الادب الحسيني

تأملات في ليلة عاشوراء
ذكراكِ مـِلءُ مَحـاَجِرِ الأجيالِ * خَطَرَاتُ حـُزْنٍ يَزْدَهِـي بِجَلأل
وَرَفَيفُ سـِرْبٍ من طُيُوفِ كآبةٍ * تختالُ بيــنَ عَـوَاصِفٍ ورِماَل
يَا لَيْلَــةً كَسـَت الزمانَ بِغَابَةٍ * مِنْ رُوحِها ، قَمــَرِيَّةِ الأَدْغـاَل
ذكراكِ مَلْحَمــَةٌ تَوَشَّحَ سِفْرُهاَ * بروائعٍ نُسِجَت مـن الأَهْــوَال
فَهناَ (الحسينُ) يَخِيطُ من أحْلأمِهِ * فَجْرَيْنِ : فَجْرَ هوىً وَفَجْرَ نِضَالِ
وَ أَماَمَهُ الأجيالُ...يلمحُ شَوْطَها * كَابٍ على حَجـَرٍ مــن الإِذْلألِ
فيجيشُ في دَمِهِ الفداءُ ويصطلي * عَزْمــاً يُرَمّــِمُ كَبْوَةَ الأجيالِ
وَهُنِا (الحسينُ) يُرِيقُ نبضَ فؤادِهِ * مُتَمَرِّغاً في جَهْشَهِ الأطفالِ
طَعَنُوهُ مــن صَرخـَاتِهِمْ بِأَسِنَّةٍ * وَرَمَوْهُ مــن أَنَّاتِهــِمْ بِنِبـَالِ
(فَأَحَلَّ) مـن ثَوْبِ التــجلُّدِ حَانِياً * وَ (أفاَضَ) في دَمْعِ الحنانِ الغالي
وانْهاَرَ فــي جُرْحِ الإباءِ مُضَرجاً * بِالحُزْنِ... مُعْتَقَلاً بِغَيـٍرِ عِقَالِ
فَتَجَلَّتِ (الحوارءُ) في جَبَرُوتِها الـ * قُدْسِيِّ تجلو موقف الأبطــال
مَدَّتْ علـى البَطَلِ الجريحِ ظِلألَها * وَ طَوَتْهُ بين سَوَاعِـدِ الاّمـال
فَتَعاَنَقاَ...رُوحَيــْنِ سَلَّهُمِا الأسى * بِصَفَائِهِ من قَبْضَةِ الصَـلْصَالِ
وعلى وَقِيدِ الــهَمِّ فـي كَبِدَيْهِما * نَضَجَ العِنَاقُ خَمَائِلاً و دَواَلـيِ
وَهُنـَاكَ ( زينُ العابدين) يَشُدُّ في * سَاقَيْهِ صَبْرَهُماَ علـى الأَغْلألِ
و (سُكَيْنَةٌ) بـاَتَتْ تـُوَدِّعُ خِدْرَهاَ * فَتدِبُّ نارُ الشوقِ فـي الأسْدَالِ
والنسوةُ الخَفِراَتُ طـِرَنَ حمائماً * حيرى الرفيفِ كـئيبةَ الأَزْجَالِ
مَازِلْنَ خلفَ دموعِ كـل صَغِيرةٍ * يَخْمِشنَ وَجْهَ الـصبرِ بالأذيالِ
حتَّى تفجَّرَ سِرْبُها في سَرْوَةِ الـ * َأحزانِ فاحْتـَرَقـَتْ مِنَ المَوَّالِ
ووراءَ أروِقَةِ الخيــامِ حكـايةٌ * أُخْرَى تتيـهُ طيُـوفُها بِجَمَالِ
فَهُناَلِكِ (الأَسَدِيُّ) يُبْدِع صــورةً * لِفِدائِهِ ، حُورِيَّــةَ الأشكـالِ
ويحاولُ استنفارَ شِيمَةِ نــُخْبَةٍ * زرعوا الفَلأةَ رُجُولَةً ومعـَاَلي (1)
نادى بِهِمْ... والمجدُ يشهــدُ أنَّهُ * نادى بِأعظمِ فَاتِحِينَ رِجــاَلِ
فإذا الفضاءُ مُُدَجَّجٌ بِصــوارمٍ * وإذا الترابُ مُلَغَّـمٌ بِعَوَالــي
ومشى بِهِم أَسَـداً يقــودُ وَرَاءه * ُنحو الخلــودِ ، كتيبةَ الأشْبَالِ
حتـَّى إذا خدرُ (العقيلةِ) أجهشتْ * أستارُه فــي مِسْمــعِ الأَبْطَالِ
ألقـى السلامَ.... فما تبقَّتْ نَبْضَةٌ * في قَلْبِه لــم ترتعــشْ بِجَلألِ
وَمـُذِ الْتَقَتْهُ ـ مَعَ الكآبةِ ـ زينَبٌ * مخنــوقَةً مــن هَمِّها بِحِبَالِ
قَطــَع استـدارةَ دمعةٍ في خَدِّها * وَأَراَقَ خَاطِــرَها مـن البَلْبالِ
وَتَفَجَّرَ الفــرسانُ بِالعَهْـدِ الذي * ينسـابُ حــول رِقَابِهـم بِدَلألِ
قرِّي فُؤَاداً يا (عقيلةُ) وأحــفظي * هـذي الدموع.. فإنَّهنَّ غـوالي
ما دامتِ الصحراءُ... يَحْفَلُ قلبُها * مِنَّـاـ بِنَبْضـَةِ فــَارِسٍ خَيَّالِ
سيظلُّ في تاريخ كـلِّ كــرامة * ٍميزان عِــزِّكِ طَـافِحَ المِكْيَالِ
عَهْدٌ زَرَعْناَ في السـيوفِ بُذُورَهُ * وَسَقَتـْهُ دِيـمَةُ جُرْحِناَ الهَطَّالِ
أمـاَّ (الفراتُ) فَمُقْلةٌ مَشبُوحَةٌ * نحو الصباح ، مُسَهَّدُ السَلْسَالِ
يَتَرقَّـبُ الغَدَ...بِالدِمَاءِ يَزُفُّهُ * عَبْرَ امْتِــدَادِ أَبَاطِحٍ وتلأل
وَيَتُوقُ (لِلْعَبَّاسِ) يَغْسِلُ مَائَه * ُبِأَجَلِّ مَعْنـىً للوفاءِ ، زُلألِ
- الأستاذ جاسم الصحيّح (1)

نحن إزاء شاعرية تهندس خطابها بصخب هادر وتُزاوج رؤاها بليونة الطين في يد النّحات المتمرّس.
هناك مخطط في بناء القصيدة لا يُخطيء المتلقي في فرزه وتمييزه ، وهناك جهد يختبيء خلف سطور النص ، وهناك جدارة تنزوي خوفاً من قسوة التلقي وبطشه ، لكن هناك جرأة وشجاعة على مستوى التعبير وعلى مستوى الخروج على النمط لايستطيع القاريء إغفاله :
ياليلة كست الزمان بغابة * من روحها قمرية الأدغال
إنّ القوافي سلسة المجيء الى نهايات البيت الشعري ولها ما يبرر مجيئها في حشو البيت ، لكن ماهذه الجرأة في التركيب (غابة من روحها) وما هذا الإنشاء التصويري في المزاوجة بين خطابه لليلة وبين إكتساء الزمان منها بضوء قمر جاء على شكل غابة من الروح أدغالها نورانية الإشعاع ؟
وسنلاحظ هذا النهج في أكثر من بيت عند الصحيّح مما يؤكد أصالة الإلتصاق والإلتحام بما هو جوهري في التأمل الشعري وكيفية معالجته.
والامثلة تتعدد في قصيدته الهادرة فمثلاً نلاحظ :
فهنا الحسين يخيط من أحلامه * فجرين : فجر هوى وفجر نضال
وهنا الحسين يريق نبض فؤاده * متمــرّغاً فـي جهشة الأطفال
ونلاحظ (متمرّغاً في جهشة الأطفال) التي لها معنى بعيد عن المعنى المعجمي المحدود ، وكأن الصحيّح إنتشلها من نسقها القديم ونظّفها من أغبرة الإستخدام المألوف وركّب لها جناحين لتطير في سماء شاعريته ، ونرى أيضاً :
فتعانقا روحين سلّهماالأسى * بصفائه من قبضة الصلصال
وكأنه يقول أن الألم الإنساني في تجلّياته المأساوية يجرّد الإنسان من طينيته ليسمو روحاً تعانق الأرواح القدسية المتآخية.
ونلاحظ ايضا :
قطع استدارة دمعة في خدّها* وأراق خاطرها من البلبال
هذا النظر الى كتلة الأجسام التي يصوّرها وتحديد أشكالها داخل منظور هندسي تتشابك المفردات في تظليلها وتلوينها ، يكشف اللمسات البارعة للريشة المبدعة التي يقبض عليها جاسم الصحيّح بكل كفاءة واقتدار تجعل من شاعريته الفيّاضة متقدمة بخطوةٍ أوسع من مجايليه.
ـ للشيخ جعفر الهلالي(1)
ليلة الشجى
ليلةَ العشــرِ كمْ بعثتِ الضَّراما * لقلوبِ الأنامِ عــاماً فعامــا
ليلةَ العــشرِ مـا تزال حكاياك * ِتُثير الشجى دموعـاً سجامــا
حدّثينا عـن المــآسي العظيما * ت توالت على الـهدى تترامى
حدّثينا عــن غربة السبط تُبدي * زُمرُ الشركِ في عداه الخصاما
يوم جــاءت يقودها البغيُ ظُلماً * واستشاطت لحــربه أقزامـا
حــاولت أن تــذلَّه ليزيــد * ٍأو يذوقَ المنونَ جاما فجامــا
فرأتهُ صعبَ المجسَّةِ صُلبَ العود * ِيأبى له الحجـى أنْ يُضامــا
وبوادي الطفوف سجّل مجــداً * كلَّما مــرَّ ذكــره يتسامـى
بات والأهلُ والصحابُ تُناجـيه * بنطقٍ تـعطيه فيـه التزامــا
تتفـدّاه بالبنيــن وبالأهــل * وتستعـذبُ الردى حيـنَ حاما
وعويلُ النساءِ والصبيةِ الأطفال * فــي ليلةِ الوداعِ يـتامــى
وابنةُ الطهرِ زينبٌ عمّها الوجدُ * فآبت تدعو الحسينَ الإمــاما
يا أخــي من لنا يُحيط حمانا * إن فقدناك حارسـاً مقدامــا
ليت لا كان يومَ عاشوراء لكن * ما قضى الله كان حـتماً لزاما
دجى الليلياليلـة العشر كم تسمو بك الفكر * وفي دروسـك ما تحيى به العبر
رهــط لنسل رسول الله يطرده * عن داره موغـل بالظلم مؤتزر
رهــط تقـاذفه البيداء لاسكن * يأوي إليـه ، عـليه حوم الخطر
ياللعجائب كــم للظلم من صور * يأتي بهـا بشـر فـي فعله أشر
مثل الحسين الذي في جده نعمت * هذي الأنام غــدا يجفى ويحتقر
ونغل ميسون بين الناس حاكمها * وهو الذي لم يصنه الدين والخفر
يملي على السبط إذعانا لبيعته * ودون مـا يبتغيه الصارم الذكر
حاشا ابن فاطمة أن يغتدي تبعا * وهو الذي غصنه ما عاد ينكسر
ياليلة العشر من عاشور أي فتى * قد بـات ليلك لا ماء ولا شجر
وحــوله النسوة الأطهار ذاهلة * وسط الخيام ومنها القلب منفطر
كل تراها وقد اودى المصاب بها * وعندها من مآسي صبحها خبر
وبنيــها زينب والهم يعصرها * ودمعها من جفون العين ينحدر
ترى الحسين أخاها وهو يعلمها * بقتلــه والعدا من حوله كثر
فأعولت والأسى يذكي جوانبها * مما دهاها ونـار الحزن تستعر
فراح يطلب منهـا ان تشاطره * عظم المهمة مهما يعظم الضرر
يااخت لا تجزعـي مما يلم بنا * فذاك أمــر بــه لله نأتمـر
ياليلــة العشر ما خرت عزائم من * للبسط دون الورى في الحق قد نصروا
بـاتــوا ومثل دوي النحل صوتهم * وللصلاة لهــم فــي ليلــهم وطر
وبيــن مــن يقرأ القـرآن ديدنه * حتى الصــباح فمـا ملوا وما فتروا
أكرم بهــم مـن حمـاة مالهم شبه * بين العبـاد وإن قلــوا وإن نـزروا
هم إن دجــى الليل رهبان سماتهم * وفي النــهار ليوث الغاب إن زأروا
صلى الألــه عليهم ماهمت سحب * ومــا أضــاء بأنوار لــه القمر

- الشيخ جعفر الهلالي
خطاب منفتح على ليلة عاشوراء لتحديد أثرها العاطفي حرقة في القلوب على مدى التاريخ ، وحكايا تثير الاحزان دموعا ساكبات ، ثم يدور الخطاب ليصبح حوارا مع الليلة أو مطالبة بالحديث من الليلة كي تسرد الحوادث والمآسي وهي طريقة يختص بها الخطباء الشعراء ضمن طرقهم لشرح مايدور من وقائع حيث يستنطقون حالة ما أو شخصية ما أو غيرها في سرد الحوادث التي جرت على الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء ، والشيخ الهلالي من الخطباء الذين يوظفون معارفهم وعلومهم وأدبهم خدمة للمنبر الحسيني فلا يفوته فن شعري أو أسلوب أدبي أو طريقة خطابة إلا وجندها في صفّه ليغني منبره ويجود خطابته ، وكيف وهو شاعر أيضا يختار لمقدمات خطابته ماجودته القريحة الموالية وما أحسنت صنعه الشاعرية المتفاعلة مع قضية الإمام الحسين عليه السلام.
ـ للشاعر الأستاذ جواد جميل(1)
ودعيني
ودّعيني ففي غدٍ يشرب السيفُ وريدي ويحفرُ القلبَ نصلُ وغداً تذعرين حين ترين الخيلَ في وجهها جـنونٌ وقتلُ وغداً تحملين أشلائيَ الحمراء غِمداً لألف سيفٍ يُسلُّ وغداً تُنهب الخيامُ وخلفَ النارِ تبكي النسا ويهربُ طفلُ وغداً لا يَظلُّ من يــوم عاشــوراء إلاّ جراحــنا... والرملُ هاهنـا تصـرخ الرؤوس الخضيبات ويبكي على صداها النخلُ وترضُّ الخيولُ صدري فيبكي النهرُ في صمته وتبكي الخيلُ آهِ يا زينبَ البطولةِ خلّي الصبرَ رمحاً على خيامكِ يعلو ودعي الدمعَ جمرةً ولهيباً من كُوى الغيب كلُّ آنٍ يَطلُّ فطريقُ الخلودِ صعبٌ وفيه يفتحُ المرءُ جُرحَهُ أو يذلُّ
- جواد جميل
ليلة الأسى والدموع
آه ، يا ليلة الأسـى والدمــوعِ ، أطفأي في دمِ الطفــوف شموعي ودعيني أعيش في ظلمة الحزن ، فعمري شمس بغير طلوعِ وانثري في عيوني الجمرَ وقّاداً ، وخلّي اللهيب بين ضلوعي وامسحي بالسواد لون وجــودي فلقـد كفّنَ الرمادُ ربيعي واحمليني لكربلاءَ خيالاً بجناحٍ من عبرةٍ.. وخشوعِ حيث نحر الحسين ينتظر الماءَ ، ويهفو لرأسهِ المقطوعِ وجراحاته تئنُّ ، فيبكــي ألفُ كون ، على الصدى الموجوعِ والشفـاهُ المخضباتُ نجــومٌ شاحباتٌ من الظما والجوعِ وتمنّـى «الفراتُ» لو طهّرتهُ قطرةٌ من دماءِ نحر الرضيعِ يا عيوني أين البكاءُ ؟ ففيضي هذه كربلا وهذا شفيعي هذه كربلا...وهذي الخيولُ الجُرْدُ تعدو على التريبِ الصريعِ هذه كربلا...وهذا رسول الله يبــكي فــي ساعـة التوديعِ

- الأستاذ جواد جميل

شاعرية الحيوية الإنسانية المتدفقة المنتصبة أمام الفناء والموت بكل شموخ الموقف الوجودي التفصيلي الذي يصون ويديم قيم الحياة ونقاءها الخلاب ، شاعرية الرؤى والتأملات الهاربة خلف نزق طفولي يمسك بطين الإبداع ليشكّله وفق أعين الكبار الذين يرون فيه توازناً وانسجاماً مفقوداً لديهم.
لذلك فشاعرها يبكيهم لكن ليس من أجل البكاء ، فلا يصل بكاؤه إلى مناطق العويل لأنه سرعان ما ينتبه إلى التدفّق والنموّ والنضارة والطراوة التي تحيط الأشياء فيهرب اليها بلا وقار ولا تصنّع.
إن النزق العابث هو روح شاعرية جواد جميل الذي يلائم نصّه مع حاجاته الإتصالية بكل سلاسة فهو ذو رؤيا ملتفتة بشدّة إلى البدء الاول أو الى الجوهري والصميمي من الأشياء ، وعلاقته بمادته علاقة حدسيّة متوقّدة يستشرف النهايات بعمق منذ الوهلة الاولى ، وهو أكثر إخلاصاً لما لم يتشكّل بعد ، ومالم يأت بعد ، ومالم يخن الجذور الاولى ، فتأتي قصيدته دائماً مثل حلم اليقظة ، حلم وطفولة وبدائية منفتحة على كل الإحتمالات والإمكانات من جهة ، وفي الجهة الاخرى هي يقظة ووعي وموقف واستشراف للأبعاد المستترة والخفية ، ومن معطيات هذا الوعي واليقضة محاولة جادة متسلطة على قصيدة العمود ذات الشطرين لتحديثها من خلال ضخّ الكريّات الأدونيسية في دمها بشكل يمكن أن نصطلح على تسميته بـ (أدنسة العمود) مع خشية حريصة على عدم تشتت وتبعثر الأوليات إلى شظايا شعرية متناثرة ، فهذه المحاولة لا تزال في افق التجريب والإختبار ، مع كفاءتها في التوازي والتجاور وقدرتها على الإمتداد والثبوت والإنطلاق.
أما عن قصيدتيه (ليلة الاسى والدموع ـ ودّعيني) فهما صدى محاكي لتجربة الشاعر في ديوانه الأخير (الحسين .. لغة ثانية) ولم تستطيعا تجاوز الافق الشعري الذي افترضته تلك التجربة المجدّدة ، بل أن الشاعر لا يزال يناغي الرؤيا ذاتها ويشتغل على موضوعة ليلة عاشوراء بنفس الآليات ولكن بمخطّط مبتور عن الوحدة العضوية التي نسجت شبكات التعبير والتوصيل في الديوان ، فنراه قد لجأ الى تكنيك الحوار في كلتا القصيدتين ففي قصيدة (ليلة الاسى والدموع) كان الحوار يدور بين ذات الشاعر ـ كمحاوِر نوعيّ ـ وبين الليلة ـ كمخاطَب جماعي ـ له أن يردّ أو لا يردّ الخطاب ، مما جعل الحوار ذا بعد وطرف واحد فتقلص الى مونولوج داخلي يسرد مايحدث بإحاطة وشمولية العارف بكل شيء.
وفي قصيدة (ودعيني) يرتدي الحوار حنجرة الإمام الحسين عليه السلام محاوراً الحوراء زينب عليها السلام في عرض بانورامي لما سيحدث بلغة التنبؤ وإستشراف المستقبل.
وعلى مستوى الألفاظ وطرق تركيبها فهو لا يتجاوز قاموسه الخاص ولا يتخطى طرقه المعتادة في التركيب والبناء ، فلا يزال النسق الناري ينتظم بمفرداته (إطفاء الشموع ، الشمس ، الجمر الوقّاد ، اللهيب ، النجوم الشاحبات) وتدفق مفردات النسق المائي ماثلة (دم الطفوف ، انتظار الماء ، الظمأ ، الفرات ، قطرة من دماء ، فيضي ، يشرب السيف وريدي ، يبكي النهر ، الدمع) إضافة للسيوف والأغماد والخيول والخيام والرماح والخضاب والرماد .
ومع انتظام الإيقاع وفق ما يؤثره الشاعر من أبحر الشعر فقد إختار تراكب الحركات الإيقاعية لبحر الخفيف لتنظيم هيكلية القصيدتين البنائية.
ـ للشيخ الخليعي ـ رحمه الله ـ
الصبر الجميل
ها هنا تُنحــر النحـور ولم يبق * لنــا فــي الحياة غيــر القليلِ
ها هنا يصبح العزيزُ من الأشراف * في قبضــة الحقــير الذليــلِ
ها هنا تُهتـك الكــرائم مـن آلِ * علـــيّ بذلـــةٍ وخمــولِ
من دمــي يبــلل الثرى ها هنا * واحر قلبي على الثرى المبلــولِ
ورقى فــوق مــنبرٍ حامد الله * يُثني علـى العزيــز الجليــل
ثـم قــال أربعــوا فقتلي شفاءٌ * لصــدورٍ مملــوءةٍ بـالذحولِ
فاجــابوه حــاش لله بل يُفديك * كلّ بالنفس يــا بــن البتـولِ
فجزاهــمُ خيــراً وقــال لقد * فُزتم ونلتم نهــاية المأمــولِ
ومضى يقصدُ الخيــامَ ويــدعو * ودعيني يا أخت قبـل الــرحيلِ
ودعيني فما الــى جمــع شمل * ٍبكم بعــد فــرقةٍ مـن سبيلِ
ودعيني واستعملي الصــبر إنـّا * من قبيـلٍ يفــوقُ كــلّ قبيلِ
سأننا إن طغت علينـا خطــوبٌ * نتلقــى الأذى بــصبرٍ جميلِ
لا تشقي جيبــاً ولاتلطمـي خداً * فأنا أهـل الــرضا والقبــولِ
وأخلفيني على بناتـي وكــوني * خير مستخــلف لأكــرم جيلِ
وأطيعي إمامــك السـيد السجّاد * رب التحــريــم والتحليــلِ
فاذا ما قضيـــت نحـبي فقولي * فـي الإلــه خيــر سبيــلِ
وأذكـرينـي أذا تنفـلت بالليل * عقيب التكبيــر والتهليــلِ (1)
ـ للشاعر الأستاذ سعيد العسيلي
فديتك ياأخي
هــلاّ علمـت بيـوم عاشوراء * ماذا جــرى مـن كربةٍ وبلاء
فيه الحرائر قـد بكين من الأسى * وجفونهنّ نأت عــن الإغفـاء
وصغارهن تعـجّ من فرط الظّما * والأرض تغرق حولهم بالمــاء
وتلفّ أنــوار اليقيـن ضلالـة * كاللّيل لفّ البــدر بالدّهمــاء
وصهيل خيل الظلم قد بلغ المـدى * حتى تجــاوز قمــة الجوزاء
والشمس تحتضن الرماح كأنهـا * ترمي عليهــا ألف ألـف غطاء
والحزن ضمّ جفــون آل محمدٍ * وقلوبــهم بنــوازل البلـواءِ
وبدا الحسين يسنُّ شفـرة صارمٍ * فيه يواجـه كثــرة الأعــداء
ويعاتب الدهر الخـؤون بحسـرةٍ * منــها يقــاسي شدة الأرزاء
سمَعتُه حاميةُ العيـال فأسرعـت * تَرنو اليــه بمقلــةٍ حـوراء
قالت فديتُكَ يـا أخـيّ بمهجتـي * وحشاشتي ومحاجـري ودمـائي
ليت المنيــّة أعـدمتني والفنـا * رقصت مصائبه عـلى أشلـائي
تشكو زمانك هل يـئست من البقا * وجماله يــا فلــذة الزهـراء
يا غاسلاً بالدمع لـون محاجري * حتـى غـدت كالشمعة البيضاء
سيطول بعدك يــا أُخيّ تنهدي * وتلوّعــي وتــأسّفي وبكائي
فأجابهــا اعتصمي بحبل محمدٍ * وتصبـري فالصبــر خير عزاء
قالـت أتغتصب الهدوء وأنت في * همٍ لتؤنس وحشتــي وشقــائي
فبكــى وقال لها فلو ترك القطا * ليلاً لنـام بمهمــه الصحــراء
آن الــوداع وإنمـا هـي ليلة * فتودّعــي مــن رؤيتي ولقائي
وأطل نور الفجـر بعد أن انقضى * ليلٌ مريــرٌ فيــه كـل شـقاء
فمضى إلى صـون العيال بخندق * ٍترتد عنــه غــارة النــذلاء
والنار فيـه أوقــدت ولـهيبها * خلف الخيام يذيب عين الــرائي
نادى علــى أصحابه مستبشراً * كالنور يضحك في دجى الظـلماء
اليوم عــرس شهادةٍ نرجو بها * رضوان خالقنا وفيــض هنــاء
ودماؤنا تروي الفــلاة وتكتسي * منهـا الرمــال بــحلّة حمراء
والصّبر ليس لنا سـواه إذا جرت * خيل الــردى خببـاً على البيداء
ورنت إلى خيل العــدى أنظاره * فرأى بها بحـراً عـلى الصحراء
والموج يزخر بالضلالـة والعمى * وبه تمــوت ضمــائر السفهاء
فتوجّهت أبصـاره نحــو السما * ودعا بكــل تضــرعٍ وثنـاء
ربّاه أنت مــن المصائب منقذي * ياعــدتي فــي شدتي ورخائي
أنت الكريــم عليك حُسن توكلي * حمــداً وأنــت مُعَوّلي ورجائي
فاجعل خــواتيم الفعـال محجّة * بيضاء وكتبني مع الشــهداء (1)
رهبان الليل والنجم
ســل كربلاء ويومها المشهودا * وســل السهول وسل هناك البيدا
وسل الرّبى عما رأته من الأسى * والدمع أغــرقَ سهلهَا وجرودا
وســل النجومَ البيض تعلم أنها * صارت على هول المصائب سودا
هــذي الفواطم من بنات محمد * ٍيلبَسن من خـوف المصير برودا
والجــو مربـد الجـوانب قاتم * ٌوالريح تبعــث في الرمال وقيدا
ما كان يسمع غيـر وَلْوَلَة النسا * وصيــاحهن يفجّــر الجلمودا
وبكاءُ أطفالٍ ونهــدةُ مـرضعٍ * لم تستطعِ أن ترضــع المولودا
وبرغم قرب الماء ليــس ينالُه * أحدٌ وباتَ على الــحسين بَعيدا
من دونه خيلُ العدى وصـوارم * بيض أقامـت بالفــرات سدودا
والظالمـون تنكّـروا لمحمــد * ٍعلناً وأمســوا للضـلال عبيدا
وتبادرت للــذبّ عنه عصـبة * ٌعقدت على هام الزمـان عـقودا
تستقبل المــوتَ الزّؤامَ كأنـها * تلقى بمعتـرك النــزال الـغيدا
كانوا ضراغمـةً يرون أمامَهم * جَيــشاً كثيفاً أنكـرَ التـوحيدا
وبرغم ذلك يــضحكونَ كأنهُم * ْفوقَ المعالي يرتقونَ صــعودا
يتهازلون وهــزلهم لا ينطوي * إلا على تقوى تصافح جــودا
هذا بُرَير ضاحـكٌ مسـتبشرٌ * وحبيبُ يَعزفُ للمنونِ نشيــدا
رهبــانُ ليـلٍ والعبادةُ دأبُهم * أما الضحى فَيُرى الجميع أسودا
والليلُ يطربــه نشيد صلاتهم * والنجمُ يــرعى للأُبَاة سجودا
خطبوا الــردى بدمائهم فكأنما * قد أمــهروه ذمــةً وعهودا
يفدون بــالمُهج الحسينِ لأنهم * عرفوا ومُذ كان الحـسينُ وليدا
أن الوصــية لمِ تكن في غيره * والناس ما برحـوا لذاك شهودا
وبرغم قِــلتِهمْ ونَقصِ عديدِهم * كانت لهم غُرُب السيوف جنودا
هي ليلةٌ كــانت برغم سوادها * بيضاء تبعث فـي الهدى تغريدا
راح الحسين السبط يُصلح سَيفَهُ * فيها ليهزم بـالشفـار حشـودا
ويذيـق أعنــاق الطغاة بحده * ضرباً يثيـر زلازلاً ورعـودا
وبــدا يعــاتب دهره وكأنه * قد كان منه مُثقـلاً مجهــودا
ويقول أفٍّ يـا زمان حملت لي * همّاً وكيــداً حـالف التنكيدا
عُميت بصائر هؤلاء عن الهدى * ولقيت منهم ضلــةً وجحودا
والأمر للرحمـن جــل جلاله * كتبَ المهيمِنُ أن أمـوت شهيدا
سمعت عقيلــة هـاشمٍ إنشادَه * فأتتهُ تلطــمُ بالأكـفّ خدودا
وتقول واثكلــاه ليــت منيتي * جاءت وشقت لـي فداك لحودا
اليوم ماتت يا ابن أمــّيَ فاطمٌ * واليوم أصبـح والدي ملحودا
واليوم مات أخي الزكّي المجتبى * والحزن سَــهّد مقلتي تسهيدا
فأجابها كلُ الوجود إلــى الفنا * إلا الذي وهـب الحياة وجودا
لا تجزعي أختاه صَبراً واعلمي * أني سَالقى فـي الجنان خلودا
مهما تمـردت الطغــاة فإنما * جنح البعوضـة أهلك النمرودا
وبكــت حرائر آل بيت محمدٍ * وندبنَ بحــراً للهدى مــورودا
قــال الحســين برقةٍ نبوية * ٍحملت لهــن مـن الفؤاد ورودا
لا تخمشن علـيّ وجهاً إن أتى * حتفي وصرتُ على الثرى ممدودا
شدّوا العزائـمَ واستعدوا للعنا * ودعوا الرسالــة تبلغ المقصودا
لا يستقيــم الدّيـن إلا في دمٍ * من منحري إن سال يخضب جيدا
والخيل تمشي في حوافرها على * ظهري وتحتز السيــوفُ وريدا
وبذاك أعتبـرُ المنيــةَ فرحةً * كبرى وأعتبرُ الشهــادة عيدا (1)
البدر بين النجوم
وكفــاه فخــراً للمرتضى * شبلٌ وللهادي العظيــم سليلُ
والنورُ أدنى من ضياء محمد * ٍوكأنــهُ بإزائــه قنديــلُ
وقفَ الحسينُ وحولَهُ أصحابُه * كالبــدرِ ما بينَ النجوم يقولُ
هذا سوادُ الليــل مَدّ ظلامَه * وجــناحه من فوقكم مسدولُ
هَيا إذهبوا إن الفـَلاةَ وسيعةٌ * وجــبالُها حصنٌ لكم ومقيلُ
ولقد وقفتُ إلى الـوداع كأنما * يدعـوا إلى هذا الوداع رحيلُ
فالقومُ لا يبغونَ غـير مقاتلي * فيــها تجولُ بواترٌ ونصولُ
وغداً سألقى الظالمين بصارمٍ * منه الجبالُ على السهول تميلُ
فأدقُ أصلاباً ثوى فيـها الخنا * وأشقُ أكبــاداً بها التضليلُ
ثابوا إليه كالأســود عوابس * ٌبعزائمٍ منها يغــيضُ النيلُ
قالوا وقد زار اليقيـنُ قلوبَهُم * تُفديك منّا أنــفسٌ وعقولُ
فغداً ترانا بين معـترك القنا * كالنار بين الظـالمينَ نجولُ
وسيُوفُنا تشوي الوجوهَ كأنها * لهبٌ لها فوقَ الـرقابِ صليلُ
لله يا تلك النفـوس وقـد أبت * إلا نــرالاً ليس عنه بـديلُ
فمضت لخالقها بعـز شهادةٍ * طابت وقاتِلُها هو المقتول (1)
على أعتاب ليلة عاشوراء
رَكــبٌ يحــلُ بكربـلا وخيامُ * نُصبتْ وقــد غـَدرَتْ به الأيامُ
فيـه حرائــرُ آلِ بــيتِ محمد * ٍتحت الهجيرِ عــلى الرمالِ تنامُ
لا ظــلَّ إلا الشمــسُ حرَّ لهيبها * نارٌ بهــا تــتقلّب الأجســامُ
تهفو إلى مـاء الفُــراتِ ولا ترى * إلا الأسنــّةَ حَــولهـنَّ تُـقامُ
والخيلُ تــَصهلُ والسيوفُ لوامع * ٌوالجوّ فيــه غِبـــرةٌ وقـتامُ
والرعــبُ خـَيَّمَ والجفونُ دوامعٌ * والخوفُ بين ضلوعهـنَّ سهـامُ
عَجباً وأبــناءُ الـرسالة في عنا * ويزيدُ مِنْ فوقِ الحريــر ينـامُ
عجباً وسبطُ محمــدٍ يشكو الظما * ويحيطُ فيه على الفُــرات لئـامُ
والشمرُ يَنُعمُ في الـظلال وَيرتوي * مــن مائــه ويــلفُه الإنعامُ
لم لا تغيبي يا نجــومُ من السما * أسفــاً ويحَتــلُ الـوجودَ ظلامُ
والبدرُ يُخسفُ فــى علاه وينتهي * عمرُ الكواكــبِ والمــعادُ يُقامُ
والناسُ تُنشرُ للحـساب لكي ترى * قوماً بأحــضانِ الضـلالةِ ناموا
واستكبرُوا وعتوا وضـلّوا وانطوى * هَديٌ وعاشـت فِيهُــمُ الأصنامُ
منعوا الحسينَ من الــورودِ كأنما * هذا الورودُ عــلى الحُسين حرامُ
أطفالهُ عَطشى تعــجُّ من الأسى * ونســاؤه طـافتْ بهــا الآلامُ
فَكأنهــُم حَــرموا النبيَّ محمدا * ًمن ماءِ زمــزمَ والنبـي يُضامُ
بــاعَ ابنُ سعــدٍ جنـةً أزلية * ًبـجهنَّم فيهــا يُشبُّ ضـرامُ
أغراه مُلكُ الرّي فاختــارَ الشقا * وتحكّمـتْ بمصيــرهِ الأزلامُ
نادى الخبيثُ إلى الوغى فتحركت * خيلٌ عليهــا سيطـر الإجرامُ
ورأت تحرُكَهَا العقيلـةُ زينــب * ٌفأصابهــا ممــا رأت أسقامُ
وتلفتتْ نحوَ الحُســينِ وإذ بـه * غافٍ تــُراود جِفْـنَهُ الأحلامُ
قالتْ أُخيَّ شقيقَ روحـي جانِحي * أَغَفَوتَ ؟ إنَّ الحادثـاتِ جسامُ
هذا العدو أتاك يزحف وهـو في * حقدٍ عليــكَ تَقــُودُه الظلاّمُ
فصحا وقال رأيتُ جدي المصطفى * حينَ اعــترني بالـغفاء منامُ
هو زفَّ لِي بُشرى نهاية مصرعي * بشهادةٍ يعلـوُ بهــا الإسلامُ
ذُعرَتْ لما سمعت وجرحُ قلبهــا * خبرٌ يهــونُ لهـولهِ الإعدامُ
راحت تنادي ويلتـاهُ وحُزنُــها * منه تذوبُ مفــاصلٌ وعظامُ
وتحركَ العباسُ نـحو من اعتدى * كالليثِ إنْ خَطـُرَتْ به الأقدامُ
قال امهلونا يــا طـغاةُ إلى غذٍ * وغداً سيحكم بـيننا الصمصام
ودعوا سوادَ الليــلِ أنْ يلقي بنا * قوماً بُحبِ صـلاتِهم قد هاموا
واللهُ يعلـمُ أنَّ سبــطَ محمــدٍ * ما راعَــهُ كــرٌّ ولا إقدامُ
لكنــَّهُ يهــوى الصـلاةَ لربهِ * وله بها رغمُ الخطوبِ غرامُ(1)
الجفونُ المُسّهَدة
فــرَّ التقــى وتبــرّأ القرأنُ * ممَّن بــهِم تتحكّــمُ الأوثانُ
إسلامُهُم مـا كـان إلا خــدعة * ًفيها تجلّى الـزورُ والبهتــانُ
باعوا الضمائـرَ بالضلالِ وآثروا * دنُياً بــها يتعطّلُ الوجــدانُ
وعـدوا الحسيـنَ بنصره وتخلّفوا * عنه وعهدُ محّمدٍ قـد خانــوا
والبغــيُ أنهضهُـم إليه وأعلنوا * حَرباً عِواناً قادهــا الطغيـانُ
وتجمّعوا حــولَ الفـُراتِ بخسةٍ * ما ردَهُم شـَرفٌ ولا إيــمانُ
أطفالُه مثـلُ الــورودِ بـِلا ندى * والماءُ جــارٍ قُربُهـم غِدرانُ
والرعبُ حـولَ نسائِهِ بعثَ الأسى * فيهنَّ وهـو محاصــَرٌ ظمآنُ
سامُوهُ أن يـَردَ الهوانَ أو الردى * وهل الصقورُ تُخيفُها الغُربانُ ؟
فأبى الهـوانَ لأنَّ فيـه مــذلة * ًوبــه لـربّ محُمدٍ عِصيانُ
أنَّى لشبـلِ المرتضى أن يرتضي * عاراً حــَوتهُ مـذلَّةٌ وهوانُ
فاختـارَ حـَرباً كاللهيبِ غمارُها * حمراء منها تفــزعُ الأزمانُ
وتبـادرت نحــو المنيةِ عصبة * ٌمعَهُ بهـا يســتبشرُ الميدانُ
وسمتْ أمــاجدُها إليــه كأنَهُ * مَلِكٌ سَمـَتْ لجلالِـه التيجانُ
ومَشتْ إلى الغمراتِ لاترجو سوى * رضوانِه فتباركَ الــرضوانُ
يمشي الهوينا نحو خيمــةِ زينب * أُمِ العيـالِ وكلــّهُ اطمينانُ
أصحابُهُ مثل الصقور ، كـواسرٌ * عنــد اللقاء وكلهـم إخـوانُ
قالت هل استعلمتَ عـن نيَّاتِهمْ * وثباتِهـمْ إنْ جــالت الفُرسانُ
فلعلهُمْ قد يُسلمـوكَ إلـى الردى * بالخوفِ أو يُغريهِمُ السلطانُ (1)
فأجابَها إنـي اختبــرتُ ثباتَهم * فوجدتُهُــم وكأنــَّهمْ عُقبانُ
يستأنسـونَ إذا الــمنيةُ أقبلتْ * والحـربُ إن صَرَّتْ لها أسنانُ
كالطفـلِ يأنسُ في مـحالبِ أمّه * ويضُمــهُ عنـدَ البُكاءِ حنانُ
وبكتْ حناناً والدمـوعُ تَسيلُ من * جفنٍ بــه تتوقـدُ الأحـزانُ
قال الحـسينُ وقد تهدّجَ صوتُه * لاتحزنـي فلنا الجنــانُ أمانُ
أُختــاهُ إنَّ الصبرَ خيرُ وسيلة * ٍلا يَذهبَنَّ بحلمــِكِ الشيطـانُ
ومضـت من الليلِ المُعذبِ فترة * ٌسوداءَ لم تَغفُ بها الأجفانُ (2)
لــكن أبـيُّ الضيمِ مالَ لغفوةٍ * أذكت جواهُ ، وطرفُهُ وسِنــانُ
وصحا فقــالَ : رأيتُ كلباً أبقعاً * قُربي يلوحُ بوجهِهِ الكُفــرانُ
أنيابُهُ حمــراء تَنهشُ مهجتي * ويبينُ في قسماتِهِ الخــِزيانُ
ثم استعــدوا للردى فتحنطوا * والكلُّ منهُم ضاحكٌ جــذلانُ
والطيبُ راحَ يُشمُ مِنْ أجسادهم * طيباً به يستأنسُ الغُفـرانُ (3)
الأستاذ سعيد العسيلي
مع وحدة البحر ( بحر الكامل ) واختلاف القوافي ينفتح سعيد العسيلي في ملحمته على آفاق تعبيرية أرحب تعينه شاعرية تدور على الوثائقية التسجيلية بريشة متوثبة تهرب من أسار التأريخية لتتأمل فتُصور ظلالاً ذاتية تتخطى النظم المدرسي وجفافه لتنثر عبير الشعر وعطوره في فضاء النص ولكن بتحرج وتردد سرعان ما يعود الى قفص التأريخ ليسجل حوادث الليلة بلغة التقرير والخطاب الإخباري لكن نزوعه الشعري ومثابرته لتحديد موقف جمالي تُداخل بين اللغتين وتوازن بين المنحيين فنراه مصوراً بارعاً تارة .
والشمس تحتضن الرماح كأنها * ترمي عليها الف الف غطاء
او :
يا غاسلاً بالدمع لون محاجري * حتى غدت كالشمعة البيضاء
ونراه يزاوج التسحيل الوثائقي بالفن الشعري في :
ليت المنية اعدمتني والفنا * رقصت مصائبه على أشلائي
أو :
قالت اتغتصب الهدوء وأنت في * همّ لتؤنس وحشتي وشقائي
فلاحظ في (والغنا رقصت مصائبه على أشلائي ) تداخل الوثيقة بالفن وكذلك (أتغتصب الهدوء) فحوارات الحوراء زينب عليها السلام تُقال عند العسيلي بلغة فنية جمالية تناسب عصرنا الحاضر مع عدم فقدانها للدلالة الأصلية التي قيلت من أجلها ، لكنه يخفق أحياناً في إضافاته عندما يتقابل نصه مع نص مثبّت من تلك الليلة العظيمة كما في المثال التالي :
ويقول افِّ يا زمان حـملت لي * همــاً وكيداً حالف التنكيدا
عميت بصائر هؤلاء عن الهدى * ولقيــت منهم ضلةً وجحودا
والأمـر للرحمن جل جـلاله * كتب المهيمن أن أموت شهيداً
فأعادة صياغة النصّ الاصلي جاءت مهلهلة ومترهلة ونستطيع أن نعزو ذلك الى أن التقابل هنا تم مع نص شعري للإمام الحسين عليه السلام وهو إرجوزة وجدانية تفجّعية قالها الإمام عليه السلام من صفاء روحه الطاهرة وهي عصية على الترجمة واعادة الإنتاج بألفاظها الرقيقة وجرسها المنغّم الدافق ولا نراها تحمل سمة زمانية محددة بل هي لا تعبر عن لحظتها التأريخية فقط لكنها جاءت بلغة طافحة فوق كلّ زمان كنشيد أبديّ خالد ولذا ظهر عجز العسيلي عن التواشج معها والمقابسة وأخفق قبله الشيخ الفرطوسي عندما حاول محاذاتها في :
وهو يتلو يا دهر كم لك غدراً * من قتيل مضرّج بالدماءِ
لك اُفّ على مرور الليالـي * من خليل مولّعٍ بالجفـاءِ
على إننا نثني على شجاعة المحاولة وجرأة التجريب فتجربة العسيلي فيها الكثير الكثير من التجاوز على عادية الطريقة التسجيلية ومألوف الإسلوب التوثيقي مما يمتع المتلقي الباحث عن الفن والجمال.
ـ للشاعر الأستاذ سلمان الربيعي(1)
المساء الأخير
زينب عليها السلام تخاطب ليلة العاشر
طــُلْ يـا مساءُ فلا أروم صباحا * إن كــان صبحُك للأسى مفتاحا
لو دَرّ ضرع الصبح خيراً لإمرىء * ٍفأنـا سـأُسقـى ضيمــَهُ أقداحا
وإذا تـــلألأ نــورُهُ متّبسمـاً * ألقى عليَّ مـن الهمــوم وشاحا
يا ليلُ لم أسأم ظلامـكَ طالمــا * عينـاي تُبصــرُ كـوكباً لمّاحا
فمتى انجليت فسـوف أُفجع بالذي * عنّي يزيــل الغــمَّ والأتراحا
لو كنــت تعـلمُ ما يحلُّ بنا غداً * لـم تَطْوِ عن أفق الطفوف جناحا
ياليــلُ انَّ الأم تَسعــدُ بـابنها * وبــه تـرى صفو الحياةِ مُتاحا
ومتى توارى شخصُه عـن عينها * قَضَــت الحيــاةَ تأوّهاً ونواحا
فَلَكَمْ قلوبٍ سوفَ تذرفُ مِــنْ دمٍ * دمعاً يفوقُ الــعارضَ السَّحّاحا
فغداً جميعُ الطاهــرات بــكربلا * كلٌّ ستثكل سيــداً جِحّجَاحــا
يا ليــلُ صُبحــك متخمٌ بفجائعٍ * دمــُها سيغمـرُ أنجداً وبطاحا
فغداً بأرض الطفِّ طُهْرُ دمٍ الهدى * يغدو بشــرع الظالميـن مُباحا
حيث الطغاةُ على ابن بنـت نبيِّهم * جيشاً أراهم حشَّدوا وســلاحـا
وأراه قلبــاً ظامئاً مــا بينهُمْ * وسيوفُهم قــد أثخنتْهُ جراحــا
وأرى أخي العباس من طعن القنا * نسراً لــه جــذَّ الطغاةُ جناحا
وعلى رمـال الطفِّ أجساداً أرى * زُحلاً شأت بعــلوّهـا وضُراحا
وجليلُ مــا تبكي له عينُ الهدى * ويزلـزل الأبــدانَ والأرواحـا
نحرُ الرضـيعِ غداةَ يُرسَلُ نَحوَهُ * سَهمُ (ابــن كاهل) خارقاً ذبّاحا
وأرى عيـالَ محمدٍ أسرى العدى * مَنْ ذا سَيُطِلـقُ للأسيـر سراحا
يا ليلُ إذ يقــعُ الذي يُدمي الحشا * أتوَدُّ عيني أن ترى الإصبـاحـا
إنّا إلـى حــكم الدعيِّ ورهطه * هيهات نَركنُ أو نليـنُ جماحـا
فليقــتفِ الأحرارُ نهجَ زعيمِهِم * ليرَوْهُ فــي آفاقهــم مصباحا
وليقــصد الظمـآنُ ماءَ غديرنا * ليذوقَ من فيض الجنــان قراحا
لو لا دمـانا مــا استقامَ لمسلمٍ * ديــنٌ ولا بـدرُ الكرامةِ لاحا
ما سال مـن نحر الحسين بكربلا * للمـجد خــَطَّ المنهجَ الوضاحا