجة من سنة ٢٧٣ ه‍، ونعتقد أن الحادث كان طبيعيا ولم يكن عملا تخريبيا من السلطة أو غيرها، حيث كانت الدولة في ذلك الوقت لا تملك القدرة الكافية التي يمكنها أن تهد بناء كاملا في لحظة واحدة. كما أن التاريخ لم يحدثنا عن ضلوع السلطة الحاكمة في انهيار السقيفة، كما حدثنا في المرات السابقة في التعرض للقبر وانتهاك حرمته الشريفة في عهد المنصور والرشيد والمتوكل.
أما عند تحليل الوضع السياسي للخلافة العباسية في تلك الفترة الحرجة من عمرها، نجدها تتسم بالفوضى وعدم الاستقرار، حيث كانت ثورة الزنج التي أشعل فتيلها في البصرة في سنة ٢٥٥ ه‍، والتي هددت مستقبل الخلافة العباسية، وقد استطاع صاحب الزنج أن يبسط نفوذه على البصرة والأهواز وعبادان وميسان ورامهرمز والبطائح وواسط، حتى صار قريبا من مقر الخلافة العباسية، وقد كلفت الدولة العباسية أموالا طائلة في الأرواح والممتلكات، ولم يستطيعوا القضاء عليه إلا في سنة ٢٧٠ ه‍ بقيادة الموفق، هذا من جهة، أما من جهة الخلفاء أنفسهم فقد كانوا ألعوبة بيد الأتراك، يعبثون ويفسدون في مقدرات الخلافة، وأصبحوا أصحاب الأمر والنهي، حتى سادت الفوضى، وعمت الاضطرابات، وصار الخليفة لا يأمن حتى على حياته، فمتى أرادوا التخلص منه يقتلونه بسهولة ويسر، كما فعلوا بالمستعين والمعتز والمهتدي، وربما يعاقب الخليفة قبل قتله كما فعلوا بالمعتز، حيث عوقب بوضعه في الشمس فوق الرمل يرفع رجله ويضعها من شدة حرارة الرمل، وهم يضربونه بالدبابيس. من هذه الحادثة يعرف إلى أية مرحلة من مراحل الذل والانحطاط وصلت إليه الخلافة العباسية، فلم تتح الفرصة للخلفاء بالتعرض للقبر الشريف.
أما وقت سقوط سقيفة الحائر فكان في عهد المعتمد الذي بويع له بالخلافة سنة ٢٥٦ ه‍، والذي كان منهمكا على اللهو واللذات، فاشتغل عن الرعية فكرهته الناس، وفي آخر أيامه مات أخيه الموفق ثم اختلفت عليه الرعية فقتلوه، وقيل سم، وقيل رمي في حلقه رصاص مذاب، وقيل حفر له حفرة وجعل عليها ريش فمشى فسقط في الحفرة، فمات سنة ٢٧٩ ه‍ .
فكان رجل الدولة الموفق وابنه المعتضد الذي تولى عرش الخلافة بعد المعتمد، وكان المعتضد يتشيع كما نفهم من رواية ابن أبي الحديد، عن العلاء بن صاعد بن مخلد، حيث قال: " لما حمل رأس صاحب الزنج ودخل به المعتضد إلى بغداد (٢٧٠ ه‍)، دخل في جيش لم ير مثله، واشتق أسواق بغداد والرأس بين يديه، فلما صرنا بباب الطاق، صاح قوم من درب تلك الدروب: رحم الله معاوية وزاد! حتى علت أصوات العامة بذلك، فتغير وجه المعتضد، وقال: ألا تسمع يا أبا عيسى ما أعجب هذا! وما الذي اقتضى ذكر معاوية في هذا الوقت! والله لقد بلغ أبي إلى الموت، وما أفلت أنا إلا بعد مشارفته، ولقينا كل جهد وبلاء، حتى نجينا هؤلاء الكلاب من عدوهم وحصنا حرمهم وأولادهم، فتركوا أن يترحموا على العباس وعبد الله وابنه ومن ولد الخلفاء، وتركوا الترحم على علي بن أبي طالب، وحمزة والحسن والحسين، والله لا برحت أو أوثر في تأديب هؤلاء أثرا لا يعادوه بعد هذا الفعل مثله، ثم أمر بجمع النفاطين ليحرق الناحية، فقلت له: أيها الأمير، أطال الله بقاءك، إن هذا اليوم من أشرف أيام الإسلام، فلا تفسده بجهل عامة لأخلاق لهم، ولم أزل أداريه وأرفق به حتى سار " .
يظهر من هذه الرواية أن حب أهل البيت (عليهم السلام) صار يجد له مكانا في قلوب البعض من بني العباس، كما يؤيد ذلك ابن طاووس في روايته عن أبي الحسين علي بن الحسين بن الحجاج قال: كنا جلوسا في مجلس ابن عمي أبي عبد الله محمد بن عمران بن الحجاج، وفيه جماعة من أهل الكوفة من المشايخ، وفيمن حضر العباس بن أحمد العباسي، وكانوا قد حضروا عند ابن عمي يهنؤونه بالسلامة، لأنه حضر وقت سقوط سقيفة سيدي أبي عبد الله الحسين بن علي (عليه السلام) في ذي الحجة من سنة ثلاث وسبعين ومائتين، فبيناهم قعود يتحدثون إذ حضر المجلس إسماعيل بن عيسى العباسي، فلما نظرت الجماعة إليه، أحجمت عما كانت فيه، وأطال إسماعيل الجلوس، فلما نظر إليهم قال: يا أصحابنا أعزكم الله لعلي قطعت عنكم حديثكم بمجيئي! قال أبو الحسن علي بن يحيى وكان شيخ الجماعة ومقدما فيهم : لا والله يا أبا عبد الله (أعزك الله) أمسكنا بحال من الأحوال، فقال لهم: يا أصحابنا اعلموا أن الله (عز وجل) سائلي عما أقول لكم وما أعتقده من المذهب، حتى حلف بعتق جواريه ومماليكه وحبس دوابه، أنه ما يعتقد إلا ولاية (أمير المؤمنين) علي بن أبي طالب (عليه السلام)، والسادة الأئمة (عليهم السلام)، وعدهم واحدا واحدا، وساق الحديث، فانبسط إليه أصحابنا " .
يستدل من رواية ابن طاووس أن المجلس كان يضم رجالا من الشيعة لتهنئة محمد بن عمران الحجاج بسلامته على أثر سقوط السقيفة سنة ٢٧٣ ه‍، وكان في المجلس العباس بن أحمد العباسي الذي كان يتشيع، وعند دخول إسماعيل بن عيسى العباسي أحجموا عن الكلام، حتى صرح لهم بانتمائه إلى مذهب أهل البيت، وموالاة علي بن أبي طالب (عليه السلام).
عمارة محمد بن زيد الملقب بالداعي الصغير
بعد سقوط عمارة المنتصر عام ٢٧٣ ه‍، قام بتجديدها محمد بن زيد بن الحسن بن محمد بن إسماعيل جالب الحجارة بن الحسن دفين الحاجز بن زيد بن الجواد بن الحسن بن السبط بن علي بن أبي طالب، الملقب بالداعي الصغير، وقد ملك طبرستان بعد أخيه الحسن الملقب بالداعي الكبير مدة عشرين سنة ، وقد قام بتشييد البناء للمشهدين الغروي والحائري، وقد ذكر محمد بن أبي طالب بعد إعادة تعمير القبر في عهد المنتصر بالله فقال: " إلى أن خرج الداعيان الحسن ومحمد ابنا زيد بن الحسن، فأمر محمد بعمارة المشهدين، مشهد أمير المؤمنين ومشهد أبي
عبد الله الحسين، وأمر بالبناء عليهما ".
وقد شيد الداعي العلوي قبة على القبر لها بابان وبنى وأحاطها بسور، وكان ذلك سنة ٢٨٠ ه‍. وقد بالغ محمد بن زيد في فخامة البناء وحسن الريازة، ودق الصنعة في عمارة الحائر بما يتناسب ومنزله , وعند زيارته لقبر أمير المؤمنين (عليه السلام) وإظهاره وعمارته، ذكر ذلك ابن طاووس في رواية عن أبي الغنائم البرسي، قال: جاء جعفر بن محمد ومحمد بن علي بن الحسين فزار هذا الموضع من قبر أمير المؤمنين علي ولم يكن إذ ذاك القبر، ولم يكن إلا الأرض، حتى جاء محمد بن زيد الداعي فأظهر القبر، وقد امتدحه أبو المقاتل الضرير بالأبيات المشهورة النونية التي آخرها :
حسنات ليس فيها سيئات * مدحة الداعي أكتابا يا كاتبان
وقد قتل بظاهر جرجان وقبره هناك عند قبر الديباج محمد بن الصادق (عليه السلام)، وكان فاضلا متدينا.
عمارة القبر في العهد البويهي
توالت على الحائر الحسيني عمارات وإصلاحات متعددة، حتى بلغ عضد الدولة بن بابويه الغاية في تعظيمها، ومنذ ذلك الحين أخذ عمران الحائر يتقدم تدريجيا.
" ففي سنة ٣٧١ ه‍ شيد عضد الدولة البويهي قبة ذات أروقة وضريحا من العاج، وعمر حولها بيوتا، وأحاط المدينة بسور " .
وقد وصف محمد بن أبي طالب أعمال عضد الدولة الجليلة فقال: " وبلغ ذلك عضد الدولة بن بويه الغاية في تعظيمها وعمارتها والأوقاف عليها، وكان يزورها في كل سنة، ولما زار المشهد الحسيني عام ٣٧١ ه‍، بالغ في تشييد الأبنية حوله وأجزل العطاء لمن جاوره " .
وقد تقدمت كربلاء على عهده تقدما ملموسا، وازدهرت ازدهارا واسعا، وتقدمت معالمها الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فاتسعت تجارتها، وأفضلت زراعتها، وأينعت علومها وآدابها، فدبت في جسمها روح الحياة والنشاط .
وقد ذكر ابن الأثير أعمال عضد الدولة نحو الحرمين الشريفين في مكة والمدينة، ونحو المشهدين المقدسين في الحائر والغري، فقال: " ولا ننكر أعماله العظيمة ومآثره الإسلامية الجليلة، فقد بالغ في تشييد الأبنية حول المشهد في الحائر، فجدد تعمير القبة، وشيد الأروقة من حوله، وبالغ في تزيينهما وتزيين الضريح بالساج والديباج، وعمر البيوت والأسواق من حول الحائر، وعصم مدينة كربلاء بالأسوار العالية فجعلها كحصن منيع، ثم اهتم بالماء لسكان البلد والضياء للحائر المقدس، فساق المياه الجارية للطف من مسافات بعيدة، وخصص أوقافا جارية للإنارة والإضاءة ".
لقد اهتم عضد الدولة بالمدينتين المقدستين اهتماما ملحوظا، فكان يكثر الزيارة لهما ويتفقد أحوال الناس ويأمر بتلبية مطاليبهما، وقد ذكر ابن طاووس إحدى زيارته لهما بقوله: " كانت زيارة عضد الدولة للمشهدين الشريفين الطاهرين الغروي والحائري في شهر جمادى الأولى في سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، وورد مشهد الحائر مشهد مولانا الحسين (صلوات الله عليه) لبضع بقين من جمادى، فزاره (صلوات الله عليه)، وتصدق وأعطى الناس على اختلاف طبقاتهم، وجعل في الصندوق دراهم ففرقت على العلويين، فأصاب كل واحد منهم اثنان وثلاثون درهما، وكان عددهم ألفين ومائتي اسم، ووهب للعوام والمجاورين عشرة آلاف درهم، وفرق على أهل المشه