تاريخ كربلاء

وأرى بعد هذا العرض السريع للمراحل التي مرَّت بها العقيلة في بيت أبيها وزوجها ومع أخيها في رحلته إلى الشهادة أن أتحدَّث ولو بأقصى ما يمكن من الإيجاز عن مرقدها الذي ادَّعته الأقطار الثلاثة : المدينة المنورة في الحجاز ، ومحلّة الفسطاط من القاهرة في مصر ، ومحلة الغوطة في القرب من دمشق الشام . لها مرقدان حتّى يومنا هذا في القاهرة ودمشق الشام تقصدها مئات الألوف كل عام من المسلمين لزيارتها والتبرُّك بمرقدها والتوسُّل إلى الله بجدِّها المصطفى وأبيها المرتضى وأمِّها الزهراء لقضاء حوائجهم . أمَّا قبرها في المدينة ، فلقد كان في البقيع إلى جانب غيره من قبور أهل البيت وصلحاء المسلمين من صحابة الرسول وغيرهم ، ولمَّا انتقلت السلطة إلى الوهابيِّين وحكموا الحجاز هدَّموا قبور أهل البيت وغيرهم من المسلمين وحاولوا هدم قبر النبي (صلى الله عليه واله) بحجة أنَّ بناء القبور وزيارتها من أنواع الشرك بالله لولا الضجة العالمية من جميع المسلمين في جميع أنحاء العالم التي اعترضت تصميمهم على هدمه.
إنَّهم يرون زيارة البناء الذي يضم رفات الأنبياء والصدِّيقين والأئمَّة الطاهرين شركاً وإلحاداً . أمَّا القصور التي تجمع بين جدرانها آلاف الجواري والراقصات ومئات الأطنان من الخمور ، فلا تتنافى مع الإسلام ولا مع تعاليمه ومقدَّساته عند أدعياء الإسلام وحكَّام العصور . إنَّ تقديس المسلمين لقبر النبي (صلى الله عليه واله) وقبور الأئمَّة الطاهرين وزيارتهم اللَّذين ضحوا بأنفسهم وبكل ما يملكون في سبيل الإسلام ومقدَّساته ومن أجل الإنسان وكرامته التي داسها الأمويَّون وفراعنة العصور بأقدامهم ، ليست إلاّ احتجاجاً صارخاً على الباطل وأهله ، وتعبيراً صادقاً عن الإخلاص للحق والنقمة على الجور ، وصواعقاً تنهال على رؤوس الطغاة والظالمين في كل زمان ومكان.
مع الوهَّابيِّين بمناسبة الحديث عن مرقد العقيلة
بهذه المناسبة وقبل الخوض في تفاصيل ما قيل حول مرقدها ، ونظراً لأنَّ الوهابيِّين يرون تشييد قبور الأولياء وزيارتها من أنواع الشرك ولا يزالون يواصلون حملاتهم المسعورة على الشيعة ، رأيت نفسي مدفوعاً إلى هذه الوقفة القصيرة معهم لأعود بعدها إلى مواصلة الحديث عن مرقدها الذي تضاربت الآراء حوله ؛ لأنَّ السكوت الذي التزمناه عن أولئك المسعورين حرصاً منَّا على وحدة الصف لم يضع حدَّاً لعدوانهم ، بل زادهم إمعاناً في البغي والعدوان والتعامل مع الشيعة بأسوأ من معاملتهم لغير المسلمين كما سنقدِّم بعض الأرقام على ذلك.
إنَّ حماة الحرمين يحافظون على معابد السُّـنَّة ومقابرهم ويبذلون لتشييدها وترميمها الملايين من الدولارات ، ونحن نبارك عملهم هذا لو كانوا لا يميزون بين مسجد ومسجد ولا بين مقبرة ومقبرة ، ولكنَّهم ـ ومع الأسف الشديد ـ لا يبذلون قرشاً واحداً على مساجد الشيعة ومعابدهم ، ويتتبَّعون قبور صلحائهم وأوليائهم بالهدم والتخريب ويدَّعون بأن تشييد قبور الأنبياء والأئمَّة من ذرِّية الرسول كفر وشرك بالله ، مع العلم بأنَّ الشيعة إنَّما يحترمون قبور الأنبياء والأئمَّة باعتبارها رمزاً لمَن حلَّ بها من أولئك الذين ضحُّوا بأنفسهم وبكل ما يملكون في سبيل الله والإسلام والمستضعفين في الأرض وكانوا ثورة على الشرك والظلم والعدوان ومن أجل الإنسان وكرامة الإنسان.
ولم يكتف الوهابيُّون بذلك ، بل يعاملون الشيعة بأسوأ ممَّا يعاملون به الكفَّار والمشركين بالله كما ذكرنا ، فلا يقبلون شهادة الشيعي على غيره مهما بلغ من الدين والتقوى ، ويقبلون شهادة السُّـنِّي والبدوي عليه ولو خرجا من نوادي القمار وموائد الخمور ومن بين أحضان البغايا والمومسات ، في حين أنَّ الشيعة يقبلون شهادة البدوي والقروي والنجدي على الشيعي وغيره إذا كان الشاهد عادلاً ملتزماً بفعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه ، هذا مع العلم بأنَّ الحنابلة الذين يعمل الوهابيُّون بفقههم لا يقبلون شهادة البدوي على القروي ويقبلها الوهابيُّون إذا كان البدوي نجدياً والقروي من خارج نجد(1).
إنَّ الوهابيِّين يفرِّقون بين الشيعي وغيره في أكثر الأحكام الشرعية ، ويحاربون جميع الآثار الشيعية ، ويبذلون ملايين الدولارات للدسِّ والكذب على الشيعة وأئمة الشيعة الذين بذلوا حياتهم وجميع ما يملكون في سبيل الإسلام والمسلمين ، ولم يفرِّقوا بين فئة وفئة ولا فريق وفريق ما دام الجميع يشهدون لله بالوحدانية ولمحمد بالنبوة والرسالة.
إنَّهم يتعاملون مع الشيعة بنفس الروح التي كان يتعامل بها معهم الأمويُّون والعبَّاسيُّون ، ويراقبون جميع تحرُّكاتهم وتصرُّفاتهم حتّى وكأنَّهم من ألدِّ أعداء العرب والإسلام .
ولم يأخذوا بأيِّ أثر من آثار أهل البيت التي تجسِّد إسلام محمد بن عبدالله ويمنعون جميع الكتب الشيعية القديم منها والحديث من الدخول للبلاد التي يحكمونها في شبه الجزيرة العربية و، يحظرون على بائعي الكتب استيراد جميع المؤلفات الشيعية التي تتحدث عن الدين والأخلاق الإسلامية والأدب والفلسفة والتاريخ وما إلى ذلك من المواضيع الإسلامية ، مع العلم بأنَّ أصحاب تلك المؤلَّفات يحملون روحاً إسلامية صادقة تدافع وتناضل عن كل مَن ينتسب إلى الإسلام حتّى ولو لم يكن شيعياً ، ولا يتعرَّضون في مؤلَّفاتهم للعائلة الحاكمة ولا لسياستهم وسيرتهم وإسرافهم في اللهو والمنكرات كما تتحدَّث عنهم الصحف ووكالات الأنباء العالمية والأجنبية ، ولا ذنب للشيعة إلاّ أنَّهم يوالون أهل بيت نبيهم محمد بن عبدالله (صلى الله عليه واله) الذين أمر الله بمودَّتهم كما جاء في الآية : (لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) وأكَّدته عشرات النصوص التي روتها مجاميع الحديث السُّـنِّة وصحاحهم.
إنَّهم يمنعون الكتب الشيعية ومؤلَّفات الشيعة القديم منها والجديد من الدخول لبلادهم ويعاقبون مَن يستوردها ويقتنيها ويقتنون ويستوردون كتب الفسوق والفجور والخلاعة والمستشرقين من أعداء الاستلام ، والكتب التي تعلمَّ الناس الفوضى والفساد والكفر والإلحاد ، والتي تعود بالحياة مئات السنين والأعوام إلى الوراء ، ويحاربون الكتب التي تدعو إلى الاستلام وتدافع عنه وتحثُّ على العمل بكتاب الله وسنة نبيه رسول الرحمة والحرية والكرامة.
إنَّ شيوخ الوهابية في أواخر القرن العشرين يحكمون بعدم صحة زواج السُّـنَّة من الشيعي الموالي لعلي وآل بيت نبيهم محمد بن عبدالله رسول الرحمة والعدالة والمحبة كما يحكمون بعدم صحة زواجها من المشركين .
فقد جاء في جريدة الجزيرة السعودية ، عدد 3105/ تاريخ 14 شباط/ سنة 1981 ـ 10 ربيع الثاني 1401 جاء فيها سؤال موجَّه إلى أحد شيوخ الوهابية من شخص يدَّعى حسين حاجي في الرياض يسأل فيه: ما حكم زواج السُّـنِّيَّة من الشيعي ؟ ويقول الشيخ الوهابي في جوابه كما جاء في الجريدة المذكورة : لا يجوز زواج السُّـنِّيَّة من الشيعي ، ولا يقبل هذا الزواج ، ويفسخ إذا حصل ويعاقب مَن يفعل ذلك ؛ لأنَّ أهل السُّـنَّة والجماعة طريقهم معروف في القول والعمل والاعتقاد والشيعة طريقهم معروف ، ولا مقاربة بينهما لا في الأصول ولا في الفروع.
بهذه الصلافة والوقاحة والجرأة على الله ورسوله يتكلَّم أحد شيوخ الوهابية ، ويحكم بفساد عقد النكاح إذا وقع بين سُنِّـيَّة مسلمة وشيعي مسلم ، وبفسخه ومعاقبة مَن يفعل ذلك ، وينطلق شيخ الوهابيِّين لجوابه هذا ـ وهو في أواخر القرن العشرين ـ من أنْ الشيعة لا يلتقون ولو من بعيد مع أهل السُّـنَّة لا في أصول الإسلام ولا في فروعه.
وهذا الجواب وأن كان من نوع اللغو والهذيان ولا يستحق غير السخرية ، ولكنِّي أرى لزاماً عليَّ أن أقول لهذا الشيخ ولغيره من شيوخ السوء الحاقدين على أهل البيت وشيعتهم والذين يتكلَّمون بلغة الأمويِّين وابن تيميَّة ومحمد بن عبد الوهاب: إنَّ أصول الإسلام عند الشيعة هي: توحيد الله الواحد الأحد ، وعدله ، ونبوَّة محمد بن عبدالله ، والمعاد . وفروع الإسلام هي: الصلاة والصيام والحجُّ والزكاة وجهاد الكافرين والظالمين المستهترين بأحكام الله وحقوق الناس وكرامتهم . وهذه الأصول والفروع يجب الالتزام بها على كلِّ بالغ عاقل قولاً وعملاً ، والشيعة يعتقدون بأنَّهم يلتقون مع إخوانهم أهل السُّـنَّة في أصول هذه المبادئ والاعتراف بها ؛ وعلى أساس ذلك فهم يزوِّجون أهل السُّـنَّة من بناتهم ويتزوَّجون بنات أهل السُّـنَّة.
وإذا كان المذهب الوهابي الذي قيل عنه في جميع الأوساط السُّـنِّيَّة بأنَّه بدعة ـ ولا يزال هذا الوصف شائعاً عنه بين أهل السُّـنَّة ـ إلى جانب قولهم بأنَّه لا يمتُّ إلى الإسلام بسبب ، إذا كان المذهب الوهابي لا يعترف بهذه الفروع والأصول أو ببعضها ، فلا مقاربة بين الشيعة والوهابية كما يدَّعي فضيلة الشيخ الوهابي . والشيعة بناء لذلك لا بدَّ وأن يلتزموا بأنَّه لا يصحُّ زواج الشيعية من الوهابي ، وإذا وقع بينهما زواج ، يفسخ الزواج ويعاقب مَن يفعل ذلك ، ويجب أن يعلم فضيلة الشيخ الوهابي الذي يكفِّر الشيعة لأنَّهم يوالون أهل البيت (عليه السلام) أنَّه لولا المليارات التي تتدفَّق على البلاد الإسلامية من السعودية لكان المذهب الوهابي بدعة بنظر أكثر علماء السُّـنَّة ومفكِّريهم ، وقد سبق لعلماء السُّـنَّة قبل أن يظهر البترول في تلك البلاد وفي عهد إبراهيم باشا بالذات الذي ملك بلادهم ودخل عاصمتهم الدرعية أن حكموا على المذهب الوهابي بذلك وعلى أساسه قُتل إبراهيم باشا نحواً من خمسمائة من علمائهم وفقهائهم.
فقد جاء في كتاب إبراهيم باشا للمستشرق ( بيير كربيس ) ص 40 طبعة سنة 1937 جاء فيه أنَّه لمَّا تغلَّب إبراهيم باشا على السعوديِّين وملك بلادهم ودخل عاصمتهم الدرعية وخضع له جميع أمراء البيت السعودي استدعى رجالَ الدين والفقهاء السعوديِّين ، وكان عددهم خمسمائة ، وقال لهم: لقد أحضرت معي من القاهرة جماعة من أكابر العلماء السُّـنِّـيين أريد أن تجتمعوا بهم وتبحثوا أسباب الخلاف المستحكم بين عقائدكم وعقائد أهل السُّـنَّة من المسلمين ، فاجتمع الفريقان نزولاً عند أمره وظلَّ خطباؤهم ثلاثة أيَّام كاملة يتناقشون في الفروق الدقيقة بين المذهبين ، وإبراهيم باشا معهم يستمع لأقوال الفريقين ، ولمَّا لم يتوصَّلوا إلى نتيجة حاسمة ، أقفل باب الجدل وتوجَّه بالسؤال إلى كبير مشايخ الوهابيِّين وقال له :
هل تؤمن بأن الله واحد وأنَّ الدين الصحيح هو دينكم وحده ؟ فقال له الشيخ: إنِّي أؤمن بذلك ، فقال له ابراهيم باشا: ما رأيك في الجنَّة أيُّها الخنزير وما عرضها (على حدِّ تعبير المؤلف) ؟ فقال له الشيخ: عرضها كعرض السموات والأرض أعدَّت للمتَّقين ، وهنا قال له الباشا: إذا كان عرضها كعرض السموات والأرض وأنت وأصحابك تظللكم شجرة واحدة من شجراتها فلمَن تكون المساحة الباقية ؟ ولماذا جعلها الله بتلك السعة إذا كنتم وحدكم من أهلها كما تدعون ؟ فأفحم الشيخ وبان عليه الفشل والانكسار ، فأمر إبراهيم باشا جنوده بقتلهم عن آخرهم ، فلم تمض سوى دقائق معدودة حتّى كان مسجد الدرعية مقبرة لجميع أولئك الفقهاء(2).
إنَّ ما فعله إبراهيم باشا بفتوى فقهاء السُّـنَّة لا يقرَّه المذهب الشيعي ، ولا يكفِّر فقهاء الشيعة أحداً من أهل القبلة ، سواء في ذلك الوهابيِّين وغيرهم ، ما لم ينكر أصلاً من أصول الإسلام وفرعاً من فروعه أو يعلن ارتداده عن الإسلام ، وإن كان الشيخ الوهابي وغيره من شيوخ السوء يعتبرون الشيعة كغيرهم من المشركين والكافرين كما يقتضيه حكمهم بعدم جواز تزويجهم من السُّـنِّيَّات.
ويجب أن يعلم شيوخ الوهابية بأن الشيعة يؤمنون بالله الواحد الأحد الذي لا شبيه له ولا ولَد ، وبنبوة محمد بن عبدالله ، وبكل ما جاء به من
عند الله ، ويعتبرون الصلاة والصيام والزكاة وجهاد الكافرين والمفسدين في الأرض والظالمين من أركان الإسلام ، ومَن أنكر شيئاً من ذلك فهو بحكم الكافرين والمشركين عندهم ، ويفرضون على الرجال والنساء أن يتعلَّموا أصول دينهم وفروعه ، كما يكفِّرون القائلين بالتجسيم والتشبيه والحلول والاتحاد من فرق المسلمين . كما يجب أن يعلم شيوخ الوهابية أن الخلافات الواقعة بين السُّـنَّة والشيعة في الأصول والفروع ليست بأكثر ولا أسوأ من الخلافات الواقعة بين الفرق السُّـنَّة العقائدية والمذهبية ، وأنَّ الخلاف بين السُّـنَّة والوهابيِّين قد بلغ أقصى حدوده ؛ ومن أجل ذلك فقد عدَّهم أهل السُّـنَّة من أصحاب البدع وأباد فقهائهم إبراهيم باشا بفتوى علماء السُّـنَّة كما ذكرنا ، ولكنَّ ذلك قد كان قبل ظهور البترول في بلادهم.
ومع أنَّ الشيعة لم يقفوا في يوم من الأيَّام من الوهابيِّين موقف أهل السُّـنَّة منهم إلاّ أنَّهم قد كانوا ـ ولا يزالون ـ مستهدفين لحملاتهم المسعورة ، وتدرِّس حكومة الوهابيِّين في مدارسها الرسمية كتب المستأجرين الذين يزوِّرون التاريخ ويفترون على أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس كما نصَّت على ذلك الآية الكريمة ، والذين جعلهم النبي كسفينة نوح لا ينجو إلاّ مَن تمسَّك بهم كما روت ذلك أكثر مجاميع الحديث السُّـنِّيَّة . وفي السَّنة الماضية أصدرت وزارة الأوقاف كتاباً للجبهان أسماه : (تبديد الظلام وتنبيه النيام) ووزَّعته مجاناً في البلاد الإسلامية ، مشحوناً بالكذب والافتراء على الشيعة وأئمَّة الشيعة والسباب والشتائم لعلمائهم ومؤلِّفيهم ، وبلغت به الوقاحة والصلف أن تناول فيه إمام المسلمين والأستاذ الأكبر لقادة فقهاء المذاهب الإسلامية الأربعة ـ كما يعترف بذلك أهل السُّـنَّة في مؤلَّفاتهم ـ جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ووصفه بالماسونية وأنَّه هو الذي وضع أصولها ، وقد أُهدي إليَّ الكتاب فرفضت قبوله وأفتيتُ بحرمة اقتنائه وقراءته ؛ لأنَّه من كتب الضلال التي يجب إتلافها ووضعها في بيوت الخلاء ومع النفايات.
ويجب أن يعلم الوهابيون وأسيادهم أنَّ الطاقات العلمية والفكرية والأدبية الموجودة عند الشيعة وعلمائهم ومفكِّريهم ليست موفورة لدى أحد من علماء الوهابيين وغيرهم ، وباستطاعة الشيعة أن يردُّوا الصاع أكثر من صاعين والليل أكثر من مثليه ، وأن يثبتوا للجبهان وغيره من شيوخ الوهابية المبتدعة المسعورين الذين لا يعرفون من الإسلام إلاّ اسمه: أنَّ الشيعة هم المسلمون الذين كانوا ولا يزالون متمسِّكين وعاملين بإسلام محمد بن عبدالله (صلى الله عليه واله) كما أُنزل عليه من خالق الأرض والسماء ، وأنَّ غيرهم شذَّ عن الإسلام وانحرف عنه قولاً وعملاً وفكراً ، ولكنَّهم لا ينزلون إلى مستوى الجبهان وأمثاله من حلفاء الشيطان الحاقدين على أهل البيت وشيعتهم ؛ لأنَّ ذلك لا يخدم مصلحة الإسلام ولا يستفيد منه سوى أعداؤه ، وستبقى مصلحة الإسلام العليا هدفهم الأول والأخير كما عوَّدهم على ذلك أئمَّتهم (عليه السلام) ، وسلام الله وتحياته على سيِّد المسلمين وإمامهم أمير المؤمنين الذي كان يتجاهل كل حقوقه ويتنكَّر لجميع مصالحه عندما يرى الخطر محدقاً بالإسلام ، ويقول: (والله ، لأسالمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن من جور إلاّ عليَّ خاصة).
وإنَّا نناشد المسؤولين في المملكة السعودية أن يراقبوا تصرُّفات شيوخهم وأحكامهم الجائرة ، ودائرة الأوقاف التي تبذل الملايين على طباعة كتب المسعورين والحاقدين على الإسلام وحُماته وعلمائه كالجبهان وأمثاله ، الذين يسيئون في كتبهم وأحكامهم وأجوبتهم على ما يوجَّه إليهم من الأسئلة إلى أئمَّة المسلمين وعلماء المسلمين ، ويعملون على تمزيق شمل الأمَّة وتبديد وحدتها وقوَّتها وطاقاتها التي تجب أن تستغل لصدِّ هجمات الأعداء في الشرق والغرب وتحرير القدس ـ أولى القبلتين ـ من أيدي الغزاة الغاصبين . والمسلمون في أيَّامهم هذه في أمس الحاجة إلى المخلصين العاملين لجمع الكلمة وتوحيد الصفوف ونبذ الخلافات الطائفية والمذهبية التي لا تخدم غير إسرائيل وأعوانها من أعداء العرب والإسلام.
كما تتمنَّى على علماء المسلمين في مصر وغيرها من الأقطار الإسلامية أن لا يقفوا موقف المتفرِّج من تلك التحدِّيات والاستفزازات التي تصدر من شيوخ الوهابيِّين بين الحين والآخر لأخوانٍ لهم في الدين لا لشيءٍ إلاّ لأنَّهم يدينون بالولاء والمحبَّة لأهل بيت رسول الرحمة والمحبَّة والكرامة ، وأن ينصحوا أولئك الشيوخ وحكَّامهم عن التحرُّش والتحدِّيات السافرة المتواصلة للطائفة الشيعية التي تشكِّل أكبر مجموعة في العالم الإسلامي ، وأن يصرفوا طاقاتهم المادية والعلمية لردِّ هجمات العدو المشترك في الشرق والغرب وصنيعته الجاثم على حدودهم والطامع الأوَّل بخيرات بلادهم ، وحسب تقديري أنَّ نداء واحداً يوجِّهه شيخ الأزهر لحكَّام السعودية بهذا الخصوص سيكون أجدى وأنفع من كتاب يصدره أحد الشيعة لردِّ تلك الهجمات المسعورة.
ومهما كان الحال ، فلقد جرَّني الحديث عن موقف الوهابيين من قبور الأئمَّة والأولياء إلى هذه الصورة الموجزة عن حملات الوهابيِين على الشيعة والتي ما زالت تتصاعد بين الحين والآخر ، مكتفياً بهذا المقدار اليسير من الحوار الهادئ من الوهابيين لأعود إلى الحديث عن مرقد العقيلة وموقف الشيعة من زيارة القبور ولأقول لهؤلاء أنَّ الصخور والأحجار ليست الهدف والغاية ، ولو كانت هي المقصودة لذاتها ، لكان في الجبال الشامخات والصخور العاليات غنى عن مشقَّة السفر والترحال إلى مراقد الأئمَّة والأولياء ، إنَّ المقصود بالذات من الزيارة تخليد ما قدَّمه صاحب القبر من المُثُل العليا والتضحيات الجسام في سبيل الحق والواجب والعقيدة والمستضعفين في الأرض من بني الإنسان.
أمَّا الأحجار ، فليس لها إلاّ شرف الانتساب لصاحب القبر ، كالأحجار التي بُني منها البيت الحرام ومسجد الرسول وسائر المعابد ، وكجلد القرآن الكريم(3).
وقد جرت عادة الأمم والدول في زماننا هذا على الاحتفاظ ببيوت عظمائها وقبورها وإحاطتها بهالة من التقديس والتعظيم ، حتّى ولو عرض للبيع أيُّ شيء ينتسب للعظماء ، لبَذَلَ أتباعه في سبيله أغلى الأثمان ؛ وما ذاك إلاّ لشرف الانتساب إليه.
وحدَّث المؤرِّخون أنَّه حين أدخل رأس الحسين (عليه السلام) على يزيد بن معاوية كان في مجلس للشرب فوضعوا الرأس بين يديه ، فدخل عليه رسول ملك الروم في ذلك الوقت فأنكر عليه أشدَّ الإنكار حينما علم أنَّ الرأس للحسين ابن بنت نبيِّهم ، وقال ليزيد: هل سمعت يا يزيد بكنية الحافر ؟ قال: وما هي ؟ قال: عندنا مكان يقال بأنَّ الحمار الذي كان يركبه عيسى بن مريم مرَّ به ، فبنينا كنيسة في ذلك المكان سمَّيناها كنيسة الحافر: نسبة إلى حافر حمار عيسى ، ونحن نحجُّ إلى المكان في كل عام ومن كل قطر وناحية ، وننذر له النذور ونعظِّمه كما تعظِّمون كتبكم ومقدَّساتكم ، وأنتم تقتلون ابن نبيكم وتطوفون برأسه في البلدان ، فأشار عليه جلاوزته بقتله لئلاّ يفضحه بعد رجوعه لبلاده ، فقتله وصلبه على باب قصره بعد أن قام النصراني إلى الرأس فقبَّله وتشهَّد الشهادتين.
وهذا شيء مألوف لدى جميع الأمم على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم ، والكل حينما يعظِّمون مرقداً أو أثراً من آثار عظمائهم إنَّما يعظِّمونه باعتباره رمزاً لِمَا كان يتمتَّع به من صفات ومواهب وما قدَّمه لأمَّته ووطنه من خدمات وتضحيات وإصلاحات.
وقال العقاد في كتابه ( أبو الشهداء ): إنَّ حرم الحسين (عليه السلام) في كربلاء يزوره المسلمون للعبرة والذكرى ، ويزوره غيرهم للنظر والمشاهدة ، ولكنَّ كربلاء لو أعطيت حقَّها من التنويه والتخليد ، لحقَّ لها أن تصبح مزاراً لكلِّ آدمي يعرف لبني نوعه نصيباً من القداسة وحظَّاً من الفضيلة ؛ لأنَّنا لا نذكر بقعة من بقاع هذه الأرض يقترن اسمها بجملة من الفضائل والمناقب أسمى وألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم الحسين (عليه السلام) بعد مصرعه فيها ، ولولا الحسين وشقيقته زينب ـ شريكته في الجهاد والتضحيات ـ وبقيَّة الأئمَّة ، لم تكن تلك القباب الشامخة التي أصبحت رمزاً للحق والعدالة والفضيلة ومقصداً لمئات الألوف من المسلمين في كل عام شيئاً مذكوراً.
ومهما كان الحال ، فمرقد العقيلة زينب بنت علي وفاطمة مردد بنظر العلماء والباحثين بين المدينة المنوَّرة والشام ومصر ، وكما ذكرنا إنَّ مرقدها في المدينة لم يعد له وجود كغيره من مراقد الأئمَّة وأعلام الصحابة والتابعين ؛ لأنَّ بناء المراقد وتعظيم مَن حلَّ فيها على حدِّ الشرك بالله بنظر حُماة
الحرمين . أمَّا المرقدين المنسوبين إليها في الشام ومصر ، فلا يزالان كعبة الوفَّاد في كل عام على مرور الشهور والأيَّام ؛ تقصدهما مئات الألوف للزيارة والتوسُّل بها وبأبيها وجدِّها لقضاء حوائجهم ، ولا أحسب أنَّ الذين يتوافدون على زيارة أبيها وأخيها في كربلاء والنجف أكثر ممَّن يتوافدون على المرقدين المنسوبين إليها في الشام والقاهرة ، وجاء في جريدة الأهرام تاريخ 23 ـ 6 ـ 1972 مقال للأستاذ فتحي رضوان ـ وزير الثقافة يومذاك ـ يصف فيه الوافدين على حي السيدة زينب جاء فيه :
إنَّ مسجد السيدة زينب تشدُّ إليه الرحال وكأنَّه الكعبة أكثر ممَّا تشدُّ الرحال إلى المسجد الحسيني ، فالألوف الذين يقصدون هذا المسجد من فقراء الريف والحضر ، من النساء والرجال ، والمرضى وأصحاب الحاجات ، من المغلوب على أمرهم والذين سدَّت في وجوههم الأبواب وتحطمت الآمال ، كانوا قد أطلقوا على صاحبة الضريح أسماء تدخل إلى قلوبهم العزاء وتبعث فيهم الرجاء ، وكانوا يهتفون حول قبرها: يا أم العواجز ويا أم هاشم ويا ابنة محمد والزهراء.
ومضى يقول : ولَكَم رأيت رجالاً ونساء في مقتبل العمر وفي خريف الحياة قد وضعوا أيديهم على شبَّاك ضريح السيدة زينب ورائحة البخور تملأ المسجد كلَّه وراحوا يهمسون في ذهن أم العواجز وقد تمثَّلت لهم بشراً يسمع ويتنفَّس ويمدُّ راحتيه ويضعهما بين أيد الزائرين والقاصدين ، وأصوات الزائرين تتعالى: يا أم العواجز ،ويا أم هاشم ، يا أخت الإمام ، ويا بنت الإمام نظرة بحق جدِّك النبي.
والآن ونحن بصدد الحديث عن مرقدها الشريف الذي تدَّعيه الأقطار الثلاثة ، ويتوافد عليه المسلمون من جميع الأقطار لا لشيء إلاّ لأنَّها وقفت إلى جانب أخيها من الطغاة والظالمين دفاعاً عن الحق والعقيدة وكرامة الإنسان وبقيت في سجل الخالدين والخالدات لتكون القدرة الصالحة الغنية بالمُثُل والقيم للرجال والنساء في جميع نواحي الحياة ، لا بدَّ لنا ونحن بصدد البحث عن مرقدها أن نقف ـ ولو قليلاً ـ مع أدلة الأقوال الثلاثة في محاولة كشف ما أحيط بمرقدها من غموض لا يزال محل أخذ وردٍّ بين الباحثين :
لم يختلف أحد من المؤرِّخين والمحدِّثين بأنَّ السيدة زينب بنت علي وفاطمة تركت بيتها وزوجها ورافقت أخاها الحسين (عليه السلام) في رحلته إلى الشهادة التي لم يجد وسيلة غيرها لإنقاذ شريعة جدِّه ممَّا كان يخططه لها الحزب الأموي الحاكم من تحريف وتشويه ، وأدَّت دورها خلال مواقفها في كربلاء والكوفة ومجلس بن ميسون في قصر الخضراء ، تلك المواقف التي جعلتها في طليعة الخالدين والخالدات من أبناء آدم وحواء ، كما لم يختلفوا في أنَّها رجعت من الشام على رأس تلك القافلة من السبايا والأسرى إلى مدينة جدِّها عاصمة الإسلام الأولى في الحجاز ، وأنَّ مسؤوليَّـتها التاريخية كانت هي إثارة الرأي العام الإسلامي على حكومة يزيد وجلاَّديه ، واستطاعت خلال أشهر معدودات أن تلهب المشاعر وتقلب الدنيا على رؤوس الحاكمين حتّى أصبحت المدينة التي كان الحاكمون يحسبون لها ألف حساب وحساب ، بكل فئاتها الموالية لأهل البيت وغيرها ، تكيل اللعنات لأميَّة وأحفادها ، وترى أنَّ مِن أقدس واجباتها مناهضة الحكم الأموي وأعلان موقفها المعادي منه مهما كلَّفها ذلك من تضحيات . كل ذلك لم يخالف فيه أحد من الباحثين والمؤرِّخين . أمَّا خروجها من المدينة بعد أن دخلت إليها حاملة لرسالة أخيها إلى الشام مع زوجها بسبب المجاعة التي اجتاحت المدينة سنة 67 للهجرة أو 74 كما جاء في رواية ثانية إلى قرية كان يملكها في الغوطة من ضواحي الشام ، وعند وصولها إلى مشارف الشام عاودتها تلك الذكريات الأليمة المريرة وخيَّم عليها جوٌّ من الحزن والألم تسبَّب لها بمرض كانت به نهاية حياتها ، ودفنت في تلك الضيعة حيث مرقدها الآن ، كما يدَّعي القائلون بأنَّ المرقد الحالي لقد ضمَّ رفاتها ، وهو لها لا لغيرها من الزينبيات العلويَّات اللواتي يحملن هذا الاسم ، فليس في التاريخ ما يبعث على الاطمئنان بصحته.
وممَّن ذهب إلى ذلك من الذين كتبوا على مرقدها المازندارني في الجزء الثاني من معالي السبطين والسيد حسن الصدر وصاحب الخيرات الحسان والسيد هبة الدين الشهرستاني عن ناسخ التواريخ لمؤلِّفه لسان الملك ، كما جاء في كتاب المرقد الزينبي للشيخ عمران القطيفي.
والظاهر اتفاق جميع القائلين بأنَّ المرقد الموجود في ضواحي الشام هو مرقدها على أنَّ رجوعها إلى الشام كان بسبب المجاعة التي أصابت أهل المدينة ، وأنَّ زوجها عبدالله بن جعفر انتقل بها سنة 65 أو 74 إلى ضيعته بغوطة دمشق وتوفِّيت بها في النصف من رجب ذلك العام.
لقد اختلف القائلون بأنَّها توفِّيت في ضواحي الشام وفي ضاحيتها حيث المرقد الموجود الآن دفنت في تاريخ وفاتها بين 65 و74 ، واتفقوا على أنَّ المجاعة التي أصابت أهل المدينة هي التي فرضت على زوجها الرحيل بها إلى ذلك المكان ، في حين أنَّ المجاعة التي تفرض على شخص كعبدالله بن جعفر كان واسع الثراء وكثير العطاء ويعرف ببحر الجود وتضطرُّه على أن يرحل بزوجته وأولاده إلى غوطة
دمشق ، لا بدَّ وأن يكون لها أثرها البالغ بالنسبة لعامة الناس ، وأن تفتك بالطبقات الكادحة الفقيرة ، وحدثٌ من هذا النوع يصيب مدينة الرسول في تلك الفترة من التاريخ لا يتجاهله التاريخ ولا الذين كانوا يسجِّلون أحداث العالم الإسلامي صغيرها وكبيرها ، مع العلم أنّ المؤرِّخين لإحداث 65 و74 لم يتعرَّض أحد منهم لحدث من هذا النوع ، وعلى تقدير صحة ذلك ، فلا بدَّ وأن تكون المجاعة التي شرَّدت بحر الجود وعقيلته الحوراء ابنة علي وفاطمة قد أصابت بقيَّة العلويِّين والعلويَّات وتلك القافلة من النساء والأطفال التي كانت ترعاها وتحرسها عقيلة آل أبي طالب ، فإلى أين ذهب العلويُّون بنسائهم وأطفالهم وعلى رأسهم الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) الذي لم يفارق المدينة وبها كانت وفاته؟
إنَّ التاريخ لم يتعرَّض لشيء من هذا النوع ، وهل يجوز على بحر الجود وعقيلته أن يتركا العلويِّين والطالبيِّين وأبناء الحسن والحسين يتجرَّعون مرارة الجوع ويفرَّا منها إلى عاصمة الجلادين دمشق التي سيقت إليها بالأمس القريب ابنة علي والزهراء على رأس تلك القافلة من الأسرى والرؤوس التي كانت يتقَّدمها رأس الحسين (عليه السلام) وكانت تتمنَّى الموت في كل مرحلة كان الحداة يسيرون بها ، وتفضله على أن تتعرَّض لأولئك الشامتين من أعداء جدِّها وأبيها ؟ فهل يجوز عليها مع ذلك كلِّه وعلى ابن عمِّها بحر الجود أن يتركوا العلويِّين ونساءهم وأطفالهم يقاسون آلام الجوع ومرارته ويذهبا إلى عاصمة معاوية لينعما بطيِّبات العيش ومُتع الحياة ؟ لو جاز ذلك على أب المساكين ـ كما كان يسمِّيه أهل المدينة ـ فإنَّه لا يجوز على مَن وهبت حياتها لخدمة أخيها وعائلته ورعايتها بعد مصرعه كما أوصاها بذلك.
إنَّ الذين رووا أسطورة خروج عبدالله من المدينة إلى قريته بضواحيها مع زوجته عقيلة الطالبيِّين كلُّهم من متأخِّري المؤلِّفين ، ومن غير المعروفين ببعد النظر وتحرِّي الحقائق ، ولم يسندوها إلى أحد المؤرِّخين القدامى ، ولا إلى أحد الرواة الذين كانوا يتتبَّعون أحداث تلك الفترة من تاريخ المسلمين.
هذا بالإضافة إلى أنَّ سنة خمس وستين كانت سنة صراع على الخلافة بين الأمويِّين أنفسهم في بلاد الشام ، وكان قد تغلَّب على دمشق الشام الضحَّاك بن قيس بعد أن اتفق الأمويُّون على خلافة مروان وخالد بن يزيد من بعده ومن بعدهما عمرو بن سعيد بن العاص ، وبعد أن اتفق رأي الأمويِّين على التوجَّه إلى دمشق ـ وكان الضحَّاك قد تغلَّب عليها ـ ووقعت بينهم معارك طاحنة في مرج راهط ، وكان مع الضحَّاك جماعة من أهالي دمشق وفتيانهم الأشدَّاء وأمدَّه النعمان بن بشير ـ عامل حمص ـ بشرحبيل ابن ذي الكلاع في أهل حمص وزفر بن الحارث الكلابي بقيس بن طريف ابن حسَّان الهلالي وانتهت المعركة لصالح مروان بن الحكم والأمويِّين(4) ، ومن المستبعد والبلاد الإسلامية تموج بالفتن بسبب الصراع على الحكم والمعارك بين مروان بن الحكم ومعارضيه في ضواحي دمشق وعلى أبوابها أن يرحل بزوجته وأولاده إلى قريته الواقعة في ضواح دمشق كما يدَّعي القائلون بذلك.
أمَّا القول بأنَّها هاجرت مع زوجها إلى غوطة دمشق هرباً من المجاعة سنة 74 هجرية ، فهو أبعد عن الواقع من القول الأول ؛ ذلك لأنَّ المسعودي في المجلَّد الثاني من مروجه يقول: إنَّ عبدالله بن جعفر توفِّي وله من العمر سبع وستون سنة ، ويدَّعي عبد العزيز سيد الأهل أنَّ عبدالله بن جعفر كان له من العمر عشر سنوات عند وفاة النبي (صلى الله عليه واله) عن الجزء الثاني من معالي السبطي ؛ ولازم ذلك أنَّ ولادته كانت في الحبشة كما هو مؤكَّد.
أمَّا في السنة التي هاجر فيها النبي (صلى الله عليه واله) إلى المدينة أو قبلها ، وهو أكبر أولاد جعفر الطيَّار ، ويروي الرواة عنه أنَّه قال: لقد دخل علينا رسول الله (صلى الله عليه واله) بعد موت أبي وقال: (لا تبكوا على أخي بعد اليوم) ودعا بالحلاق فحلق رؤوسنا ، ولابدَّ وأن يكون في السادسة أو السابعة يومذاك على
أبعد التقادير ، فلم يعد مجال للقول بأنَّه هاجر إلى ضيعته في ضواحي الشام سنة 74 ؛ لأنَّ وفاته تكون قبل هذا التاريخ بسبع سنوات تقريباً ، إذ لم يكن قد عاش أكثر من سبع وستين عاماً كما يدَّعي ذلك المسعودي وغيره.
ومهما كان الحال ، فالقول بأنَّ المرقد الزينبي الموجود في ضاحية دمشق الذي يقصده مئات الألوف من المسلمين في كل عام للزيارة والتبرُّك ويبذلون في سبيله الملايين من النقود هو لزينب الكبرى عقيلة الهاشميين ، لا يعتمد على دليل مقبول ولا يؤيِّده المنطق ولا الدراسة بحال من الأحوال ، بل هو لإحدى العلويَّات بلا شك في ذلك ، وسيبقى تعيينها غامضاً لعدم توفُّر الأدلَّة على هذا الأمر ، ولا يمنع ذلك من زيارة العقيلة في ذلك المكان ما دام يرمز الزائر إلى قصدها بالذات ، وما دامت الأعمال مرهونة بالنوايا.
المرقد الزينبي في مصر
بعد استقصاء أدلة القائلين بأنَّ السيدة زينب توفِّيت في مصر ودفنت فيها في المرقد المنسوب إليها ، بعد استقصاء تلك الأدلة يبدو للمتتبِّع ـ ولأوَّل نظرة ـ أنَّها أسلم وأقرب إلى المنطق من أدلة القائلين بأنَّها خرجت مع زوجها إلى ضاحية من ضواحي الشام فراراُ من المجاعة وتوفِّيت فيها كما تشير إلى ذلك رواية القائلين بأن مرقدها في محلة الفسطاط من القاهرة.
لقد اعتمد القائلون بأنَّها توفِّيت في مصر ودفنت فيها على رواية ابن عساكر في تاريخه الكبير وابن طولون في كتابه الزينبيات ، ويدَّعي أنصار هذا الرأي أنَّها بعد رجوعها من السبي مع عائلة الحسين وعائلات القتلى من آل أبي طالب والأنصار كانت لا تدع البكاء والنحيب والحديث بما جرى للحسين ومَن معه ، وتحاول إثارة الرأي العام على الأمويِّين وأنصارهم واستطاعت خلال أشهر معدودات أن تشحن النفوس بالحقد والكراهية ليزيد وأسرته وأصبحت المدينة كالبركان المهيَّأ للانفجار بين لحظة وأخرى ، فكتب عمر بن سعيد الأشدق إلى يزيد يخبره بتأزُّم
الموقف وبمواقف العقيلة التي ألهبت المشاعر وهيَّجت عليه الرأي العام ، فكتب إليه (كما جاء في ص 185 من زينب الكبرى للشيخ جعفر نقدي عن الطراز المذهَّب لعبَّاس قلي خان) يأمره بأن يفرِّق بينها وبين الناس ويخرجها من الحجاز ، فجاءها الوالي وعرض عليها كتاب يزيد بن ميسون وطلب منها أن تخرج من الحجاز إلى حيث شاءت ، فرفضت طلب الوالي وأصرَّت على عدم خروجها من المدينة ، وقالت: لقد علم الله بما جرى علينا من القتل والسبي ، وكنَّا نساق كما تساق الأنعام من بلد إلى بلد على الأقتاب ، ومضت تقول : فو الله لا أخرج من مدينة جدِّي وإن أُهرقت دماؤنا على حد تعبير الراوي ، ولمَّا أصرَّ الوالي على إخراجها اجتمع عليها نساء بني هاشم في محاولة لإقناعها بالخروج من المدينة ، وقالت لها زينب بنت عقيل: يا ابنة عمَّاه لقد صدقنا الله وعده وأورثنا الأرض نتبوَّأ منها حيث نشاء ، فطيبي نفساً وقرِّي عيناً وسيجزي الله الظالمين بما جنته أيديهم ، أتريدين بعد هذا هوانا؟! ارحلي إلى بلد آمن . واتفق الرأي على خروجها ، فاختارت مصر ، وخرج معها من العلويات كل من سكينة وفاطمة ابنتي أخيها الحسين ، وكان ذلك سنة إحدى وستين وفي شهر شعبان من تلك السنة وبعد مرور سبعة أشهر على مجزرة كربلاء وخمسة أشهر على رجوعها من السبي إلى المدينة ، واستقبلها الوالي على مصر مسلمة بن مخلَّد الأنصاري في جماعة معه وأنزلها داره في الحمراء كما تدَّعي الرواية التي وصفت رحلتها ، فأقامت بها أحد عشر شهراً وتوفِّيت في النصف من رجب سنة 62 هجرية ، ودفنت بالقرب من دار الوالي ومن بساتين عبد الرحمن بن عوف على حدِّ تعبير جعفر نقدي عن النسَّابة العبيدلي ، ولم يرد في حديثه عن ملابسات رحلتها وعن سفرها ذكر لزوجها عبدالله بن جعفر ولا لأحد ممَّن بقي مع الأحياء من أولادها وأولاد أخوتها وغيرهم من الهاشميِّين.
وقالت الدكتورة بنت الشاطئ في ص 137 من كتابها (بطلة كربلاء) في وصف رحلتها إلى مصر: لقد بزغ هلال شعبان من سنة إحدى وستين في اللحظات التي وطأة فيها السيدة أرض النيل فإذا جموع من الناس قد احتشدت لاستقبالها وساروا في موكبها حتّى بلغوا قرية بلبيس ، فقابلتهم هناك جموع آتية من عاصمة الوادي الأمين ومسلمة بن مخلَّد الأنصاري أمير مصر في وفد من أعيان البلاد وعلمائها قد خرجوا لاستقبال ابنة الزهراء وأخت الإمام الشهيد ، فلمَّا أطلَّت عليهم بطلعتها المشرقة بنور الاستشهاد والنبوة اجهشوا بالبكاء والنحيب ، ومضوا بركبها حتّى إذا بلغوا العاصمة مضى بها مسلمة بن مخلَّد إلى داره ، فأقامت بها قرابة عام لم تُر خلاله إلاّ عابدة متبتِّلة ، وكانت وفاتها عشية الأحد لأربع عشرة مضين من رجب عام 62 على أصحِّ الأقوال على حدِّ تعبير بنت الشاطئ.
وأكثر الذين يدَّعون بأنَّ المرقد الموجود في مصر هو مرقدها يدَّعون أنَّ خروجها من المدينة كان بعد رجوعها من السبي إليها بأشهر معدودات وفي الشطر الأخير من سنة 61 بالذات ، وأنَّ يزيداً أخرجها من المدينة لأنَّ بقاءها بها كان يشكِّل خطراً على دولته ، وأنَّها كانت تعمل لإعداد أهل المدينة وغيرهم من المسلمين للثورة ، ولم يسجِّلوا موقفاً لزوجها ولا لأحد من أولادها والعلويِّين والطالبيِّين من رحلتها ، ولم يذكروا أنَّ أحداً منهم كان معها في منفاها.
ويبدو بعد التتبُّع أنَّ القائلين بأنَّها توفِّيت في مصر ودفنت فيها أكثر من القائلين بأنَّ المرقد الموجود في ضاحية الشام هو مرقدها ، وانَّ ابن عساكر في تاريخه الكبير وابن طولون الدمشقي في رسالته الزينبية كانا أوَّل مَن تعرَّضا لمرقدها على هذا النحو ، ودوَّنه من بعدهما الشعراني في كتابه (لواقح الأنوار) والشيخ محمد الصبان في (إسعاف الراغبين) والشبلنجي في كتابه (نور الأبصار) والشبراوي في (الإتحاف) ، إلى غير ذلك ممَّن تأخَّر عنهما من المؤلِّفين ، في حين أنَّ المؤلِّفين والمؤرِّخين القدامى الذين كانوا يتتبَّعون الأحداث كبيرها وصغيرها لم يتعرَّضوا لشيء من ذلك ، مع العلم بأنَّ إخراجها من المدينة لو كان على النحو المذكور من المستبعَد أن يتجاهله المؤرِّخون الذين كتبوا التاريخ والسير ولم يتجاهلوا شيئاً ممَّا حدث بين المسلمين وبخاصة ما كان منها في تلك الفترة من تاريخهم المشحون بالأحداث والاضطرابات.
ومهما كان ، فالذي أراه أنَّ حديث سفرها إلى مصر وأسبابه ليس بأسلم من جميع جهاته من حديث سفرها إلى ضواحي الشام ووفاتها بها ، ولا بأقرب إلى الواقع منه ؛ ذلك لأنَّهم لم يتعرَّضوا لزوجها عبدالله بن جعفر مع العلم بأنَّه كان حيَّاً يرزق ومن أعلام المسلمين يومذاك ، ولا لأحد من أولادهم وأخوتها وآل أبي طالب من هذا الحادث ، وهل يجوز على رجل كعبدالله بن جعفر الذي كان يتمتَّع بمكانة عالية بين أولاد المهاجرين والأنصار أن يقف مكتوف اليدين من تسفير زوجته عقيلة آل أبي طالب ولا يتدخَّل في إنقاذها أو يسافر معها ؟ وإذا جاز عليه ـ ولو من باب الافتراض ـ فهل يجوز ذلك على ابن أخيها السجَّاد وهي التي كانت ترعاه وتحرسه منذ خروجها من المدينة في ركب أخيها إلى حين رجوعها إليها وقد تعرَّض للقتل أكثر من مرَّة ، ولكنَّها كانت تدافع عنه دفاع مَن لا يرى للحياة وزناً بدونه وتطلب من أولئك الجزَّارين أن يقتلوها قبله ؟
ولماذا لم يخرج معها أحد سوى فاطمة وسكينة كما تدَّعي الرواية ؟ وأين منها أولادها وأولاد إخوتها وأحفاد عبد المطَّلب وأبو طالب والهاشميَّات من بنات أبي طالب ؟
وهل كانت وحدها تحرِّض الناس على الثورة بعد مجزرة كربلاء وكل الدلائل تشير إلى أنَّ جميع مواقف العلويِّين والعلويَّات والطالبيَّات كانت تلهب المشاعر وتحثُّ الجماهير المسلمة على الثورة والانتقام من يزيد وحزبه لمقتل الحسين ؟
ولم تكن مواقف الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) بأقل تأثيراً على الرأي العام من مواقف عمَّته العقيلة ابنة علي والزهراء إن لم تكن أكبر تأثيراً منها.
لقد بقي لسنوات عديدة وقيل أكثر من عشرين عاماً يبكي أباه وبقيَّة القتلى من إخوته وأبناء عمومته كلَّما ذكرهم ذاكر ، وعندما يقدِّم له طعامه يبله بدموع عينيه ـ كما يدَّعي الرواة ـ والمسلمون يتلوُّون لحاله ، وكان يدخل أحياناً سوق القصَّابين ويوصيهم بأن يسقوا الذبيحة قبل ذبحها ثم يصيح: (لقد ذُبح أبو عبدالله عطشاناً) فيجتمع عليه الناس يبكون لبكائه ، ولم تكن ثورة المدينة وليدة انفعال طائش ، بل كانت من نتائج مواقف الإمام السجَّاد وعمَّته العقيلة والأحزان التي خيَّمت على أهل البيت ، بالإضافة إلى تحسُّس المسلمين بوقع تلك الجريمة التي لم يحدِّث التاريخ بأسوأ منها ، فلماذا لم يأمر ابن ميسون بإخراج السجَّاد من المدينة ؟ ولماذا ترك لها الخيار في الذهاب إلى أيِّ بلد شاءت ، ولم يعارض في اختيارها لمصر ؟ في حين أنَّ وجودها في مصر يشكِّل عليه نفس الأخطار التي كان يتخوَّفها من بقائها في الحجاز ؛ لأنَّ المصريِّين كانوا أقرب إلى العلويِّين من الحجازيِّين ، وفيها من الشيعة يومذاك أعداد كبيرة ، والذين رووا أسطورة خروجها إلى مصر يدَّعون بأنَّ المصريِّين تلقُّوها بالبكاء والعويل والنياحة كما ذكرنا.
وإذا كان حفيد هند وأبي سفيان يحاذر من بقاء زينب ابنة علي في الحجاز ويتخوَّف أن يتسبَّب بقاؤها في الثورة عليه ، فكان من المفروض أن يضعها تحت رقابته وفي عاصمته أو في الربذة كما كان يفعل ابن عفَّان مع مَن يخاف منهم ؛ فكان يرسلهم إلى الشام ليكونوا تحت رقابة معاوية ، وعندما يعجز معاوية عن وضع حدٍّ لنشاطهم إمَّا أن يضعهم في سجونه أو يردَّهم إلى المدينة ؛ ليحدِّد الخليفة مصيرهم ، وكانت الربذة ومَن على شاكلتها من البراري المقفرة من أوفر الناس حظَّاً بأولئك الأحرار كما فعل خليفة المسلمين مع الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري ؛ حتّى لا يرى أحداً ولا يراه أحد ، وبها كانت نهايته.
هذا كلُّه بالإضافة إلى أنَّ يزيد بن معاوية بعد تلك النقمة العارمة عليه بسبب مجزرة كربلاء كان يتظاهر بالندم والتنصُّل من مسؤولياتها ، ويحاول تغطية نتائجها المريرة بالتقرُّب من العلويِّين والإحسان إليهم ، وقد أوصى مسلم بن عقبة عندما أرسله إلى المدينة لقمع الثورة بعدم التعرُّض لأحد من العلويِّين والطالبيِّين والإحسان إليهم ، وجرت بينه وبين عبدالله بن العباس (رحمه الله) مراسلة أوردها اليعقوبي في تاريخ وغيره بعد تلك الجريمة النكراء التي ارتكبها مع أهل البيت (عليه السلام) لم يترك ابن عباس عيباً من العيوب إلاّ وألصقه فيه ، ولا منقصة إلاّ ووصفه فيها ، محتقراً له بكل ما في الاحتقار من معنى ، ومع ذلك لم يصدر منه ما يسيء إليه ، ولم يكن ذلك منه إلاّ لِمَا تركته في نفسه تلك المجزرة الرهيبة من الخوف والقلق على مصيره ومصير أسرته ودولته بعد النقمة العامَّة التي شملت جميع الأوساط الإسلامية على اختلاف ميولها واتجاهاتها.
ومهما كان الحال ، فإنَّ أسطورة نفي العقيلة إلى مصر ووفاتها فيها ليست بأقرب إلى الواقع من خروجها من المدينة مع زوجها إلى الشام ووفاتها فيها ، إنْ لم تكن أبعد منها.
أين مرقدها إذن ؟
بعد هذا العرض اليسير لآراء الفريقين القائلين بأنَّها دفنت في ضواحي دمشق والقائلين بأنَّها في محلَّة الفسطاط من القاهرة وما أبديتاه من الملاحظات عليها ، التي ـ كما أرى ـ تثير أكثر من الشك في صحة ما يقال إنَّها دفنت في أحد هذين القطرين ، فلم يبق أمامنا سوى القول الذي يرجِّح قائلوه أنَّها دفنت في مدينة جدِّها الرسول (صلى الله عليه واله) بعد رجوعها من السبي بأشهر معدودات أو سنوات معدودات ، وإثبات ذلك لا يحتاج إلى مزيد من الاستدلال والبحث بعد العلم القطعي أنَّها رجعت إلى المدينة على رأس تلك القافلة من السبايا والأسرى ، وتؤكِّد جميع المصادر أنَّها بقيت في المدينة لمدَّة من الزمن تندب وتبكي وتتلوَّى هي والهاشميِّين والهاشميَّات على ما حلَّ بأهلها وإخوتها ويبكي لحالها القريب والبعيد والعدو والصديق ، واستمرت على ذلك حتّى تأثَّرت المدينة بكل فئاتها بمواقفها ومواقف العلويِّين وأحزانهم وأصبحت بكل فئاتها كالبركان المهيَّأ للانفجار بين لحظة وأخرى . فرجوعها من الشام إلى المدينة لا يختلف فيه اثنان . أمَّا خروجها من المدينة بعد خمس سنوات على رجوعها إليها إلى ضاحية من ضواحي الشام مع زوجها ووفاتها فيها ، كما يدَّعي القائلون بأنَّ المرقد الزينبي الموجود في تلك الضاحية هو مرقدها ، أو خروجها إلى مصر بعد أشهر معدودات من رجوعها إلى المدينة ووفاتها في مصر وفي محلَّة الفسطاط من القاهرة ، فلم يخرجا عن دائرة الشك أو الاحتمال ؛ لأنَّ الأدلة التي اعتمدها أنصار القولين لا تكفي لنقض اليقين السابق المتعلِّق بوجودها في المدينة ، ولا تفيد أكثر من احتمال خروجها منها ووفاتها في خارجها ، وما لم يوجد لدينا دليل يفيد العلم أو الظن المعتبر شرعاً ، يتعيَّن الرجوع إلى استصحاب بقائها في المدينة إلى حين العلم بوفاتها.
وهذا النوع من الاستصحاب ليس مثبِتاً كما تخيَّله بعض المؤلِّفين في هذا الموضوع ؛ لأنَّ المقصود منه إثبات عدم خروجها من المدينة إلى زمان العلم بوفاتها ، فأحد جزئي الموضوع يثبُت بالاستصحاب والثاني ـ وهو وفاتها ـ بالوجدان ، وهذا غير ما يسمِّيه الأصوليون بالأصول المثبِتة ويدَّعون أنَّ أدلة الاستصحاب لا تشمل هذا النوع من الأصول التعبُّديَّة ؛ لأنَّ المقصود من الأصول المثبتة الأصل الذي يثبِت أمراً عادياً أو عقلياً لم يكن موضوعاً للآثار الشرعية ، كاستصحاب حياة زيد لهذه المدَّة يكون حجة شرعية لناحية الآثار الشرعية المترتِّبة على حياته كبقاء زوجته في عصمته ووجوب الاتفاق عليها وعلى أولاده وعدم انتقال أمواله إلى ورثته ونحو ذلك . أمَّا نبات لحيته وزيادة طوله ووزنه مثلاً ، فالاستصحاب لا يكون دليلاً شرعياً بالنسبة لهذا النوع من الآثار ، ومن ذلك استصحاب بقاء زيد حيَّاً إلى زمن يلزمه بالقياس إليه أن يكون قد بلغ التسعين من عمره ، فإنَّ كونه من ذوي التسعين أو المائة من اللوازم العقيلة أو العادية لبقاء زيد حيَّاً لسنة الثمانين فيما لو كانت ولادته سنة تسعين وحصل الشك في بقائه حيَّاً سنة ثمانين من القرن الثاني مثلاً ، فأدلة الاستصحاب لا تشمل هذا النوع من الآثار . وما نحن بصدد إثباته بأصالة عدم خروجها من المدينة هو بقاؤها فيها إلى زمان القطع بوفاتها ، ويرافق القطع بوفاتها القطع بأنَّها لم تنقل بعد وفاتها من البلد الذي توفِّيت فيه إلى بلد أخر قد وقع عليه الاختيار ليكون مدفناً لها.
وممَّن رجَّح أنَّها دفنت بالمدينة في البقيع ، إلى جوار مرقد زوجها عبدالله بن جعفر ، عبَّاس قلي خان في كتابه (الطراز المذهَّب) عن كتاب (بحر المصائب) والشيخ ميثم البحراني كما نقل عنه الشيخ مهدي المازندراني في كتابه (معالي السبطين) والسيد محسن الأمين في المجلَّد الثالث والثلاثين من (أعيان الشيعة)(5).
وجاء في المرقد الزينبي للشيخ فرج القطيفي أنَّ لجنة الأوقاف الدينية في كربلاء أ