دراسات حول المنبر
بحوث و مناظرات

بعد أن اكتملت مراحل الخطابة ، ومضى عليها الخطيب المبتدئ , فإنّ هناك جملة من الاُمور المكمّلة له ينبغي الاتّصاف بها :
آداب الخطيب
وهي الآداب التي يظهر بها الخطيب عند الخطبة :
أ ـ سداد الرأي
وهو يكون بدراسته للموضوع الذي يخطب فيه دراسة تامّة ؛ فإنّ الرأي المحكم لا يكون إلاّ بدراسة عميقة ، وإحاطة تامّة ، واطّلاع واسع ، وعلم غزير ، وفكر قويم .
وليس معنى ذلك إنّه لا يخطب إلاّ إذا كان محضّراً مهيّأ للكلام ، بل المراد أن لا يتكلّم إلاّ في موضوع سبقت له دراسته والإحاطة به ؛ حتّى يكون كلاماً مسدّداً ؛ سواء كان يلقي الخطبة بعد تهيئة ، أم يلقي الكلام ارتجالاً من غير سابقة تحضير ، وإن كان المرتجل لا يحسن ارتجاله في كلّ الأحوال .
فعلى الخطيب ألاّ يخوض في حديث ليس له به علم ؛ حتّى لا يشطّ فيبدي رأياً فطيراً ، والرأي الفطير مبتسر لا ينال الحقّ من كلّ نواحيه ، وقد يكون مع الحقّ على طريق نقيض .
واعلم أنّ سداد الرأي دعامة الخطيب الأولى ؛ لكي يثق الجمهور بفكره ويتّجه إلى رأيه(1) .
ب ـ صدق اللهجة
وهو أن يظهر الخطيب مخلصاً فيما يدعو إليه ، حريصاً على الحقيقة فيما يعمل ؛ فإنّه إن ظهر كذلك وثق الناس به وصدّقوه فيما يدعو إليه ، وأحسّوا بأنّه شريف تجب إجابته لشرفه وشرف ما يدعو إليه .
ومن أجل أن يكون الإخلاص بادياً يجب أن يكون من حاله ما يطابق مقاله ، فلا يتجافى عمله عن قوله ، بل يكون أكثر الناس أخذاً بقوله .
ومن علامات صدق اللهجة ألاّ يسرف في مدح ولا ذمّ ، ولا في وعد ولا وعيد ؛ فإنّ الإسراف مظنّة الكذب ، والاعتدال مظنّة الصدق . وأن يكون نزيه اللسان مستقيم العمل ؛ فلا يكون فاحشاً في تعبيره , ولا متّجهاً إلى الألفاظ الماجنة في خطبته(2) .
ج ـ التودّد مع السامعين
أن يكون الخطيب متواضعاً لهم ، وأن يكون ممّن يألِفون ويُؤلَفون ، فلا يكون جافياً خشناً قاسياً ، وإن لم يكن هناك ما يقتضي مدحهم فلا يذكرهم بسوء , وأن يبيّن لهم أنّه يسعى في مصلحتهم ، وأنّه يؤثرهم على نفسه ، وأن لا يكون له غرض شخصي ؛ فإنّ الغرض الشخصي يدخل الريبة إلى قوله فيتجافى السامعون عنه(3) .
صفات الخطيب الكامل
بعد بيان ما يجب أن يدرع به الخطيب عند ملاقاة السامعين ، وما يجب أن يلاقيهم به ، وجب أن نذكر صفات الخطيب الكامل أو القريب منه التي رسخت في نفسه الخطابة حتّى صارت ملكة فيه أو كالملكات ، والتي بمجموعها يمتاز الخطباء عن غيرهم من المتكلّمين ، والتي هي القدرة على كلّ ما يوضع في عنق الخطيب من تكاليف البيان ، وهذه هي :
أ ـ قوّة الملاحظة
يدرك بها أحوال السامعين عند إلقاء خطبته ، أهم مقبلون عليه فيسترسل في قوله ويستمر في نهجه ، أم هم معرضون عنه فيتّجه إلى ناحية اُخرى يراها أقرب إلى قلوبهم ، وأدنى إلى مواطن التأثير فيهم ؟
يجب أن تكون نظرات الخطيب إلى سامعيه نظرات فاحصة كاشفة ، يقرأ من الوجوه خطرات القلوب ، ومن اللمحات ما تكنّ نفوسهم نحو قوله ؛ ليجدّد من نشاطهم ، ويذهب بفتورهم ، ولتصل روحه بأرواحهم ، ونفسه بنفوسهم(4) .
ب ـ حضور البديهية
وهي تسعفه بالعلاج المطلوب إن وجد من القوم إعراضاً ، والدواء الشافي إن وجد منهم اعتراضاً . وقد يلقي الخطيب خطبته ، فيعقّب بعض السامعين معترضاً ، أو طالباً الإجابة عن مسألة ، أو أيّ حدث مفاجئ ؛ فإذا لم تقدّم البديهة الحاضرة كلاماً قيّماً يسدّ به الخلّة ويدفع به الزلّة ، ضاعت الخطبة وأثرها(5) .
ج ـ طلاقة اللسان
اللسان أداة الخطيب الأولى ، فلا بد أن تكون الأداة سليمة كاملة ؛ ليتسنّى له استعمالها على أكمل وجه وأتمّه(6) .
ومن طلاقة اللسان ، أن تكون عنده قوّة البيان من غير تلعثم في أقواله ، أو تردّد في عباراته .
د ـ رباطة الجأش
تحدّثنا عن ذلك بالتفصيل .
هـ ـ القدرة على مراعاة مقتضى الحال
مراعاة مقتضى الحال لبّ الخطابة وروحها ، فلكلّ مقام مقال ، ولكلّ جماعة من الناس لسان تخاطب به ، فلكلّ مقام نوع من الأساليب .
ففي مقام التحميس والتهديد مثلاً نختار الأساليب الفخمة والعبارات الضخمة ، وفي بعض مقامات التأبين وإظهار الألم والأسى نختار العبارات السهلة الرقيقة المؤثرة .
ولكلّ قوم خطاب ؛ فالعامّة نختار لهم العبارات الساذجة حتّى لا تعلو على أفهامهم ، ولا تسمو على مداركهم ، والعلماء يخاطبون بعبارات منتقاة دقيقة محكمة . ولكلّ خطيب عبارات تستحسن منه ؛ فمن الخطباء مَنْ لا يجمل منهم الهزل ، ولا يليق بهم إلاّ الجدّ ، فلا يصح أن يكون في كلامهم إلاّ ما هو مقبول منهم(7) .
الصفات المتفاوتة
هذه جملة من الصفات التي يتفاوت الخطباء في الاتّصاف بها ، وهي تختلف عن الصفات السابقة ، فتلك ممّا يجب الاتّصاف بها ، أمّا هذه فهي من المكمّلات للخطيب ، وهي اُمور :
أ ـ قوّة العاطفة
لا يؤثّر إلاّ المتأثر ، ولا يثير الحماسة في قلوب السامعين إلاّ مَنْ امتلأ حماسةً فيما يدعو إليه ، واعتقاداً بصدقه ؛ لأنّ ما يخرج من القلب يدخل القلوب من غير استئذان ، وكما أنّ الماء الذي علا سطحه ينساب في المجرى المنخفض ، كذلك ذو العاطفة العالية ، والحماسة الشديدة هو الذي ينحدر من فيه الشعور ألفاظاً ، والعواطف عبارات وأساليب تلهب الحسّ ، وتوقظ الضمير ، وتثير الحميّة ، وتحفّز الهمّة .
لا بدّ أن تكون حماسة الخطيب أقوى من حماسة سامعيه ؛ ليفيض عليهم ، ويروي غلّتهم ، وإلاّ أحسّوا بفتور نفسه فضاع أثر قوله(8) .
ب ـ النفوذ وقوة الشخصية
هذه هبة يهبها الله تعالى للخطباء المخلصين ، فترى كلّ مَنْ يلقاه يحسّ بقوّة روحه وعظم نفسه ، فتستمد كلماته من قوّة إخلاصه . صوته يهز النفس هزّات روحيّة ، تجعلها تلقف عباراته فتنطبع فيها مكبرة(9) .
ج ـ حسن الهيئة
أن يظهر الخطيب أمام السامعين بمظهر مألوف من حيث الملابس والهيئة ؛ فإن لم يرتدِ ما يزيده هيبة في القلوب فلا يظهر إليهم بما يحطّ منزلته عندهم ، خاصة إذا واجههم في أوّل لقائه ؛ فإنّ ذلك له أثر عظيم في نفوس الناس .
د ـ سعة الاطّلاع
يجب أن يكون الخطيب ملمّاً بكلّ ما له صلة بالجماعة التي يخاطبها ؛ ليعرف نواحي التأثير ، والمواطن التي يطرق حسّها من ناحيتها .
فالخطيب الديني يجب أن يكون ملمّاً بالاجتماع والاقتصاد ، والسياسة والشرائع ؛ ليستطيع أن يصل إلى قلوب السامعين ، ويربط صلاحهم الدنيوي في كلّ نواحيه بصلاح دينهم وقلوبهم .
فالخطيب يجب أن يكون ملمّاً بكلّ ما له صلة بالجماعات ، وطرق التأثير فيها ، والابتعاد عمّا ينفّرها ؛ لكيلا يجعل قلوبها عنه متجافية(10) .
المنهج الخاص للخطيب
من الصعوبات التي يعاني منها الخطيب المبتدئ الذي تسلّط عمليّاً على قواعد الخطابة عدم استقراره على منهج واضح وخاص له ؛ ممّا يبدو عليه الاضطراب والتخبّط في خطبه ، وقد يحدو بالبعض لأجل التخلّص من هذه المعاناة باللجوء إلى تقليد الآخرين منهجاً ، وقد يصل بهم التقليد إلى أقصى درجاته ، وذلك بالظهور بصورة البديل عن المقلَّد حتّى في نبراته وحركاته .
ولاشكّ إنّ هذا الاُسلوب ممّا يزري بالخطيب ، ويحطّ من منزلته ، كما إنّه علامة تدلّ على عدم قدرته على اتّخاذ منهج خاص له ؛ فإنّ من مكمّلات الخطيب أن ينتقي منهجاً خاصّاً يتميّز به عن غيره ؛ لأجل استقطاب قدراته ، ومنعها من التشتت .
إضافة إلى إتاحة فرصة عظيمة له ، وذلك بفتح ميدان واسع لإظهار إبداعاته وطموحاته في التجديد .
أمّا المقصود من المنهج هو :
أولاً : أن يتميّز الخطيب بأسلوبه الخطابي الخاصّ ، ويتميّز بطريقة إلقاء خاصّة .
ثانياً : أن يكون له اتّجاه خاصّ في انتقاء المواضيع ، فهناك فروع عديدة ومتنوّعة يمكن أن تكون مواضيعَ للخطابة ، فقد ينحى البعض منحى الوعظ والإرشاد الأخلاقي ، أو يقوم بعرض المفاهيم المختلفة بطريقة علميّة أو تاريخيّة، أو عرفانيّة أو غير ذلك ، وقد توجد إمكانيّة للبعض على جمع كلّ ذلك في خطبة واحدة .
ولا شك أنّ اختيار المنهج الخاصّ لا يأتي اعتباطاً ، وإنّما تتحكّم به عوامل عديدة ، أهمّها قابلية الخطيب وقدراته العلميّة والفنيّة ، فهذه هي التي تدفعه إلى سلوك هذا المنهج ، ولا يستطيع سلوك غيره .
توجيهات عامّة للخطيب
1 ـ لم يكن الدين الإسلامي نظريّة ، أو شريعة عائمة في المثاليّة ، بل أراد الله تعالى لدينه أن يكون حقيقة متجسّدة في الواقع من حيث الفكر والعمل ، وتجسّد هذا الواقع في رسوله الكريم وأهل بيته الطاهرين ، وأمرنا أن نقتدي بهم ، وحذّر من مجانبتهم ؛ لما في المجانبة من الزيغ عن طريق الحقّ ، والولوج في الباطل والضلالة .
فعلى الخطيب أن يبيّن للناس معالم الدين الإسلامي ، وأصوله ومفاهيمه بما ظهر في واقعه الحقيقي المتمثل بأهل البيت (عليهم السّلام) ؛ فكلّ شيء في اُمور الحياة صغر أو كبر يجب أن يؤخذ منهم . لكن لا ينبغي انحصار المعرفة بهم باُمور ليست من الأهميّة بالمقارنة مع اُمور اُخرى ، كما في الإسهاب في الحديث عن كُنى وألقاب الأئمّة أمام حاضرين تربّوا على الولاء لهم .
لا يقول أحدٌ إنّ ذلك ليس ضرورياً ومهمّاً ؛ إنّما المطلوب مراعاة الأهميّة في اختيار موضوع الخطبة ، وملاحظة المناسبة بينه وبين الحاضرين من حيث المعرفة به .
كما إنّ لهم (عليهم السّلام) مقامات ومنازل عظيمة ، فينبغي أن لا يتحدّث الخطيب عن ذلك أمام حاضرين لم تأنس عقولهم وأذهانهم بها فينكرونها ، كما يلزم الأخذ بالصحيح والمحقّق فيما ورد عنهم (عليهم السّلام) .
ويجب على الخطيب أن لا يهمل مصائب أهل البيت (عليهم السّلام) ويبقى مع اتّصال مع معطيات واقعة الطفّ ، ويشدّ الناس إلى الاستفادة من دروسها ، بتصوير مآسيها شعراً ونثراً ؛ استمراراً على ما مضى عليه الأئمّة (عليهم السّلام) في إحياء ذكرى سيّد الشهداء .
2 ـ يجب على الخطيب الاعتدال في التصرّف أمام الناس من حيث ملاحظة الحكم في سلوكه حتّى في الاُمور المباحة ، فلا يحسن برجل الدين الانفلات والتحلل ، وعدم المبالاة بأيّ تصرف بحجّة أنّه حلال ، بل ينبغي له الاتّزان ، ومراعاة الحشمة والوقار ، وفرض احترامه على الآخرين باعتداله ومتانة تصرفاته ، وتجنّب كلّ تصرّف ينافي ذلك ؛ لأنّه في موقع المسؤولية ، والمنتظر منه أن يكون قدوة في أقواله وأفعاله ، ومربّياً للمجتمع الذي يعيش فيه(11) .
3 ـ الارتفاع بالمنبر عن كونه سلعة تحدّد خدماتها باُسلوب المساومة ، ولو كان ذلك مشروعاً لا غبار عليه من الناحية الشرعيّة ، ولكن فيه جفاف لا يلتقي مع شفافية الرسالة التي يؤديها المنبر ، وأن لا يكون المنبر وسيلة لجمع الأموال(12) .
4 ـ أن لا نخلع ذاتنا على الموضوع عن طريق التحدّث عمّا يخصّنا ، أو يخصّ تجاربنا الذاتية ممّا له صلة بالأنا ؛ فإنّ ذلك ممّا يستثقله السامع فينبغي أن نحسب له ألف حساب(13) .
5 ـ التورّع عن نسبة الأقوال والأفعال إلى المعصومين (عليهم السّلام) وغيرهم كذباً ؛ فإنّ الكذب على المعصومين من أعظم الكبائر ، والكذب على غيرهم كبيرة ؛ سواء على الأشخاص التاريخيِّين ، أو على مؤلّفي المصادر ، أو على أيّ مؤمن ومؤمنة .
وأوضح اُسلوب يتّخذه في هذا الصدد أن يقول : ( قيل ) ، أو ( روى ) ، أو ( يُقال ) ونحو ذلك ، حتّى إنّه لا ينبغي له ذكر أحد من أسماء المؤلفين ما لم يحرز باليقين وجوده في كتابه ، وصحة انتساب الكتاب إليه باليقين ، أو بدليل معتبر(14) .
6 ـ أن يتورّع من نسبة الأقوال والأفعال إلى المعصومين (عليهم السّلام) وغيرهم باعتبار لسان الحال ؛ شعراً كان ما يقوله الخطيب ، أم نثراً فصيحاً كان الكلام أم درجاً ما لم يعلم ، أو يطمئن بأنّ لسان حالهم هو كذلك فعلاً(15) .
7 ـ أن يتورّع الخطيب عن ذكر الاُمور النظريّة والتاريخيّة أو غيرها ممّا تثير شبهات حول الاُمور الاعتقاديّة في أذهان السامعين ، ويكون هو قاصراً أو عاجزاً عن ردّها ومناقشتها ، أو غافلاً عن ذلك ؛ بل يجب أن يختار ما يقوله بدقة وإحكام ، وإلاّ فسوف يكون هو المسؤول عن عمله فيقع في الحرام من حيث يعلم أو لا يعلم . وينبغي أن يلتفت إلى أنّ هذا ممّا لا يفرّق فيه بين أن يكون مرتبطاً بحوادث الإمام الحسين (عليه السّلام) أو غير مرتبط ، أو كان مسلّم الصحة في اعتقادهم أو غير مسلّم(16) .
8 ـ أن يدع الخطيب التشكيك فيما تسالم العامّة عليه ، أعني جمهور الناس على صحته ، فضلاً عن إنكاره بصراحة ؛ فإنّه ينبغي أن يستهدف هدايتهم وتوجيههم نحو الطاعة والعقيدة ، ومن الواضح أنّهم إذا وجدوا مثل هذا التشكيك في كلامه سوف يفقدونه ويسقط من أنظارهم ، فيسبب ذلك عدم سماعهم لمواعظه وإرشاده ، أو بعده عنهم أو مقاطعتهم له عمليّاً(17) .
9 ـ أن يدع ما أمكن من التفلسف فيه من الحوادث ، أعني التعرّض إلى الحكم والأسباب التي اقتضتها ، ما لم يحرز في نفسه الإصابة لذلك ، وإلاّ فليدع ذلك إلى أهله , وهو خير له في الدنيا والآخرة من أن يكلّف نفسه ما لا يطيق ، أو أن يكلّف السامعين بالردّ فيتورّط بالحرام من حيث لا يعلم ، وذلك لا يفرق أيضاً فيما يخصّ كربلاء وحركة الإمام علي (عليه السلام)، أو اُمور الشريعة الأخرى .
10 ـ أن لا يروي الخطيب اُموراً مستحيلة بحسب القانون الطبيعي حتّى وإن ثبت لديه بطريق معتبر ؛ لأنّها على أيّ حال ستكون صعبة التحمّل على السامعين ، ولعلّ أوضح مثال ذلك ما يذكره بعض الخطباء عن علي بن الحسين الأكبر (سلام الله عليه) أنّه حين ضرب على رأسه بعمود تناثر مخّه ، وفي بعض المصادر سال مخّه على كتفيه ، ثمّ يقول الخطباء : إنّه في آخر رمق من حياته دعا أباه الحسين (عليه السّلام) فبادر بالذهاب إليه ، فأخبره قائلاً : هذا جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أضمأ بعدها أبداً .
مع العلم واليقين أنّ مَنْ تناثر مخّه فهو ميت لا محالة ، ولا يستطيع الكلام ولا بكلمة واحدة ، فضلاً عن الانتظار مدّة إلى أن يصل إليه أبوه ؛ فإنّ تلف المخّ طبيّاً يعني الوفاة ، وعدم إمكان استمرار الحياة بكلّ تأكيد ؛ فيكون ما يقوله الخطباء من كلام بعد ذلك ممتنعاً بحسب القانون الطبيعي ، إلاّ أن يقول أنّ مخّه لم يتناثر عندئذ تكون له قدرة الكلام(18) .
أذكر ما سمعته من أحد الخطباء أنّ طالباً للعلوم الدينية في النجف الأشرف انقطع عن أهله الذين هم خارج العراق ، وضاقت به أوضاعه الماديّة فعاش أيّاماً في حيرة ودهشة ؛ بين أن يمدّ يده إلى العلماء والتجّار ، أو أن يكون عزيزاً كريماً ويتحمّل مشاقّ الوضع الماديّ .
بينما هو على هذه الحال ذهب إلى ضريح الإمام علي (عليه السّلام) في وقت صلاة الظهر والناس مجتمعة للزيارة والصلاة ، وفيهم عالم عظيم الشأن إمام الجماعة ، فجلس عند الضريح الطاهر متوسّلاً لله بصاحب القبر ، بينما هو يدعو ويتوسّل وإذا ( قنديل ) مطليّ بالذهب معلّق في السقف تنقطع السلسلة المعلّق بها شيئاً فشيئاً وينزل في حجره ، ففزعت الناس إليه وتناهبوه ، وأخذوه لينالوا البركة منه .
فعاد في الحال إلى الضريح قائلاً : سيّدي , عطيتك أخذوها منّي ! فهبّت رياح قويّة من خارج المرقد ودخلت إلى الضريح ، فأخذت هذا ( القنديل ) من أيدي الناس وأرجعته إلى هذا الطالب .
فلمّا رأى إمام الجماعة هذه الكرامة جاء قرب هذا الطالب مخاطباً الناس بترك هذا ( القنديل ) له ؛ فإنّه من عطاء الإمام إليه ، ثمّ التفت إلى الطالب بالمدح والثناء بأنّه أفضل من العلماء ، وأفضل منه خاصّة ؛ لأنّهم في حجب عن الله تعالى ، بحيث لم تكن لهم كرامة مثلما كانت لهذا الطالب .
إنَّ حكاية مثل هذه الاُمور استخفاف بعقول الجالسين ، وفيه دلالة على عدم نقاهة فهم الخطيب منها .
11 ـ إنّ مسؤوليّة الخطيب عظيمة ، ودوره كبير في إدامة تعاليم الإسلام ، فهو الحلقة الموصلة بين الفقهاء والمراجع وبين الناس ، فعليه أن يقوّي صلة الناس بمراجع وعلماء وحماة الدين المخلصين الذين هم روح لدوام التشيّع ، لكن من غير أن تكون دعوة لخصوص شخصيّة منهم ، وإنّما دعوة عامّة من غير تشخيص مصداق خاص .
أمّا إذا وجدت بعض المفارقات غير المتعمدة فإنّه لا يعني سلب الثقة من الكلّ والإعراض عن الكلّ ، كما إنّه ينبغي أن لا يذكر الخطيب ذلك إلى الناس بأيّ نحو وصورة كانت .
12 ـ أن لا يكون المنبر وسيلة للتبليغ إلى فئة خاصّة أو مجموعة خاصّة ، بل حصر المنبر في حدود اختصاصه ، وعدم الخروج به عن وظيفته الإسلاميّة التي هي التبليغ للإسلام عن طريق اتّباع مذهب أهل البيت (عليهم السّلام) .
13 ـ إقامة مجالس العزاء لا تنحصر في أيّام محرّم ورمضان ، وإنّما تقام في مناسبات عديدة ومتنوّعة . فعلى الخطيب أن يراعي في موضوع الخطبة المجانسة مع مناسبة إقامة المجلس ، فقد يعدّ الخروج عن تلك المطابقة مذموماً عند الحاضرين والمقيمين للمجلس .
وممّا ذكر في هذا المقام : توفي بالسكتة القلبية أحد التّجار المؤمنين ، وكان سيّداً محترماً ، ورعاً تقيّاً نقيّاً ، أقام له ذووه مجلس الفاتحة ، حضره عدد كبير من علماء الدين والتّجار والكسبة والمؤمنين .
ودعي لإلقاء كلمة هذا المجلس أحد الوعّاظ وكان مسنّاً محترماً ، قد حزَّ في نفسه انتشار الفساد والآثام والخطايا في المجتمع ، ولا يترك فرصة تمرّ إلاّ وتطرق إلى شيوع الفحشاء والأعراض الناتجة عن ذلك .
ارتقى هذا الخطيب المنبر وفي نيّته الحديث عن موت الفجأة ؛ ليلائم بحثه مقتضى الحال ، فبدأ كلامه بالرواية التالية :
عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السّلام) قال : (( وجدنا في كتاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا ظهر الزنا من بعدي كثُر موت الفجأة )) .
لقد وقع هذا الواعظ المحترم وبشكل لا شعوري تحت تأثير إحساسه الانتقادي ، وجعل من ظهور الزنا الذي جاء ذكره في الحديث محوراً أساسياً لبحثه ، وتحدّث عنه بإسهاب ، فتأثّر من حديثه المعاكس للبلاغة ، المخالف لشأن المجلس هذا ذوو المتوفى والحاضرون ؛ حيث تكلّم طيلة الفترة تقريباً عن شيوع الزنا وموت الفجأة بوصفه عقاباً على انتشار الخطايا(19) .
فأسباب إقامة المجالس كثيرة ومتنوّعة ، كما إنّ المؤسّسين لها دوافعهم في إقامة تلك المجالس مختلفة ، فالخطيب عليه أن يعرف خصوصيات الغرض من إقامة المجالس قبل أن يرتقي المنبر ؛ ليتطابق مقاله مع الحال .
14 ـ إنّ كلَّ عملٍ يُراد به وجه الله يقعد الشيطان في طريقه لإفساده ، أو قطع صاحبه عنه ، وفي الخطابة يسعى الشيطان إلى إفساد نيّة الخطيب ، أو يدفعه إلى الغرور والتعالي ؛ بأن يغلق قلبه وأذنيه عن كلّ نصيحة تسدى له ، أو توجيه يهدى إليه ؛ لأنّه يرى نفسه صار خطيباً بمقام أعلى وأسمى من أن يقدّم له ذلك ، ويعدّ النصيحة والتوجيه حسداً من الآخرين لمقامه ، أو يتّهم الآخرين بعدم معرفة أساليب النقد .
ولا شك أنّ هذا مرض من أمراض القلب ؛ فعلى الخطيب أن يقوّي علاقته بربّه ، ويتوكّل عليه ، ويتعوّذ به من الشيطان ؛ ليحميه من جميع الأمراض التي تفسد إخلاصه .
فإذا وفّقك الله تعالى وصرت خطيباً حسينيّاً فلا تعجبك نفسك ؛ فإنّ ذلك من فرص الشيطان .
_______________
(1) الخطابة ـ اُصولها ، تاريخها ـ محمد أبو زهرة / 48 .
(2) المصدر نفسه / 51 .
(3) المصدر نفسه / 52 .
(4) المصدر نفسه / 56 .
(5) المصدر نفسه / 56 .
(6) المصدر نفسه / 57 .
(7) المصدر نفسه / 149 .
(8) المصدر نفسه / 58 .
(9) المصدر نفسه / 59 .
(10) المصدر نفسه / 60 .
(11) رسالة أبوية / 65 .
(12) تجاربي مع المنبر / 120 .
(13) المصدر نفسه / 125 .
(14) أضواء على الثورة الحسينيّة ـ الشهيد محمد صادق الصدر / 108 .
(15) المصدر نفسه / 108 .
(16) المصدر نفسه / 108 .
(17) المصدر نفسه / 111 .
(18) المصدر نفسه / 109 .
(19) البيان وفن الخطابة / 128 .