تاريخ كربلاء

كرب الرشيد لقبر الحسين
عن علي بن محمّد بن مخلد الجعفي الدهان بالكوفة قال : حدّثنا أحمد بن ميثم بن أبي نعيم(1) ، قال : حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني(2) أملاه علي في منزله قال : خرجت أيام ولاية موسى بن عيسى الهاشمي في الكوفة(3) من منزلي فلقيني أبو بكر بن عياش(4) ، فقال لي : امض بنا يا يحيى إلى هذا .
فلم أدر مَنْ يعني وكنت أجلّ أبا بكر عن مراجعته ، وكان راكباً حماراً له فجعل يسير عليه وأنا أمشي مع ركابه ، فلمّا صرنا عند الدار المعروفة بدار عبد الله بن حازم التفت إلي فقال لي : يابن الحماني إنّما جررتك معي وحشمتك مع أن تمشي خلفي لأسمعك ما أقول لهذا الطاغية.
قال : فقلت له : مَنْ هو يا أبا بكر ؟
قال : هذا الفاجر الكافر موسى بن عيسى .
فسكتُّ عنه ومضى وأنا أتبعه حتّى إذا صرنا على باب موسى بن عيسى وبصر به الحاجب ، وكان الناس ينزلون عند الرحبة فلم ينزل أبو بكر هناك ، وكان عليه يومئذ قميص وإزار وهو محلول الأزرار .
قال : فدخل على حماره وناداني : تعال يابن الحماني . فمنعني الحاجب فزجره أبو بكر وقال له : أتمنعه يا فاعل وهو معي ؟! فتركني ، فما زال يسير على حماره حتّى دخل الأبواب فبصر بنا موسى وهو قاعد في صدر الإيوان على سريره ، وبجنبي السرير رجال مسلّحون وكذلك كانوا يصنعون ، فلمّا رآه موسى رحّب به وأقعده على سريره ، ومُنعت أنا حين وصلت إلى الإيوان أن أجوزه .
فلمّا استقر أبو بكر على السرير التفت فرآني حيث أنا واقف ، فناداني : تعال ويحك ! فصرت إليه ونعلي في رجلي وعليّ قميص وإزار فأجلسني بين يديه فالتفت إليه موسى فقال : هذا رجل تكلّمنا فيه ؟
قال : لا ، ولكن جئت به شاهداً عليك .
قال : في ماذا ؟
قال : إنّي رأيتك وما صنعت بهذا القبر .
قال : أيّ قبر ؟
قال : قبر الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
وكان موسى قد وجه إليه مَنْ كربه وكرب جميع أرض الحاير ، وحرثها وزرع الزرع فيها فانتفخ موسى حتّى كان أن يتّقد ، ثمّ قال : وما أنت وذا ؟
قال : اسمع حتّى اُخبرك ؛ اعلم أنّي رأيت في منامي كأنّي خرجت إلى قومي بني غاضرة ، فلمّا صرت بقنطرة الكوفة أعرضني خنازير عشرة فأعانني الله برجل كنت أعرفه من بني أسد فدفعهم عنّي فمضيت لوجهي .
فلمّا صرت إلى شاهي(5) ظللت الطريق فرأيت هناك عجوزاً فقالت لي : أين تريد أيها الشيخ ؟
قلت : أريد الغاضرية(6) .
قالت لي : تبطن هذا الوادي ، فإنّك إذا أتيت آخره اتّضح لك الطريق .
فمضيت فلمّا صرت إلى نينوى(7) إذ أنا بشيخ كبير جالس هناك ، فقلت : من أين أنت أيّها الشيخ ؟
فقال لي : أنا من أهل هذا القرية .
فقلت : كم تعد من السنين ؟
فقال : ما أحفظ ما مضى من سني عمري ، ولكن أبعد ذكرى أنّي رأيت الحسين بن علي (عليهما السّلام) ومَنْ كان معه من أهله ، ومَنْ تبعه يُمنعون الماء الذي تراه ، ولا يمنع الكلب ولا الوحوش شربه !
فاستعظمت ذلك ، وقلت له : ويحك ! أنت رأيت هذا ؟!
قال : أي والذي سمك السماء ، لقد رأيت هذا أيّها الشيخ وعاينته ، وإنّك وأصحابك هم الذين يعينون على ما قد رأينا ممّا أقرح عيون المسلمين إن كان في الدنيا مسلم .
فقلت : ويحك ! وما هو ؟
قال : حيث لم تنكروا ما أجرى سلطانكم إليه .
[قلت : ما أجرى إليه ؟]
قال : أيكرب قبر ابن النبي وتُحرث أرضه ؟!
قلت : وأين القبر ؟
قال : ها هو ذا أنت واقف [في أرضه] ؛ فأمّا القبر فقد عمي عن أن يُعرف موضعه .
قال أبو بكر بن عياش : وما كنت رأيت القبر قبل ذلك الوقت قط ، ولا أتيته في طول عمري ، فقلت : مَنْ لي بمعرفته ؟!
فمضى معي الشيخ حتّى وقف على(8) حير له باب وآذن ، وإذا بجماعة كثيرة على الباب ، فقلت للآذن : أريد الدخول على ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
فقال : لا تقدر على الوصول في هذا الوقت .
قلت : ولِمَ ؟
قال : هذا وقت زيارة إبراهيم خليل الله ومحمد رسول الله ، ومعهما جبرائيل وميكائيل في رعيل من الملائكة كثير .
قال أبو بكر بن عياش : فانتبهت وقد دخلني روع شديد وحزن وكآبة .
ومضت بي الأيام حتّى كدت أن أنسى المنام ، ثمّ اضطررت إلى الخروج إلى بني غاضرة لدَين كان لي على رجل منهم ، فخرجت وأنا لا أذكر الحديث حتّى صرت بقنطرة الكوفة لقيتني عشرة من اللصوص ، فحين رأيتهم ذكرت الحديث ورعبت من خشيتي لهم فقالوا لي : القِ ما معك وانجُ بنفسك ـ وكانت معي نُفيقة ـ فقلت : ويحكم ! أنا أبو بكر بن عياش وإنّما خرجت في طلب دَين لي ، والله الله لا تقطعوني عن طلب ديني وتضروا بي في نفقتي ؛ فإنّي شديد الإضافة .
فنادى رجل منهم : مولاي وربّ الكعبة لا تعرض له . ثمّ قال لبعض فتيانهم : كن معه حتّى تصير به إلى الطريق الأيمن .
قال أبو بكر : فجعلت أتذكّر ما رأيته في المنام وأتعجّب من تأويل الخنازير حتّى صرت إلى نينوى ، فرأيت ـ والله الذي لا إله إلاّ هو ـ الشيخ الذي كنت رأيته في منامي بصورته وهيئته ، رأيته في اليقظة كما رأيته في المنام سواء ، فحين رأيته ذكرت الأمر والرؤيا ، فقلت : لا إله إلاّ الله ما كان هذا إلاّ وحياً ! ثمّ سألته كمسألتي إيّاه في المنام ، فأجابني ثمّ قال لي : امضِ بنا . فمضيت فوقفت معه على الموضع وهو مكروب ، فلم يفتني شيء في منامي إلاّ الآذن والحير ؛ فإنّي لم أرَ حيراً ولم أرَ آذناً ؛ فاتقِ الله أيّها الرجل ؛ فإنّي قد آليت على نفسي ألاّ أدع إذاعة هذا الحديث ، ولا زيارة ذلك الموضع وقصده وإعظامه ؛ فإنّ موضعاً يأتيه إبراهيم ومحمد وجبرائيل وميكائيل لحقيق بأن يرغب في إتيانه وزيارته ؛ فإنّ أبا حصين حدّثني أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، قال : مَنْ رآني في المنام فإيّاي رأى ؛ فإنّ الشيطان لا يشتبه بي .
فقال له موسى : إنّما أمسكت عن إجابة كلامك لأستوفي هذه الحمقة التي ظهرت منك ، وبالله لئن بلغني بعد هذا الوقت أنّك تتحدّث بهذا لأضربن عنقك وعنق هذا الذي جئت به شاهداً عليّ .
فقال أبو بكر : إذن ، يمنعني الله وإيّاه منك ؛ فإنّي إنّما أردت الله بما كلّمتك به .
فقال له : أتراجعني يا عاض ! وشتمه .
فقال له : اسكت أخزاك الله وقطع لسانك !
فأرعد موسى على سريره ، ثمّ قال : خذوه . فاُخذ الشيخ عن السرير ، واُخذت أنا فوالله لقد مرّ بنا من السحب والجرّ والضرب ما ظننت أنّنا لا نكثر الأحياء أبداً ، وكان أشدّ ما مرّ بي من ذلك أنّ رأسي كان يجرّ على الصخرة وكان بعض مواليه يأتيني فينتف لحيتي ، وموسى يقول : اقتلوهما بني كذا وكذا لا يُكني .
وأبو بكر يقول له : امسك قطع الله لسانك وانتقم منك ! اللّهمّ إيّاك أردنا ، ولولد وليك غضبنا ، وعليك توكّلنا .
فصيّرنا بنا جميعاً في الحبس فما لبثنا إلاّ قليلاً فالتفت أبو بكر ورأى ثيابي قد خرقت وسالت دمائي ، فقال : يا حماني قد قضينا لله حقّاً ، واكتسبنا في يومنا هذا أجراً ، ولن يضيع ذلك عند الله ولا عند رسوله .
فما لبثنا إلاّ مقدار غذائه ونومه حتّى جاءنا رسوله فأخرجنا إليه ، وطلب حمار أبي بكر فلم يوجد ، فدخلنا عليه فإذا هو في سرداب له يشبه الدور سعة وكبراً ، فتعبنا في المشي إليه تعباً شديداً وكان أبو بكر إذا تعب في مشيه جلس يسيراً ، ثمّ يقول : اللّهمّ إنّ هذا فيك فلا تنسه .
فلما دخلنا على موسى وإذا هو على سرير له ، فحين بصر بنا قال : لا حيّا الله ولا قرّب من جاهل أحمق يتعرّض لما يكره . ويلك يا دعي ! ما دخولك فيما بيننا معشر بني هاشم ؟
فقال له أبو بكر : سمعت كلامك والله حسبك .
فقال له : اخرج قبّحك الله ! والله لئن بلغني أنّ هذا الحديث شاع أو ذُكر عنك لأضربنّ عنقك .
ثم التفت إليّ فقال : يا كلب ! وشتمني ، وقال : إيّاك أن تظهر هذا ؛ فإنّه إنّما خُيّل لهذا الشيخ الأحمق شيطان يلعب به في منامه ، اخرجا عليكما لعنة الله وغضبه .
فخرجنا ، وقد يئسنا من الحياة ، فلمّا وصلنا إلى منزل الشيخ أبي بكر وهو يمشي وقد ذهب حماره ، فلمّا أراد أن يدخل منزله التفت إليّ وقال : احفظ هذا الحديث وأثبته عندك ، ولا تحدّثنّ هؤلاء الرعاع ، ولكن حدّث به أهل العقول والدين .
زيارة منصور النمري
وأخبرني مَنْ رأى منصور النمري(9) على قبر الحسين بن علي (رض) ينشد قصيدته التي يقول فيها :
فما وجدتْ على الأكتافِ منهم ولا الأقـفاء آثـارُ الـنصولِ
ولـكنّ الـوجوه بـها كـلومٌ وفوقَ حجورهم مجرى السيولِ
اُريـق دمُ الحسين ولم يراعوا وفـي الأحياء أموات العقولِ
فـدت نفسي جبينك من جبينٍ جـرى دمـهُ عـلى خدٍّ أسيلِ
أيـخلوا قـلب ذي ورع ودينٍ مـن الأحـزان والألم الطويلِ
وقـد رشـقت رماحُ بني زيادٍ بـريٍّ من دماء بني الرسولِ
بـيثرب كـربلاء لـهم ديارٌ نـيامُ الأهـل دارسة الطلولِ
بـأوصال الحسين ببطنِ قاعٍ مـلاعبُ لـلدبور ولـلقبولِ
تـحـياتٌ ومـغـفرةٌ وروحٌ عـلى تـلك المحلّة والحلولِ
بـرئنا يـا رسـول الله ممّن أصـابك بالأذية والذحولِ (10)
ذكر الخطيب في تاريخ بغداد 3 / 68 عن محمّد البيذق ، وكان أحسن الناس إنشاداً ، وكان إنشاده أحسن من الغناء .
قال : دعاني الرشيد في عشية يوم وبين يديه طبق وهو يأكل ممّا فيه ومعه الفضل بن الربيع ، فقال الفضل : يا محمّد ، أنشد أمير المؤمنين ما يستحسن من مديحه .
فأنشدته (للنمري) ، فلمّا بلغت إلى هذا الموضع :
أي امرئ باتَ من هارونَ في سخطٍ فـليس بـالصلوات الخمس ينتفعُ
ان الـمكارمَ والـمعروف أوديـةٌ أحـلّك اللهُ مـنها حـيث تـجتمعُ
اذا رفـعـت امـرأً فالله رافـعه ومَـنْ وضعت من الأقوام متّضعُ
نـفسي فـداؤك والأبـطال معلمةٌ يـوم الوغى والـمنايا بينهم قرعُ
قال : فأمر فرُفع الطعام وصاح وقال : هذا والله أطيب من أكل الطعام ومن كلّ شيء . وأجاز النمري بجائزة سنية .
قال محمّد البيذق : فأتيت النمري فعرّفته أنّي كنت سبب الجائزة فلم يعطني شيئاً ، وشخص إلى رأس عين فأحفظني وأغاظني ، ثمّ دعاني الرشيد يوماً آخراً ، فقال : أنشدني يا محمّد . فأنشدته :
شاءٌ من الناس راتع هاملِ يـعللون الـنفس بالباطلِ
فلمّا بلغت إلى قوله :
ألا مساعير يغضبون لها بسلة البيض والقنا الذابلِ
قال : أراه يحرّض عليّ ، ابعثوا إليه مَنْ يجيئني برأسه . فكلّمه الفضل بن الربيع فلم يغنِ كلامه شيئاً ، فوجّه الرسول إليه فوافاه في اليوم الذي مات فيه وقد دفن ، فأراد نشره وصلبه ، فكُلّم في ذلك فأمسك عنه . ( ثمّ ذكر في سبب غضب الرشيد عليه وجه آخر ) .
زيارة ابن الهبارية
أنشدنا أبو عبد الله محمّد البندنجي البغدادي قال : أنشدنا بعض مشايخنا أنّ ابن الهبارية(11) الشاعر اجتاز بكربلاء فجلس يبكي على الحسين (عليه السّلام) وأهله ، وقال بديهاً :
أحـسين والمبعوث جدّك بالهدى قسماً يكون الحقّ عنه مسائلي (12)
لـو كنت شاهدَ كربلا لبذلت في تـنفيس كـربكَ جهد بذل الباذلِ
وسـقيتُ حدّ السيفِ من أعدائكمْ عـللاً وحـدّ الـسمهري الذابلِ
لـكنّني أُخّـرت عـنكَ لشقوتي فـبلابلي بـين الـغري وبـابلِ
هبني حُرمت النصرَ من أعدائكمْ فـأقلّ من حزنٍ ودمع سايلِ (13)
ثمّ نام مكانه فرأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في المنام ، فقال له : يا فلان جزاك الله عنّي خيراً ، أبشر فإنّ الله قد كتبك ممّن جاهد بين يدي الحسين (عليه السّلام) (14) . انتهى.
وابن الهبارية هو الشريف أبو يعلى الهاشمي ، ترجمته في ابن خلكان .
هدم المتوكّل لقبر الحسين (عليه السّلام)
حدّثني محمّد بن إبراهيم أبي السلاسل الأنباري الكاتب ، قال : حدّثني أبو عبد الله الباقطاني ، قال : ضمّني عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى هارون المعري وكان قائداً من قوّاد السلطان أكتب له ، وكان بدنه كلّه أبيض شديد البياض حتّى يديه ورجليه كانا كذلك ، وكان وجهه أسود شديد السواد كأنّه القير ، وكان يتفقّأ مع ذلك مدة منتنة .
قال : فلمّا أنس بي سألته عن سواد وجهه فأبى أن يخبرني ، ثمّ إنّه مرض مرضه الذي مات فيه فعدت فسألته فرأيته كان يحبّ أن يُكتم عليه فضمنت له الكتمان .
فحدّثني قال : وجّهني المتوكّل أنا والديزج لنبش قبر الحسين (عليه السّلام) وإجراء الماء عليه ، فلمّا عزمت على الخروج والمسير إلى الناحية رأيت رسول الله في المنام ، فقال : لا تخرج مع الديزج ، ولا تفعل ما اُمرتم به في قبر الحسين .
فلمّا أصبحنا جاؤوا يستحثّوني على المسير فسرت معهم حتّى وافينا كربلاء ، وفعلنا ما أمرنا به المتوكّل ، فرأيت النبي (صلّى الله عليه وآله) في المنام فقال : ألم آمرك ألاّ تخرج معهم ، ولا تفعل فعلهم فلم تقبل حتّى فعلت ما فعلوا ثمّ لطمني وتفل في وجهي فصار وجهي مسودّاً كما ترى ، وجسمي على حالته الأولى(15) .
... قال : حدّثنا محمّد بن سليمان ، قال : حدّثنا عمي ، قال : لمّا خفنا أيام الحجاج خرج نفر منّا من الكوفة مستترين ، وخرجت معهم فصرنا إلى كربلاء وليس بها موضع نسكنه ، فبنينا كوخاً على شاطئ الفرات وقلنا : نأوي إليه ، فبينا نحن فيه إذ جاءنا رجل غريب فقال : أصير معكم في هذا الكوخ الليلة ؛ فإنّي عابر سبيل ؟
فأجبناه وقلنا : غريب منقطع به .
فلما غربت الشمس وأظلم الليل أشعلنا وكنا نشعل بالنفط ، ثمّ جلسنا نتذاكر أمر الحسين بن علي (عليهما السّلام) ومصيبته وقتله ومَنْ تولاه ، فقلنا : ما بقي أحد من قتلة الحسين إلاّ رماه الله ببلية في بدنه .
فقال ذلك الرجل : فأنا قد كنت فيمَنْ قتله ، والله ما أصابني سوء وإنّكم يا قوم تكذبون .
فأمسكنا منه ، وقلّ ضوء النفط فقام ذلك الرجل ليصلح الفتيلة بإصبعه فأخذت النار كفّه ، فخرج ينادي حتّى ألقى نفسه في الفرات يتغوّص به ، فوالله لقد رأيناه يدخل رأسه في الماء والنار على وجه الماء ، فإذا أخرج رأسه سرت النار إليه فتغوصه إلى الماء ثمّ يخرجه فتعود إليه ، فلم يزل ذلك دأبه حتّى هلك(16) .
ديوان الأبله البغدادي
قال : وكتب إلى قاضي القضاة علاء الدين الزينبي(17) يسأله عارية فرس يمتطيها إلى مشهد الحسين (عليه السّلام) :
قـل لـعلاء الـدين يـا أكـرم مَـنْ فـوق الثرى
ومَـنْ يـرى عند النوا لِ ضـاحـكـاً مـسـتبشرا
غـداً نـجدُّ ركـبنا إلى الحسين فـي الـسُّرى
قــد ركـبـوا وغيبوا الـ ـخيل الـعتاقَ الضمّرا
ولـيس لـي غير كعا بي إن أردت الــسفـرا
فـانـعم ونـقّـد عـاجلاً لـي الـجواد الأشـقرا
عـاريـة مــردودة إليـك فـأفعل مـا تـرى
فـلست أرجـو نـيلَ مَنْ يحب أن يُعطى الكرا (18)
زيارة الحائر في الربع الأوّل من القرن الرابع
حدّثني أبي قال : خرج إلينا يوماً أبو الحسن الكاتب ، فقال : أتعرفون ببغداد رجلاً يُقال له : ابن أصدق ؟
قال : فلم يعرفه من أهل المجلس غيري ، فقلت : نعم ، فكيف سألت عنه ؟
فقال : أيّ شيء يفعل ؟
قلت : ينوح على الحسين (عليه السّلام) .
قال : فبكى أبو الحسن وقال : إنّ عندي عجوزاً ربّتني من أهل كرخ جدان عفيطة اللسان ، الأغلب على لسانها النبطية ، لا يمكنها أن تقيم كلمة عربية صحيحة فضلاً أن تروي شعراً ، وهي من صالحات نساء المسلمين ، كثيرة الصيام والتهجّد ، وإنّها انتبهت البارحة في جوف الليل ومرقدها قريب من موضعي ، فصاحت بي : يا أبا الحسن .
فقلت : ما لكِ ؟
فقالت : الحقني . فجئتها فوجدتها ترعد ، فقلت : ما أصابك ؟
فقالت : إنّي كنت قد صلّيت وردي فنمت فرأيت الساعة في منامي كأنّي في درب من دروب الكرخ فإذا بحجرة نظيفة مليحة الساحة مفتوحة الباب ونساء وقوف عليه ، فقلت لهم : مَنْ مات ، أو ما الخبر ؟
فأومؤوا إلى داخل الدار ، فدخلت فإذا بحجرة نظيفة في نهاية الحسن ، وفي صحنها امرأة شابة لم أرَ قط أحسن منها ولا أبها ولا أجمل ، وعليها ثياب حسنة بياض مروي لين ، وهي ملتحفة فوقها بإزار أبيض جدّاً ، وفي حجرها رأس رجل يشخب دماً ، فقلت :
مَنْ أنتِ ؟
فقالت : لا عليكِ أنا فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهذا رأس ابني الحسين (عليه السّلام) ، قولي لابن أصدق عنّي ينوح :
لم اُمرّضه فأسلوا لا ولا كان مريضا
فانتبهت فزعة .
قال : وقالت العجوز : ( لم أمرّطه ) بالطاء ؛ لأنّها لا تتمكن من إقامة الضاء ، فسكنت منها إلى أن نامت ، ثمّ قال لي : يا أبا القاسم مع معرفتك الرجل قد حملّتك الأمانة ، ولزمتك أن تبلغها له .
فقلت : سمعاً وطاعة لأمر سيّدة نساء العالمين .
قال : وكان هذا في شعبان والناس إذ ذاك يلقون جهداً جهيداً من الحنابلة ؛ إذ أرادوا الخروج إلى الحاير ، فلم أزل أتلطّف حتّى خرجت فكنت في الحاير ليلة النصف من شعبان فسألت عن ابن أصدق حتّى رأيته ، فقلت له : إنّ فاطمة (عليها السّلام) تأمرك بأن تنوح بالقصيدة :
لم اُمرّضه فأسلوا لا ولا كان مريضا
وما كنت أعرف القصيدة قبل ذلك .
قال : فانزعج من ذلك ، فقصصت عليه وعلى مَنْ حضر الحديث فأجهشوا بالبكاء ، وما ناح تلك الليلة إلاّ بهذه القصيدة وأوّلها :
أيها العينان فيضا واستهلاّ لا تغيضا
وهي لبعض الشعراء الكوفيين ، وعدت إلى أبي الحسن فأخبرته بما جرى .
قال أبي وابن عياش : كانت ببغداد نائحة مجيدة حاذقة تُعرف بخلب ، تنوح بهذه القصيدة فسمعناها في دور بعض الرؤساء ؛ لأنّ الناس إذ ذاك لا يتمكنون من النياحة إلاّ بعزّ سلطان ، أو سرّاً لأجل الحنابلة ، ولم يكن النوح إلاّ مراثي الحسين وأهل البيت (عليهم السّلام) فقط من غير تعريض بالسلف . قال : فبلغنا أنّ البربهاري (19) قال : بلغني أنّ نائحة يُقال لها خلب تنوح اطلبوها فاقتلوها(20) .
الفرج بعد الشدّة للتنوخي
قال : وجدت في دفتر عتيق عن بعضهم ، قال : خرجت إلى الحاير أيام الحنبلية(21) أنا وجماعة مختفين ، فلمّا صرنا في أجمة بر ( كذا وأظن أنّها برس ) قال لي رفيق لي منهم : يا فلان ، إنّ نفسي تحدّثني أنّ السبع يخرج فيفترسني من بين الجماعة ، فإن كان ذلك فخذ حماري وما عليه فأدّه إلى عيالي في منزلي .
فقلت له : استشعار يجب أن تتعوّذ بالله منه ، وتضرب عن الذكر فيه .
قال : فما مضى على هذا الأمر إلاّ يسيراً حتّى خرج الأسد فحين رآه الرجل سقط عن حماره يتشهّد ، وقصده الأسد من بين الجماعة فأخذه ودخل به الأجمة ، وسقت الحمار وأسرعت مع القافلة وبلغت الحائر وزرنا ، ورجعنا إلى بغداد واسترحت في بيتي يوماً أو يومين ، ثمّ أخذت الحمار وجئت به إلى منزله لأسلّمه إلى عياله فدققت الباب فخرج إليّ الرجل بعينه فعانقني وبكى وبكيت ، وقلت : حديثك ؟
فقال : إنّ السبع ساعة أخذني وجرّني إلى الأجمة وأنا لا أعقل أمري ، سمعت صوت شيء ورأيت السبع قد خلاني ومضى ففتحت عيني فإذا الذي سمعته صوت خنزير ، وإذا السبع لمّا رآه عنّ له أن يتركني ومضى فصاده وبرك عليه يفترسه وأنا اُشاهده إلى أن فرغ منه ، ثم رجع السبع من الأجمة وغاب [عن عيني فسكنت وتأملت حالي فوجدت مخالبه قد وصلت إلى فخذي قليلاً ] ، وقوتي قد عادت فقلت : لأيّ شيء جلوسي ؟!
فقمت اتسحّب في الأجمة أطلب الطريق ، فإذا بجيف ناس وبقر وعظام بالية وأثر من افترسهم الأسد ، فما زلت أتخطاها حتّى انتهيت إلى رجل قد أكل الأسد بعض جسده وبقى أكثره وهو طري وفي وسطه هميان قد تخرّق بعضه وظهرت منه دنانير ، فتقدّمت فجمعتها وقطعت الهميان وأخذت جميع الدنانير وتتبعتها حتّى لم يفتني منها شيء .
وقويت فضل قوّة فأسرعت في المشي وطلبت الجادة فوقفت عليها ، وأقمت أمشي إلى بعض القرى واستأجرت حماراً وعدت إلى بغداد ، ولم أمضِ إلى الزيارة ؛ لأنّي خشيت أن يسبقوني ويذكرون خبري فيصير عند عيالي مأتم ، فسبقتكم وأنا اُعالج فخذي ، وإذا مَنّ الله عزّ وجل بالعافية عدت إلى الزيارة .
وحدّثني بهذا الحديث غير واحد من أهل بغداد(22) .

نشوار المحاضرة للتنوخي
حدّثني أبو الحسين بن عياش قال : أخبرني صديق لي أنّه خرج إلى الحاير ليزور فأجتاز في طريقه بموضع قريب من الأعراب وهم نزول ، فحطّ رحله ونزل وجلس يأكل هو وغلمانه ، فوقف به بعض الأعراب يستطعم .
قال : فقلت له : اجلس حتّى نأكل وندفع إليك نصيباً . فجلس قريباً منّا ، فإذا بغراب قد طار قريباً منه وصاح صياحاً متتابعاً، فقام الأعرابي يرجمه ويقول : كذبت يا عدو الله .
قال : فقلنا له : ما الخبر يا أعرابي ؟
قال : فقال : يقول الغراب : إنّكم ستقتلونني وأنتم تريدون أن تطعموني فكذّبته في خبره .
قال : فاستحمقناه ، وتممنا أكلنا وكان في السفرة سكين بزماورد عظيمة حادة أنسياناها في السفرة ، فجمعنا السفرة بما فيها وقلنا للأعرابي : خذها وفرّغ ما فيها وأردد السفرة . فجمعها بما فيها وشالها فضرب بها ظهره بحمية من فرحه بتمكيننا إياه من جميع ما فيها فخرجت السكين بحدّتها فدخلت بين كتفيه فخر صريعاً يصرخ : صدق الغراب (لعنه الله) متّ وربّ الكعبة .
فخشينا أن يصير لنا مع الأعراب قصة ، فتركنا السفرة وقمنا مبادرين فاختلطنا بالقافلة حتّى لا نعرف وتركناه يتشحط في دمائه ، ولا نعلم هل عاش أو مات(23) .
إرشاد الأريب لياقوت ورود تابوت أبي العباس الملقّب بالكافي الأوحد
وورد تابوت أبي العباس إلى بغداد مع أحد حجّابه ، وكتب ابنه إلى أبي بكر الخوارزمي شيخ أصحاب أبي حنيفة يعرّفه أنّه وصى بدفنه في مشهد الحسين بن علي (رضي الله عنهما) ، ويسأله القيام بأمره ، وابتياع تربة له ؛ فخاطب الشريف أبو طاهر أبا أحمد في ذلك ، وسأله أن يبيعهم تربة بخمسمئة دينار .
فقال : هذا رجل التجأ إلى جوار جدّي ولا آخذ لتربته ثمناً ، وكتب نفس الموضع الذي طلب منه ، وأخرج التابوت إلى براثا ، وخرج الطاهر أبو أحمد ومعه الأشراف والفقهاء وصلّى عليه ، وأصحب خمسين رجلاً من رجاله حتّى أوصلوه ودفنوه هنالك .
وقد مدحه مهيار بقصائد منها :
أجـيراننا بـالفوز والركب منهمُ أيـعلمُ خـالٌ كـيف بـات المتيمُ
رحـلتم وعـمر الـيلِ فينا وفيكمُ سـواءٌ ولـكن سـاهرونَ ونـوّمُ
فـيا أنـتم مـن ظاعنين وخلّفوا قلوباً أبت أن تعرف الصبرَ عنهمُ
تفوق الوجوهُ الشمس والشمس فيهمُ ويـسترشدونَ الـنجمَ والنجمُ منهمُ
اُنـاشدُ نـعمانَ الأحـايين عـنهمُ كـفى حيره مستفصح وهو أعجمُ
ولـمّا دنـا الـتوديعُ ممّن اُحبّه ولــم يـبقَ إلاّ نـظرة تـتعثّمُ
بـكيتُ على الوادي فحرّمتُ ماءَه وكـيف يـحلّ الـماءُ أكـثرهُ دمُ
ونـفّرت بـالأنفاسِ عنّي حدوجهمْ كـأنّ مـطاياهم لـهنّ توسّمُ (24)
وهو أبو العباس الملقّب بالكافي الأوحد ، الوزير بعد الصاحب أبي القاسم بن عبّاد لفخر الدولة أبي الحسن علي ابن ركن الدولة ابن بويه . مات في صفر سنة 399 ببروجرد من أعمال بدر بن حسنويه .
قصيدة الصابي بتهنئة عضد الدولة عند عودته من الزيارة
أنفذ الصابي أبو إسحاق إبراهيم بن هلال من السجن بقصيدته اللامية بالتهنئة عن قدوم عضد الدولة من الزيارة ، عرضت عليه في وقت كان عبد العزيز بن يوسف غير حاضر فيه ، فقرأها ثمّ رفع رأسه إليّ وإلى عبد الله بن سعد ، وكنت آمنه عليه ، وأعلم أنّ اعتقاده يوافق اعتقادي فيه ، فقال : قد طال حبس هذا المسكين ومحنته .
فقبّلت أنا وهو الأرض عند ذلك ، فقال لنا : كأنّكما تؤثران إطلاقه ؟
قلنا : إنّ من أعظم حقوقه علينا وذرائعه عندنا أن عرفناه في خدمتك ، وخالطناه في أيامك .
قال : فإذا كان هذا رأيكما فيه فأنفذا وأفرجا عنه ، وتقدّما إليه عنّا بملازمة منزله إلى أن يرسم مَنْ يمثله .
والقصيدة الذي هنأه بها عند عودته من الزيارة :
أهــلاً بـأشرف أوبـة وأجـلّها لأجــلّ ذي قـدم يلاذ بـنعلِها
شـاهـنشاه تــاج مـلته الـتي زيـدت بـه فـي قـدرها ومحلِّها
يـا خـير مَنْ زهت المنابر باسمه فـي دولـة عـلقت يـداه بـحبِّها
وأقـمـت فـينا سـيرة عـضدية هـيهات لا تـأتي الـملوك بمثلِها
يـردى غـويٌّ فـاجرٌ فـي بأسها ويـعيش بـرٌّ صـالح في فضلِها
مـولاي عـبدك حـالفٌ لك حلفةً يـعيى مـناكب يـذبل عن حملِها
لـقد انـتهى شوقي إليك إلى التي لا أسـتـطيع أقـلها مـن ثـقلِها
طـوبى لـعينٍ أبصرتك ومَنْ لها بـغبارِ دارك جـازياً عـن كحلِها
لـو بـعتني بـجميع عمري لفظةً أو لـحظة بـالطرف لـم أستغلها
اتـرى أمـرّ بـخطرة مـن بالها أتـرى أعـود إلـى كـثافة ظلِّها
لـي ذمـةٌ مـحفوظةٌ فـي ضمنها ووثـائقٌ مـحروسة فـي كـفلِها
وإذا رأيــت سـحائباً لـك ثـرّة تـروي الـنفوس الحائمات بهطلِها
لا فـي الـرجال الـناقعين بوبلها كـلاّ ولا فـي الـقانعين بـطلِّها
قـابلت بـالزفرات هـبةَ ريـحها وحـكيت بـالعبرات درّة سـجلِها
فـلو اَنّ عـيني راهـنت بدموعها يمناك في السقيا لفزت بخصلِها (25)
حديث الناشئ
كان الناشئ(26) ( علي بن عبد الله بن وصيف الحلاء ) قليل البضاعة في الأدب ، قؤماً بالكلام والجدل ، يعتقد الإمامة ويناظر عليها بأجود عبارة ، فاستنفد عمره في مديح أهل البيت حتّى عرف بهم ، وأشعاره فيهم لا تُحصى كثرة . ومولده سنة 271 ومات لخمس خلون من صفر سنة 365 ، تتبّع ابن بقية وزير بختيار بن معزّ الدولة الديلمي جنازته ماشياً وأهل الدولة كلّهم ، ودُفن في مقابر قريش ، وقبره هناك معروف .
قال الناشئ : أدخلني ابن رائق على الراضي بالله ، وقال لي : أنت الناشئ الرافضي ؟
فقلت : خادم أمير المؤمنين الشيعي .
فقال : من أيّ الشيعة ؟
قلت : شيعة بني هاشم .
فقال : هذا خبث وحيلة .
فقلت : مع طهارة مولد .
فقال : هات ما معك .
فأنشدته ، فأمر أن يُخلع عليّ عشر قطع ثياباً ، وأعطى أربعة آلاف درهم فأخرج إلى ذلك وتسلّمته ، وعدت إلى حضرته وقبّلت الأرض وشكرته ، وقلت : أنا ممّن يلبس الطيلسان . فأمر لي به مع عمامة خزّ .
فقال : أنشدني من شعرك في بني هاشم . فأنشدته :
بني العباس إنّ لكم دماءً أراقـتها اُمـيّةُ بالذحولِ
فليس بهاشميٍّ مَنْ يوالي اُمـيّة واللعينَ أبا زبيلِ
وكان يعمل الناشئ الصفر ويخرمه وله فيه صنعة بديعة ، قال : ومن عمله قنديل بالمشهد بمقابر قريش مربع غاية في حسنه .
( الناشئ ) قال : كنت بالكوفة في سنة 325 وأنا أملي شعري في المسجد الجامع بها والناس يكتبونه عنّي ، وكان المتنبي إذ ذاك يحضر معهم ، وهو بعد لم يُعرف ولم يلقّب بالمتنبي ، فأمليت القصيدة التي أوّلها :
بآل محمّد عُرف الصوابُ وفي أبياتهم نزل الكتابُ
قلت فيها :
كـأنّ سـنانَ ذابله ضميرٌ فليس عن القلوب له ذهابُ
وصـارمه كـبيعته بـخمٍّ مقاصدُها من الخلقِ الرقابُ
فلمحته يكتب هذين البيتين .
حدث الخالع قال : كنت مع والدي في سنة 346 وأنا صبي في مجلس الكبوذي في المسجد الذي بين الوراقين والصاغة وهو غاص بالناس ، وإذا رجل قد وافى وعليه مرقعة وفي يده سطيحة وركوة ، ومعه عكاز وهو شعث فسلّم على الجماعة بصوت يرفعه ، ثمّ قال : أنا رسول فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) .
فقالوا : مرحباً بك وأهلاً . ورفعوه ، فقال : أتعرفون لي أحمد المزوّق النائح ؟
فقالوا : ها هو جالس .
فقال : رأيت مولاتنا (عليها السّلام) في النوم فقالت لي : امضِ إلى بغداد واطلبه وقل له : نح على ابني بشعر الناشئ الذي يقول فيه :
بـني أحـمدٍ قلبي لكم يتقطّعُ بمثل مصابي فيكمُ ليس يسمعُ
وكان الناشئ حاضراً فلطم لطماً عظيماً على وجهه وتبعه المزوق والناس كلّهم ، وكان أشدّ الناس في ذلك الناشئ ، ثمّ المزوّق ، ثم ناحوا بهذه القصيدة في ذلك اليوم إلى أن صلّى الناس الظهر ، وتقوّض المجلس وجهدوا بالرجل أن يقبل شيئاً منهم .
فقال : والله لو أعطيت الدنيا ما أخذتها ؛ فإنّني لا أرى أن أكون رسول مولاتي (عليها السّلام) ثم آخذ عن ذلك عوضاً . وانصرف ولم يقبل شيئاً .
قال : ومن هذه القصيدة وهي بضعة عشر بيتاً :
عـجبتُ لـكم تفنون قتلاً بسيفكمْ ويسطو عليكم مَنْ لكم كان يخضعُ
كـأنّ رسـولَ الله أوصى بقتلكمْ وأجـسامكمْ في كلّ أرض توزّعُ
وحدّث الخالع قال : اجتزت بالناشئ يوماً وهو جالس في السراجين ، فقال لي : قد عملت قصيدة وقد طُلبت واُريد أن تكتبها بخطّك حتّى أخرجها .
فقلت : أمضي في حاجة وأعود . وقصدت المكان الذي أردته وجلست فيه فحملتني عيني فرأيت في منامي أبا القاسم عبد الغزيز الشطرنجي النائح ، فقال لي : أحبّ أن تقوم فتكتب قصيدة الناشئ البائية ؛ فإنّا قد نحنا بها البارحة بالمشهد .
وكان هذا الرجل قد توفّي وهو عائد من الزيارة ، فقمت ورجعت إليه ، وقلت : هات البائية حتّى أكتبها .
فقال : من أين علمت أنّها بائية وما [ذاكرت] بها أحداً ؟!
فحدّثته بالمنام فبكى وقال : لا شك أنّ الوقت قد دنا .
فكتبتها ، فكان أوّلها :
رجـائي بـعيدٌ والـمماتُ قريبُ ويخطئ ظنّي والمنون تُصيبُ (27)
تعميرات الحائر الحسيني من أواخر القرن الثالث عشر إلى الوقت الحاضر
1 ـ قام السيد كاظم الرشدي بتجديد المسجد الواقع في القسم الشرقي من الصحن الحسيني .
2 ـ وفي سنة 1281 هـ قامت والدة السلطان عبد الحميد العثماني بتشييد خزّان لشرب الماء في الجهة الجنوبية الشرقيّة من الصحن الحسيني .
وقد أرّخ هذا البناء أحد الشعراء بقوله :
سـلسبيل قـد أتـى تأريخه اشرب الماء ولا تنسى الحسينْ
وهناك خزّانان آخران للماء في الصحن الحسيني ، أنشأ إحدى تينك الخزّانين الحاج حبيب الحافظ مقابل الخزان السالف الذكر ، والآخر شُيّد في مدخل باب القبلة سنة 1322 هـ .
3 ـ وفي سنة 1296 هـ غُطّي الجدار الغربي من الحضرة المطل على الصحن بالقاشاني النفيس ، ويوجد تأريخ إتمام العمل في الإيوان البديع الخارج منه المقابل للضريح المقدّس .
وهذا الإيوان آية من آيات الفن المعماري الإسلامي ، يزدان بعقد بديع تتدلّى منه المقرنصات ذات الأشكال الهندسية الرائعة ، وفي أسفلها في القاشاني صورة تاج محلّى بالزبرجد والياقوت ، وأسفل هذه توجد قصيدة عصماء للشاعر الكبير الشيخ محسن أبو الحبّ ( المتوفّى سنة 1305 هـ ) كُتبت على القاشاني بخطّ فارسي بديع ، مطلعها :
الله أكـبر مـاذا الحادث الجللُ لقد تزلزل سهلُ الأرض والجبلُ
هـذه الزفراتُ الصاعدات أسىً كـأنّها شُـعلٌ تـرمى بها شعلُ
كأنّ نفحةَ صورِ الحشر قد فجئتْ فالناس سكرى ولا خمرٌ ولا ثملُ
قامت قيامةُ أهل البيت وانكسرتْ سـفنُ الـنجاةِ وفيها العلم والعملُ
جـلّ الإلـه فـليس الحزنُ بالغَهُ لـكنّ قـلباً حـواه حـزنه جـللُ
مَـنْ الـتجا فـيه يسلم في المعاد ومَن يجحده يندم ولم يرتع له عملُ
قـف عـنده وأعتبر ما فيه إنّ به ديـنَ الإله الذي جاءت به الرسلُ
حتّى يقول :
مـهلاً اُمـية إنّ الله مدرك ما أدركـتموه فـلا تغرركمُ المهلُ
هـناك يعلم مَنْ لم يدرِ حاملها أيّ الـفريقين منصور ومنخذلُ
فيه الحسينُ الذي لا خلق يعدلُه وفيه نوحٌ ومَنْ حنّت له الإبلُ
موسى وعيسى وإبراهيمُ قبلهما وهل تعادل بالرضراضة الحبلُ
4 ـ في سنة 1297 قام السيد جواد السيد حسن آل طعمة ( سادن الروضة الحسينيّة ) بفتح نوافذ من قاعة القبة التي على الضريح الأقدس بقصد إضاءة وتهوية الحرم .
5 ـ وفي سنة 1309 تبرّع تاجر من أهالي شيراز يُدعى عبد الجبار بإكساء النصف الأعلى من المئذنة الشرقيّة وجميع المئذنة الغربيّة بالذهب الإبريز .
6 ـ في 28 ـ 11 ـ 1931 م جرى تعمير مخزن الأمانات ( الخزنة ) .
7 ـ وفي 15 ـ 12 ـ 1931 م جرى تذهيب القسم الأسفل من المئذنة الشرقيّة من قبل أحد المتبرّعين الهنود .
8 ـ سنة 1936 م هدمت مئذنة العبد . راجع الفصل الخاص بوصف المشهد الحسيني .
9 ـ وفي سنة 1945 م قام السيد محمّد آقا الإيراني بتجهيز المرمر اليزدي لجدران الحرم الشريف ( الإزارة ) وفي نفس السنة جرى
دفن جميع السراديب في أروقة الحرم والإيوان القبلي بالأسمنت ، ومنع الدفن بها رسميّاً .
10 ـ وفي سنة 1946 م جرى توسيع مداخل الحرم الشريف ، وبناء أسس القبة بالأسمنت المسلّح ، وكذلك تجديد توازير جميع جدران الحرم والأروقة بالطابوق والأسمنت .
11 ـ سنة 1947 م جرى تجديد قسم من مرايا السقوف داخل الحرم بواسطة لجنة التعميرات .
12 ـ وفي سنة 1948 م جرى تبليط أرضية الحرم الشريف بالرخام البلجيكي من قبل السيد طاهر سيف الدين .
13 ـ في سنة 1948 م جرى تجديد الكُتيبة القرآنية بالكاشي داخل الحرم .
ترميم صندوق الخاتم
14 ـ وفي سنة 1365 هـ قام المتبرّع المرحوم محمّد فولاد زري الإيراني بترميم وإصلاح الجزء المحروق من صندوق الخاتم الذي على الرمس الطاهر ، وبنصب الألواح الزجاجية داخل إطارات مصنوعة من خشب الساج المطعّم بخشب النارنج ، وقد جرى عند إتمامه احتفال عظيم .
وأصل هذا الصندوق هو هدية من كريمة السلطان حسين الصفوي ـ زوجة نادر شاه ـ سنة 1133 كما تشير إليه الكُتيبة الموجودة على الصندوق في الجهة الأمامية ، ولا يثمّن هذا الصندوق لنفاسته ؛ فقد زخرف بأشكال هندسية غاية في الروعة مطعّمة بالعاج .
وعلى أثر غارة الوهابيّين سنة 1216 ، أصاب الصندوق خدوش
واحتراق في بعض جوانبه ؛ فكُسي بطبقات نحاسية وفضية ، وبُرقع بستائر حريرية ، وبقى محفوظاً حتّى سنة 1365 . ويوجد في أسفل الصندوق قرب الباب كُتيبة بخطّ صالح الكلكاوي تشير إلى ذلك .
ترميم الجبهة الشرقيّة من الصحن
15 ـ وفي سنة 1948 بمناسبة فتح شارع الحائر المحيط بالصحن الشريف من قبل متصرّف كربلاء السيد عبد الرسول الخالصي ، تشكّلت لجنة برئاسة السادن السيد عبد الصالح السيد عبد الحسين الكليدار ، وعضوية كلّ من السيد محمّد حسن ضياء الدين سادن الروضة العباسيّة ، والسيد حسن نقيب أشراف كربلاء ، والسيد عبد الرزاق الوهاب ، والحاج محمود القنبر ، والسيد أحمد وفي الرشدي ، والحاج محمّد الشيخ علي لجمع تبرّعات بمبلغ 20000 دينار ؛ لغرض توسيع الصحن من الجهة الشرقيّة ؛ بضم الأملاك التي استملكتها البلدية إلى الصحن الشريف بسعر بدل الاستملاك . وقد تمّ ذلك فعلاً نتيجة للجهود والمساعي الحميدة التي بذلها المتصرّف الآنف الذكر لهذه الغاية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وصفه الطوسي في الفهرست / 25 بقوله : كان من ثقات أصحابنا الكوفيين وفقهائهم وله مصنفات . ثمّ عدد أسماء مصنفاته .
(2) ذكره الشيخ الطوسي في الفهرست / 177 .
(3) كانت ولاية موسى بن عيسى العباسي للكوفة من سنة 169 هـ إلى سنة 171 هـ ( برواية الطبري أبو جعفر ) .
(4) ترجمته في معجم الأدباء ـ لياقوت الحموي 7 / 90 . وقد توفّي في سنة ثلاث وتسعين ومئة ، في السنة التي مات فيها الرشيد ، وهو من طبقة الفقهاء الأدباء .
(5) شاهي : موضع قرب القادسية . ( معجم البلدان 5 / 224 ) ، وقد جاء في مقاتل الطالبيِّين/ 218 أنّ يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين (عليه السّلام) ، عندما أراد الخروج بدأ فزار قبر الحسين (عليه السّلام) ، وأظهر لمَنْ حضره من الزوار ما أراده ، فاجتمعت إليه جميعة من الأعراب ومضى فقصد ( شاهي ) فأقام بها الليل ، ثمّ دخل الكوفة ليلاً وذلك في خلافة المستعين بالله العباسي .
(6) الغاضرية : من نواحي الكوفة قريبة من كربلاء . ( مراصد الإطلاع ـ لابن عبد الحق الحنبلي ) . راجع ص 106 من الكتاب .
(7) نينوى (بالكسر ثمّ السكون ، وفتح النون والواو) : بوزن طيطوى ... وبسواد الكوفة ناحية يُقال لها نينوى منها كربلاء التي قُتل فيها الحسين ( مراصد الإطلاع ) . راجع ص 106 من الكتاب .
(8) جاء في تاج العروس ـ للزبيدي 3 / 164 عن الحير ما لفظه : ( الحير : مخففة من ) الحائر بطرح الألف كما عليه أكثر الناس وعامّتهم ، كما يقولون لعائشة : عيشة . قيل : هو خطأ وأنكره أبو حنيفة أيضاً .
وجاء في 3 / 166 منه : والحير (بفتح فسكون) : . . . ومنه مشهد الحسين بكربلاء كما في الصحاح واللسان ، ومنه المثل من اعتمد على حير جاره . أورده الميداني .
(9) ترجمته في نسمة السحر في ذكر مَنْ تشيّع وشعر 2/ 162 ـ لضياء الدين يوسف الصنعاني المتوفّى سنة 1121 هـ (مخطوط في خزانة كتب المؤلّف) .
(10) زهر الآداب ـ للحصري ، هامش العقد الفريد 2 / 272 .
(11) ابن الهبارية (بفتح الهاء وتشديد الموحّدة وبعد الألف راء) : هذه النسبة إلى هبار ، وهو جدّ أبي يعلى محمّد بن محمّد بن صالح الهاشمي من سلالة الأمير عيسى بن موسى . ولد في بغداد حوالي منتصف القرن الخامس الهجري ، وقد توفي سنة 509 هـ ـ برواية سبط ابن الجوزي ـ بكرمان .
وقال السمعاني في ( الأنساب ) : توفي بعد سنة ستين وأربعمئة . راجع ترجمته في دائرة المعارف الإسلاميّة ـ لجماعة من المستشرقين 1 / 291 .
(12) نسب الحموي في معجم البلدان 6 / 51 هذا البيت والقصيدة إلى أبي دهبل الجمحي في رثائه للحسين (عليه السّلام) .
(13) الشطر الأوّل في البحار 45 / 265 : إذ لم أفز بالنصر من أعدائكم .
قد أورد المجلسي هذه الأبيات أيضاً في بحار الأنوار 45 / 256 ، الطبعة الأخيرة ، نقلاً عن مناقب ابن شهر آشوب ، لكنّه نسب هذه الأبيات إلى أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي .
(14) تذكرة خواص الأمّة في معرفة الأئمّة ـ تأليف يوسف سبط أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي / 154 طبعة طهران سنة 1285 هـ .
(15) الأمالي ـ للطوسي / 207 .
(16) الأمالي ـ للطوسي / 101 .
(17) هو القاضي علاء الدين أبو نصر القاسم بن علي بن الحسين الزينبي البغدادي أقضى القضاة . قال عنه ابن الفوطي في مجمع الآداب ( ج4 ق 2 ) نقلاً عن تأريخ ابن القطيعي : ( ولي أقضى القضاة في أيام المستنجد ، ثمّ ولي الحسبة ـ انظر المنتظم ـ لابن الجوزي 10 / 200 ـ فلم تحمد سيرته وعزل عن الحسبة .
ولم يزل على القضاء إلى أن مات ، واستناب عنه في الحكم بمدينة السلام أبا الخير مسعود بن الحسين اليزدي ... وله رسائل فصيحة ، وقفت له على رسالة في الصيد وأحكامه ، وكانت وفاته في ثالث المحرّم سنة ثلاث وستين وخمسمئة ) .
وقد ذكره أيضاً القرشي في الجواهر المضيئة نقلاً عن تأريخ ابن النجار . (عادل) .
(18) ديوان الأبله البغدادي ( محمّد بن بختيار ) ، مخطوط .
(19) هو المحسن بن علي بن محمّد بن داود بن الفهم التنوخي أبو علي القاضي ، مات سنة أربع وثمانين وثلاثمئة ، ومولده سنة تسع وعشرين وثلاثمئة وهو صاحب كتاب (الفرج بعد الشدّة) في مجلدين ونشوار المحاضرة ، وقد اشترط فيه أنّه لا يضمنه شيئاً نقله من كتاب ، في أحد عشر مجلد .
(20) راجع عن أخبار أبي محمّد البربهاري هذا في تجارب الأمم 5 / 322 ، والكامل 6 / 248 ، التكملة ـ للهمداني / 91 ، وانظر أيضاً في حوادث سنة 323 في جميع المصادر التأريخية ، وقد توفي البربهاري سنة 329 . ( التكملة ـ للهمداني / 121 والأوراق / 212 ) .
(21) نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة ، طبعة مرجليوث الإنكليزي / 218 .
(22) اشتدّت الوطئة على زائري الحائر في عصر الراضي بالله العباسي ( في سنة 323 هـ ) من قبل أبي محمّد البربهاري وأتباعه من الحنابلة ، حيث أنكر هؤلاء زيارة قبور الأئمّة ، ومنعوا الناس من زيارتها .
(23) الفرج بعد الشدّة ـ للتنوخي 2 / 75 ، وقد أورد التنوخي حكاية اُخرى عن زيارة الحائر ، راجعها في ( ص 91 ـ 92 من الكتاب ) .
(24) نشوار المحاضرة ـ للتنوخي / 266 ، طبعة مرجليوث .
(25) إرشاد الأريب ـ لياقوت الحموي 1 / 67 .
(26) إرشاد الأريب ـ لياقوت الحموي 1 / 336 .
(27) ذكره الشيخ الطوسي في رجاله / 89 بقوله : ( كان متكلّماً شاعراً مجوداً ، وله كتب ، وكان يتكلّم على مذهب أهل الظاهر ، وفي النقد ) . وذكره النجاشي أيضاً في رجاله وابن النديم.