الدروس المستخلصة منها
الاسباب و الاهداف

كلُّ الذين دوّنوا قضية الحسين ( عليه السلام )، أخذوا سِلسلتها مَن أوساطها ، أيْ مِن حين البيعة ليزيد ، في حين أنَّ القضية تَبتدئ مِن عَهد أبي سفيان ، ومحمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، إنْ لمْ نَقُل مِن قبل ، ومِن عَهد هاشم وعبد شمس ؛ فإنّ أبا سفيان ( جَدَّ يزيد) ، إذ رأى محمداً ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ( جَدَّ الحسين ) (عليه السلام) ، قد نهض في مَكَّة سنة 610 ميلادي ، يدعو العرب إلى توحيد المعبود ، والاتِّحاد في طاعته ، حَسِبَ أنَّه سيَهدم مَجْد عبد شمس ورياستهم ، ويبني بيت مَجد مرصوص الأساس ، ويَعمّ ظِلّه الظَليل عامَّة الناس ؛ فاندفع بكلِّ قِواه إلى مُعارضته ؛ ففعل ما فعل في مُقاومة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وإهانته ، وتفريق أعوانه ، وتحشيد الناس لمُحاربته ؛ حتَّى كان ما كان بأيِّام بدر وأُحد ، وهما مِثالان للحَقِّ والباطل ، وأمْرُ محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يقوى انتشاره ومَناره ؛ حتَّى رمى حِزبُ أبي سفيان آخر نَبلة مِن كنانته ، ولم يُفلح ، ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ... ) ، وذلك أنَّ الله سبحانه ، فتح لنبيِّه مَكَّة فَتحاً مُبيناً ، ونصره على قريش نصراً عزيزاً ، ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ) .
انتهت الحركة السُفيانيَّة ، ولكنْ في الظاهر ، أمَّا الحزب الخاسر المُنكسر ، فقد كان يَعمل ليلاً ونهاراً في تلافي خُسرانه ، وإرجاع سُلطانه ، ولكنْ تحت الستار ، وبأخفى مِن دبيب النمل على الصَّفا ، يرسم الخُطَّة للقيام بحركة وسيعة الدائرة ، حتَّى إذا قضى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) نحبه ، تنفَّس ورغب في الانتقام.
أجلْ ، لقي محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ربَّه ، وأبو سُفيان حيٌّ يسمع الناعية على جَنازة محمد الهاشمي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، ولكنْ لا يَسعه إظهار شيء ، وكان العباس ( رضي الله عنه ) ، عَمُّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يعرف مِن أمره شيئاً ؛ إذ كان صديقه الحميم في الجاهليَّة والإسلام ، فأشار على عليٍّ ( عليه السلام ) ابن أخيه أبي طالب ، وهو يُغسِّل جَنازة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، قائلاً له : ( يا علي ، مُدْ يَدك ؛ لأبايعك ؛ حتَّى يقول الناس عَمُّ رسول الله بايع ابن عمّه ، فلا يختلف عليك اثنان ) ، فلم يَسمع مِن ابن أخيه جواباً ، سِوى كلمة : ( يا عمُّ ، أوّلُها غيري ) .
وقبل أنْ يُدفَن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، نَجَمَ الخِلاف حول خِلافته بين المُهاجرين والأنصار ، وربَّما كان للحزب السُفياني يَداً في إثارته ، ونفخاً لإضرامه.
لكنَّ الذي نعلمه ، أنّ أبا سُفيان لم يكنْ مِن الأنصار ، ولا مِن المُهاجرين عندما قالا : ( مِنَّا أمير ، ومِنكم أمير ) ، حتَّى يَحْسَب لنفسه حِساباً ، في التحيُّز إلى طرفٍ بالصراحة ، ورأى انضمامه إلى أضعف الأحزاب ( أيْ حزب علي ( عليه السلام ) ) ، أقرب إلى مَقصده مِن إيجاد موازنة في القِوى ، وخَلْق عراقيلَ تكاد تمنع مِن حَسْم الخِلاف ، فجاء عليَّاً قائلاً له : ( لو شِئت مَلأتُها لك خَيلاً ورجالاً ) ، وعليٌّ ( عليه السلام ) يومئذٍ ، يَطرق الأبواب على المُهاجرين والأنصار ، يتمنَّى ناصراً لقضيِّته ، فلو كان مِمّن يَضيع رُشده بالمواعيد الخَلاَّبة ، لاغتنم مِن أبي سُفيان هذا الاستعراض ، ولكنَّ الإمام عرف سوء قَصده ـ وقصدُه الصيد في الماء العَكِر ـ فأجابه بالردِّ والاستنكار ، قائلاً : ( مَهْ يا أبا سُفيان ، أجاهليَّة وإسلاماً ؟! ) ، أيْ : إنَّك تتربَّص دوائر السوء بدين محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في عَهديك ، عَهد الجاهليَّة ، وعهد الإسلام ، وتَفرَّس سوء مَرامه مِن كلامه ) ، وإنَّه انتهز فُرصة الخِلاف مِن حاشية النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وقصد احتلال مدينة الرسول ، عاصمة الإسلام بحُجَّة نُصرة الضعيف ، أو تسوية الخِلاف ، وما جيوشه سِوى مَردة العرب مِن أهل النِّفاق ، فإذا نزل هؤلاء في عاصمة التوحيد ؛ سادت مُنافَقة العرب ، وعادت مَبادئ الجاهليَّة والناس حديثو عهد بالإسلام ؛ فيكون الرجعيُّون أولى بالقوَّة والنُّصرة ، والموحِّدون أولى بالضُّعف والذِّلـَّة ، ويُخرجُنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ .
قرأ هذه الشروح ، وأكثر منها عليٌّ ( عليه السلام ) مِن كلمة أبي سُفيان ، فرَدَّه رَدّاً قارصاً ؛ لأنَّ عليَّاً ( عليه السلام ) رجُلُ الحَقِّ ، وبَطَلُ الإيمان ، لا يُضحِّي بالدين ، أو المصلحة العامَّة في سبيل نَفْعٍ ذاتيٍّ ، أو شَهوة وانتقام .
ولمَّا عَرِف أبو سُفيان أنَّ عليَّاً ( عليه السلام ) لا ينخدع ، وأنَّه عند تداخل الأغيار ، لَيُصافِح إخوانه المسلمين ، ويتحدَّث معهم ؛ لحفظ بَيضة الدين ، مَهْما كان ضِدَّهم وكانوا أضداده ، نَدم أبو سُفيان على لفظته ، وهرع إلى الحزب الغالِب ، وانضمَّ إليهم ؛ ليَحفظ مركزه الاجتماعي ، قبل أنْ يَخسر الطرفين ، وتأخّرت مَنْويَّاته إلى حين ، حينما يَخضرُّ عود أُميَّة بإمارة مُعاوية على الشام ، وعود سلطانهم.
وبعدما نبغ فيهم مُعاوية ، أخذ على عاتقه القيام بنوايا أسلافه ، ومعه يومئذ أبوه ، يَنصب عليَّاً دون المسلمين هدفاً لسهامه الفتَّاكة ؛ إذ عرفه الينبوع الوحيد لِسيَّال وحي المُصطفى ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وأنَّه البطل المُناوئ لهم بكلِّ قِواه ، والعَميد القائم ببيت بني هاشم ، والمركز القويُّ لإبطال الحركة السُفيانيَّة ، وإنَّ عليَّاً هو وأبوه نَصيرا محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، حين لا ناصر له ، حتَّى أنَّه فداه بنفسه ليلة مَبيته على فراشه ، وضَيَّع على قريش هِجرته ، ونقض ما أبرموه عليه ، وعليُّ القاتل صناديد قريش ، وأركان حزبهم في بدر وغيرها ، ولولاه لقضوا على حياة رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في بدرٍ ، وأُحُدٍ ، وحنين ، ومَواقف أُخرى ، ولولا علي لظفر عمرو بهم بالمدينة يوم الخَنْدَق ، وعلي الفاتح قلوب أهل مَكَّة في وجه المُصطفى ؛ إذ تلى عليهم سورة البراءة في الموقف العامِّ العَصيب ، بكلِّ ثَباتٍ وجَسارةٍ وإقدام ، الأمر الذي لم يَكُن يَقُمْ به أحد مِن المسلمين غيره ، إلى غير ذلك مِن مواقفه المُهمَّة التي ضَيَّع فيها على أُميَّة مَكايدها ، وكانت صدور أُميَّة تَغلي كالمِرجل على رجُلِ الإيمان .
ناصب مُعاوية وحِزبه عليَّاً وصَحبه ، وكان ما كان مِن أيَّام البصرة ، وصِفِّين ، والنَّهروان ، وعليٌّ ( عليه السلام ) في كلِّها غير مَخذول ، ولا يزداد مُعاوية إلاِّ حِقداً عليه ومَوجدة ، وتعقَّب الضغائن أثر الضغائن ، وكان مُعاوية مَعروفاً بالغَدر حليماً ، إلاَّ على عليٍّ ( عليه السلام ) وخاصَّته .
فلمَّا تُوفِّي أمير المؤمنين ، سنة 40 هجرية بسيف ابن مُلجَم الخارجي ، ساجداً في مِحرابه ، زال مِن بين عينَي مُعاوية ذلك الشبح الرهيب ، الذي كان يُخيفه في منامه ، وفي خلواته ، وقويت عزائمه وتوجَّهت شَطره أكثر النفوس ، التي كانت رهن سجايا عليٍّ ( عليه السلام ) وعلومه ، ومُنقادةً لصوته ، وسوطه ، وصِيت شجاعته وسَماحته ، سيَّما وإنَّ الآثار النبويَّة المشهورة فيه ، كانت لا تُقاس كثرةً وشُهرةً بما في شأن غيره ، والخدمات التي قام بها أبو الحسن ، كانت قاطعة الألسُن ، فضلاً عن طول عَهد الإمارة لمُعاوية ، وانتشار حزبه الفعّال ، وتوزيعه الأموال .
هذه العوامل وغيرها ، ضيَّقت دائرة النفوذ على الحسن بن عليٍّ ( عليه السلام ) وخليفته ، وأوسعت المجاري والميادين لمُعاوية وحزبه ، فانتقم مِن عليٍّ ( عليه السلام ) بعد وفاته ، وسبَّه على المَنابر ، والمَعابر ، والألسن ، والكُتب ( ويا بأسها مِن حِيلة ووسيلة ! ) ، لاستئصال مَجد بني هاشم بثَلب كبيرهم ، وقد قال ابن عباس ( رضي الله عنه ) : ( إنَّهم يُريدون بسبِّ عليٍّ ، سَبَّ رسول الله { صلَّى الله عليه وآله وسلَّم } )، ثمَّ لم يَقنع بذلك ، فأخذ يتتبَّع خاصَّة عليٍّ بالسَّم وغيره ، ويتمثَّل بقوله : ( إنَّ لله جُنوداً مِن عَسل ) ، يعني : السَّمُّ والمَعسول إلى أعدائه ، ولمْ يَسع حلمه أصحاب عليٍّ ( عليه السلام ) وبَنيه قَطٍّ ، فدسَّ سَّماً ذريعاً إلى زوجة الحسن السبط ( عليه السلام ) ؛ فقتلته اغتراراً بموعد زواجها مِن يزيد.
هُنا حريٌّ بنا ، أنْ ندرُس حالة سيِّدنا الحسين ( عليه السلام ) ، ذلك المُتفاني في حُبِّ شَقيقه الحسن ( عليه السلام ) ، ماذا يَجري على قلبه ، وهو يرى أحشاء أخيه مَقذوفةً في الطست مِن سَّم مُعاوية ، ثمَّ تُمنَع ـ بدسيسة مروانيَّة ـ جَنازة أخيه ، مِن زيارة جَدِّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وهما ريحانتاه ، ويسمع سبَّ أبيه وأخيه في المَعابر ، وعلى المَنابر ، وتَنعى إليه صحابة أبيه مَن فَتك مُعاوية بهم ، وسَحق العهود الشريفة ، ومَحق شعائر الإسلام ، وتبديل سُنَن جَدِّه بالبِدَع ، وتحويل الإسلام مِن روح دينيَّة عالميَّة ، إلى روح القوميَّة والملوكيَّة ، وتمهيد أُسُس للرُجعى إلى الجاهليَّة ، هذا كلُّه عدا ما سبق مِن أمْرِ مُعاوية وعليٍّ ( عليه السلام ) ، في حروب وفتن ، أوجدها مُعاوية لأغراضٍ ذاتيَّةٍ ، وفَتٍّ في عَضد الدين ، وشتَّت بها شَمل المسلمين.
أضفْ عليها ما جرى على جَدِّه المصطفى ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، مِن الحِزب السُفياني ، في أثناء البِعثة ، وبعد الهجرة ؛ أفلا يكون بعد ذلك كلِّه قَلب الحسين دفتراً مِلئوه المؤلِمات ، ولابُدَّ وأنْ تكون هذه الموجدات في الحسين ( عليه السلام ) ، وفي صدره بُركاناً قويَّاً مُشرِفاً على الانفجار ، وحسين الشهامة لم يكُن بالذي يُقيم على الضيم ، لولا أنَّ الوصيَّة تتلو الوصيَّة ، مِن أخيه ، وجَدِّه ، وأبيه ، وخاصَّة مواليه بالصبر ، والصبرُ أمرُّ مِن الصبر .
غريب والله ، أنَّ يزيد المشهور بالسفاسف والفُجور ، يُريد التقمُّص لخِلافة النبي محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) المبعوث لتكميل مَكارم الأخلاق ، وذلك في حياة الحسين ( عليه السلام ) ابن ذاك النبي وحبيبه ، فيزيد يعلم نفسيَّة الحسين ، ويعلم أنَّ صدر الحسين ( عليه السلام ) أصبح بُركاناً قريب الانفجار ، ومع ذلك لا يقنع بسكونه وسكوته عمَّا هو فيه ، بلْ يُريد منه ـ فوق ذلك كلِّه أنْ يعترِف له بالخلافة عن الرسول ، وهل ذاك إلاَّ رابع المُستحيلات ، فإنَّ اعتراف الحسين ( عليه السلام ) بخِلافة يزيد ، عُبارة أُخرى عن أنّ الحسين ليس بالحسين ، أيْ أنَّ معنى قبوله البيعة ليزيد ؛ بيعُ دين جَدِّه ، وكلِّ مَجْده ، وكلُّ شعور شريف للعرب ، وكلُّ حَقٍّ للمسلمين ، وكلُّ آمال لقومه يبيعها جمعاء برضى يزيد عليه ، وهذا مُحال على الحسين ( عليه السلام ) ، وعلى كلِّ أبطال الفضائل ؛ فإنَّ قبوله بيعة يزيد ، عُبارة أُخرى عن اعترافه بتساوي الفضيلة والرذيلة ، واستواء العدل والظلم ، واتِّحاد الحَقِّ والباطل ، وتماثُل النور والظلام ، وأنَّ العلم والجهل مُستويان ، وأنّ الخفيف والثقيل سَيَّان في الميزان ، فهل يَسوغ بعد هذا كلِّه سكوته وسكونه ؟ كلاَّ ثمَّ كلاَّ !
وقد يزعم البُسطاء : أنَّ الحسين ( عليه السلام ) لو استعمل التقيَّة ، وصافح يزيد ، لاتَّقى ببيعته شَرّ أُميَّة ، ونجا مِن مَكرها ، وصان حُرمته ، وحفظ مُهجته ، لكنَّ ذلك وَهمٌ بعيد .
فإنّ يزيد المُتجاهر بالفُسوق ، لا يُقاس بمُعاوية الداهية المُتحفِّظ ، فبيعة مِثل الحسين ( عليه السلام ) ، لمِثل يزيد ، غير جائزة بظاهر الشريعة ؛ ولذلك تخلَّف عن بيعته سعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمان بن أبي بكر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير أيضاً ، فأنكروا على مُعاوية استخلاف يزيد ، وامتنعوا عن بيعته حتَّى فارقوا الحياة ، وكان سيدنا الحسين ( عليه السلام ) أولى بهذا الامتناع والإنكار ، وأمَّا مع غَضِّ النظر عن التكليف الشرعي ، ومُطالبة وجه غير التمسُّك بظواهر الكتاب والسُّنَّة ، فنقول:
إنَّ التحري في الوثائق التاريخيَّة ، والكتب المُعتبرة ؛ يؤدِّي إلى الاعتقاد بأنَّ سيِّدنا الحسين ( عليه السلام ) ، كان يعلم أنَّ خصومه مِن بَني أُميَّة ، مُنطوون على نيَّة التشفِّي مِن قتله ( بايع أو لم يُبايع ) ، وقد صَرَّح في مواطنَ عِدَّة : بأنَّ بَني أُميَّة غير تاركيه ، حتَّى لو كان في جِحر ضَبٍّ لاستخرجوه وقتلوه .
قال العَكرمي في ( بَطن عقبه ) : ( ليس يَخفى عليَّ الرأي ، ولكنَّهم لا يدعونني ، حتَّى يُخرجوا هذه العَلقة مِن جوفي ) ، وأكَّد ابن زياد نيَّة التشفِّي مِن قَتْل الحسين ( عليه السلام ) ، في كتابه لابن سعد ، قائلاً : ( حِلْ بين الحسين ـ عليه السلام ـ وأصحابه ، وبين الماء ، فلا يذوقوا مِنه قَطرة ، كما صُنِع بالتقي الزكيِّ عثمان بن عفَّان ) ، وأعلن يزيد بقصده الانتقام في شعره :
لستُ مِن خِندفَ إنْ لمْ أنتقم مِن بَني أحمد ما كان فعل
علِم ابن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) تصميم آل حربٍ ، على انتقامهم مِن آل عليٍّ ، مَهْما تظاهر هؤلاء بمُسالمتهم ومُطاوعتهم ، ومَهْما تظاهر آل حربٍ لهم بالأمان والإيمان ، وقد أكَّد هذا العِلْم غَدر ابن زياد بابن عمِّه مُسلم ، وإعطائه الأمان ، حتَّى إذا خَلع سلاحه قتله شرَّ قتله .
وأجلى مِن ذلك غَدر مُعاوية بأخيه الحسن ( عليه السلام ) ، ودسِّه السَّمَّ إلى مَن قتله ، بعد أنْ صالحه وصافحه وتنازل له عن خِلافته المعقودة له ، فهل ترى ابن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بعد ذلك كلِّه يُعيد الامتحان ويُجرِّب المُجرَّب ؟
كلاَّ ، إذن فالحسين وجد نفسه مَقتولاً إذا لم يُبايع ، ومَقتولاً إذا بايع ، لكنَّه إنْ بايع اشترى مع قتله قَتْل مَجدِه ، وقَتْل آثار جَدِّه ، أمَّا إذا لم يُبايع ، فإنَّما هي قتلة واحدة تُحيي بها آلامه ، وشعائر الدين ، والشرافة الخالدة .
صفى لمُعاوية الجوُّ ، ومَلك نحو أربعين سنة ، مُلكَاً قلمَّا يسمح الزمان بمِثله لغيره ، وهو في خِلال ذلك ، لا يفترُ عن عمله ليله ونهاره ، فيستكثر أعوانه ، ويُعزِّز إخوانه ، ويستحوذ على مَن يشاء ، بما أوتي مِن مال ودهاء ، واستمال إلى أهوائه أمثال زياد ، وابن العاص ، والمُغيرة ، فمَدَّ أطناب حِزبه ، ورواق مأربه ، وانقادت إليه حتَّى آل هاشم ، ولكنَّ الرجُل استحبَّ دوام هذا السؤدَد لبيته ، ومَن يَخلفه في إنفاذ نواياه ، عرف أنَّ سُلطانه وقتيٌّ وقسريٌّ ، وما بالقسر لا يدوم ؛ فأراد تثبيته في بيته مادام حيَّاً ؛ لأنَّه يَخشى مِن موته على بنيه انقلاب الأُمور ، لا سيَّما وابنه يزيد موضع نِقمة الجمهور ، وفي الناس مَن هو أقدم مِن ابنه ، وأولى مِن جميع الوجوه ، فأخذ البيعة ليزيد حال حياته ، بعد أنْ ذلَّلَ الصعاب ، ومَهَّد السبُل لغاياته ، غير أنّ جماعة مِن الصَّفوة البارزة ، مِن أولاد الخُلفاء وغيرهم ، مِمَّن ذكرناهم سابقاً ، أبوا عليه البيعة ليزيد ، واتَّخذت عملية مُعاوية هذه كمُناورة يُمتحَن بها مُخالفيه ، ثمَّ أوصى ولده يزيد بأنْ لا يمسَّ هؤلاء بسوءٍ ، إذا أبو عليه البيعة بعد موته ، إلاَّ ابن الزبير؛ والسِّرُّ فيما ارتآه داهية قريش ، هو أنّ البعض مِن هؤلاء ضعيف النفس ، وغير مسبوق بغَضاضة .
وأمّا الحسين ، فنفس أبيه بين جنبيه ، ويخشى على البيت الأُموي مِن التعرُّض إليه ، وبما أنّه رجُلُ الفضيلة ، يؤمْل فيه أنْ يَستمرَّ على سكوته وسكونه ، إذا عمل برغائبه ومُداراته ، ويُخشى مِن قيامه أنْ يقوم الحِجاز والعراق معه ، حين لا مُعاوية لديه ، ولا ابن العاص.
أمَّا ابن الزبير ، فذو نفسيَّة حربيَّة مع أعدائه ، وذو دَهاءٍ مع رُقبائه ، ولكنَّه كأبيه شحيح لا مطمع فيه ؛ فالعدوُّ لا يَأمن منه ، والصديق لا يأمل فيه ، فاستهان به ، وبالقضاء عليه مِن دون توقُّع مَحذور في مُعاداته ، لكنَّ يزيد لم يَعمل بهذه الوصيَّة الجوهريَّة ؛ وذلك لأنَّه عاش عِيشَةً مُترَفة قضاها في الصيد والسِّكْر واللَّهو ، ومِثل هذه التربية تَسوق صاحبها دائماً لعبادة الهَوى ، والاعتراف بسلطان الشهوات ، فلا يَحترِم قديماً ، ولا يَحتشم عظيماً ، ولا يحتفل بالدين ، ولا برغائب الجمهور .
وعليه ؛ فما مات مُعاوية ، إلاِّ والأوامر تَترى مِن يزيد على ابن عمِّه الوليد ، وإلى المدينة بأخذ البيعة له مِن الناس عامَّة ، ومِن الحسين ( عليه السلام ) ، وابن الزبير للخِلافة خاصَّة ؛ فتلقَّى الوليد أوامره بكلِّ رَهبة واحتياط ، وكان يَعرِف سوء سُمعة يزيد كحُسن شُهرة هؤلاء عند المسلمين عامَّة ، وعند أهل الحِجاز خاصَّة ، فأدَّت سياسته إلى إعلام هؤلاء بالأمر ، بصورةٍ ودِّيَّةٍ مع المُداراة لرغائبهم وحركاتهم ، قبلما يأخذ البيعة العامَّة في مسجد النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ليزيد كخليفة ، أرسل إلى الحسين ( عليه السلام ) ، وإلى زُملائه للحضور في بيته لمُذاكرةٍ مُهمّةٍ ، فجاءه الحسين ( عليه السلام ) ، ومعه ثُلَّةٌ مِن أقربائه ، ولكنْ لم يدخلوا معه ، فاستقبله الوليد بالترحاب والآداب ، ومروان جالسٌ مُتغيِّرٌ ، تكاد تقرأ ما في قلبه مِن سحنات وجهه ، وابتدأ الوليد يَنعى مُعاوية ، فاسترجع الحسين ( عليه السلام ) ، ثمَّ قال الوليد : ( إنَّ يزيد استحبَّ اقتراح البيعة عليك ، فماذا ترى ؟ ) .
فأجابه الحسين ( عليه السلام ) : ( إنّ البيعة تَحْسُن مِن مِثلي ، لمِثل يزيد أنْ تكون علانيةً ، وبمِلأٍ مِن الناس ، فالأوْلى أنْ تؤجِّلها إلى مَوعد اجتماع الناس في المَسجد ) .
فأجابه الوليد ، بكلِّ لِيْنٍ وتساهُل ، غير أنَّ مروان عكَّر صَفو السِّلْم ، وقال: ( يا أمير ، لا تدعْ حسيناً يخرج مِن عندك بلا بيعة ، فيكون أولى مِنك بالقوَّة ، وتكون أولى منه بالضُّعف ، فاحبِسه حتَّى يُبايع ، أو تَضرب عُنقه ) .
فوثب عندئذٍ حسينُ المَجد ، قائلاً: ( يا بن الزرقاء ، أنت تقتلني أم هو؟! كَذِبت والله ولئِمت ) ، ثمَّ انصرف هو وبنو هاشم.
كان الوليد ومروان كِلاهما يَبغيان إخضاع الحسين ( عليه السلام ) ليزيد ، ولكنْ ذاك بالسياسة ، وهذا بالتهديد .
وكأنَّ الوليد أراد أنْ يَستميل قلب الحسين ( عليه السلام ) ، ويسترقَ مِن لسانه كلمة القَبول ، ولو سُرّاً ؛ لعلمه أنّ الحسين ( عليه السلام ) ، رجُلُ الصِّدق والثَّبات ؛ فلا يَعدل عن كلمته ، وليس بذي لسانين : إسرار ، وإجهار ، ولا ذا وجهين : مُحضر ، ومَغيب.
وأمَّا مروان ، فكأنَّه علم أنَّ المسلمين ، إذا اجتمعوا في مسجد النبي بين قبره ومِنبره ، وحضر لديهم ريحانة النبي ، وبنو هاشم وقوف ، وبنو الأنصار جلوس ؛ فإنّ المؤثِّرات المعنويَّة ، والحِسيَّة لا تُسفِر إلاَّ عن البيعة للحسين ، وخُسران صَفقة يزيد .
وعلى أيِّ حال ؛ فإنِّ مروان نقض على الوليد أمراً كان قد أبرمه ، غير أنّ الخبر لم يكُ يَنتشر خارج المدينة لمُراقبة الوالي ، وفَقْد وسائل المُخابرات.
أمّا الحسين ( عليه السلام ) ، فقد عَرِف أنَّ مروان سوف يُخابِر يزيد على عزل الوالي ، أو يَحمل الوالي على الوقيعة بالحسين ( عليه السلام ) وآله ، وأنَّ يزيد وحزبه يَنقادون لإرادات مروان ، بشخصيَّته البارزة في الحِزب السُفياني ، وقديم عِدائه للنبي وآله ، وقد كان هو وأبوه طريدَي رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وملعونيَنِ على لسانه ، فلابُدَّ وأنْ يَنتقم مِن ريحانة الرسول بالمِثل ، أو يزيد ، فلم يَجد الحسين ( عليه السلام ) بُدَّاً سِوى الهِجرة سِرّاً إلى حرم الله ، ومِنه إلى اليمن .