دراسات حول المنبر
بحوث و مناظرات

قطعت الخطابة الحسينيّة مراحل الإنشاء والتأسيس ، واجتازت بنجاح مرحلة الفتوّة والصبا إلى البلوغ والرشد ، وأمّا بلوغ الشيخوخة والهرم فهي أشدّ المراحل خطراً وتهديداً عليها ؛ فإذا ما حلَّت بها حلَّ بها الجمود والخمول ، والتخلُّف والموت البطيء .
والسير للشيخوخة في المناهج الفكرية لا يماثل ذلك السير الطبيعي الذي تشاهده في الحياة الطبيعية للإنسان والمخلوقات الحيّة الذي يمثل أمراً قسرياً لا مفرّ منه ؛ فالمناهج الفكرية الشيخوخة عرض ناتج من التخلُّف عن الأخذ بأدوات التحديث والتجديد لمحتويات المنهج وأساليبه وأهدافه ، والحركة المستقبلية الضامنة لدوام فتوَّة الخطابة الحسينيّة .
ومتانتها تكمن في تحديد هيئة الحركة التحديثية والتطويرية لهذا المنهج الفكري المهم ، وحراجة هذا الأمر تزداد في هذه السنين الأخيرة للقرن العشرين والتي انطبعت بطابع العولمة ؛ هذا المدّ الجارف الذي يكتسح هوية الأمم والشعوب ليستبدلها بهوية اُمميّة شعارها نظام السوق .
والعولمة توظّف أغنى وأدق وأبلغ أدواتها تأثيراً في إجراء عملية مسخ هوية الأمم ، ألا وهو (الإعلام) .
إنّ قوّة الممانعة في هوية كلّ أمّة تُقاس اليوم بمقدار امتصاصها لضربات إعلام العولمة ، والقوّة التحديثية الكامنة فيها ؛ لضمان حركتها بثبات ورسوخ في مهبّ أعاصير العولمة العاتية .
إنّ مستقبل الخطابة الحسينيّة مرهون بقدرتها على شحن الذخيرة المعنوية لهوية الإنسان المسلم ، وتقويم قدرات هذه الهوية لمنع استلابها من قبل الهوية الأممية للعولمة .
إنّ حجم الآمال المعقودة بالخطابة الحسينيّة في المساهمة في صيانة الهوية الإسلاميّة حرجة وملحّة لدرجة تتطلّب سرعة استغلال جميع قدرات الجيل الحاضر ، وطاقاته العلمية والفنية والمالية ؛ لرسم هيئة المنبر الحسيني القادر على الإبحار بالجيل الحاضر في عباب بحر التحدّيات الضاغطة والمهدّدة لهويتنا الإسلاميّة .
في السطور القادمة نحاول رسم الأولويات الملحّة التي تساهم في بناء المنبر الحسيني المستقبلي .
أولاً : الحركة التحديثية للخطابة الحسينيّة ، ومسألة التوازن بين الأصالة والحداثة
المنبر الحسيني المستقبلي
(الأصالة)
تحديد معالم الأصالة في المنبر الحسيني وتثبيتها وصيانتها
(الحداثة)
حديث الاُمور المسبّبة لوهن الأصالة وضعفها في المنبر الحسيني
يتّحدد شكل العملية التحديثية للخطابة الحسينيّة ، وتشخيص معالمها وأدواتها من خلال رسم معالم أصالتها ، والعملية التحديثية التي تضمن سلامة هذه الأصالة تستلزم حركة أفقية تتمثّل في تحديث الأساليب الفنيّة والتقنية والعلمية للخطابة دون المساس بالإطار العام لها ، وحركة عمودية تستهدف تثبيت وصيانة وحماية تراثها الضخم الذي حقّقته في مسيرتها الطويلة .
الحركتان الأفقية والعمودية للعملية التحديثيّة للخطابة الحسينيّة تستهدف في النهاية جعل أصالة الخطابة الحسينيّة تتمظهر بمظهر العصر . إنّ سبل التحديث وأدواته تتشخّص كما أسلفنا من خلال رسم معالم الأصالة للخطابة الحسينيّة ، فما هي هذه المعالم ؟
معالم الأصالة للخطابة الحسينيّة
النسيج الأصيل للخطابة الحسينيّة محاك من :
أ) التداخل العضوي للنهضة الحسينيّة بالهوية الإسلاميّة .
ب) الرثاء وعلاقته البنيويّة للخطابة الحسينيّة .
أ) التداخل العضوي للنهضة الحسينيّة بالهوية الإسلاميّة
من السمات الأصيلة للنهضة الحسينيّة تداخلها العضوي بالهوية الإسلاميّة ، بل هي النبض الدافق لها ، والمجسّمة لمثلها وقيمها .
فالنهضة تجسّد الإسلام فكراً حيّاً يعيش الحياة ، وهي شعار المسلم الذي يلتمس فيها دروساً لحياته التي يرنو بناءها على أسس التوحيد .
والاُستاذ مرتضى المطهّري يشير إلى هذا الدور المهم للنهضة في تجسيد الفكر الإسلامي [ بقوله : ] الحادثة بتمامها وكمالها ، تجسّم الإسلام في كافة أبعاده ونواحيه ، ومعنى ذلك إنّ سرّ كون هذه الحادثة قابلة للتمثيل والعرض المسرحي يكمن في كونها تجسيماً لفكر الإسلام المتعدّد الأبعاد والجوانب .
فكلّ المبادئ الإسلاميّة وجوانب العقيدة قد تجسّمت عملياً في هذه الحادثة ؛ إنّك تجد الإسلام في السياق الفكري وفي العمل ، وفي مرحلة التحقق والتطبيق(1) .
فالنهضة تصيّر الفكر الإسلامي مثالاً نابضاً بالحياة ، وذلك بعرض جامعيته وشموليته . فهي إذن مرجع مجسّد لهذه الخصّيصة التي يتميّز بها الإسلام ( فعندما نريد البحث في جامعية الإسلام وكليته لا بدّ لنا من مراجعة ومطالعة النهضة الحسينيّة ؛ حيث نرى أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) قد طبّق كلّيات الإسلام عملياً في واقعة كربلاء ، وجسّمها تجسيماً حيّاً حقيقياً وواقعياً ، وليس تجسيماً لا روح فيه )(2) .
والتجسيد الواقعي للفكر الإسلامي بجامعيته وشموليته يتمثّل في هذه النهضة من خلال توزيع الأدوار ، وتحديد المهام لكلّ مَنْ ساهم في ملحمته ؛ لتحقيق النهضة وأهدافها المرسومة والمشار إليها سلفاً من خلال توزيع الأدوار بين المساهمين فيها.
( وهكذا ترانا نعيش في حادثة عاشوراء كلّ جوانب الإسلام الأخلاقية والاجتماعية ، بالإضافة إلى جوانب الموعظة والحكمة والتمرّد ، والتوحيد والعرفان ، والعقيدة مجسّمةً ومبلورةً في الحسين وأصحاب الحسين وأهل بيته ، حيث ترى أنّ كلّ واحد من أفراد المجتمع قد أخذ دوره ، من الطفل الرضيع حتى الشيخ الجليل الذي يناهز عمره الثمانين عاماً ، والمرأة العجوز )(3) .
والخطابة الحسينيّة التي تمثّل القناة الإعلامية لهذه النهضة ، لا مناص لها إلاّ إبراز هذا التلاحم والتداخل بين النهضة الحسينيّة والهوية الإسلاميّة .
إنّ الدور الأصيل والمتميّز للخطابة الحسينيّة يتطلب استعداداً عميقاً ، وإحاطة شاملة من الخطيب ؛ لضمان هذه الأصالة .
والإحاطة الشاملة تعني : الإدراك العميق لمصادر الإسلام المنقولة والمعقولة ، والدراية التامّة لتاريخ وفلسفة وفقه النهضة الحسينيّة ، والإحاطة الكافية لأحداث العصر وعلومه , والخبرة العميقة بطبقات المجتمع وأطباعه وعاداته , ومستواه الفكري والروحي .
اشتراط الجمع لهذه العلوم والمعارف والخبرات ضمان لكفاءة الخطيب ؛ لصيانة أصالة الخطابة الحسينيّة التي تبرز دور النهضة الحسينيّة المجدّدة لروح الإسلام في كلّ زمان ومكان .
ب) الرثاء وعلاقته البنيويّة بالخطابة الحسينيّة
الرثاء والحزن والبكاء نسيج متداخل بالنهضة الحسينيّة , يكسبها بعدها العاطفي والروحي والنفسي الذي يمثّل الوجه الثاني للنهضة الحسينيّة بعد الوجه الفكري والفلسفي .
ومنذ اللحظة الأولى بعد انتهاء حادثة الطفّ ، وعلى مرّ العصور , حرص أهل البيت (عليهم السّلام) على إرساء وتثبيت هذا الوجه الأصيل والمشخّص للنهضة الحسينيّة ، حيث وردت العشرات من الأحاديث التي تحثّ وتشجّع الرثاء والحزن والبكاء على مصائب أهل البيت بشكل عام ، ومصيبة الطفّ بشكل خاص .
وإليك طائفة من الروايات الواردة في هذا الخصوص :
1) أحمد بن يحيى الأودي بسنده عن المنذر ، عن الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( ما من عبد قطرت عيناه فينا قطرة ، أو دمعت عيناه فينا دمعة ، إلاّ بوّأه الله تعالى بها في الجنّة حقباً ))(4) .
2) الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( مَنْ دمعت عينه دمعة لدم سُفك لنا ، أو حقّ لنا أُنقصناه ، أو عرض انتُهك لنا ، أو لأحد من شيعتنا بوّأه الله بها في الجنّة حقباً ))(5) .
3) بكر بن محمد الأزدي ، عن الصادق (عليه السّلام) : (( تجلسون وتتحدثون ؟ )) . قال : قلت : جعلت فداك ! نعم . قال : (( إنّ تلك المجالس اُحبّها ؛ فأحيوا أمرنا ، إنّه مَنْ ذكرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر ))(6) .
4) الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( مَنْ ذُكرنا عنده ففاضت عيناه حرم الله وجهه على النار ))(7) .
5) دعبل الخزاعي : دخلت على سيّدي ومولاي علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) في مثل هذه الأيام فرأيته جالساً جلسة الحزين الكئيب , وأصحابه من حوله ، فلما رآني مقبلاً قال لي : (( مرحباً بك يا دعبل ، مرحباً بناصرنا بيده ولسانه )) .
ثمّ إنّه وسع لي في مجلسه وأجلسني إلى جانبه ، ثمّ قال لي : (( يا دعبل ، أحبّ أن تنشدني شعراً ؛ فإنّ هذه الأيام أيام حزن كانت علينا أهل البيت ، وأيام سرور كانت على أعدائنا ، خصوصاً بني اُميّة .
يا دعبل ، مَنْ بكى وأبكى على مصابنا ولو واحداً كان أجره على الله . يا دعبل ، مَنْ ذرفت عيناه على مصابنا وبكى لما أصابنا من أعدائنا حشره الله معنا في زمرتنا يا دعبل ، مَنْ بكى على مصاب جدّي الحسين غفر الله له ذنوبه البتة ))(8) .
وتطبيقاً وتشجيعاً لما دعوا إليه , أقاموا هم مجالس العزاء والرثاء ؛ فقد كان الشاعر العربي الكميت بن زياد الأسدي , المتوفّى سنة 126هـ , من شعراء العصر الأموي ، رائداً في قصائده النارية التي ضيّقت الدنيا على أعداء أهل البيت من جهة ، وأججت نار الحزن والوجد في قلوب الشيعة والموالين من جهة أخرى .
وقد أنشد الكميت قصائده المعروفة بالهاشميات في مجالس الأئمّة : السجّاد والباقر والصادق (عليهم السّلام) . ومن قصائده المشهورة في ذكر مصائب أهل البيت (عليهم السّلام) في الطفّ :
مَـنْ لـقلبٍ متيّمٍ مـستهامِ غـير ما صبوةٍ ولا أحلامِ
وقـتيلٍ بالطفِّ غُودِرَ عنهُ بـين غوغاء أُمَّةٍ وطَـغامِ
قـتلوا يومَ ذاكَ إذْ قـتلوهُ حـاكماً لا كـسائرِ الحُكّامِ
قـتلَ الأدعـياءُ إذْ قـتلوهُ أكرمَ الشاربينَ صوبَ الغمامِ
وَلِهَتْ نفسيَ الطروبُ إليهمْ ولهاً حالَ دونَ طعمِ الطعامِ
فلمّا فرغ منها قال له الإمام السجّاد (عليه السّلام) : (( ثوابك نعجز عنه ، ولكنّ الله لا يعجز عن مكافأتك )) .
وفي قصيدة للشاعر الكبير الحميري الذي قرأها في حضرة الإمام الصادق (عليه السّلام) يقول :
اُمرُرْ على جَدَثِ الحسي نِ وقُلْ لأعظُمِهِ الزكيّهْ
يا أعظماً ما زلْتِ مِنْ وطـفاءَ ساكبةٍ رويَّهْ
وإذا مـرَرْتَ بـقبرهِ فأَطِلْ بِهِ وَقْفَ المطِيَّهْ
وابـكِ المُطهَّرَ للمطهَِّ رِ والـمطهَّرَةِ الـنقيَّهْ
كـبكاءِ مُـعْوِلَةٍ أَتَتْ يـوماً لواحِدِها المنيَّهْ

فما بلغ هذا حتى أخذت الدموع تنهمر على خديه ، وارتفع الصراخ من داره .
ويُعتبر دعبل من الرواد في تأسيس الرثاء على واقعة الطفّ ، والذي له بصمات واضحة ؛ حيث قصيدته التائية المشهورة التي أنشدها في حضرة الإمام الرضا (عليه السّلام) ، والتي مطلعها :
مدارسُ أياتٍ خلتْ منْ تلاوةٍ ومنزلِ وحيٍ مُقْفرِ العرصاتِ
والذي أثار بها شجن ابن النبي الرضا وأهل بيته ، وألهب حزنه على جدّه الحسين (عليه السّلام) .
وقد تمكّن أهل البيت (عليهم السّلام) بمنهج محكم واُسلوب دقيق ضمان البقاء والديمومة للنهضة الحسينيّة ، من خلال توظيف الحزن والبكاء الذي يمثّل أقوى العواطف الإنسانية أثراً في جذب ولفت الانتباه وإثارة فضول الغير ، وقد عُرف البكاء سلاحاً قوياً ومؤثراً في بيان ظلامة الشعوب .
ومن هنا يتّضح عمق أصالة الرثاء في الخطابة الحسينيّة ، الذي هو موقع الرأس من الجسد ، أو الروح من الجسم .
إنّ إصرار أهل البيت على جعل الرثاء جزءاً مهمّاً وأساسياً في مراسم إحياء النهضة الحسينيّة والمنبر الحسيني ؛ يعود بالدرجة الأولى لدور الرثاء لتحقيق الكثير من المفاهيم .
ويمكن رصد أهم المعطيات التي يحقّقها الرثاء في النقاط التالية :
الأوّل : الرثاء ودوره في ربط الوعي الفكري بالاستعداد النفسي
للعواطف الدور المهم في نضج الفكر وإثرائه ، والدراسات النفسية الحديثة تشير إلى دور العواطف الأساسي في التفكير السليم .
إنّ التفكير الناضج المبني على أُسس المنطق السليم لا يتسنّى إلاّ عبر العواطف المتّزنة ، وقد ذهبت الدراسات الحديثة إلى أكثر من ذلك في اعتبار وجود عقلين هما : العقل المفكّر والعقل العاطفي ؛ حيث إنّ سلوك الإنسان ومواقفه في الحياة هي مزيج من التفكير العقلي والعاطفي .
فإذكاء العواطف والعناية بها من حيث حسن استخدامها وتوجيهها وتوظيفها في الحياة له شديد العلاقة والأثر في نمو الوعي الفكري للإنسان(9) .
الحزن والبكاء اللذان يمثّلان أهم العواطف الإنسانية أثراً في تنقية النفس وإذكاء الوجدان ، يعبّران عن أهم عناصر التزاوج بين الوعي الفكري والحضور الوجداني.
من هذا الاستطراد يتّضح ما للعاطفة بشكل عام من أثر على إنضاج الوعي الفكري وصقله ، والدور الوجداني العاطفي للحزن والبكاء بشكل خاصّ من أثر على عمق التفكير وسعته ، وهكذا تتّضح فلسفة أهل البيت في استغلال العلاقة الهامة بين العاطفة والفكر في النهضة الحسينيّة .
وبهذا المنهج النفسي المتميّز خطّ أهل البيت درباً للنهضة الحسينيّة ؛ لتصنع وعياً فكرياً يمثّل حالة الحضور والدراية ، والإحاطة بالقضية الحسينيّة ، وهي لا تعني شيئاً إلاّ إذا اقترنت بالقدرة النفسية ، والاستعداد الروحي لتقمص القيم والمفاهيم التي تندب لها النهضة .
الخطابة الحسينيّة تتحمّل عبئاً ثقيلاً في الاحتفاظ بعاطفة البكاء والحزن في ضمن دائرة الأحداث التي اختطّها أهل البيت (عليهم السّلام) ، وهو إذكاء الوعي الفكري والعقل العاطفي .
إنّ الفشل الذي نراه واضحاً جلياً في الوقت الحاضر في الوصول للغاية التي أرادها أهل البيت من البكاء والحزن في خلق الحضور النفسي والفكري ، يرجع بالدرجة الأولى إلى توظيف عاطفة الحزن والبكاء كمتنفّس للهروب من الشعور بالإحباط والتخلّف الذي تعاني منه الأمّة .
وساعد في هذا التدهور ـ في الابتعاد عن دور المنبر الحسيني في إذكاء البكاء وعاطفة الحزن ؛ لتقويم العقل العاطفي ـ جهل وتدنّي مستوى وعي الناس وبعض الخطباء .
إنّ التوظيف اللاواعي لعاطفة الحزن والبكاء سلب هذه العاطفة كفاءتها في خلق حالة التواصل والتبادل بين العقل العاطفي والعقل الفكري ، وأحال هذا السلاح الذي انتقاه أهل البيت بكلّ دقة وعناية إلى أنغام تدغدغ غفوتنا ، وتحرس نومنا الوديع المفعم بالأحلام الجميلة ، وكما يقول الشيخ الدكتور أحمد الوائلي(10) :
كنّا نهبُّ على الزعيقِ ومذ طغى صرنا ننامُ على الزعيقِ ونهجعُ
الثاني : استغلال البكاء لتأجيج الوجدان ؛ لضمان ديمومة وحيوية النهضة الحسينيّة
من أهداف النهضة الحسينيّة دوام الحركة التجديدية والتصحيحية لمفاهيم الإسلام ؛ لضمان تجسيد مفهوم التوحيد في كافة مناحي الحياة .
إنّ النهضة الحسينيّة ليست حقلاً مهنياً شخصياً يمتهنه خطيب ليرتزق منها فحسب ، ومستمع يجتر دموعه ليجني ثواباً بها ؛ إنّ النهضة الحسينيّة توظّف البكاء والحزن لضمان دوام الوجدان الواعي ، والأهداف السامية للنهضة الحسينيّة , ولكي تضمن النهضة قدرتها على جعل شعار ( كلّ يوم عاشوراء , وكلّ أرض كربلاء ) واقعاً ملموساً بمشاريع تصنع الحياة وتقودها في كلّ ميادينها وحقولها .
ثانياً : مناهج التحديث للخطابة الحسينيّة وآفاقها
التحديث ينصبّ على عرض الأصالة بلغة العصر ، والاحتفاظ بالإطار العام للخطابة الحسينيّة ، والأخذ بكلّ ما يتيح العصر من وسائل لإبراز هذه الأصالة ، ويمكن الإشارة إلى جانبين مهمين للتحديث في المنبر الحسيني :
الأول : الجانب النظري الفكري
الثاني : الجانب الفني الخطابي
يركز الجانب النظري من الخطابة الحسينيّة على طبيعة المواضيع التي يتناولها المنبر الحسيني ، وبشكل أدقّ الحقول التي يجب أن يلمّ بها الخطيب ؛ لإثراء الموضوع المطروح في ظلّ ثورة المعلومات التي تشهدها حقول المعرفة المختلفة .
في العصر الحاضر أصبح من المتعذّر على الفرد الإلمام التام بحقل واحد من حقول المعرفة ناهيك عن الحقول المختلفة ، وبناءً على هذه الحقيقة من المتعذّر إرساء قاعدة التحديث للجانب النظري الفكري في الخطابة الحسينيّة على أساس الإلمام الموسوعي للخطيب لحقول المعرفة المختلفة .
تحديث الجانب النظري الفكري للخطابة الحسينيّة يجب أن يرتكّز على الأخذ بمفهوم التخصّص ، وذلك بتحديد الحقول المهمّة التي لها صلة مهمّة وحيوية بالخطابة الحسينيّة ، والتي تمكّن الخطباء من الانكباب التام على حقل من هذه الحقول المعينة ، متمكّناً بذلك من الإلمام التام والإحاطة الكافية التي تؤهّله لمعالجة مواضيع هذا الحقل بكفاءة وجدارة .
إنّ مفهوم التخصّص له كثير من الفوائد ، أهمّها توسيع دائرة المعارف التي يمكن للمنبر الحسيني معالجتها بدقة وموضوعية وكفاءة . وتنويع الخطباء على أساس مفهوم التخصّص يعطي للمستمع فرص أكبر للاستفادة من المنبر الحسيني ، من خلال توسيع دائرة الاختيار والتفاعل مع المنبر حسب رغبة المستمع للاستفادة من التخصّصات المتاحة .
إنّ عملية التحديث بناءً على مفهوم التخصّص لا ترمي إلى تمكين الخطباء من تحويل الخطابة الحسينيّة إلى ميدان تنافس الغرض منه حشو المواضيع المعالجة بالكلمات الرنانة ، وإبهار المستمع بالاستشهادات الغريبة والمعقّدة لقضايا العلم والمعرفة .
إنّ أهم أهداف التحديث على أساس مفهوم التخصّص تتمثّل في الأمور التالية :
1 ـ المساهمة في خلق فضاء الوعي الفكري للمجتمع الذي يمكّنه من معالجة قضاياه العالقة ومشاكله الشائكة بجدارة وموضوعية ، من خلال توظيف قدراته المادية والمعنوية بكفاءة وفاعلية ، ويساهم المنبر أيضاً مع سائر الوسائل الثقافية الاُخرى فيما يسمّى بـ (التنشئة الاجتماعية) التي تعمل على صيانة المجتمع من الغزو الفكري والانحطاط الحضاري(11) .
2 ـ رفع مستوى الطرح للنهضة الحسينيّة إلى مستوى يمكن من خلاله صياغة مشاريع لمعالجة مشاكل الإنسان في هذا العصر ، وبهذا يساهم المنبر في تحصين المجتمع من حالة الإفلاس الفكري ، والمعالجة الواقعية لمشاكله اليومية الخانقة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي .
3 ـ ربط المستمع بقضايا الساعة ، وبيان مدى أثرها ، ووقعها على حياته اليومية .
4 ـ إثارة روح الحوار البنّاء من خلال استشارة المستمع لمناقشة ونقد وتحليل المفاهيم المطروحة مع الخطيب بشكل أوسع ؛ حيث يساعد هذا المنهج على تخليص المنبر من ظاهرة الطرح الأُحادي الاتّجاه الذي يُمارَس من قِبل غالبية الخطباء في الوقت الحاضر ، وكأن المنبر جزيرة منعزلة لا دور للمستمع فيما يُطرح ويعالج .
الثاني : الجانب الفني الخطابي
تشمل الجوانب الفنيّة في الخطابة الحسينيّة فنون الرثاء وطرق الإنشاد ، والأمور الفنيّة المتعلّقة بأساليب الخطابة ، خصوصاً ما يتعلّق بقدرات الخطيب في إدارة الناس والتأثير عليهم .
هذه الجوانب الفنيّة للخطابة الحسينيّة يمكن أن تنال الكثير من التطوير والتحسين إذا ما استفادت من بعض العلوم ذات الصلة بهذا الفن .
ومن أهم هذه العلوم التي لها التأثير الكثير في تطوير الجوانب الفنيّة في الخطابة الحسينيّة هي :
أ ـ علم الموسيقى
( تبنى الموسيقى في كافة صورها وألوانها على عنصرين أساسيين هما ؛ الإيقاع والنغم . فالإيقاع : هو علاقة الأصوات بالنسبة إلى بعضها من حيث استغراق كلّ منها زمناً معيناً يختلف طولاً وقصراً . والنغم : هو علاقة الأصوات ببعضها من حيث الحدّة والغلظ )(12) .
ويتّضح في تركيب الموسيقى أنّ هذا العلم ذو صلة مباشرة بأساليب أداء الرثاء وطرقه . فالرثاء في الخطابة الحسينيّة يعتمد في كافة مناهج أدائه النغم والإيقاع . والخطيب الذي يمتلك القدرة والكفاءة العالية في استغلال مواهبه الموسيقية عند أداء النصّ الرثائي يحقّق أحد أهم المقاصد المطلوبة في أداء الرثاء ، وهو استثارة الحزن والبكاء .
من أهم مبرّرات الاستعانة بعلم الموسيقى لتحديث فنون الرثاء هي :
1 ـ إنّ علم الموسيقى له قواعد وضوابط تنظّم النغم والإيقاع ، والاستعانة بقواعده يوثق ويخضع النغم والإيقاع في الرثاء لنظام واضح ، ويخرجه من العفوية والارتجالية .
2 ـ بناء الرثاء على قواعد علمية يفسح المجال لتطويره ، وإدخال الكثير من التعديل على أطواره وأساليبه على ضوء قواعد العلم وضوابطه .
3 ـ قيام الرثاء على أساس علم الموسيقى يمكِّن القائمين على تطوير المنبر الحسيني وتحديثه من وضع الضوابط والقوانين ؛ لتحديد قدرة أصوات المتطوعين لخدمة المنبر الحسيني ، وسبل تطويرها وتحسينها .
4 ـ استعانة الرثاء بعلم الموسيقى يجعل من الرثاء كمقرّر دراسي يمكن تدريسه في المعاهد العلمية المقترحة لتدريس الخطابة الحسينيّة .
ب ـ علم الاتصال الجماهيري
( الاتصال الجماهيري باقة رسائل تُبثّ عبر وسيلة اتصال جماهيرية إلى عدد كبير من الناس )(13) .
( يعنى الاتصال بدراسة تبادل المعاني بين الأفراد في المجتمع عبر نظام مشترك من الرموز )(14) . (الرموز تمثّل المعاني المتعارف عليها اجتماعياً ، والتي يتبادلها الناس لدى ممارسة الاتصال ؛ لتحقيق التفاهم بينهم )(15) .
وعرّف الاتصال الجماهيري أيضاً بأنه : ( يكون من مصدر واحد ، شخص أو مؤسسة إلى جماهير غفيرة ومتنوعة ، مثل أجهزة الاتصال الجماهيرية )(16) .
يتكوّن الاتصال الجماهيري من أربعة عناصر أساسية هي : المرسل ، الرسالة ، الوسيلة ، والمستقبل . وتدخل عناصر أخرى من أهمها : رجع الصدى ، أو ترجيع الأثر ، وهو رد الفعل على الرسالة التي تبثّها وسائل الاتصال الجماهيري .
لا يشذّ المنبر الحسيني في مهامّه ورسالته عن أيّ من الوسائل التي تنطوي تحت الاتصال الجماهيري بالرغم من محدوديته واعتماده على الطرق التقليدية في إبلاغ رسالته .
المنبر الحسيني يستطيع أن يحقّق الكثير من التحديث والتطوير لقدراته وكفاءاته باستغلاله علم الاتصال الجماهيري ؛ ليحقق إبلاغ رسالته في التأثير النفسي لسعة ما حققته وسائل الاتصال الجماهيري اليوم .
ويمكن للخطابة الحسينيّة من تحقيق ذلك على صعيدين :
1 ـ إلمام الخطيب بتقنيات ووسائل الاتصال الجماهيري ، خصوصاً مفهوم (حارس البوابة)(17) الذي يمثّل أحد أهم المفاهيم في علم الاتصال الجماهيري ، والذي يعتبر الخطيب عنصره الأساسي في الخطابة الحسينيّة .
إنّ إلمام الخطيب بعلم الاتصال الجماهيري يمكّن من إعادة الترتيب لأساليبه الخطابية ؛ لرفع أدائها في مجابهة الهجمة الثقافية التي يشهدها عالمنا الإسلامي اليوم . إلاّ إنّ ما يجب التأكيد عليه أنّ نجاح الخطيب في رفع كفاءته الخطابية بعلم الاتصال الجماهيري لا تتسنى إلاّ عبر معاهد أكاديمية للخطابة الحسينيّة ، تتبنّى تدريس منهج مشتق من علم الاتصال الجماهيري ، ويناسب حاجة الخطيب ، ويوافق منهج الخطابة الحسينيّة .
2 ـ نقل تقنيات الاتصال الجماهيري إلى الخطابة الحسينيّة .
يمكن للخطابة الحسينيّة أن تحدّث من قدراتها ، وتوسّع من دائرة تأثيرها بكثير من تقنيات الاتصال الجماهيري ، ويمكن الإشارة إلى جانب منها .
يمكن للخطابة الحسينيّة أن توسّع من دائرة المستمعين لها باستغلال وسائل الاتصال الجماهيري ، وقد أسهمت بعض الوسائل في توسيع دائرة المستمعين للمنبر مثل الراديو والتلفزيون والإنترنت ، وقد ساعدت هذه الوسائل بالإضافة إلى دورها في توسيع دائرة المستمعين للمنبر إلى توثيق وحفظ كثير من الخطب الحسينيّة للخطباء المشهورين وإعادة بثها ، إلاّ إنّ المنبر الحسيني ما زال بعيداً عن الاستفادة القصوى من وسائل الاتصال الجماهيري ؛ خصوصاً وسائل البثّ المباشر عبر الراديو أو التلفزيون ، أو من خلال استغلال القنوات الفضائية لذلك .
ويمكن بلورة شكل الفائدة التي يقدّمها البثّ المباشر عبر الأقمار الصناعية للمنبر الحسيني ، عن طريق اقتراح محطّة فضائية مخصّصة تهتم بالمنبر الحسيني ، تُبثّ فيها الخطب الحسينيّة ، وتخصّص فيها برامج حوارية ووثائقية لمهام المنبر الحسيني ، وسبل تحديثه وكلّ ما يمتّ له بعلاقة .
وقد قدّمت القنوات الفضائية للجمهورية الإسلاميّة الإيرانية صورة لا بأس بها لقيمة هذه الأدوات في دعم ، وتحديث المنبر من خلال تبنيها لكثير من مواد المنبر الحسيني . وتعتبر التجربة الرائدة التي قدّمها تلفزيون المنار في إعداد خطب حسينية خاصّة لمحرم ( 1422 هـ ) للخطيب البارع الشيخ الدكتور أحمد الوائلي أثراً بالغاً ، وخطوة مهمّة في توسيع دائرة المستمعين للمنبر الحسيني ، وإضافة بُعد ومهمّة جديدة لدور القنوات الفضائية في هذا المضمار ، إلاّ إنّ انحصار ذلك في محرّم وصفر ، والمناسبات الاُخرى يحدّ من الاستفادة القصوى من هذه الوسائل ، بالإضافة إلى محدودية المادة الإعلامية التي تبثّها هذه الوسائل .
تعتبر الصحف والمجلات والدوريات المتخصّصة من أهم وسائل الاتصال الجماهيري التي تغطّي مساحة واسعة من الجمهور ، وبها يستطيع المنبر الحسيني استغلال هذه الوسائل في تحديث وتطوير مناهجه وقدراته .
ومن أهم ما يمكن اقتراحه في استغلال هذه الوسائل هو إنشاء دورية علمية متخصّصة للمنبر الحسيني ، يستطيع رواد المنبر والمهتمون بنشر بحوثهم العلمية ، واقتراحاتهم في تطوير المنبر في هذه الدورية العلمية .
إنّ هذه الدورية العلمية ، وسيلة مهمّة لتبادل الآراء ، ونقل التجارب العلمية والخبرات الخطابية بين الخطباء والمهتمين ، كما تعتبر نافذة مهمّة لمستوى التحديث الذي يناله المنبر ؛ سواء في محتوى الأفكار المطروحة ، أو في سرعة الحركة التحديثية وتوجهاتها .
مبررات الاستعانة بوسائل الاتصال الجماهيري لتطوير المنبر الحسيني
1 ـ رفع مستوى أداء المنبر ؛ ليكون بمستوى الوسائل الحديثة في التأثير على الجمهور والساحة التي يغطّيها .
2 ـ توسيع دائرة المستفيدين من المنبر خارج الدائرة التقليدية من المستمعين .
3 ـ فسح المجال للأدوات العلمية ؛ لتقوم بدورها في تحديث المنبر وتطويره على الأسس العلمية .

ثالثاً : منبر حسيني للطفل ضمان لحفظ الهوية ورعايتها
تولي الأمم والحضارات اهتماماً بالغاً بالطفل ، وتخصّص له ساحة واسعة من أدبياتها وفنونها ونتاجها الفكري والحضاري ؛ لحساسية الطفل المستفيضة من التأثر والتقمّص لما حوله .
وبرز شعراء وأدباء ومفكّرون خصّصوا جلّ نتاجهم للطفل ، مثل أمير الشعراء أحمد شوقي ، وطاغور شاعر الهند الكبير .
وقد أولى الإسلام اهتماماً بالغاً بالطفل ، وشدّد على ضرورة المبادرة إلى رعايته منذ انعقاد النطفة في رحم الأم ، وينعكس هذا الاهتمام والحرص بالطفل جلياً في تراث أهل البيت النظري والتطبيقي .
والتاريخ حافل بالمآثر والمواقف المتميّزة لأطفال أهل البيت ، الذين يعكسون أثر التربية والرعاية المبكّرة للطفل في الكشف عن مواهبه وقدراته المبكرة ، ممّا يجعل دراسة أساليب أهل البيت في رعاية وتربية الأطفال مادة غنية للبحث العلمي لعلم النفس الحديث .
والمنبر الحسيني هذه القناة الإعلامية للنهضة الحسينيّة ، التي تتصدّر مناهج التحديث والإحياء للفكر الإسلامي على مرّ العصور يتحمّل العبء الأكبر في رعاية الطفل وحمايته ، لا سيما في هذا الوقت من التاريخ الذي تشهد فيه الأمّة الإسلاميّة هجمة ثقافية تسلّطية للسيطرة على أرض الحدث المسلم ، واستغلالها كقاعدة انطلاق هجومها الشامل .
إنّ تأسيس منبر حسيني للطفل يُعدّ أحد الوسائل المهمّة في تسخير وحشد ما تملك من طاقات وذخائر ؛ [ لا ] لصد الهجمة الثقافية فحسب ، بل لإرساء القاعدة الصلبة التي منها تلتقط الأمّة أنفاسها لاسترداد دورها الاستشهادي على الناس .
يستطيع هذا المنبر أن يقدّم القيم المعنوية والمفاهيم والمبادئ التي تختزنها النهضة الحسينيّة للطفل باُسلوب سلس ومشوّق ، من خلال ربط الطفل الحاضر بأطفال النهضة : القاسم بن الحسن ، وعبد الله بن مسلم ، وعبد الله بن الحسين , وغيرهم ، ويتقمّص إخلاصهم ووعيهم ، وإدراكهم لمبدئهم ، وجلدهم وهممهم الوثّابة .
[ إن وجود ] منبر حسيني للطفل [ هو ] أداة ضرورية في تقديم النهضة الحسينيّة للطفل على هيئة مشاريع ، ونظم للحياة التي يجب أن يصنعها الجيل الصاعد .
إنّ إحالة مفاهيم النهضة الحسينيّة إلى نظم وقواعد موضوعية في حياة الطفل هو الهدف الأساسي لهذا المنبر المقترح .
أهم الإعدادات الأساسيّة لتحقيق منبر حسيني للطفل
1 ـ إعداد خطباء شباب يتمتّعون بقدرة على محاكاة الطفل ، وإدراك احتياجاته من خلال العرض السلس والمتين للنهضة الحسينيّة .
2 ـ ضرورة توفّر نتاج ثقافي للنهضة الحسينيّة موجه للأطفال من حيث الصيغة والاُسلوب والمنهج ، ويتسنّى ذلك من خلال دعوة المثقفين والشعراء والأدباء والعلماء ؛ لتخصيص نتاج أدبي ثقافي نستطيع أن نطلق عليه بـ (أدب النهضة الحسينيّة للطفل) . هذا النتاج الثقافي يمثّل عوناً ومدداً ضرورياً لخطباء المنبر الحسيني للطفل .
رابعاً : توسيع دائرة المخاطَبين والممارسين للمنبر الحسيني ؛ لتفعيل دوره الإسلامي والإنساني
الأول : توسيع دائرة المخاطبين من قِبَل المنبر الحسيني .
نقصد بتوسيع دائرة المخاطبين من قبل المنبر الحسيني ، تعريض قاعدة المستمعين خارج نطاق الموالين والتابعين لمدرسة أهل البيت (عليهم السّلام) من المسلمين وغير المسلمين ، مع التأكيد على تطويع المنبر الحسيني لإيصال رسالته عبر اللغات المختلفة غير اللغة العربية .
وأمّا الهدف الرئيس والمهم من الدعوة لهذا التوسيع يتمثّل في النقاط التالية :
1 ـ أنّ النهضة الحسينيّة حركة إصلاحية تستهدف إقامة الحياة على أسس الإسلام ، وتفعيل منهج التوحيد في إدارتها وبنائها ؛ فتوسيع دائرة المستمعين لرسالة النهضة الحسينيّة التي يتعهّد المنبر الحسيني بإبلاغها ، هو الأمر الذي يجب أن يتحقّق ؛ لإخراج انحصار المستمعين له من دائرة التشيع إلى دائرة الإسلام والعالم ؛ كي تمدّ النهضة الأمّة والإنسانية بمفاهيمها وقيمها التي هي بأمسِّ الحاجة إليها للخروج من كبوتها الكؤود في هذا العصر .
2 ـ توسيع دائرة المستمعين للمنبر يجعل منه أداة فاعلة ونشطة في تحديد المسار الثقافي للأمّة ، ومنافساً قويّاً لوسائل الإعلام ، والمصادر الثقافية المختلفة التي تحدّد طبيعة الزاد الثقافي وعمقه للجيل الحاضر .
المنبر الحسيني في توسّعه المرجو يتحوّل من أداة سلبية متقوقعة في دائرة ضيقة من الجماهير المسلمة إلى أداء إيجابية تساهم وتشارك في صناعة القرار ، وذلك أمر لا يتحقّق إلاّ من خلال إشراك كافة الطوائف الإسلاميّة وغير الإسلاميّة .
3 ـ تعاني الأمّة الإسلاميّة معاناة مزمنة وحافلة بالآلام من الفرقة والتناحر والصدود بين مختلف طوائفها وفرقها ، وللمنبر القدرة على المساهمة في علاج هذا الداء العضال من خلال توسيع دائرة مستمعيه .
إنّ الحوار بين الطوائف الإسلاميّة وغير الإسلاميّة هو الحلّ الناجع لمعضلة العصبية والطائفية ، والمنبر الحسيني إذا ما تمكّن من إبلاغ رسالته إلى أسماع جميع المسلمين وغير المسلمين ، ساهم في إرساء التفاهم والتعارف الذي يعتبر أهم خطوة من خطوات الحوار .
إنّ توسيع دائرة المستمعين والمستفيدين من المنبر الحسيني أمر تعترضه كثير من العقبات والصعوبات ، إلاّ إنّ تحقيق ذلك يمكن من خلال التخطيط المتقن ، والإعداد الجيد مع حسن الاختيار للوسائل الفاعلة والناجحة ، ومن أهم ما يمكن اقتراحه في هذا الصدد هو :
1 ـ وسائل الإعلام
تلعب وسائل الإعلام خصوصاً التلفزيون والراديو الإنترنت دوراً بارزاً في إيصال رسالة المنبر الحسيني للجماهير غير التقليدية ، كما تلعب الصحف والمجلات دوراً مسانداً في إعداد ذهنية المستمع غير التقليدي للمنبر الحسيني ، من خلال إزالة العوائق النفسية والصدود الناتج من الأفكار السلبية العالقة في ذهنه عن النهضة الحسينيّة ووسائل إحيائها .
2 ـ لغة الخطابة
إنّ لغة الحوار والانفتاح على الغير هو السبيل لإشاعة روح التقريب بين الطوائف الإسلاميّة المختلفة ، أو بين المسلمين أو غير المسلمين . فإذا ما تمكّن المنبر من تقمّص خطاب يدعو إلى إشاعة روح الألفة والتعارف والتعاون بين المسلمين وغير المسلمين ، والدعوى إلى شعار الوحدة الإسلاميّة والإنسانية ، والحوار بين المسلمين وغير المسلمين يصبح ممكنا للمنبر أن يخترق الحواجز والحدود التقليدية من الجماهير التي ألف مخاطبتها .
3 ـ التخطيط والبرمجة
إنّ التخطيط والإعداد للنجاح في توسيع دائرة المستمعين للمنبر الحسيني لا يتمّ إلاّ من خلال هيئة ترعى المنبر وتتكفّل بإصلاحه ، وذلك ميسور من خلال إقامة رابطة لخطباء المنبر على غرار ما هو شائع في أوساط التخصّصات العلمية ، كرابطة الأطباء والمهندسين وغيرهم .
إنّ الرابطة المقترحة لخطباء المنبر تمثّل المقود الذي يتكفّل بهداية حركة التحديث للمنبر بشكل عام ، وعملية توسيع دائرة المستمعين للمنبر بشكل خاص .
الثاني : توسيع دائرة الممارسين للمنبر الحسيني
وضّحنا في معرض حديثنا عن الجوانب الفنيّة للخطابة الحسينيّة في الفصل الثاني عن المنهج الخطابي العام ، وبيّنا إنّ هذا المنهج يمثّل باباً لمساهمة التخصّصات المختلفة لخدمة المنبر الحسيني .
إنّ المنهج الخطابي العام لا يقصر خدمة النهضة الحسينيّة على خطباء المنبر ، بل يفسح المجال لذوي التخصّصات ذات العلاقة بالعلوم الإنسانية والإسلاميّة لإثراء المنبر الحسيني .
إنّ توسيع هذه القاعدة المهمّة في خدمة المنبر تتسنى من خلال مراعاة الأمور التالية:
1 ـ ضرورة الجمع بين الرثاء والموضوع لا يشترط في أدائهما من قبل شخص واحد ، بل يمكن لصاحب الاختصاص من القيام بدوره ، وصاحب الصوت العذب من أداء دوره .
إنّ توسيع دائرة الممارسين للمنبر الحسيني يجب ـ وبأيّ شكل من الأشكال ـ أن لا يكون على حساب الرثاء في المنبر الحسيني .
2 ـ ضرورة إلمام المتخصّص المتصدّي للخطابة بالقواعد والمفاهيم الإسلاميّة العامّة من فقه واُصول وفلسفة وتفسير ، مع الإحاطة الجيدة بعلم المنطق واللغة العربية .
ويمكن إعداد الخطيب من خلال اجتيازه لدورة خاصّة تُعدّ من قبل المعاهد المتخصّصة للخطابة الحسينيّة أو المعاهد الإسلاميّة .
3 ـ أهمية المعرفة التامّة للمتخصّص الخطيب للتاريخ الإسلامي والتاريخ العالمي في مراحله المختلفة .
__________________
(1) واقعة كربلاء تجسيم عملي للإسلام ، الملحمة الحسينيّة 1 / 220 .
(2) المصدر نفسه / 232 .
(3) المصدر نفسه / 234 .
(4) ,(5)،(6)،(7)،(8) أهل البيت في الكتاب والسنة ، محمد الري شهري ـ مؤسسة دار الحديث الثقافية , الطبعة الأولى .
(9) عدس ، محمد عبد الرحيم ، دور العاطفة في حياة الإنسان .
(10) من قصيدته العينيّة في مهرجان الشعر العربي في بغداد .
(11) التنشئة الاجتماعية تعمل على بناء شخصية الفرد المتماثلة مع قيم واتجاهات وعادات المجتمع الذي يعيش فيه ، أي إنّ فرداً يشرب ثقافة مجتمعه بواسطة عملية التنشئة الاجتماعية ـ الغزوي ، فهمي سليم وغيره ، المدخل إلى علم الاجتماع .
(12) القواعد والنظريات الموسيقية ـ حمزة محمد البشير .
(13) الاتصال الجماهيري ـ جون بشير .
(14) ، (15) المدخل في الاتصال الجماهيري ـ د . عصام سليمان موسى .
(16) مقدمة في علم الإعلام والاتصال بالناس ـ محمود عبد الرؤوف كامل .
(17) يعرّف مفهوم حارس البوابة بأنّه : ( أيّ شخص أو مجموعة منظّمة بشكل رسمي ، ومتصلة مباشرة بعملية ترحيل ، أو نقل المعلومات من فرد لآخر عبر وسيلة اتصال ) . علم الاتصال الجماهيري ـ جون بشير .