دراسات حول المنبر
بحوث و مناظرات

س : هل للرادود الحسيني ذلك التأثير المهم لاجتذاب المعزّين ؟
الرادود الحسيني هو قطب الرحى المحرّك في المواكب العزائيّة وهو يشكّل العمود الفقري لإنجاح مسيرة العزاء ؛ لذلك يحتاج الرادود إلى مؤهّلات تؤهّله . ومن أبرز تلك المؤهّلات قوّة وحلاوة الصوت وفوق كلّ ذلك الالتزام الديني والأخلاق واحترام الناس .
أيضاً من جملة المؤهّلات انتقاء القصائد والحرص على جودتها وتلحينها بالألحان المقبولة اجتماعياً ودينياً .
لماذا كلّ هذه المؤهّلات مطلوبة في شخصية الرادود ؟
لأنّ هذه المواصفات تجعل من الرادود الحسيني أن يكون مثلاً وقدوة يقتدي به مَنْ يأتي من بعده في هذا الطريق السامي .
أيضاً الرادود الحسيني الناشئ المحترف بحاجة إلى إتقان بعض الأساسيات والفنون الذي يقوم عليها نجاح الموكب العزائي هكذا تحدّث الرادود البحريني الجدير عبد الشهيد الثور : لو ألقينا أنظارنا إلى مواكبنا بصورة عامّة سنجدها في أغلبها الأعم لا تخرج عن أربعة فنون وإن زاد في بعض الحالات فن هنا وقصر منها فن هناك .
نجد الموكب يتكوّن من :
1 ـ الهواس .
2 ـ الوقفة .
3 ـ داخل المأتم .
4 ـ خارج المأتم .
ولهذا أراني أفضل إدخال الرادود مع بداياته في دورة تدريبية تعبر الفنون الأربعة السابقة على التوالي .
ينتقل من فن إلى الثاني بعد اجتياز الفن الأول بنجاح وليثبت للفريق المشرف على أدائه مدى مهارته وكيف سيتميز في فن دون الآخر . هذا طبعاً بعد أن تكون أربعة فرق يعمل كلّ فريق على حدة مع النظر لمتطلبات الفرع المختصّ هو فيه .
وهذا لا يمنع من إجراء لقاءات دورية بين الفرق الأربعة وتبادل وجهات النظر ورفع ايجابيات كلّ قسم وسلبياته لبعضهم البعض على أن يكون العمل كفريق وليس فردياً بمعنى أن يتحمّل الفريق نجاح وفشل الرادود بكونه متابعاً لتوجيهه وتسديد مساره .
ثمّ تتابع وقال : بهذه المنهجية نؤسس منهجاً جديداً في إخراج رواديد جدداً يعتمدون على التوجيه المنظّم والتأهّل في مسلسل المراحل الآنفة ؛ يقيّم مستوى الرادود في أيّها أقوى ولا يلحق بمرحلة حتّى ينجز تمكنه من المرحلة السابقة وبعد التقييم يرجح له أيّ مرحلة هو الأقوى فيها ليتم له التخصص فيها وبهذا نكون قد أسسنا لفن التخصص ونقلنا الموكب لمرحلة النشاط والتنافس الشريف والعطاء المنظّم والقوّة المحكمة .
وهكذا كان يتحدّث الرادود الحسيني الشهير الحاج ملا باسم الكربلائي عن تجربته الاحترافية الرائدة ويفصح للملايين من المعزّين الذين يتابعون إنجازاته الرثائية في كلّ عام ويقول عن بداياته : كانت بدايتي في إيران بعد أن هجّرنا من طرف النظام العراقي في عام 1980 , وقد بدأت قارئاً للقرآن واستمررت لخمس سنوات أي لغاية 1985م . كان عندي أستاذ في إيران اسمه محمّد تقي الكربلائي فطلبت منه قصائد حتّى أقرأها في العزاء فاستهزأ بي آنذاك فحزنت وحملت عليه في قلبي وعندما أحس بذلك أعطاني بعض القصائد لأقرأها في العزاء وكانت قصيدة كان يقرأها الرادود الحسيني المعروف (الشيخ هادي الكربلائي) والتي تقول : ( يحمى الدخل يا حسين / كلّ اللوادم ايشهدون / بر وبحر مو منكور/ جن وانس يعترفون) وأمّا القصيدة الثانية فكان مطلعهما : ( مر على الشاطئ يحادي ارچابنا) .
أعطاني هاتين القصيدتين وأخذت أتمرّن عليها وبدأت في مدينة (قم المقدّسة) في ذكرى وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وقد بدأت بموكب الزنجيل حيث كانت المواكب الكربلائية كلّها تجتمع عند سماحة المرجع المرحوم السيد محمّد الشيرازي (رحمة الله عليه) وبعد أدائي الأوّل صار إعجابٌ من الناس وتشجيع على الاستمرار وقال لي الكثيرون بأنّ لك شأناً في هذا المجال . ومنذ تلك التجربة الأولى في عام 1980 وإلى اليوم أنا مستمر والحمد لله .
وأتحفنا الرادود الحسيني الكبير القدير الحاج ملا جليل الكربلائي عن بدايات احترافه عبر سؤال في مقابلة قد وجه له فأجاب وهو يبتسم كعادته قائلاً : أستطيع القول بأنّ بدايتي كانت في العراق مذ كان عمري 13 سنة تقريباً إذ كان والدي يأخذني إلى المرحوم حمزة الصغير وكان (رحمه الله) يقول لي : (اقرأ عمو شويه) .
فكنت أقرأ له ممّا حفظته من قصائده فسألني ذات مرّة : (هواي تقرأ لو قليل ؟) . فأجبته : أنا أقرأ في البيت فقط ولا أعرف إن كانت قراءتي صحيحة أم لا .
فقال لأبي : (إذا يقرأ ويصير عنده عوار بگصته فهذا يصير رادود) . (هسه ما أدري كان يمزح وياي (رحمة الله عليه) لو حقيقة كانت ؟ ما أدري !) .
ومن ذلك اليوم وأنا مولع بالقراءة ولم أتركها أبداً حتّى صار التهجير من العراق إلى إيران في السبعينات وبدأت أقرأ في هيئة الفاطمية بأصفهان وبقيت حوالي 10 سنوات أقرأ فيها لكنّني آنذاك لم أكن معروفاً مثل اليوم فلم تكن لي تسجيلات كثيرة حتّى الثمانينات حيث دعيت للقراءة في مواكب كبيرة في قم المقدّسة وطهران ومشهد ومعظم المدن الإيرانية وأصبح لي تسجيلات صوتية كثيرة جداً .
ثمّ قال الملا جليل : لكن الرادود الاعتيادي كيف يضع الأطوار ؟ هذه أقولها للشباب الذين يطمحون لخدمة الحسين (عليه السّلام) بمجال الرادودية .
الرادود لمّا يسمع قصائد تواشيح أناشيد يصبح عنده خزين كبير في ذاكرته ومع مرور الوقت يصبح لديه خبرة بوضع الأوزان على الأطوار المخزونة عنده ؛ ولذلك تراه يأتي بمقطوعة من مقام الحجاز مثلاً ومقطوعة من مقام الكرد ويزاوج بينهما بعملية ذوقية غير مخطّط لها وبدون أن يعرف الرادود ما الذي عمله ونتج الطور .
وأنا اُحذّر الرواديد الشباب خاصة من إهمال الحالة الروحانية لا تجعلوا الأطوار تطغى على أصالة المنبر وقدسيته ؛ هذا منبر مقدّس . قبل كم يوم قلت : في طهران ليلة مولد العباس (عليه السّلام) قبل كم سنة جاؤوا بطفل أعمى إلى المجلس فإذا به يخرج مبصراً . المنبر الذي يعطي هكذا معاجز وكرامات طيب كيف يجوز لي أن أقول من عليه أيّ كلام وآتي بأيّ تصرّف ؟!
وأجرت شبكة السادة الإسلاميّة المباركة لقاء مع الرادود الحسيني البحريني المميز الشيخ حسين الأكرف (حفظه الله) وقد بدأت المحاورة معه بهذا السؤال : كيف كانت بدايات خدمتكم في موكب العزاء على سيد الشهداء (عليه السّلام) ؟ هل كان للبيئة التي تربيتم فيها (سواء المنزل أو المنطقة) تأثير كبير على بداياتكم ؟ وما هو مدى تأثير والديكم على إظهار هذه الملكة (إلقاء القصيدة العزائيّة والشعر) ؟
فأجاب الشيخ الأكرف : بدايتي كانت بلطف الله وعنايته في العام 1985م في قريتي الدراز وبالتحديد في مأتم أنصار العدالة وكانت القصيدة الأولى من ألحان المرحوم حمزة الصغير وكلمات والدي الحاج أحمد الأكرف كنت حينها في الحادية عشر من العمر قبل ذلك كنت منشداً في فرقة الإمام الصادق (عليه السّلام) للأناشيد الإسلاميّة وقبلها كنت في فرقة جمعية التوعية الإسلاميّة منذ عام 1983م .
ولبيئتي (الدرازية) كبير الأثر في توجهي الحسيني والحوزوي بعد ذلك ؛ فقريتي من القرى المعروفة بتاريخها العلمائي وتمسّكها الديني فهي الأصل الذي ينتمي له الشيخ يوسف العصفور صاحب الحدائق (قدّ سره) . كما إنّ لوالدي العزيزين عظيم الأثر في توجهي هذا ؛ فإنّ الوالد كان رادوداً وشاعراً حسينياً مجيداً ووالدتي دوماً تحفّزني وتشجّعني لخدمة الحسين (عليه السّلام) .
وحول سؤال : إنّه كثر في الآونة الأخيرة بين الرواديد ما يعرف بالألحان العزائيّة وهي ظاهرة وإن كانت تهدف إلى تطوير الأداء فما رأي سماحتكم في ذلك ؟
فأجاب الرادود الشيخ : اللحن يستنطق معاني الكلمة ويعطيها لغة مؤثرة ووقعاً خاصاً في النفوس فقد تكون الكلمة بلا لحن باهتة اللون ضعيفة الوقع لكنّها في قالب اللحن يكون لها نبض وتجري فيها الروح ؛ لهذا فإنّ اهتمام الرواديد باللحن وتطويره ومحاولة التنويع فيه هو أمر يخدم القضية الحسينيّة ويحافظ على حضورها في العواطف والعقول .
ولكل جيل من الرواديد ذوقه الخاص وحسّه المختلف بحسب اختلاف الظروف والانتماءات والقضايا ؛ فالحزن البالغ في الألحان العراقية العزائيّة يكشف عن واقع الألم الذي يتأثر به الرادود العراقي والحماسة والثورة فيه إلى جانب الحزن في اللحن البحراني يكشف عن هذا الواقع المعاش في البحرين وهكذا .
كلّ ما هناك هو أنّ علينا أن نراعي في اللحن المناخ الإسلامي والطبيعة الموكبية واللمسة الحسينيّة والولائية وأن لا نهبط باللحن إلى أجواء اُخرى لا تنتمي للحسين (عليه السّلام) ولا تخدم قضيته .
وفي حوار أجرته جريدة الرأي العام مع الرادود خادم أهل البيت (عليهم السّلام) نزار القطري (حفظه الله تعالى) سأله المحاور عن التعريف ببطاقته الشخصية فقال : اسمي نزار فضل الله رواني المعروف بـ ( نزار القطري ) ؛ وذلك انتساباً لمسقط رأسي الدوحة الحبيبة .
من مواليد 1971 جنسيتي بريطاني أتكلم 4 لغات بطلاقة متزوّج ولدي كوثر وحسين وأعمل حالياً كـ (مونتير) في تلفزيون الرأي ـ قسم الأخبار .
وفي سؤال وجّهه الأخ السائل له في المقابلة حول ما هي الرسالة التي يريد توجيهها للجمهور من خلال الإنشاد فأجاب الرادود نزار قائلاً : بكلّ صدق ووضوح هي الرجوع إلى الدين وعندما أقول ذلك لا أقصد الإسلام فقط بل أقصد الرجوع إلى الفضيلة والقيم الأخلاقيّة التي تأمر بها جميع الأديان السماوية بوجه عام .
فانّ الهدف من الأناشيد ليس تقديم شيء لتمضية وقت الفراغ في سماعه ولكن هو تقديم شيء يعود علينا بالمنفعة الدينيّة ؛ كذكر الله تعالى أو مدح النبي (صلّى الله عليه وآله) ؛ فإنّ سماع شيء يرضي الله ورسوله أحبّ إليهما من سماع شيء يغضبهما .
وحول أهمية تأثير الرادود الحسيني على الجماهير كتب الكاتب الحسيني أحمد رضا تحت عنوان ( الموكب الحسيني تأريخه وأهدافه) : والرادود يعتبر محور حركة الموكب الحسيني والقطب الرئيس في تشكيل عواطف الجمهور وشحنها بالحماس الممزوج بعاطفة الحزن والبكاء على مقتل الإمام الحسين وأهل بيته الأطهار (عليهم السّلام) .
وعادة ما يتفاوت الرواديد حسب أعمارهم وخبراتهم ومن الضروري أن يكون الرادود الحسيني قدوة أخلاقيّة في المجتمع وعنصراً اجتماعياً نشطاً في المجال الثقافي أو السياسي .
وقد لعبت المواكب الحسينيّة عبر مختلف عصور التاريخ أدواراً بارزة في تشكيل العقل الجمعي وتعبئة الجماهير بالحماس وتترافق مع هذه الشعائر بعض الأعمال الإيجابية ؛ كحملات التبرّع بالدم أو فتح مراسم فنيّة أو عرض فنون تمثيلية ومسرحية بالإضافة إلى النشاط الإعلامي (بالصوت والصورة) المرافق للمواكب الحسينيّة .
وأصبحت هذه الشعائر ممارسة تتوارثها الأجيال ورسالة إعلاميّة لجماهير متعطّشة للحرية والعدل والتضحية من أجل الأهداف النبيلة التي وظّفها الإمام الحسين (عليه السّلام) في نهضته الخالدة .
أيضاً لي كلمة مختصرة في هذا الصدد : أيّها الأحبّة إنّي أضمّ صوتي إلى صوت الرادود الأخ نزار القطري وأقول : بالفعل إنّ ما كان لله ينمو ؛ إنّنا إذا ساهمنا وبذرنا بذرة الخير فسوف تثمر وتينع ثمارها بالخير والناشئون من أبناء هذا الجيل الحسيني الصاعد ما هم إلاّ أمانة الله في أعناقنا جميعاً فيجب علينا أن نبادر ونأخذ على عاتقنا مسؤولية تأهيلهم ؛ لكي يصبح الموهوب منهم من جملة ركب خدمة أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) .
وإنّي على ثقة وبكلّ تأكيد أرى بأنّ هناك في هذا الجيل الولائي الناشئ مَنْ له القابلية على التعليم والتدريب والتأهيل على أن يصبحوا رواديدَ كباراً في المستقبل ولدينا من الأصوات في عذوبة جمالها وجهوريتها ولكنّها مختبئة تحت الرماد تريد مَنْ ينبشها حتّى تشتعل وتطلق تلك الموهبة المغيبة .
وخير مثل وشاهد لنا ما قاله الأخ الرادود باسم الكربلائي حيث ذكر لنا أنّه درّب أحد الأشخاص وبعد فترة أتقن هذا المتدرّب الألحان ويلحن القصائد العزائيّة ثمّ أصبح الملا باسم نفسه يأخذ من ألحانه ويلقيها .
فدعونا أيّها الإخوة أن لا نبخل على سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السّلام) بفلذات أكبادنا ؛ فلندفعهم ونشجعهم ونزجهم في هذا الميدان بكلّ افتخار .
س : إلى أيّ مستوى نريد أن نصل بتطوير مسيرة المواكب العزائيّة الرثائية المقدّسة ؟
تفعيل لجان المواكب العزائيّة
من الملاحظ لدى الجميع أنّ أيّ لجنة من لجان المواكب العزائيّة في مختلف مناطق العالم هي تابعة للمأتم نفسه ورواد هذه اللجان في الغالب يكونون من المتطوّعين .
وهنا حري بي أن أقف وقفة إجلال وثناء لخدمة أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) هؤلاء الرجال من الأوفياء الصادقين ودليل صدقهم وإخلاصهم هو عطاؤهم الوافر المثمر والسهر على أن تخرج المسيرات العزائيّة بانتظام وأن يحيوا ذكريات المعصومين الطاهرين (عليهم السّلام) يرجون بذلك رضاهم .
وهذا التطوّع لا أحد يستهين به ؛ لأنّه يثلج فؤاد الرسول (صلّى الله عليه وآله) ويسرّ قلب الزهراء البتول (عليها السّلام) كم هو عظيم عند الله عزّ وجلّ وعند أهل البيت (عليهم السّلام) من يسخّر نفسه في خدمة مَنْ تخدمهم الملائكة .
قد يستصغر البعض من الناس أن يقف في الطريق ويسقي المارة من المعزّين شربات من الماء أو من العصير البارد ويبرّد على قلوبهم على حبّ الحسين (عليه السّلام) هذا العمل الذي نراه صغيراً فهو عند الله كبير وعظيم وثوابه لا يُعد ولا يُحصى وله رصيد وافر في الآخرة ؛ من هنا أيّها الأحبّة ينبغي أن نزجّ بفلذات أكبادنا أن تخدم أهل البيت (عليهم السّلام) في أثناء خروج المواكب العزائيّة .
نحن كما نوضّح لأبنائنا الأجر والثواب الذي يحصل عليه الباكي على الحسين (عليه السّلام) في المقابل لا نبخل على هؤلاء الناشئين ذوي النفوس البريئة النقية أن نغرس في ذواتهم منذ صغرهم كيف يخدمون الحسين (عليه السّلام) حتّى يصبحوا من خدمة أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ وبالتالي تستمر مسيرة الخير والعطاء وتزدهر المواكب الحسينيّة بالمضحّين من ذوي الفاعلية.