تاريخ كربلاء

ولم تزل كربلاء بين صعود وهبوط ورقي وانحطاط ؛ تارة تنحطّ فتخضع لدول الطوائف وطوراً تعمر متقدّمة بعض التقدّم إلى أن دخلت في حوزة الدولة العثمانيّة سنة 914 هجـ وأخذت تتنفّس الصعداء ممّا أصابها من نكبات الزمان وحوادث الدهر التي كادت تقضي عليها .
وبقيت مطمئنة البال مدّة طويلة تزيد على ثلاثة قرون(1) ولم ترَ خلالها ما يكدّر صفو سكّانها حتّى مفتتح القرن الثالث عشر الهجري ؛ إذ كان هذا القرن من مبتدئه إلى منتهاه من أسوأ القرون التي مرّت بها المدينة المقدّسة كأنّما القدر أبى أن تعيش ولو إلى حين في طمأنينة وهدوء ؛ فأنزل ضربته القاضية بما حلّ بها من محن وإراقة دماء وخراب ونهب وإن كان ما حلّ بهذه المدينة المقدّسة ـ في هذا القرن ـ لم يقتصر عليها وحدها ولم يختصّ بها بل عمّ جميع البلاد وشمل البلاء سائر العباد .
ونظراً لعدم تسلسل الحوادث وترابطها وعدم وقوع حوادث ووقائع متتالية في قرن واحد كهذا القرن في القرون الماضية فرأينا عدم تثبيت تلك الحوادث هنا ولا يعني هذا خلوّ القرون الماضية من الحوادث والوقائع المهمّة بها , بل العكس من ذلك ؛ إذ حفظ التأريخ لنا حوادث غاية في الأهمية جرت على بسيط أديمها وقد ذكر ذلك صاحب الكامل وغيره لكن في قرون متباعدة(2) .
وأستميح القارئ عذراً لتركي ذكر السنين والشهور والأيام على الترتيب من مبتدأ هذا القرن حتّى منتهاه كما يقتضي ؛ إذ هو من سنن مؤرخي العرب وسبيل الفطاحل من أئمتهم ولا غرو فقد صنفوا مؤلّفاتهم في عصر رقي العرب وتمدّنهم والحال غني عن البيان والإيضاح عن كيفية ضبطهم للحوادث والوقائع بأوانها .
أمّا هذا القرن فهو أحد قرون تأخّر العرب وسقوطهم ؛ إذ فاقوا البرابرة أنفسهم بما جرّوه على البلاد من الخراب والدمار فأنى لهم العلم بضبط الحوادث وقيد كنه ترتيب الوقائع ؟!
ويجدر بنا قبل أن نتكلّم عن حوادث كربلاء الدامية في هذا القرن أن نعطف نظرنا إلى مجرى أحوال العراق السياسية والاجتماعية أبان الاحتلال العثماني لها ونعطي للقارئ فكرة موجزة عنها ؛ لكي نتقرّب ونتمكّن من أداء مقصودنا .
هذا ويقسم سير إدارة الحكم العثماني للعراق إلى ثلاثة أدوار امتازت هذه الأدوار بعضها عن بعض لنفوذهم ويسطرتهم حيناً دون حين , والذي يهمّنا في معرض حديثنا هذا هو سير إدارة الحكم العثماني في العراق إبان الدور الثاني والثالث .
الدور الثاني :
ابتدأ هذا الدور بعد هجوم نادر شاه على العراق ويقدّر أوّله بسنة ثلاث وستين بعد المئة والألف الهجرية وذلك عند إسناد ولاية بغداد إلى سليمان باشا مملوك أحمد باشا .
وقد ولع سليمان هذا باقتناء المماليك ولعاً عظيماً ؛ لكونه منهم وقد بذل جهداً كبيراً في سبيل تربيتهم وتعليمهم الفنون الحربية ؛ فعزّز ذلك من مركزه وحطّ من أنفه المستحقرين شأنه فاشتهر اسمه وبَعُد صيته في ضبطه للأمور وعبقريته الإدارية إلاّ أنّه فتح للعثمانيين باباً لم يتمكّنوا من ردمه إلاّ بعد مدّة من الزمن ؛ إذ فلتت زمام المبادرة من أيدي الحكومة العثمانيّة ودخل العراق دوراً جديداً استقلّ فيه الولاة المماليك عن الحكومة العثمانيّة فأطلقوا أيديهم في العبث بشؤونها فأخذوا يتنافسون فيما بينهم للتوصّل إلى السلطة واندلعت الثورات في البلاد وقد آل حال هذا الدور إلى وضع غريب لا يمكن للباحث المحقّق أن يصف تلك الحالة وصفها [ الذي ] ينطبق على واقع الحال ؛ إذ كانت الأوضاع في تقلّب عجيب لم تستقرّ فيها على مبدأ واحد .
ولمّا وقع بين المماليك من التنافس والتناحر على السلطة لم يبقَ للولاة تلك الأهمية والنفوذ التي كانت لولاة الدور الأوّل ؛ فهذا عبد الله باشا طلب من حمود رئيس عشيرة المنتفق بتسليم سعيد بن سليمان الكبير , فرفض هذا الأخير طلبه حفظاً للجوار فاضطر الوزير إلى الخروج بنفسه ؛ لكي يحفظ ما تبقّى للوالي من هيبة وسلطة , فاشتبك مع حمود في معركة حامية .
فدارت الكرّة على الوزير لتفرّق بعض أعوانه عنه ؛ فأُسرت عساكره , ونُهبت سرادقه ووقع هو نفسه في الأسر فكبّل بالحديد ووضع القيد في عنقه وأُخذ إلى السوق ذليلاً فخُنق بها وقبر ثمّ نُبش وقطع رأسه فصار سعيد المستجير أميراً قام مقام الوزير لتعضيد حمود إياه ؛ إذ سيّر معه الجيوش إلى بغداد , ومكّنه من ولاية أمرها وصيانتها من تطاول الأيدي وإخضاع العصاة من أهل عصبياتها والمواقع الخارجة عن سيادتها .
فهذه البصرة أخذها صادق شقيق كريم خان الزند بعد أن حاصرها مدّة من الزمن دون أن يستطيع والي بغداد عمر باشا أن يفعل شيئاً ؛ لعدم وجود حامية في بغداد تعمل على استخلاص البصرة من أيدي الفرس وذلك بالرغم من تشدّد عبد الحميد واهتمامه للأمر وقيامه بإرسال الجيوش لها من عاصمته ؛ فإنّ ذلك لم يغن شيئاً ؛ إذ بقيت البصرة بأيدي الأعاجم حتّى أن بلغ صادق الزند خبر وفاة أخيه فتركها فوراً إلى عاصمته شيراز ؛ طمعاً بالسلطة , فعادت البصرة حينذاك فقط إلى حوزة الدولة العثمانيّة ؛ وذلك لميل أهلها .
ولعدم وجود حامية في بغداد استقلّ رؤساء الولايات كلّ بشؤون ولايته خلا البصرة ؛ إذ كانت الحكومة العثمانيّة ترسل إليها مَنْ يحكمها تحت اسم : ( المتسلّم ) وبعض الحلّة .
هذا وكان العثمانيون معذورين من عدم تركهم الحامية فيها أو إرسال الجند لإخضاع المتمرّدين بها ؛ وذلك لانشغالهم بأنفسهم وارتباك أمورهم ولكنّه إذا أعلن أحد ولاتهم العصيان عليهم فلا يتعدّى الحال أمرين ؛ إمّا أن يتداركوا الأمر بالحال أو ينتظرون ريثما يعيّنون والياً جديداً يسيّرون معه جيشاً لإخضاع الخارج عن إرادتهم وأخذ رأسه وإرساله إلى سرير السلطان .
وهناك وقع ما أغنى العثمانيّين من تكبّد هذه المشاق بما ظهر في البغداديين من الحماس والإقدام على عزل ولاتهم , وقتل بعضهم , ونصب مَنْ رغبوا فيه وكان ذلك من السهل عليهم بمكان ؛ فقد كانوا يتقدّمون إلى تقديم محضر يطلبون فيه من الملك التصديق على تعيينه فبوصول هذا المحضر كانت تصدر الإرادة موافقة على ذلك ؛ إذ لم يكن هناك مَنْ يبحث عن سبب ذلك .
ولسيادة الفوضى وكثرة القتل والنهب في البلاد اضطرب حبل الأمن , وانقطعت طرق المواصلات بين البلاد فألجأ هذا الحال الأمراء والولاة وبعض أهل الفضل إلى أن يبذلوا الأموال لتشييد المعاقل والخانات وتوظيف الخفراء فيها ؛ وذلك لتأمين المسافرين من الأخطار وليأخذوا بها قسطاً من الراحة أيضاً .
وتلك المعاقل موجودة حتّى اليوم بعضها عامر والبعض الآخر على شرف الاضمحلال ؛ لترك الناس لها عندما استتب الأمن نوعاً ما .
وكانت القوافل لا تسير أكثر من ساعتين أو ثلاث ؛ ولذلك راعوا في بناء هذه المعاقل أن تكون المسافة قليلة بين معقل وآخر فإذا خرجت القوافل من كربلاء قاصدة بغداد أمّنت المعقل الأوّل الذي يسمّى اليوم بـ ( خان العطيشي ) ثمّ إلى معقل المسيب ثمّ معقل الإسكندرية ثمّ معقل المحمودية وقد يمرّون بثلاثة معاقل حتّى يصلوا بغداد ولم تكن المسافة بين معقل وآخر لتتجاوز الثلاث ساعات . وبلغ الحال بها من السوء درجة أن أصبحت القوافل مهدّدة في أقلّ من هذه المسافة وأصبح الصعاليك يضربون الأتاوة على ما يتمكنون من استيفائه ؛ إذ لم تكن هناك قوّة حازمة لتردعهم .
فهؤلاء الزكاريت ـ وليسوا هم إلاّ من صعاليك البدو ـ كانوا يجبون بما في بساتين كربلاء من التمر وقد وصل الأمر من السوء درجة أنّه إذا اعترض أحد الأهالي عليهم أو تكلم عنهم بسوء فسوف يصبح وهو لا يملك من نفسه ولا أرضه شيئاً وربّما أجبروا الأهلين إلى تفويضهم حقّ امتلاك بساتينهم ؛ فكم ترك الأهالي لهؤلاء الصعاليك من الأراضي والبساتين ؛ إذ لليوم تطلق أسماؤهم على القطع التي اغتصبوها , فليت شعري إن كان هذا حال صعاليكها ومستضعفيها فبالله ماذا يكون من أمر أهل عدّتها وعدديها ؟!
فلا نستغرب إذاً من أنّهم قد ألقوا الذعر والفزع في نفوس أهل المدن الكبرى ؛ إذ إنّ لعصبياتهم وتحزّبهم صار شرّهم لا يُطاق ؛ لنهب كلّ عشيرة ما يجاورها من النواحي والأقضية والمدن لزبيد الحلّة وتوابعها إذ إنّ موطنهم الجزيرة بين النهرين ولخزاعة حسكة وتوابعها , وموطنهم الديوانية ـ على أنّها اتخذت ديواناً لرؤسائهم ـ وللمنتفق البصرة لقرب موطنهم منها ولبني لام بدرة وجصان وقد وصلت بغداد غاراتهم وللضفير الذين هم من البدو الرحل عند ورودهم العراق السماوة والرماحية ولشمر كلّ العراق ؛ إذ إنّهم لا يأوون إلى محلّ يختص بهم دون غيرهم .
ولربّما اتفق هؤلاء جميعاً وشاركهم مَنْ هم على شاكلتهم في حصارهم للمدن . وقد صادف في بعض السنين أن ورد من الإيرانيين إلى كربلاء بقصد الزيارة ما ينوف عددهم على الأربعين ألف زائر وفيهم زوجة شاه إيران فتحرّكت عليهم أطماع العرب ؛ فاتفقت خزاعة وزبيد وشمر وآل ضفير إلى نهبهم فقصدوا كربلاء وحاصروها مدّة من الزمن ؛ ولوجود زوجة الشاه بينهم خاف سعيد باشا والي بغداد حينذاك من عواقب الأمور , فاهتم لذلك وبعث داود الذي صار والياً على بغداد بعد حين لما عرف فيه من الكفاية والبسالة والإقدام ؛ إذ كان ذلك بادياً على محياه من نعومة أظفاره .
فقام داود بالمهمة التي عهدت إليه ؛ إذ جنّد ما تمكّن من تجنيده من المتطوّعة ونزل الحلّة إلى أن تمكّن بعد جهد جهيد من ردع هؤلاء الأعراب وتفريق جمعهم فسيّر مع الفرس مَنْ يخفرهم إلى النجف ثمّ أعادوهم إلى بغداد وأوصلوهم إلى مأمنهم .
وممّا زاد في الطين بلّة أخذت العشائر تغزو بعضها بعضاً ـ كما هو الحال إلى اليوم ـ داخل جزيرتهم ؛ لخلو فيافيها القاحلة من الحراثة والزراعة فلم يرَ أهلها طريقاً للعيش سوى غزو بعضهم بعضاً .
وحيث إنّهم كانوا حديثو عهد بالنهب والغزو ولم يكن بعد قد أصبح ذلك عرفاً بينهم فصاروا يتوسّلون بكلّ وسيلة ـ مهما كانت طفيفة ـ من شأنها أن تثير الفتن بينهم حتّى يتخذوا منها ذريعة لغزو بعضهم بعضاً ؛ فإنّ ذلك بها لا يعدّ لكثرته . فما وقع بين المنتفق وخزاعة فيما يلي السماوة كان من تلك الغارات وكان لذلك يوماً مشهوداً انتصرت فيه خزاعة على المنتفق .
وعلى مرّ الأيام أصبح الغزو والغارة عادة لا ينكر شأنها , حتّى إنّ البدو الذين هم داخل الجزيرة العربية كانوا عند قدومهم العراق يغزون مواقعها لتقرّر ذلك ؛ إذ إنّ الأمر صار بينهم سنة وعادة وما وقع لأهل البادية بها لا يُحصى عدّه وقد أدركنا جملة منها .
هذا وقد بلغ الحال بها من التأخّر درجة بحيث صار الدور الأوّل مَنْ سير إدارة حكم الدولة العثمانيّة دور عمران وتقدّم إذا قيس بهذا الدور .
وختم هذا الدور بسقوط داود باشا الذي حكمها بضع سنين مستقلاً عن نفوذ العثمانيِّين , ولولا ما داهمه القضاء في تدمير جيوشه بانتشار مرض الطاعون والوباء بينهم لكان خطره على الدولة العثمانيّة تلو ما دهم العثمانيِّين من القائد المصري محمّد علي , فذهبت مساعيه أدراج الرياح , وقد أُخذ أسيراً إلى العاصمة وترك هناك تحت اسم ( شيخ الوزراء ) ثمّ بعث شيخاً لحرم الرسول المكرّم (صلّى الله عليه وآله) فقام بتلك الوظيفة المقدّسة أخريات أيامه إلى أن أدركه حمامه فقبر في بقيعها .
هذا وقد تدفقت الحياة مجدداً بأوصال العثمانيِّين الخامدة عندما قام أحد سلاطينهم أبو السعود محمود إلى قتل الينكجرية لسنة إحدى وأربعين بعد المتين والألف الهجرية وقبض بيد من حديد على اُمور الدولة فأوقفها من هوّة تقهقرها وسعى لإعادة شأنها وإصلاح أمورها .
عطف عند ذلك نظره على العراق وأنقذها من يد المتغلّب عليها داود بعد أن فوّض شؤون إدارتها إلى اللاز علي رضا , إلاّ أنّ العراق لم يتزوّد من تفقّداته بسوى ذلك ؛ إذ اختطفته يد المنون فقام ولده عبد المجيد مقامه فكان ممّا هيّأ له من أسباب السعادة أن عاصره المصلح الكبير الأوّل وأوحد رجالاتهم مصطفى رشيد فألبس دولته لباس الحضارة وأعاد إليها أُبّهة النضارة فأنار العراق بظهور آثار الدور الثالث من سير إدارة الحكم العثماني للعراق .
الدور الثالث :
ابتدأ هذا الدور بعد سقوط داود وولاية اللاز علي رضا عند مفتتح السادس والأربعون بعد المئتين والألف فقام هذا الوزير بشؤون إصلاح اُمور العراق ولم شعثها من ترك حاميات الجند في البلاد وقد نصب الحكّام بها وبذل الجهد في سبيل تأمين السبل والطرق , إلاّ أنّه لم يدرك المقصود ؛ للهوى الذي كان في نفوس أهليه وما كان لهم من الاستحقار للقوّة الحاكمة ؛ إذ إنّ النفوس قد اشرأبت إلى الحرية عند زمن الانحلال في أواخر الدور الثاني وزاد ذلك أنّ بعض الولايات التي استقلّت في عهد داود قد بقيت على انفصالها .
وخلاصة القول : إنّ أيام علي رضا على طول زمنها لم تنتج تمام ما قصده , إلاّ أنّها انصرمت بهدوء وسلام وفي أواخر أيامه توفي السلطان محمود وقام مقامه عبد المجيد وانشغل بادئ أمره في استرجاع البلاد الشامية وانتهى الأمر إلى عقد الصلح وختم الأمر بينه وبين المصري محمّد علي ثم عطف نظره نحو العراق وبعث للقبض على زمام اُمورها محمّد نجيب , فأدرك هذا بذكائه ما حبس التوفيق عن سلفه ؛ إذ لم تأت بطائل إصلاحته ؛ لِما في الأنوف من الشمخرة والخيلاء .
فقصد أوّلاً إلى تأديب بني حسن والفتقة وطفيل داخل قضاء الهندية فاقتصر في حربهم على حبس جريان ماء الفرات عنهم ومنعه من السيلان في شط الهندي أصف(3) الدولة , إلاّ أنّه لم يقف على طائل بالرغم من تكبّده لخسائر فادحة وعالج ذلك بنفسه , إلاّ أنّ الطبيعة كانت أقوى منه ؛ إذ انفلق السدّ ولم يمتثل الماء لأمره .
ثمّ ساق جيوشاً يرأسها سعد الله ـ أحد قواده ـ وأمرهم بمحاصرة كربلاء وإباحتها في واقعة سنأتي بتفصيلها فهابه العراقيون عندما توالت على الأطراف هجماته فتسنّى له من إجراء بعض الإصلاح من التشكيلات في ألويتها وأقضيتها ونواحيها من نصب اُمراء , وترك الجند في البلاد.
على أنّ القصد الذي أنا في سبيل تدوينه عسر السلوك مع اشتهار حوادثها كحادثة الوهابي والمناخور وحادثة نجيب باشا وعلي هدلة لكن ليس بالأيدي ما يُعول عليه ولا مَنْ يُعتمد عليه ليصح النقل عنه .
فإليك مثلاً الواقعة الأخيرة المنسوبة لعلي هدلة : فقد وقعت لسنة ثلاث وتسعين بعد المئتين والألف الهجرية ولم يكن مَنْ لم يدركها أو لم يشاهدها , بل إنّ جلّ الأهلين قد شاركوا فيها أو شاهدوها عن كثب فمع شدّة تحرّياتي لم أقع على مدرك يمكن التعويل عليه وضبطه سوى الكلّيات .
فقد وقفت على رسالتين في المناخور ؛ أحدهما عربي العبارة , غير إنّه على غير ترتيب(4) والثاني فارسي العبارة(5) , إلاّ أنّه أشبه شيء بالروايات منه بالوقائع التأريخية لشخص عاصر تلك الحادثة , ورسالة في واقعة نجيب باشا منظومة من بحر الرجز فارسية للميرزا زكي حسين الهندي وهو عند الحادثة شاهداً وقائعها .
وأمّا أخبار نهب ابن مسعود بها فقد وقفت على بعض حوادثها ضمن أخبار العلماء وتراجمهم ومرثية للشيخ محمّد رضا الأزري وقد بلغني أنّ لوقعة علي هدلة رسالة مدوّنة لبعض الأفاضل أرجو من الله أن يمكّنني منها ؛ لكي أتمّم بها قصدي وعليه التكلان .
حتى إذا جاءت سنة 1216 هجرية جهّز الأمير سعود الوهابي جيشاً عرمرماً مؤلّفاً من عشرين الف مقاتل , وهجم على مدينة كربلاء ـ وكانت على غاية من الشهرة والفخامة , ينتابها زوار الفرس والترك والعرب ـ , فدخل سعود المدينة بعد أن ضيّق عليها وقاتل حاميتها وسكّانها قتالاً شديداً وكان سور المدينة مركّب من أفلاك النخيل مرصوصة خلف حائط من الطين وقد ارتكب الجيش فيها من الفضائع ما لا يوصف . حتّى قيل : إنّه قتل في ليلة واحدة عشرين ألف شخص.
وبعد أن أتمّ الأمير سعود مهمّته الحربية التفت نحو خزائن القبر ـ وكانت مشحونة بالأموال الوفيرة وكلّ شيء نفيس ـ فأخذ كلّ ما وجد فيها وقيل : إنّه فتح كنزاً كان فيها جمّة جمعت من الزوار وكان من جملة ما أخذه لؤلؤة كبيرة , وعشرون سيفاً محلاّة جميعها بالذهب , ومرصّعة بالحجارة الكريمة وأوانٍ ذهبية وفضية وفيروز وألماس وغيرها من الذخائر النفيسة الجليلة القدر .
ومن جملة ما نهبه ابن سعود أثاث الروضة وفرشها منها 4000 شمال كشميري و 3000 سيف من الفضة وكثيراً من البنادق والأسلحة .
وقد صارت كربلاء بعد هذه الواقعة في حال يُرثى لها وقد عاد إليها بعد هذه الحادثة من نجل بنفسه فأصلح بعض خرابها , وأعاد إليها العمران رويداً رويداً(6) .
وللشيخ محمّد رضا الأزري يرثى ما حلّ بكربلاء من جرّاء ما فعله الوهابيّون :
خطبٌ على الطفّ قد غشّى بطوفانِ فـحطّ مـن جـانبيهِ كـلّ بـنيانِ
وصـلصلت فـوقهُ سـوداءُ عاتية تـرخي السحائب من مثعنجر قاني
شـوهاء تـكشر عـن أنيابها كلحاً فتبعثُ الموتَ عن تقطيبِ غضبانِ
ظـلّت تـجلجلُ فـي أعلاهُ مرعدةً يـكادُ يـجهشُ مـنها سمعُ كيوانِ
فـما انجلت عن ضواحيهِ غياهبُها حـتّى الـتقى الدمُ غدرانٌ بغدرانِ
اللهُ أكـبرُ أيّ الـقارعات رمـتْ جـرثومة الـدينِ فـانثلّت بأركانِ
فـتلكمُ الـقومُ صرعى في معابدِها كـأنّهم زهـرٌ فـي فـيء أفـنانِ
قـتلى ترى الدمُ يجري حولهمُ دفعاً كـأنّهم أنـهرٌ مـن حـولِ كثبانِ
وا لـهفتا لـو شـفتْ وا لهفتا كمداً عـلى رواعـف أكـبادٍ وأجـفانِ
وا رحـمتا لـمروعاتٍ ضـمائرُها عـلى مـصارع أشـياخٍ وولدانِ
إلى أن قال :
تـلكم تـئنُّ وهـاتيكم تـحنُّ ولا مـسترحمينَ ولا من مشفقٍ حاني
كـأنّ أطـفالَها والـبيض تنهبها أفـراخُ ورقـاء في أظفارِ عقبانِ
يا ليتَ شعري وهل ليتٌ بنافعتي لو يحضرُ المصطفى في ذلكَ الآنِ
وينظر الحائرَ القدسي مسلخ جزّا ر وأولاده جـاثـيـنَ كـالـظـانِ
كـأنّ أجـسادَهم إذ ضُرّجت بدمٍّ درٌّ مـناط عـليهِ سـمطُ مرجانِ
وبعد ستة ساعات من هذه الأعمال البربرية غادروا كربلاء » . لزيادة التعريف بهذه الحادثة راجع : تأريخ نجد ـ لعبد الله فيلبي وتأريخ العراق بين احتلالين ـ لعباس العزاوي 6 / 144 وأربعة قرون من تأريخ العراق الحديث ـ للونكريك ومطالع السعود في أخبار الوالي داود / 168 . (عادل) .
إلى أن قال :
رزءٌ تـحارُ لهُ الرهبانُ لو سمعت مـن ديرِ سمعانَ لا بل ديرِ سمعانِ
او طاقُ كسرى بن ساسانٍ يعيهِ إذاً لَصدّع الطاق من كسرى بن ساسانِ
يـا غـيرة اللهِ لـلأرحامِ جـامحةً لـرضّعٍ مـا أتـوا يوماً بعصيانِ
إلى أن قال :
لـشيبةٍ خُـضّبت بالدمِ وهي على مـحرابها بـين مـصباحٍ وقرآنِ
لـفتية دُفـنوا من غيرِ ما غسلوا ولــم تـزوّد بـكافورٍ وأكـفانِ
لـروعة هـجمت والـناس غافلةً فأعصوصبوا فرقاً من طيشِ أذهانِ
إلى أن قال :
لمعشر أعلنوا التوحيد والتجؤوا لـه فـلم يرع توحيدٍ بإعلانِ
لأرؤس لـجلالِ اللهِ راكـعةً حزت بعد الظبا تهوى لأذقانِ
إلى أن قال :
لـلموحشات اللواتي لا أنيسَ لها إلاّ تـجاوب ضـرغام وسرحانِ
لـلجائعات اللواتي للقرى رُفعتْ آبـاؤها نـارهم فـي كلّ أزمانِ
لـلجائعات الـلواتي بعد ما سُلبتْ ظـلّت تـوارى بأحقافٍ وجدرانِ
لـكلّ عـشر سـلبيات تستر في عـبائةٍ بـين إخـفاءٍ وإعـلانِ
لمعشرٍ محضوا الإيمان واعتصموا بالصبر والصبرُ مرسى كلّ إيمانِ
لـقـتل خـمـسة آلاف بـآونةٍ من النهارِ سوى المستشرف الفاني
إلى أن قال :
لم أدر أيّ رزاياهم أعجّ لها لذبح صبية أم هتك لنسوانِ
إلى أن قال :
فلا وربّك لا تبصر لها مثلا في كلّ ما جهة في كلّ أزمانِ
ومـن رأى يـوم تشريق بغيرِ منى وهـديه الـعزّ مـن علياءِ عدنانِ
سنَّ ابن سعد سبيلاً واقتدى ابن سـ ـعودِ الـشـقي بـهِ ضلَّ الـشقيانِ
إلى أن قال :
فـسل بـهابيل إذ قـابيل غال به مَــن الـمحقّ فـفيها آي تـبيانِ
وسـل بقصةِ نوحٍ إذ مضت حقبٌ مـن قـومهِ مـا لقي في ذلك الآنِ
وتـلكَ عـادٌ عـتوا عن أمر ربّهمُ فـمـتّعوا زمـناً يُـتلا بـأزمانِ
وسل بساحر فرعون الاُلى صُلبوا مـن بـعدِ ما قُطعت أيدٍ ورجلانِ
وسـل بموسى بن عمرانٍ وسيرته مـاذا رآه إذاً مـوسى بن عمرانِ
وسل طواغيتَ أهلَ السبتِ كم قتلوا مـنهم نـبيّاً وكـم لـجّوا بطغيانِ
فـلم يـعجّل لهم ذو العرشِ قطعهمُ بـل لـم يـعجّل لفرعونٍ وهامانِ
وسـل بقصّة أهلِ الرس ما فعلوا بـالأنبياءِ ومـا عـاثوا بـعصيانِ
وسـل بـعيسى رسولِ الله ما فعلتْ بـهِ الـيهودُ ومـا جـاؤوا ببهتانِ
وسـل بـما لقى المختار من سلفَي قـريش إذ خـرجوه ثـاني الثاني
وسـل بـاُحدٍ ومـا لاقى النبيُّ به مـن شـجِّ رأسٍ ومن إلقاء أسنانِ
وسل خزاعةَ في البيتِ الحرام وما لاقـوه مـن حزبِ أصنامٍ وأوثانِ
وسل بحتف أبي حفص ومصرعِهِ وسـل بـمصرع عثمانِ بن عفانِ
وسل بحتف أمير المؤمنين أبي الـ سـبطين إذ غاله الأشقى برمضانِ
وسـل بسمّ سليلِ المصطفى الحسن الـ زاكيِّ أخي الشرف القدسي والشانِ
وسـل بـما لقى السبطُ ابنُ فاطمةٍ مـن ابـن مرجانةٍ في طفّ كوفانِ
وسـل بـنازلةِ الحرّى التي نزلتْ بـعقوة الـمصطفى تـذكوا بنيرانِ
حـيث الدماءُ جرت ما بين منبرِهِ وقـبره جـري أنـهارٍ وغـدرانِ
وســل بـما لـقيته آلُ حـيدرةٍ مـن آل مـروان لا رعياً لمروانِ
وسـل بـفتك بـني العباس بعدهمُ بـالفاطميين مـن شـيبٍ وشـبّانِ
وانـظر إلى قصص القرآن أجمعها تـرشدك والصبح لم يحتج لبرهانِ
هـاتي طـريقة أهل الله من قدمٍ لم يمض من أوّلٍ إلاّ اقتفى الثاني
إلى أن قال :
يـا راكباً ظهرَ علباءٍ عذافرةً يكادُ يسبقُ منها الطرفُ خفّانِ
إلى أن قال :
بـلّغ أبا حسنٍ منّي مغلغلةً يكادُ يصدعُ منها كلُّ صفوانِ
إلى أن قال :
واشرح له ما جرى وهو الخبير به فـالزند بـالقدح قد يُرمى بنيرانِ
إلى أن قال :
فـإنّها طـخيةٌ عمياءُ قد غشيتْ على الخلائقِ من أنس ومن جانِ
ويـا لـها وقـعةٌ ثرّت حوادثُها بـمشمعلٍّ أجـشِّ الـرعد هنّانِ
وقـال في يومها الأدهى مؤرّخُه في كربلاءَ دهانا رزؤها الثاني
وله المغمور برحمته مرثية اُخرى كلّ شطر منها على انفراد تأريخ سنة النازلة 1216 , وأوّلها:
أريـحـا فـقد لاحـت طـلايعُ كـربلا لـنـقبر أشــلاءً ونُـسـعد مـرمـلا
لـنـبكيَ دوراً راعـهـا قـارعُ الـردى فـأوجف مـنها مـا اسـتقرّ ومـا عـلا
لـعمري لـقد عـبّت عـليها مـصائبٌ وجـلاّ عـليها الـرعبُ لـلحتفِ قسطلا
مـبـانٍ مـحا آيـاتُها الـويلُ فـانمحتْ وكـلّـل شـأويـها الــردى فـتـكلّلا
فـكيف وصـرف الـبين عـاثتَ بـنابه وقـــلّ رسـيـميه ونــوّخ كـلـكلا
وهــبّ بـحـقِّ الـدين يـخفقُ بـرقُهُ مـصاب بـجون الـحزن أضحى مجلجلا
يــقـلّ بـثـجّاجٍ يـزمـجر بـرقُـهُ بـرجـفٍ فـيثني الـدو بـالدمِ أشـكلا
وكيف وقد مدّت صواعقُ رعدِه = عـلى طـودِ ربـعِ الـمصطفى فتزلزلا
فـتلكم ربـوعُ الـدينِ قـلّ بـها الصدى وتـلكم بـيوتُ الـوحي قـد جابها البلى
نـوائب قـد فـهاجت نـوائب(7) أمـدن قـنا العلياء في زمن خلا
لـيبك التقى يوماً به أهب التقى ويا لك بيناً زاد جسمي ضناً على
وقد زارها في أوائل القرن التاسع عشر أحد ملوك الهند , فأشفق على حالتها , وبنى فيها أسواقاً عامرة وبيوتاً قوراء أسكنها بعض مَنْ نكبوا وبنى للبلدة سوراً حصيناً لصد هجمات الأعداء وأقام حوله الأبراج والمعاقل ونصب له آلات الدفاع على الطرز القديم وصارت على مَنْ يهاجمها أمنع من عقاب الجو ؛ فأمنت على نفسها , وعاد إليها بعض الرقي والتقدم .
حادثة المناخور
وفي سنة 1241 هـ وقعت واقعة عظيمة تُعرف بواقعة المناخور ـ أمير الآخور ـ أي أمير الاصطبل وذلك إنّ الدولة العثمانيّة كانت في ذلك الزمن ضعيفة ؛ لاحتلال الجيش الإنكشاري واستقلال البلاد القاصية وانشغالها بمحاربة العصاة في البلقان وطموح محمّد علي والي مصر إلى الاستقلال واستقلال علي باشا (ذلتلي تبه) في ألبانيا .
وكان والياً على العراق آن ذاك داود باشا وكان تقياً عادلاً ورعاً مشهوراً بالدهاء وفرط الذكاء إلاّ أنّه كان شديد الحرص على الانسلاخ من جسم الدولة والاستقلال بالعراق أسوة بمَنْ تقدّمه ؛ فسعى بادئ ذي بدئ إلى جلب قلوب الأهالي بما أنشأ من العمارات والبنايات , والجوامع والتكايا وقرّب علماء العراق وبالغ في إكرامهم ونظم جيشاً كبيراً وسلّحه على الطراز الحديث .
حينئذ قام بعد ذلك فسيّر جيشاً ضخماً بقيادة أمير اصطبله وكانت عشيرة عقيل تعضده , فأخضع القائد الحلّة واستباح حماها ثمّ جاء كربلاء فحاصرها ثمانية عشر شهراً , ولم يقوَ على افتتاحها ؛ لحصانة سورها ومناعة معاقلها ولمّا رأى ذلك أقلع عنها , ثمّ كرّ عليها ثانياً وثالثاً فلم يفز بأمنيته إلاّ بعد حصار طالت مدّته أربع سنوات ؛ من سنة 1241 إلى سنة 1245(8) وكانت نتيجتها أن أسر الجيش نقيب كربلاء فسجنه داود باشا في بغداد .
حادثة نجيب باشا(9)
وفي سنة ( 1258 هـ ) شق أهالي كربلاء عصا الطاعة على الدولة وأبوا أداء الضرائب والمسكوس وكان والي العراق نجيب باشا قد جهّز جيشاً بقيادة سعد الله باشا وسيره إلى كربلاء , فحاصره حصاراً شديداً وأمطر المدينة بوابل قنابله , ولم يساعده الحظّ في افتتاحها ؛ لأنّ سورها كان منيعاً جدّاً وقلاعها محكمة لا يمكن للقائد الدنو منها .
ولمّا أعيت به الحيل الحربية التجأ إلى الخداع فأعطى الأمان للعصاة وضمن لهم عفو الحكومة فأخلوا القلاع وجاؤوا طائعين فقبض عليهم , وسلّط المدافع على الجهة الشرقية ؛ فهدم السور وأصلى المدينة ناراً حامية ففتحها وارتكب فيها كلّ فظاعة وشناعة ودخل بجيشه إلى الصحن العباسي , وقتل كلّ مَنْ لاذ بالقبر الشريف وبهذه الموبقات عادت سلطة الحكومة إلى تلك الربوع والله علاّم الغيوب .
فتنة علي هدلة(10)
وفي سنة ( 1293 هـ ) ظهرت فتنة في كربلاء عُرفت بفتنة علي هدلة وذلك إنّ جماعة من المفسدين حرصت الأهالي على مناوأة الحكومة وكانت بدرجة فظيعة , وفي 11 ذي الحجة سنة 1285 هـ أمر بالقتل العام لمدّة ثلاث ساعات .
ومن المحقّق أنّ تسعة آلاف شخص قد اُبيدوا عن آخرهم في تلك المدينة المقدّسة فضلاً عمّا نُهب من الأموال والأحجار النفيسة , وأثاث البيوت والكتب التي لا تُعد ولا تُحصى .
وفي صحن سيدنا العباس ربطوا الخيل والجمال وقتلوا كلّ مَنْ لاذ بأروقة الحرم الحسيني والعباسي وكذلك فعلوا في البلدة سوى دار السيد كاظم الرشتي التي كانت دار أمان وكلّ مَنْ تمكّن من الهروب نجا , ومَنْ بقى كان نصيبه القتل وهدموا الألواح التي كانت تزين جدران الروضة الشريفة . وبعد القتل العام أصدر الوالي أمراً بتعيين حاكم على كربلاء وفي اليوم الرابع عشر من الشهر المذكور رجع نجيب باشا قافلاً إلى بغداد .
ولابن الآلوسي ـ وكان من فضلاء أهل السنة وقاضي عسكر نجيب باشا ـ بيتان من الشعر قالهما ارتجالاً بعد وقوع الحادثة :
أحـسين دنّـس طيبَ مرقدك الاُلى رفضوا الهدى وعلى الضلالِ تردّدوا
حـتّى جـرى قلمُ القضاء بطهرِها يـومـاً فـطهّرها الـنجيب مـحمّدُ
وقد ردّه الشيخ عزيز ابن الشيخ شريف النجفي بقوله :
اخـسأ عـدو الله إنّ نـجيبكمْ رفض الهدى وعلى العمى يترددُ
ولـئن به وبك البسيطة دنّستْ فـابشر يـطهّرها المليك محمدُ
وقد ردّه أيضاً الحاج ملاّ محمّد التبريزي بقوله :
اخـسأ عدو الله إنّ نجيبكمْ كيزيدكمْ شرب الماء تعودوا(*)
هـذا ابنُ هندٍ والمدينة والدمُ الـ ـمهراقُ فيها والنبي محمّدُ
وله أيضاً :
تـباً لأشـقى الأشقياء نجيبكمْ نصب الحسين وفي لضى يتخلّدُ
لا تـعجبوا ممّا أتى إذ قد أتى بـصـحيفةٍ مـلـعونةٍ يـتقلّدُ
أفكار الأهالي مستعدة لقبولها فألفت عصابة بقيادة علي هدلة وقابلت الجيش العثماني ودمرته في مواقع متعددة ولمّا رنّ صدى هذه الحادثة في الأستانة قلق السلطان المخلوع وأصدر إرادة سنية بإرسال جيش إلى كربلاء وهدمها وقتل مَنْ فيها عن بكرة أبيهم .
وأناط تنفيذ هذه المهمّة بعاكف باشا والي بغداد والمشير حسين فوزي باشا وكان هذا قائداً عاماً للجيش , فجاء الاثنان إلى كربلاء يصحبهما أحد نقباء بغداد السابقين وضربوا المضارب قرب المدينة , فلم ير الوالي في المدينة آثار العصيان والتمرّد وقد علم بعد البحث الطويل أنّ العصاة عصابة ارتكبت إثماً واقترفت ذنباً يطاردها الجيش وليس من العدل هدم المدينة وتنفيذ الإرادة السنية على سكّانها وأخذ البريء بجريرة المذنب .
فأحجم عن تنفيذ الأوامر , وفاتح القائد العام فأبى هذا إلاّ الإصرار على تنفيذ الأوامر فنجم من ذلك خلاف بينهما , فراجع الأستانة وخاطبها بالأمر وبعد أخذ ورد صدر الأمر بالعفو , فرحل الجيش عنها بعد أن قبض على مثيري الفتنة وموقدي نيرانها وقادهم إلى بغداد , وهناك ألقاهم في أعماق السجون والعذاب .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي من بعد غارة المولى علي بن فلاح المشعشعي سنة ( 858 ) هجـ إلى حادثة الوهابيّين سنة ( 1216 ) هجـ .
(2) إليك سرداً موجزاً بهذه الحوادث : يحدّثنا ابن مسكوية في تجاربه ( 6 / 338 ) وابن الأثير في الكامل ( 7 / 153 ) : في سنة 369 أغار ضبّة الأسدي على كربلاء , وانتهك حرمة المشهد بالحائر , ونهب ما وجد = فيها وكان ضبّة هذا « من أهل عين التمر كثير العشائر وقد جرت عادته بالتبسط بأن يشنّ الغارات على أطراف بغداد ويمنع مَنْ جلب الميرة إليها ففعل ووجد الطريق إلى بغيته فنهب السواد وقطع السبيل ( تجارب الأمم 6 / 153 ) فأرسل عضد الدولة سريّة إلى عين التمر في طلب هذا السفّاك ضبّة الأسدي فلم يشعر إلاّ والعساكر معه , فترك أهله وماله ونجا بنفسه وأخذ ماله وأهله ومُلكت عين التمر فكان ما جرى عليه عقاباً لما فعله بالحائر .
وراجع أيضاً المنتظم 7 / 101 : وفي سنة 489 هجـ غارت خفاجة على كربلاء , ودخلوا المشهد الحسيني , وتظاهروا فيه بالفساد والمنكر ؛ فوجّه إليهم سيف الدولة صدقة بن مزيد الأسدي صاحب الحلّة جيشاً فكبسوهم وقتلوا منهم خلقاً كثيراً في المشهد حتّى عند الضريح وقد ذكروا أيضاً أنّ رجلاً منهم قد ألقى نفسه هو وفرسه من أعلى السور فسلم هو والفرس ( الكامل 10 / 108 ط : ليدن والبداية ـ لابن كثير 12 / 152 وراجع أيضاً المنتظم ـ لابن الجوزي 9 / 97 ) .
وفي حوادث سنة 513 هجـ يحدّثنا ابن الجوزي في المنتظم ( 9 / 207 ) بأنّ دبيس بن مزيد الأسدي كسر المنبر الذي في مشهد علي (عليه السّلام) والذي في مشهد الحسين (عليه السّلام) وقال : لا تُقام ها هنا جمعة ولا يخطب أحد .
من البديهي أنّ هذا العمل لم يكن عدائياً وإنّما كان إنكاراً لذكر المسترشد في الخطبة بالمشهد الحسيني ؛ لأنّ دبيساً هذا كان أحد أعاظم الشيعة .
وفي شوال سنة خمس وتسعون وسبعمئة فتح تيمور لنك المغولي بغداد , ففرّ حاكمها السلطان أحمد الجلائري إلى كربلاء ( توزك أمير تيمور الكوركاني ص 42 ) فتبعه جيش تيمور فلحقه في كربلاء , فدارت في صحرائها وتحت لهيب شمسها المحرقة رحى معركة طاحنة .
أجاد في وصفها ميرخواند صاحب ( روضة الصفاء في المجلد السادس ) ؛ فقد جاء فيه ما ترجمته : ... فهرب السلطان أحمد الجلائري فتعقّبه الأمير تيمور بجنده ولكن خواصه التمسوا منه البقاء في بغداد , وأنّهم سوف يعقبونه فنزل الأمير تيمور عند رغبتهم .
أمّا الذين تعقّبوا السلطان أحمد وصلوا صباحاً إلى شاطئ الفرات وعلموا أنّ السلطان قد عبر النهر وأغرق جميع السفن , وقطع الجسر الذي عليه وأنّه ينوي الهروب إلى دمشق عن طريق كربلاء وهنا اختلفوا في أيّ الطرق أصوب لسلوكه وقرّروا أخيراً أن يعبروا الفرات وهم في هذا الحال عثروا على أربع سفن , فركبوها وعبروا بها الفرات واقتفوا أثر السلطان .
وقد وجدوا في طريقه كثيراً من الأموال والأسلاب والأطعمة كان قد تركها السلطان ؛ لِما أصابه من الارتباك والحيرة فغنموها .
خمسة وأربعون رجلاً من الأمراء والأعيان مثل : إينانج أغلان وجلال حميد وعثمان بهادر وسيد خواجه ابن الشيخ علي بهادر وغيرهم قد تقدّموا جيشهم على سبيل التعجيل فظفروا هؤلاء بالسلطان أحمد في سهل كربلاء وكان مع السلطان 2000 فارس تقدّم منهم مئتا فارس , فالتحم القتال بين الفريقين , وترجّل الأمراء من خيولهم مرّتين مستعدون للقتال وقد انهزم أعداؤهم من كثرة ما رُشقوا بالنبال وقد ركب الأمراء ثاني مرّة ولحقوهم .
وفي الكرّة الثالثة حمل أتباع السلطان أحمد على الأمراء حملة عنيفة بحيث لم يتمكّن هؤلاء حتّى من النزول عن خيولهم وتلاحم فرسان وشجعان الطرفين في رحى معركة حامية الوطيس , وقد أظهر الأمير عثمان بهادر في ذلك اليوم شجاعة وبسالة فائقتين وقد كلّت يده من كثرة الضرب والطعن .
أمّا السلطان أحمد فقد انتهز فرصة التحام الطرفين في القتال وهرب وأوقع الأمراء الهزيمة بجيش السلطان وقد غنم الأمراء أمواله ونفائسه التي تركها في ساحة المعركة . وكان من بين أسرى السلطان نساؤه وولده علاء الدولة مع جمع من أفراد عائلته ثمّ قصد بعد ذلك عثمان بهادر وجماعته إلى التبرّك بزيارة المشهد الحسيني وتقبيل أعتابه الشريفة .
وجاء في روضات الجنان ـ للخونساري عند ترجمته لخلف المشعشعي ومجالس المؤمنين ـ للشوشتري / 405 : في المئة التاسعة نهب المشهدين الشريفين علي بن محمّد بن فلاح المشعشعي ملك الحويزة , وسبا أهلها وقادهم إلى مقرّه .
وقد جاء في تأريخ الغياثي ( المخطوط في مكتبة المتحف العراقي ) ص 217 عن المولى المشعشعي ما نصه : ودخل يوم الأحد 23 ذي القعدة إلى مشهد الغروي والحائري , ففتحوا له الأبواب ودخل فأخذ ما تبقّى من القناديل والسيوف ورونق المشاهد جميعها من الطوس والأعتاب الفضية والستور والزوالي وغير ذلك ودخل بالفرس إلى داخل الضريح وأمر بكسر الصندوق واُحرق , ونقل أهل المشهدين من السادة وغيرهم بيوتهم .
(3) هكذا وردت المفردة , ولعل هناك خطأً ما وقع في رسمها أثناء النسخ . (موقع معهد الإمامين الحسنَين) .
(4) قد تكون الرسالة المسمّاة بـ ( نزهة الإخوان في وقعة بلد القتيل العطشان ) ـ لأديب كربلائي مجهول ممّن عاصر هذه الحادثة , توجد نسخته المخطوطة عند السادة آل النقيب .
(5) لعله كتاب ( كاشف الإعجاز) الذي يبحث في حادثة المناخور (بالفارسية) , منه نسخة خطّية في مكتبة السيد عبد الرزاق الوهاب .
(6) هذا ما ذكره المرحوم المؤلّف عن هذه الحادثة لكنّه عثر بعد ذلك على بعض المؤلّفات الفارسية الجليلة التي أرخت الحادثة بشيء من التفصيل . ونحن نثبت ترجمتها هنا ؛ لِما لها من القيمة التأريخية ولندرة وجودها , وعدم تيسّرها للقارئ العربي على الأقل .
فمن هذه المؤلّفات مسير طالبي ـ لأبي طالب بن محمّد الأصفهاني , ط الهند , سنة 1227 هـ .
« في الثامن عشر من ذي الحجّة يوم غدير خم ( حيث كان معظم سكّان كربلاء قد ذهبوا لزيارة النجف الأشرف بقصد الزيارة المخصوصة ) , إذ داهم كربلاء خمسة وعشرون ألف من الفرسان , وقد امتطوا الجياد العربية الأصيلة ـ وكانوا قبل ذلك قد بعثوا جماعة منهم إلى ضواحي كربلاء , وقد ارتدوا زيّ الزوار وجرى بينهم وبين عمر آقا والي كربلاء اتفاقاً وكان هذا الوالي سنّيّاً متعصّباً ـ وعند دخولهم المدينة تعالت أصواتهم بـ ( اقتلوا المشركين ) .
وكان من البديهي أن عوقب عمر آقا آخر الأمر بأمر من سليمان باشا والي بغداد . بعد القتل العام أرادوا أن يخلعوا صفائح الذهب الأبريز من جدران المشهد الحسيني ولكن لاستحكامها ومتانة وضعها لم يستطيعوا ذلك فقط خرّبوا قسماً من الضريح الذي تحت القبة .
وفي الغروب فجأة وبدون سبب ظاهر غادروا كربلاء متّجهين إلى الحجاز , وقد قُتل في هذه الحادثة أكثر من خمسة آلاف شخص وأمّا الجرحى فلا يحصون لكثرتهم .
وكان من جملة القتلى ميرزا حسن شاهزاده الإيراني وميرزا محمّد طبيب اللكنهوري وعلي نقي خان اللاهوري مع أخيه ميرزا قمر علي مع غلامه وخادمه » .
وقد جاء في ( زنبيل فرهاد ) ـ لمعتمد الدولة / 348 : « ... ولده الأكبر سعود مع 1200 فارس غدّار , فداهموا كربلاء يوم الغدير سنة 1216 هجـ بصورة فجائية فعملوا في أهلها السيف ؛ فقتلوا ونهبوا وأسروا ما استطاعوا فاستشهد في هذه الواقعة كثير من العلماء ومن جملتهم جناب الشيخ ملاّ عبد الصمد الهمداني , ففاضت روحه الطاهرة .
ودقّوا القهوة في الرواق الحسيني الشريف , ولم تمضِ ستة أو سبع ساعات حتّى كان عدد المستشهدين الذين فاضت أرواحهم الطاهرة يربوا على ستة آلاف شخص .
وكان أكثر أهالي كربلاء قد ذهبوا إلى زيارة النجف الأشرف لزيارة الغدير المخصوصة وفي عصر ذلك اليوم المشؤوم غادر سعود كربلاء إلى دياره » .
وجاء أيضاً في مجلد القاجارية من ناسخ التواريخ ـ لسبهر / 63 : « أسرع سعود مع أتباعه صوب النجف الأشرف , وحاصر قلعة النجف وهاجمها عدّة مرّات , ولكن لم يتمكّن منها فرجع إلى كربلاء وبـ 12000 فارس من أبطال الرجال فغافل كربلاء وداهمها ـ وصادفت هذه الحادثة يوم عيد الغدير ـ وبدأ القتل والتذبيح بسكنة هذه المدينة حتّى قتل منها خمسة آلاف رجل وامرأة وكسروا الضريح المبارك , وسرقوا الجواهر والثريّات والمفروشات واللآلئ التي كانت حصيلة قرون عديدة من الهدايا الثمينة من الخلفاء والأمراء ونُهبت الخزينة والقناديل الثمينة .
(7) لا يخفى ما في المصراع من إرباك وخلل عروضي . (موقع معهد الإمامين الحسنَين)
(8) قال صاحب ( نزهة الإخوان في وقعة بلد القتيل العطشان ـ مخطوط تفضيل به السيد حسن الكليدار ـ ) : لقد أحصى تسع وقائع وقعت بين الفريقين كان الفوز فيها من نصيب الكربلائيين , وانهزم جند داود باشا .
فالواقعة الأولى هي واقعة (القنطرة) , قُتل فيها من الجند ثمانية عشر رجلاً , ومن الأهلين رجلان .
الواقعة الثانية : واقعة (المشمش) , وقد سمّيت بذلك ؛ لأنّ الجند قصدوا أن ينهبوا كما أفسدوا الزرع من قبل وخرج الأهلون على عادتهم إلى الجناة , فاقتتلوا في أرض الجويبة وظهر البلديون على الجنود وهزموهم بعد أن قُتل وجُرح منهم خلق كثير .
والثالثة : واقعة (الهيابي) وهي من أعظم الوقائع وأشدّها هولاً ؛ [ حيث ] غُطيت على أثرها أرض الجويبة وما يليها من أرض الحرّ والهيابي بجثث القتلى وقد استمرت المعركة من الصبح إلى الظهر , وانهزم الجند بعد أن قُتل وجُرح منهم جمع غفير .
ومن جملة الجرحى القائد الشهير صفوق ـ وهو قائد الحملة ـ ... ولمّا تحقق داود باشا من انكسار حملته بقيادة صفوق عندئذ عقد لواء الحملة إلى (المناخور) , وكان هذا بصيراً بالحرب مشهوراً بالضرب والطعن سبق له فتح الحلّة وماردين , فخرج من بغداد مع 1500 فارساً مزوّد بالمدافع والقنابل وأنفذ داود على أثره من أصناف جنوده إلى طلبة والداودية والأرسية والتركية واليوسفية ونقل الجند معسكرهم إلى جهة الحرّ ووصل المناخور إلى كربلاء فسدّ عنها الماء ليومه وفيه تقدّم إلى المدينة فأطلقت قنابله عليها , وهاجمه الكربلائيون ففرّ أصحابه واغتنمت ميرتهم . وهذه الواقعة هي الرابعة .
والواقعة الخامسة : واقعة (الأطواب) , نسبة إلى المدافع وتسمّى أيضاً بوقعة باخية . وهي واقعة عظيمة دامت ست ساعات , اُطلقت فيها ( 46 ) قذيفة مدفع وقيل أكثر من ذلك . ولم تصب أحداً , بل كانت تقابل من جانب الأهلين بالهزء والسخرية وقد قُتل وجُرح فيها الكثير من أفراد العشائر .
وقد أغارت خيل المناخور على المدينة مرّات عديدة وباءت كلّها بالفشل وقد خرج إليهم الأهلون فأصابوا من أعدائهم , وعادوا ولم يُقتل منهم إلاّ شخص واحد وجُرح أربعة أشخاص , وقد كفّ الجند عن القتال .
الواقعة السادسة : واقعة (المخيم) , وهي واقعة عظيمة أيضاً تبادل فيها الفريقان إطلاق القذائف المدفعية فدمّر على أثرها إحدى مدافع العدو , وقد ابتدأت المعركة منذ الفجر ولم تمض ساعة حتّى انهزم العدو ثمّ عاودوا القتال بعد ساعة , فكثر القتلى والجرحى منهم , ففرّ الجند أيضاً وقد أُصيب في هذه المعركة أربعة قتلى من الأهلين .
الواقعة السابعة : واقعة (الراية) , اقتتل فيها الفريقان خارج البلدة , انتصر فيها الأهلون واستولوا على خيولهم ومدافعهم وبنادقهم .
الواقعة الثامنة : واقعة (بني حسن) , وهي عظيمة أيضاً وذلك إنّ المناخور أحسّ بعجز جيشه وتخاذلهم , فعدل إلى الاستنجاد بالعشائر وأجابه فيمَنْ أجاب بنو حسن , ناكثين عهدهم مع أهل كربلاء , ضامنين المناخور فتح المدينة حتّى تقدّموا أمامه بعد العشاء الآخرة من جهة المخيّم وتمكّنوا من عبور الأنهار وتسلق الجدران ونشبت الحرب بينهم وبين الأهلين وحمل فرسانهم وحمل الجند ثلاث مرّات فأخفق الجميع وجُرح منهم جماعة .
الواقعة التاسعة : واقعة (الأمان) ؛ لأنّ المناخور أوقعها بعد صدور العفو والأمان من داود باشا ؛ طمعاً بفتح المدينة فقد تقدّم في منتصف ليلة ذي القعدة سنة 1241 هـ ...
قد أطال المؤلّف في سرد تفاصيل هذه الواقعة وإليك مجملها : فلمّا باءت كلّ محاولات داود باشا لإخضاع كربلاء بالفشل استنجد بعرب عقيل القصيم والإحساء فعسكر هؤلاء على صدر (الحسينيّة) وأمر داود بقطع الماء عن كربلاء ولمّا لم تجد أيضاً هذه المحاولات فتيلاً أمر داود باشا أعراب الشامية أن يقطعوا طريق كربلاء , وينهبوا السابلة فيها وقد ضيّقوا الحصار على المدينة , وقطعوا الاتصال الخارجي بها فعند ذلك لم يرَ الأهالي بداً غير الصلح مع داود باشا فدخل الأخير كربلاء ظافراً .
(9) قد جاء في زنبيل قرهاد ـ لميرزا معتمد الدولة عن هذه الحادثة ما ترجمته : بواسطة كثرة الأوباش في كربلاء ـ وكانت آنذاك ملجأ كلّ مجرم هارب من العقاب حتّى صار ينطبق عليها القول المأثور ( من دخلها كان آمناً ) ـ أن بلغ الأمر بها إلى حدّ أن خرج الأمر من يد حاكم كربلاء ,ولم يطع هؤلاء أوامر والي بغداد وامتنعوا من دفع الضرائب .
وكانوا يعتمدون على الزائرين والمجاورين , حتّى إنّ سكنة كربلاء لم يبقَ لهم المجال في السكنى بها وكان الديارماز ـ الاسم الذي عُرف به هؤلاء الأوباش ـ يشكّلون عصابات ترفع كلّ منها راية العصيان ولم يتمكّن علي رضا باشا والي بغداد ـ الذي مرّ على حكمه في بغداد اثنا عشر عاماً ـ من إخماد هذه الفتنة .
حتّى إن نصبت الدولة العثمانيّة محمّد نجيب باشا والياً على بغداد بعد أن كان والياً على الشام ـ في الدولة العثمانيّة كان والي بغداد بمثابة وزير ثانٍ ـ , وكان هذا سفّاكاً غدّاراً معروفاً بالمكر ولم يكد يستقر في مركز ولايته الجديدة حتّى جهّز جيشاً جراراً وبعثه صوب كربلاء .
وبعد حصار دام ثلاثة أيام دخل كربلاء وقد أجرى القتل والأسر (*) لا يخفى ما في المصراع الثاني من خلل عروضي بيّن . (موقع معهد الإمامين الحسنين)
(10) هذا مجمل الحادثة , أمّا تفاصيلها فهي كما يلي : في أوائل عام 1293 هـ أعلنت الحكومة العثمانيّة النفير العام في كربلاء , فأخذت جموع المكلّفين بالفرار من سلك الجندية وكان هناك جاسوس من قبل = الحكومة على الفارين وهو مختار باب الطاق المدعو حسين قاسم حمادي فمن كثرة ما أصاب الناس على يد هذا المختار من المحن أن قتلوه في مقهى المستوفي الواقعة في محلّة باب الطاق .
فعندما قُتل هذا المختار تولّت الحكومة المحلية القبض على المتهمين , ففرّ جماعة منهم , وخيّموا خارج السور في البستان المعروفة ببستان جعفر الصادق (عليه السّلام) وأخذوا يعبثون بالأمن وحرّضوا الأهالي على مناوأة الحكومة , وكانت الأفكار مستعدة لقبولها فألّفت عصابة بقيادة القهواتي ( علي هدلة ) وقابلت جيوش العثمانيِّين ودحرتهم في مواقع متعدّدة.
وكانت عصابتهم تتألّف من ( 150 ) شخص يقومون بحرب العصابات وذلك بتحريض من الحاج محسن كمونة والحاج حسن شهيب , ويمدّونهم بالمؤنة والذخيرة واختلطت معهم بعض أفراد من عشيرة حجيل والزونبات , فاستفحل أمرهم حتّى رنّ صدى هذه الحادثة في الأستانة , فقلق السلطان عبد الحميد خان , وأصدر إرادة سنية بإرسال جيش إلى كربلاء وهدمها وقتل مَنْ فيها عن بكرة أبيهم .
وأناط تنفيذ الإرادة إلى عاكف باشا والي بغداد والمشير حسين فوزي باشا وكان هذا القائد للجيش , فجاء الاثنان إلى كربلاء بصحبة النقيب السيد عبد الرحمن النقيب الكيلاني , وضربوا المضارب قرب المدينة وكان ذلك في أواخر شهر رمضان من عام ( 1293 هـ ) .
وكان قيام علي هدلة في ( 3 ) ربيع الأول من عام ( 1293 ) فلم يرَ الوالي آثار العصيان في المدينة وقد علم بعد البحث الطويل أنّ العصاة عصابة ارتكبت إثماً واقترفت ذنباً يطاردها الجيش وليس من العدل هدم المدينة وتنفيذ الإرادة السنية على سكّانها , وأخذ البريء بجريرة المذنب ؛ فأحجم عن تنفيذ الأوامر , فنجم من ذلك خلاف بين الوالي عاكف باشا المصر على أمر الهدم والقائد حسين فوزي باشا .
فراجع الأستانة خاطباها بالأمر وبعد أخذ ورد صدر الأمر بالعفو فرحل الجيش بعد أن قبضوا على مثير الفتنة وموقد نيرانها وحوالي ( 70 ) شخصاً بضمنهم علي هدلة مع المرحوم الحاج محسن كمونة وحسن شهيب وجماعة غيرهم فساقواهم إلى بغداد وأودعوهم السجن في أوج قلعة مدّة تزيد على السنة ( نقلاً من تاريخ كربلاء جـ 3 المخطوط ـ للسيد محمّد حسن كليدار ) .