تاريخ كربلاء

فيه أنّ الإمام الشهيد أبا عبد اللّه (عليه السّلام) لم يترك القتلى في حومة الميدان ، وإنّما كان يأمر بحملهم إلى الفسطاط الذي يقاتلون دونه ، وهذا وإنْ لم نجده صريحاً في كُلِّ واحد من المُستشهدين إلاّ أنّ التأمّل فيما يؤثر في الواقعة يقتضيه ، وإنّ طبع الحال يستدعيه ، ويؤيّده ما في البحار من حمل الحُرِّ حتّى وُضع بين يديّ الحسين (عليه السّلام) ، وعند سقوط علي الأكبر أمر الحسين (عليه السّلام) فتيانه أنْ يحملوه إلى الفسطاط الذي يُقاتلون دونه ، وقد حمل القاسم بنفسه المُقدّسة حتّى وضعه مع ابنه الأكبر ، وقتلى حوله من أهل بيته (عليهم السّلام).
هذا لفظ ابن جرير وابن الأثير ، ومن البعيد جدّاً أنْ يحمل سيّد الشُّهداء (عليه السّلام) أهل بيته خاصّة إلى الفسطاط ويترك اُولئك الصفوة الأكارم الذين قال فيهم : ) لا أعلمُ أصحاباً أولَى ولا خيراً مِنْ أصحابي . (ففضّلهم على كُلِّ أحد حتّى على أصحاب جدّه وأبيه (صلوات الله عليهما وآلهما) ، وإنّ كُلّ أحد لا يرضى من نفسه هذه الفعلة ، فكيف بذلك السيّد الكريم الذي علّم النّاس الشّمم والإباء والغيرة ؟!
على أنّ الفاضل القزويني يحكي في تظلّم الزهراء (عليها السّلام) ص118 عن غيبة النّعماني : أنّ أبا جعفر الباقر (عليه السّلام) يقول : (كان الحسينُ يضع قتلاه بعضَهُمْ معَ بعضٍ ، ويقول : قتلةٌ مثلُ قتلةِ النَّبيِّينَ وآلِ النَّبيِّين) (1) .
نعم ، ممّا لا شكّ فيه أنّه (عليه السّلام) ترك أخاه العبّاس في محلّ سقوطه قريباً من المسنّاة ، لا لما يمضي في بعض الكتب من كثرة الجروح وتقطّع الأوصال ، فلم يقدر على حمله ؛ لأنّ في وسع الإمام (عليه السّلام) أنْ يُحرّك ذلك الشلو المُبضَّع إلى حيث أراد ومتى شاء ؛ وإلاّ لِما قيل : من أنّ العبّاس أقسم عليه بجدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) أن يتركه في مكانه ; لأنّه وعد سكينة بالماء ويستحي منها (2); لعدم الشاهد الواضح على كُلِّ منهما .
بل إنّما تركه لسرّ دقيقٍ ، ونكتة لا تخفى على المتأمّل ومَن له ذوق سليم ، ولولاه لم يعجز الإمام (عليه السّلام) عن حمله مهما يكن الحال ، وقد كشفت الأيّام عن ذلك السّرّ المصون ، وهو : أنْ يكون له مشهد يُقصد بالحوائج والزيارات ، وبقعة يزدلف إليها النّاس وتتزلّف إلى المولى سبحانه تحت قبته التي تحك السّماء رفعةً وسناءً ؛ فتظهر هنالك الكرامات الباهرة ، وتعرف الاُمّة مكانته السّامية ومنزلته عند اللّه ؛ فتُقدّره حقّ قدره ، وتؤدّي ما وجب عليهم من الحبّ المتأكّد والزورة المتواصلة ، ويكون (عليه السّلام) حلقة الوصل بينهم وبين اللّه تعالى ، وسبب الزلفى لديه .
فشاء المهيمن تعالى شأنه ، وشاء وليُّه وحُجّته أنْ تكون منزلة أبي الفضل الظاهريّة شبيهة بالمنزلة المعنويّة الاُخرويّة ، فكان كما شاءا وأحبّا .
ولو حمله سيّد الشُّهداء (عليه السّلام) إلى حيث مجتمع الشُّهداء في الحائر الأقدس لغمره فضل الإمام الحُجّة (عليه السّلام) ، ولم تظهر له هذه المنزلة التي ضاهت منزلة الحُجّج الطاهرين (عليهم السّلام) ، خصوصاً بعد ما أكّد ذلك الإمام الصادق (عليه السّلام) بإفراد زيارة مُختصّة به ، وإذناً بالدخول إلى حرمه الأطهر كما شُرّع ذلك لأئمّة الهدى (عليهم السّلام) ، غير ما يُزار به جميع الشُّهداء بلفظ واحد ، وليس هو إلاّ لمزايا اختُصّت به .
وقد أرشدتنا آثار أهل البيت (عليهم السّلام) على هذا الموضع من مرقده الطيّب ، ففي كامل الزيارات لابن قولويه ص256 بسند صحيح عن أبي حمزة الثمالي ، عن الصادق (عليه السّلام) قال : إذا أردتَ زيارةَ العبّاسِ بنِ عليٍّ وهو على شطِّ الفُراتِ بحذاء الحَيْر ، فقف على باب السّقيفة ، وقل : سلامُ اللّهِ وسلامُ ملائكتِهِ) . . . .
وحكى المجلسي ـ أعلى اللّه مقامه ـ في مزار البحار ، عن الشيخ المفيد وابن المشهدي زيارةً اُخرى له في هذا المشهد الذي أشار إليه الصادق (عليه السّلام) ، برواية غير مُقيّدة بوقت من الأوقات . وهكذا حُكي عن المفيد والشهيد والسيّد ابن طاووس في زيارة النّصف من رجب ، وليلة القدر ، ويومَي العيدين ، ومثله العلاّمة النّوري في تحيّة الزائر .
وعبارة المفيد في الإرشاد صريحة فيما نصّت به رواية أبي حمزة الثمالي ؛ فإنّه قال عند ذكر مَن قُتل من آلِ الحسين (عليه السّلام) : وكلُّهم مدفونون ممّا يلي رجلَي الحسين (عليه السّلام) في مشهده ، حُفر لهم حفيرة واُلقوا فيها جميعاً . . . إلاّ العبّاس بن عليٍّ رضوان اللّه عليه ، فإنّه دُفن في موضع مقتله على المسنّاة بطريق الغاضريّة ، وقبره ظاهرٌ ، وليس لقبور إخوته وأهله الذين سمّيناهم أثرٌ ، وإنّما يزورهم الزائر من عند قبر الحسين (عليه السّلام) ، ويومئ إلى الأرض التي نحو رجليهِ بالسّلام ، وعلي بن الحسين في جملتهم ، ويُقال : إنّه أقربهم دفناً إلى الحسين (عليه السّلام) . فأمّا أصحاب الحسين (عليه السّلام) الذين قُتلوا معه ، فإنّهم دُفنوا حوله ، ولسنا نحصل لهم أجداثاً على التحقيق ، إلاّ أنّا لا نشكّ أنّ الحائر محيطٌ بهم(3) .
وعلى هذا مشى العلماء المُحقّقون والمُنقّبون في الآثار من كون مشهده بحذاء الحائر الشريف ، قريباً من شطّ الفرات ، نصّ عليه الطبرسي في إعلام الورى ص147 ، والسيّد الجزائري في الأنوار النّعمانيّة ص344 ، والشيخ الطُّريحي في المنتخب ، والسيّد الداودي في عمدة الطالب ص349 ، وحكاه في رياض الأحزان ص39 عن كامل السّقيفة(4) .
وهو الظاهر من ابن إدريس في السّرائر ، والعلاّمة في المنتهى ، والشهيد الأوّل في مزار الدروس ، والأردبيلي في شرح الإرشاد ، والسّبزواري في الذخيرة ، والشيخ آقا رضا في مصباح الفقيه ؛ فإنّهم نقلوا كلام المفيد ساكتين عليه(5) .
ملاحظة :
تقدّم في نقل البحار أنّ الحُرَّ الرياحي حُمل من الميدان ووُضع أمام الحسين (عليه السّلام) ، وعليه يكون مدفوناً في الحائر الأطهر .
ولكن في الكبريت الأحمر ج3 ص124 جاءت الرواية عن مدينة العلم للسيّد الجزائري : إنّ السجّاد (عليه السّلام) دفنه في موضعه ، مُنحازاً عن الشُّهداء . وفي ص75 ذكر أنّ جماعة من عشيرته نقلوه عن مصرع الشُّهداء ؛ لئلاّ يُوطأ بالخيل إلى حيث مشهده ، ويُقال : إنّ اُمّه كانت معه ، فأبعدته عن مجتمع الشُّهداء .
وإذا صحّ حمل العشيرة إيّاه إلى حيث مشهده ، فلا يتمّ ما في مدينة العلم من دفن السجّاد (عليه السّلام) له ؛ فإنّه من البعيد جداً أنْ تحمله العشيرة ثُمّ تترك عميدها في البيداء عرضة للوحوش ، بل لم يعهد ذلك في أي اُمّةٍ وملّة .
وعلى كُلٍّ ، فهذا المشهد المعروف له ممّا لا ريب في صحته ; للسيرة المستمرة بين الشيعة على زيارته في هذا المكان ، وفيهم العلماء والمُتديّنون .
ويظهر من الشهيد الأوّل المصادقة عليه ؛ فإنّه قال في مزار الدروس : وإذا زار الحسين (عليه السّلام) فليزر عليَّ بن الحسين ، وهو الأكبر على الأصح ، وليزر الشُّهداء وأخاه العبّاسَ والحُرَّ بنَ يزيد (6)
و وافقه العلاّمة النّوري في اللؤلؤ والمرجان ص115 ، واعتماد السّلطنة محمّد حسن المراغي ـ من رجال العهد النّاصري ـ في حجّة السّعادة على حجّة الشهادة ص56 طبع تبريز .
وقال المجلسي في مزار البحار عند قوله (عليه السّلام) في زيارة الشُّهداء العامّة : فإنّ هناك حومة الشُّهداء . المراد منه معظمهم أو أكثرهم ، لخروج العبّاس والحُرِّ عنهم (7) .
ويشهد له ما في الأنوار النّعمانية ص345 : إنّ الشاه إسماعيل لمّا ملكَ بغداد ، وزار قبر الحسين (عليه السّلام) ، وبلغه طعن بعض العلماء على الحُرِّ ، أمرَ بنبشه لكشف الحقيقة ، ولمّا نبشوه رآه بهيئته لمّا قُتل ، ورأى على رأسه عصابة قيل له : إنّها للحسين (عليه السّلام) ، فلمّا حلّها نبع الدَّمُ كالميزاب ، وكُلّما عالج قطعة بغيرها لم يتمكّن ، فأعادها إلى محلّها ، وتبيّنت الحقيقة ، فبنى عليه قبَّةً وعيّن له خادماً ، وأجرى لها وقفاً .
ــــــــــــــــــــ
(1) الغيبة للنعماني / 219 ، والنّص) : كان الحسينُ بنُ عليٍّ يضعُ قتلاه بعضَهُمْ إلى بعضٍ ، ويقول : قتلانا قتلَى النَّبيِّين) .
(2) الدمعة السّاكبة 4 / 324 ، قال : أقول : وفي بعض الكتب المعتبرة : إنّ من كثرة الجراحات الواردة على العبّاس (عليه السّلام) لم يقدر الحسين (عليه السّلام) أنْ يحملهُ إلى محل الشُّهداء ، فترك جسده في محلّ قتله ورجع باكياً حزيناً إلى الخيام .
(3) الإرشاد للشيخ المفيد 2 / 126 .
(4) مناقب آل أبي طالب 3 / 256 .
(5) السّرائر 1 / 342 ، منتهى المطلب 1 / 395 ، ذخيرة العباد / 413 ، غنائم الأيّام 2 / 132 ، جواهر الكلام 14 / 340 ، مصباح الفقيه 2 / 761 ، كتاب الصلاة للشيخ الحائري / 655 ، مُستمسك العروة الوثقى للحكيم 8 / 188 .
وفي مزار الدروس 2 / 25 : . . . ثُمّ يزور الشُّهداء ، ثمّ يأتي العبّاس بن عليٍّ (عليه السّلام) فيزوره . . .
(6) الدروس للشهيد الأوّل 2 / 11 والعبارة بالمعنى ، الينابيع الفقهيّة 30 / 493 .
(7) بحار الأنوار 45 / 65 ، و98 / 369 ، المزار للمشهدي / 486 ، إقبال الأعمال 3 / 73 .