دراسات حول المنبر
بحوث و مناظرات

إنّ للأصوات أثراً كبيراً في حسن وقع الكلام أو قبحه ، وليس المرجع في ذلك جمالها وقبحها ، ولكن عمقها وركوزها ورياضتها على تصوير المعاني ، وجودة نقل الخواطر ؛ فإنّ الألفاظ والأصوات متعاونات في الدلالة على المعاني النفسيّة ، فألفاظ التألّم والحزن والغم مثلاً إذا سمعتها مجردة ما أثارت في نفسك شيئاً .
أمّا إذا سمعتها من متألم ، واشترك صوت متأثر بالآلام مع اللفظ ، أثارت في نفسك خواطر الأسى ومواضع الحزن ، وأحسست بالألم العميق ، تشترك فيه مع مَنْ حكى لك آلام نفسه في نغمات صوته .
وليعلم الخطيب أنّه لا شيء كالصوت يعطي الألفاظ قوّة حياةٍ ، وإنّه إذا أحسن استخدامه خلق جواً عاطفياً يظُلّ السامعين ، وبه يستولي عليهم(1) .
أمّا جمال الصوت وقبحه فله وقع آخر في النفس من نوع آخر . فمن الناس مَنْ يسمع الإنسان صوته محدّثاً أو قارئاً أو خطيباً فيشعر بنغماته تثير ارتياحه ، وبرنينه يهزّ إحساسه ، وبعمقه يصل إلى أبعد غور في نفسه ، وبتشكيله بأشكال مختلفة يتّضح المعنى ، وينكشف المبهم ، ومن الناس مَنْ تسمع منه أجمل العبارات ، وأجود الألفاظ الدالّة على المعاني ، فترى العبارات قد فقدت جزءاً كبيراً من بهجتها ، وذهب من المعاني أكثر روعتها(2) .
فلمّا كان الإنسان مجبولاً بفطرته على الميل نحو الجميل والنفور عن القبيح ، فيمكن أن يكون الصوت سبباً لقبول الدعوة إذا كان حسناً ، ويمكن أن يكون سبباً للنفور والابتعاد عنها إذا كان قبيحاً .
قيل : إنّ رجلاً مسلماً كان يؤذّن في المسجد يومياً ، جاءه رجل يهودي يشكره على الخدمة الجليلة التي أسداها له , فأنكر المسلم ذلك ؛ لأنّه لم يسبق بمعرفته ، ولم يقدّم له أيّ خدمة استحقت الشكر والثناء ، غير أنّ اليهودي أجابه : بأنّ له بنتاً اعتنقت الدين الإسلامي , وأصرّت عليه قبال محاولاته المتكرّرة في إرجاعها لليهودية , ولمّا سمعت ذلك الصوت المزعج من ذلك المؤذّن دخل في قلبها الاشمئزاز والنفور ؛ ممّا خفّف وطأة إصرارها على الإسلام حتّى عادت فيما بعد إلى اليهودية ! فَكان هذا العمل من هذا المؤذّن استحق الشكر في نظر اليهودي ؛ لأنّه صنع ما لم يصنعه(3) .
وقد ورد في الفقه الإسلامي استحباب أن يتقدّم للأذان مَنْ كان صوته جميلاً ؛ لأنّ طبع الإنسان ميّال إلى الجميل ، وكذلك في قراءة القرآن أمام الناس ؛ فإنّ اللحن الحسن والصوت الجميل لهما أثر في القلوب .
إنَّ من أبرز الاُمور التي ميّزت الخطابة المنبرية عن غيرها تضمّنها لجزء واسع من الأداء الصوتي ، فعلى الخطيب أن يراعي هذين الأمرين :
أ ـ أن يتقن أطوار الخطابة الحسينيّة المختلفة ، ويستفيد منها بحسب أذواق الحاضرين ، فإنّ لكلّ جماعة ذوقاً ينبغي مراعاته والقراءة على طبقه ؛ فإنّ ذلك ضامن لامتلاك نفوسهم وعواطفهم .
ب ـ أنَّ المنبر الحسيني كما إنّه وسيلة للهداية والإصلاح ، فهو عبرة تمتزج العواطف مع أهل البيت (عليهم السّلام) تعبيراً عن الولاء والإخلاص لهم ؛ ولهذا فإنّ غالبية الناس لا يفرّطون بهذه الدموع ، فيرجّحون غالباً المنبر الذي فيه ذلك ، وإن كان بسيطاً في موضوعه على المجلس الذي يخلو من ذكر مصائب أهل البيت (عليهم السّلام) ، وإن كان المتحدّث يأتي بالجديد والغريب .
إضافة إلى ذلك أنّ الناس يرجّحون الخطيب الذي يتمتّع بصوت حسن ، وأداء جيد على الخطيب الذي ليس لديه حظّ من ذلك ؛ لما تقدّم في أنّ الخطيب مهمّته تقريب القلوب من صاحب المصاب .
فالخطيب الذي ليس لديه ما ترغب به الناس أن لا يقحم نفسه معهم ؛ فإنّ النتيجة سوف لا تكون بصالحه ، والتجربة شاهد على ذلك ، إلاّ إذا علم توافقهم مع ما عنده.
صوت الإنسان
إنّ مصدر حدوث الصوت في الإنسان هما الحبلان الصوتيّان في الحنجرة ، والحبلان الصوتيّان غشاءان عضليّان مثبّتان بين الغضروف العلوي والخلفي للحنجرة ، وبينهما فتحة ضيّقة ، ويتحكّم في شدّ وارتخاء هذين الغشاءين عضلات خاصة ، فإذا كان الإنسان صامتاً فإنَّ الحبلين الصوتيين يكونان مرتخيين ، وإذا تحدّث الإنسان فإنّ الحبلين
الصوتيين يصبحان مشدودين ، وتضيق الفتحة بينهما ، وعندما يندفع الهواء بين الحبلين الصوتيين فإنّهما يهتزّان ، وبمساعدة الحلق واللسان ، والشفتين والأسنان يتشكّل صوت الإنسان وتُسمع الكلمات .
خصائص الصوت
وهي ثلاث :
أ ـ القوّة (شدّة الصوت)
هي سعة اهتزازات الآلة الصوتية ، وهي تتعلّق بالقوّة التي يطرد فيها الهواء الرئتين ، كما إنّ قوّة الصوت الخارج من أوتار العود مرجعها قوّة ضرب الأنامل .
ب ـ النبرة (درجة الصوت)
وهي في درجة شدّ الأوتار ، أو ما ينجم عنها من تغيّر في مدى الاهتزاز ، وهذا الشدّ تقوم به عضلات الحنجرة التي تشدّ أو ترخى ، والتي قد يصيبها الشلل كما في بعض الأمراض العصبية فيبحّ الصوت أو ينطفئ .
ج ـ الرنّة (نوع الصوت)
وهي التي تميّز الأصوات بعضها عن بعض ؛ لأنّها تتعلّق بتجويف الفم ، وتختلف في كلّ واحد باختلاف هذا التجويف ؛ إذ لا علاقة للرنّة في قوّة الصوت ونبرته ، وقد يصل الإنسان بالتمرين إلى تبديل رنّة صوته ، كما يفعل المقلّدون في محاكاة غيرهم من الناس ، أو محاكاة أصوات الحيوانات .
عيوب الصوت وعلاجها
عيوب الصوت كأن تكون رنّات الصوت مزعجة ، أو لا تكون من القوّة بحيث تسترعي الانتباه ، أو يكون بالخطيب ضيق نفس بحيث لا يستطيع أن يقول كلاماً مفيداً من غير أن يقطع النفس بيانه ، ويفسد عليه استرساله ، وهذه العيوب بعضها يعالج بالمران ، وبعضها يستعان عليه بالطبّ مع المران .
وقد وضعوا بعض المحاولات في تحسين رنّة الصوت أو قوّته ، كما إنّه ليس هناك أنفع أثراً من المران .
فإذا كنت تحسّ أنّ كلامك مضطرب ، ونبرات صوتك تثير السخرية للسامع ، أو لا تسترعي التفاته ، فجرّب التمرينات التالية عشر دقائق كلّ يوم لمدّة شهر :
أ ـ خذ نفساً عميقاً ثمّ الهث بسرعة ونشاط حتّى تتعب ، ثمّ حاول أن تضحك وأن تستنشق الهواء ببطء عدّة مرّات ، وحاول عند الزفير أن تكرّر كلمتي (هوت) (هات) ، ولا تيأس أذا أجهدتك هذه التمرينات في الأيام الأولى ؛ فإنّ ذلك يدلّ على أنّ عضلة الحجاب الحاجز عندك في حاجة إلى تنشيط .
ب ـ لتنشيط عضلات الفكّين حوّل رأسك في حركات دائرية ، ثمَّ تثاءب وأَدر فكَّيك ببطء من جانب إلى جانب ، ثمَّ اقرأ في همس وبسرعة حتّى تتعب الأوتار .
إنّ بعض العيوب ترجع إلى ضعف نبرات الصوت ، وإلى سوء نطق الحروف التي تتكوّن بتحريك اللسان والشفتين ، والأسنان وسقف الحلق والفكين في أوضاع مختلفة ، وهذه التمرينات مفيدة لتلافي هذه العيوب .
ج ـ إذا كنت ( أخنب ) ، كلامك يبدو من أنفك ، فإنّ ذلك يرجع إلى أنّك تسدّ أنفك أثناء الحديث ، فتحرم نفسك بذلك من تكبّر وترشّح مهم للصوت .
حاول أن ( تدندن ) لبضع دقائق ، وأن تعود إخراج الصوت من الأنف بالإكثار من ترديد كلمات تنتهي بالحرفين ( م ، ن ) أو المقطع ( إنچ ) .
د ـ إذا كان الصوت ضعيفاً فعلاجه بتقوية الرئتين بالصياح كما فعل ( ديموستين ) ؛ فقد كان ضعيف الصوت ، فلمّا أراد أن يصبح خطيباً راض نفسه ، فصعد على الجبال الوعرة ، ووقف قرب ساحل البحر ، محاولاً أن يكون صوته أعلى من صخب أمواج البحر . وقد كان له ما أراد بتلك المحاولات(4) .
التحكّم في الصوت
أ ـ أن يجعل الخطيب صوته مناسباً لسعة المكان ، ولعدد السامعين ، فلا ينخفض حتّى يصير همساً في آذانهم ، ولا يعلو حتّى يكون صياحاً ، بل يكون بين هذا وذاك.
ب ـ وعند الابتداء يبتدئ بصوت منخفض ، ثمّ يعلو شيئاً فشيئاً ؛ فإنّ العلوّ بعد الانخفاض سهل ، ووقعه على السامعين مقبول ، أمّا الانخفاض بعد الارتفاع فلا يحسن وقعه(5) .
ج ـ على الخطيب أن يوازن بين الزمن الذي تستغرقه خطبته والمجهود الصوتي الذي يجب بذله ، وليجعل هذا على قدر تلك المدّة ؛ وإلاّ أصابه الإعياء قبل الوصول إلى الغاية ، وهذه مشكلة حقيقية يعاني منها الكثير من الخطباء ، خاصّة الخطباء المبتدئين ، فإنّ صوته لا يعينه على إتمام خطبته ، وكثيراً ما تتغيّر نبرة الصوت في آخر الخطبة فيبحّ ممّا لا يسعفه على إتمام الخطبة إلاّ بعناء ومشقّة .
الإشارات
الإشارات هي المخاطبة الصامتة ، أو هي لغة التفاهم العامّة ، وهي في كثير من الأحيان صوت الشعور وعبارة الوجدان . فالغاضب ينغض جبينه ، ويعبس وجهه ، ويقبض أصابعه بدافع شعوري من غير إرادة ؛ لهذا كان للإشارة أثر في إثارة الانتباه والشعور ، وتقوية الدلالة ؛ لأنّ للمعنى ثلاث دلالات :
1 ـ لفظيّة
2 ـ صوتيّة
3 ـ إشارات بيانيّة
والإشارات البيانيّة بعضها شعوري اندفاعي لا يكون بالإرادة ، بل بدافع الإحساس الوقتي للخطيب الذي يثيره موقفه الخطابي ، كتحريك الحاجبين للدهشة ، وبعضها إرادي قصدي يعمد إليه الخطيب للتأثير .
والإشارات على نحو عام ذات أثر في تأكيد الكلام في نفس السامع وتقويته ، غير أنّه يجب أن يلاحظ إنّ للإشارات قيوداً لا تحسن إلاّ بها :
أ ـ يجب أن تكون ملائمة للمعنى ، موافقة له ؛ يشعر السامعون بقوّة دلالتها عليها ، وإلاّ كانت حركات عابثة لا معنى لها .
ب ـ أن تكون الإشارة مقارنة للقول أو تسبقه قليلاً ؛ لتكون ممهّدة ومنبّهة له ، فينتبه السامعون ويترقّبونه ليجئ في وقت الحاجة إليه فيثبت بأحسن ثبات .
ج ـ لا يصح أن تتكرّر الإشارة ؛ فإنّ في تكرارها ما يدعو إلى السأم والملل ، وما يوهن موقف الخطيب ، ويضعف تأثير قوله ، ويذهب بسمت الخطيب ومهابته عند السامعين ، فعلى الخطيب أن يتقيّد في اعتدال استخدام الإشارات وبحسب الحاجة(6) .
د ـ الإشارات عادة وبحسب المألوف تكون باليدين ، وبتعبيرات الوجه ، ولا تليق بتحريك تمام البدن .
الجلوس
الهيئة التي تتلائم مع الخطابة المنبرية هي الجلوس ، فعلى الخطيب أن يحسن جلوسه على المنبر الذي لا بدّ أن يكون مرتفعاً ؛ ليشرف على السامعين ، وليصل صوته إليهم ليتمكنوا من رؤيته ؛ فإنّ الرؤية تعين على حسن الاستماع .
وقبل الشروع في الخطبة في أوّل ارتقائه المنبر يحسن بالخطيب النظر قليلاً إلى المستمعين حتّى يتمّ سكوتهم ، ويلفت انتباههم نحوه ، أو يدعوهم إلى الصلاة على النبي وآله الطاهرين .
___________
(1) المصدر نفسه / 170 .
(2) الخطابة ـ اُصولها ، تاريخها / 170 .
(3) حكايت ها وهدايت ها در آثار شهيد مطهري / 320 . (فارسي)
(4) كيف تكسب الثروة والقيادة .
(5) الخطابة ـ اُصولها ، تاريخها ـ محمد أبو زهره / 170 .
(6) المصدر نفسه / 173 .