الدروس المستخلصة منها
الاسباب و الاهداف

الأبعاد السياسية والحركية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) :
حينما نستعرض كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) ومواقفه حين تولّى (يزيد) الأمر بعد أبيه (معاوية) ودُعِيَ الإمام من قبل عامل يزيد على المدينة إلى البيعة إلى أن هبط الإمام أرض كربلاء ووقف بها في مواجهة جيش بني أُميّة نجد عاملين اثنين كانا السبب الباعث على الخروج والثورة على الحُكم الأمَوي والذي انتهى إلى استشهاد الإمام (عليه السلام) في وقعة الطف .
الأول : العامل السياسي .
الثاني : العامل الحركي .
لابدّ لنا من أن ندرس هذين العاملين في كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) في هذا المسير (من المدينة إلى كربلاء) ؛ لنستطيع أن نُقدِّم تفسيراً وافياً ودقيقاً لحركة الإمام وثورته .
العامِل السياسي :
ونبدأ بدراسة العامل السياسي في هذه القضيَّة .
كان أوّل شيء اهتمّ به يزيد بن معاوية بعد أن تولّى الخلافة من بعد أبيه هو فرض البيعة على الحَرمين الشريفين . وكان الحرمان الشريفان يُعتبران نقطتي الثقل السياسي في إعطاء الشرعيّة أو سلب الشرعيّة من مركز الخلافة في الشـام .
وأكثر ما كان يهمّ يزيد من أمر البيعة ثلاثة أشخاص : الإمام الحسين (عليه السلام) وعبد الرحمان بن أبي بكر وعبد الله ابن الزبير .
ولذلك فقد كانت بيعة الحرمين الشريفين أوّل ما فكر فيها يزيد بن معاوية بعد أن تولّى الأمر في الشام .
ولا شكّ أنّ أمر الحسين (عليه السلام) كان يشغل بال الخليفة الجديد ومُستشاريه من بني أُميّة أكثر من أيّ شخص آخر . وكان معاوية قد سعى من قبل لأخذ البيعة من الحسين (عليه السلام) بولاية العهد لابنه يزيد فلم يفلح .
وكان من جواب الإمام الحسين (عليه السلام) له ـ حين دعاه إلى قبول ولاية العهد لابنه يزيد ـ :
(وهيهات هيهات يا معاوية فضحَ الصبحُ فَحْمة الدُجى وبهرَتْ الشمسُ أنوار السرج ولقد فضَّلتَ حتّى أفرطـت واستأثرتَ حتّى أجحفتَ ومنعتَ حتّى مَحَلت وجُزتَ حتّى جاوزتَ ما بذلتَ لذِي حقٍّ من اسم حقّه بنصيب حتّى أخذ الشيطانُ حظَّه الأوفر ونصيبَه الأكمل .
وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) تريد أن تُوهِم الناس في يزيد كأنَّك تصف مَحجوباً أو تنعَت غائباً وقد دلَّ يزيدُ من نفسه على موقع رأيه فخُذ ليزيد فيما أخذ فيه من استقرائه الكلاب المُهارشة عند التهارش والحَمام السِبق لأترابهنّ والقِيان ذوات المعازِف وضربِ الملاهي تجده باصراً . ودَع عنك ما تحاول فما أغناك أن تلقى الله من وِزرِ هذا الخلْق بأكثر ممّا أنت لاقيه .
فو الله ما برحت تقدح باطلاً في جَور وحنقاً في ظلم حتّى ملأت الأسقِية . ما بينك وبين الموت إلاّ غمضة فتُقدِم على عملٍ محفوظ في يومٍ مشهود ولاتَ حين مَناص .
فلمّا مات معاوية وتولَّى يزيد الأمر كان أوّل ما فكَّر فيه أن يأخذ البيعة من الحسين (عليه السلام) فكتب في ذلك إلى عامله المدينة (الوليد بن عتبة) فامتنع الحسين (عليه السلام) امتناعاً شديداً في قصّة طويلة يذكرها الطَبرى وابن أعثم وغيرهما من المُؤرِّخين .
فقد قال الحسين (عليه السلام) لمروان وكان حاضراً ذلك المجلس وكان يحثّ الوليد ألاّ يترك الحسين حتّى يأخذ البيعة منه في ذلك المجلس وإلاّ فيضرب عنقه فقال له الإمام الحسين :
(ويلي عليك يا ابن الزرقاء * أتأمر بضربِ عُنقي ؟! كذبتَ والله .
والله لو رام ذلك أحد من الناس لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك فرُم ضرب عُنقي إن كنت صادقاً) .
ثُمّ أقبل الحسين (عليه السلام) على الوليد بن عتبة فقال : أيّها الأمير إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومُختلف الملائكة ومحلّ الرحمة بنا فتح الله وبنا يختم ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المُحترَمة مُعلِن بالفسق ومثلي لا يُبايع مثله .
وعندما خرج الحسين (عليه السلام) من عند الوليد لامَهُ مروان على ذلك لَوماً شديداً فقال له عامل يزيد : ويحك أتُشير عليّ أن أقتل الحسين ؟! فو الله ما يسرّني أنّ لي الدنيا وما فيها وما أحسب أنّ قاتله يلقى الله بدمه إلاّ خفيف الميزان يوم القيامة) .
فقال له مروان مُستهزئاً :
(إن كنتَ إنّما تركت ذلك لذلك فقد أصبتَ) .
وقد كان موقف الإمام (عليه السلام) في الامتناع من البيعة ليزيد موقفاً واضحاً لا يشكّ فيه أحد وكلمات الإمام في مواقف مُتعدِّدة ـ في مسيرة من المدينة إلى كربلاء ـ توضِّح هذه الحقيقة .
يقول الإمام (عليه السلام) لمحمّد بن الحنفيّة (أخيه) :
(يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأً ولا مأوىً لما بايعتُ والله يزيد بن معاوية أبداً) .
وخطب الإمام يوم عاشوراء في جيش بني أُميّة فقال :
(ألا وأنّ الدَعيّ بن الدَعيّ قد رَكزَ بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة . يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجورٌ طابت وطَهرتْ تُؤثر مصارع الكرام على طاعة اللئام) .
وقال لأخيه عُمَر الأطرف عندما دعاه إلى أن يتجنَّب مُجاهَدة يزيد :
(إنّي لا أُعطي الدَنيَّة من نفسي أبداً ولتلقينّ فاطمة أباها شاكيةً ممّا لقيَت ذرّيّته من أُمّته) .
وعندما خرج الإمام (عليه السلام) يوم عاشوراء ليقاتل جيش ابن سعد بنفسه كان يرتجز ويقول :
الموتُ أوْلى من ركوبِ العَارِ والعارُ أوْلى من دخولِ النارِ
فلم يكن الإمام ـ إذن ـ ليبايع يزيد مهما يكن من أمر .
ومن طرف آخر لم يكن يزيد ليترك الإمام (عليه السلام) من دون بيعة مهما تكن النتيجة .
وقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) يُؤمن بهاتين القضيّتين معاً فلا سبيل إلى بيعة يزيد مهما يكن من أمر ولا يمكن أن يتركه يزيد من دون بيعة أيضاً وكانت النتيجة المُترتّبة على هذين الأمرين واضحة للإمام كلّ الوضوح لا يشكّ فيها لحظة واحدة .
وقال الإمام لأصحابه حينما أرادوا الخروج من الحجاز إلى العراق : (وأيم الله لو كنتُ في جُحر هامَّة لاستخرجوني) .
ولمّا علم عبد الله بن جعفر أنّ الحسين يريد الخروج إلى العراق كتب إليه يدعوه إلى البقاء فكتب إليه الحسين (عليه السلام) :
(والله يابن عمّي لو كنتُ في جُحر هامّة من هوام الأرض لاستخرجوني حتّى يقتلوني . والله يابن عمِّ لَيعدينَّ عليّ كما عدَتْ اليهودُ على السبت) .
وفي رواية أُخرى يرويها الشيخ المفيد في الإرشاد عن الإمام (عليه السلام) بنفس المضمون :
(والله لا يَدَعوني حتّى يستخرجوا هذه العَلقة من جَوفي فإذا فعلوا سلَّطَ الله عليهم مَن يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ فِرَق الأُمم) .
إذاً فلم يكن للإمام الحسين (عليه السلام) غير طريق واحد وهو الشهادة ؛ فإنَّ يزيد لا يقبل من الإمام بغير البَيعة والحسين (عليه السلام) لا يعطي البَيعة ليزيد مهما تكن الأسباب فلا طريق للحسين إلاّ الشهادة ولابدّ أن يكون الحسين (عليه السلام) عازماً على الشهادة حين خرج من الحجاز إلى العراق .
الخيار الثالث :
وكان هناك طريق آخر ثالث اقترحه عليه بعض الناصحين رفَضه الإمام رفضاً قاطعاً وهو : أن يبتعد عن ساحة المعركة ويعتزل الناس ويذهب بعيداً إلى اليمن أو إلى بعض شُعَبِ الجبال ويحتجب عن الناس فيكون قد حقّقَ الغاية وهو الامتناع عن البيعة ليزيد دون أن يُعرِّض نفسه وأهل بيته وأصحابه للأذى والهلاك من قِبَل يزيد ووُلاته وعُمّاله .
يقول ابن الأثير : لمّا عزم الحسين (عليه السلام) على الخروج من الحجاز إلى العراق جاءه ابن عبّاس فقال :
(يا ابن العمّ إنّي أتصبّر ولا أصبر . إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال . إنّ أهل العراق قوم غُدَّر فلا تقربنّهم . أقِم في هذا البلد (مكّة المكرّمة) فإنّك سيّد أهل الحجاز فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عاملهم وعدوّهم ثُمّ أقدِم عليهم فإن أبَيتَ إلاّ أن تخرج فسِر إلى اليمن ؛ فإنّ بها حصوناً وشعاباً وهي أرض عريضة طويلة ولأبيك بها شيعة وأنت عن الناس في عُزلة) .
وكان ممّن يحمل هذا الرأي أخوه محمّد بن الحنفية ؛ إذ جاء إلى الحسين (عليه السلام) لمّا عزم على مغادرة المدينة بأهل بيته فقال له ـ كما يروي ابن الأثير ـ : (يا أخي أنت أحبّ الناس إليَّ وأعزّهم عليّ ولستُ أدّخِر النصيحة لأحدٍ من الخلْقِ أحقّ بها منك .
تَنَحّ ببيعتك عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت وابعث رسُلك إلى الناس فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك وإن أجمع الناس على غيرك لم يُنقِص الله بذلك دِينك ولا عقلك .
قال الحسين (عليه السلام) : فأين أذهب ؟ قال : انزل مكّة فإن اطمأنّت بك الدار فبسبيل ذلك وإن نأَتْ بك لحِقتَ بالرمال وشُعَب الجبال وخرجت من بلد إلى بلد حتّى تنظر إلى ما يصير أمر الناس) .
وفي العراق اقترح الطرمّاح بن عدي على الإمام أن يمتنع عن جيش يزيد بن معاوية بمعاقِل طَيّ المنيعة فقال للإمام : فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتّى ترى من رأيك وتستبين لك ما أنت صانع فسِر حتّى أُنزلك مناع جبلنا الذي يُدعى (أجا) . امتنعنا والله به عن ملوك غسّان وحميَر ومن النعمان بن المُنذر ومن الأسود والأحمـر . والله أن دخل علينا ذلّ قط فأسير معك حتّى أُنزلك القرية) .
إلاّ أنّ الإمام ردّ هؤلاء جميعاً من دون تردّد لا لأنّه كان يشكّ في صدْقهم ونُصحهم له ولا لأنّهم كانوا موضع ارتياب وشكّ عند الإمام ولكن ؛ لأنّ هؤلاء لم يكونوا يفهمون الإمام ورأيه وموقفه بالشكل الصحيح .
فلم يكن همّ الإمام فقط أنّه لا يُبايع يزيد وألاّ يَضع يده في يد ابن معاوية ولو كان الإمام يكتفي بهذا الحدّ ما كلّفه ذلك كثيراً فما كان أيسر على الإمام أن يعتزل الناس ويغادر الحجاز إلى بلدٍ ناءٍ من هذه البلاد النائية الّتي نصحه بها أخوه محمّد وابن عمّه عبد الله بن عبّاس أو نصحه بها الطرمّاح بن عديّ .
إلاّ أنّ الإمام لم يكن يكتفي بهذا الموقف السلبي في أمر خلافة يزيد بن معاوية ولم يكن هذا الموقف السلبي في رفض البيعة إلاّ وَجهاً واحداً من وجهَي الموقف أمّا الوجه الآخر وهو الأهمّ والذي كلَّف الإمام نفسه وأهل بيته وأصحابه وشيعته فهو إعلان هذا الرفض على المَلأ من المسلمين .
وهذا الإعلان هو الّذي أغضب بني أُميّة وأثارهم فقد اعتبروه تحدّياً صارخاً لسُلطانهم وحُكمهم وخروجاً على حُكمهم وسلطانهم ولم يكن بنو أميّة يتحمّلون شيئاً من ذلك في أيّام سطوَتهم وسلطانهم وزهوِّهم .
وكان الإمام الحسين (عليه السلام) يتوخّى من هذا الإعلان مطلباً سياسيّاً لم يكن يتحقّق لولا إعلان الرفض وهو : إسقاط شرعيّة خلافة بني أُميّة في نظر العامّة من المسلمين .
فقد كانت الخلافة ـ رغم كلّ السلبيّات الّتي أحاطت بها إلى هذا الحين ـ تتمتَّع بالشرعيّة في نظر الأكثريّة من المسلمين وكانت هذه الشرعية تُمكِّن بني أُميّة من رقاب المسلمين وتَشلّ عمل ودَور المعارضة وتُعطي للنظام الأموي قوّة ومقاومة كبيرة .
وأخطر من هذا كلّه أنّ هذه الشرعيّة كانت تُمكّن بني أُميّة من إدخال الانحرافات الجاهليّة ـ الّتي جاء بها بنو أُميّة معهم إلى الحكم ـ إلى الإسلام فيمسّ الخطر عندئذٍ الإسلام وتكون مصيبة المسلمين مُصيبتَين : مصيبة في حياتهم ونظام أمورهم ومصيبة أُخرى أكبر وأخطر في دينهم .
وكانت هذه النقطة الثانية تشغل بالَ سيّد الشهداء أكثر من أيّ شيء آخر فقد بدأ هذا الانحراف يتسرّب إلى هذه النقطة بالذات . يُشير الإمام (عليه السلام) في كلامه مع مروان بن الحكم صبيحة الليلة الّتي خرج فيها الإمام من بيت الوليد رافضاً البيعة حيث التقى مروان بالإمام في الطريق فنصح الإمام بالبيعة ليزيد فقال الإمام لمروان :
(على الإسلام السلام إذ بُليَت الأُمّة براعٍ مثل يزيد . ولقد سمعتُ جدِّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : الخلافة مُحرَّمة على آل أبي سفيان) .
إذن كان الإمام يخشى أكثر ما يخشى على الإسلام ـ بالذات ـ من أن يدخل عليه ما جاء به بنو أُميّة إلى الحكم من انحراف وفساد وإذا كان لا يُمكن إسقاط الخليفة وانتزاع السلطان منه فإنّ من المُمكن انتزاع الشرعيّة من الخلافـة وتجريد الحُكم الأموي من الشرعيّة التي كان يحرص عليها حُكّام بني أُميّة .
ومثل هذا الأمر يتطلّب موقفاً صريحاً مُعلَناً في رفض البيعة والامتناع عن قبول خلافة يزيد من جانب الإمام في وَسطِ الرأي العام الإسلامي حينذاك وهذا ما عمد إليه الحسين (عليه السلام) عندما رفض البيعة ورفض أن يُخفي موقفه السلبي هذا ويعتزل الوسط السياسي إلى بعض الشعاب والوديان والجبال ؛ ليسلم بنفسه وأهل بيته وأصحابه من ملاحقة حُكّام بني أُميّة .
لقد كان الإمام يُخطِّط ليجعل من موقفه هذا موقفاً سياسيّاً صارخاً واحتجاجاً في وجه حُكّام بني أُميّة وإعلاناً لسحب الثِقة والشرعيّة من حُكّام بني أُميّة وإعلام الأُمّة كلّها بذلك وهذه بعض النماذج من كلمات الإمام ومواقفه الصريحة في هذا الصدَد :
أوّلاً : غادر الإمام المدينة إلى مكّة ليلاً بجميع أهله وسار على الجادّة الّتي يسلكها الناس فقال له ابن عمّه مسلم بن عقيل : (لو عَدلنا عن الطريق وسلكنا غير الجادّة كما فعل عبد الله بن الزبيركان عندي الرأي فإنّا نخاف أن يلحقنا الطلب . فقال له الحسين (عليه السلام) : (لا والله يا ابن عمِّ لا فارقت هذا الطريق أبداً أو أنظر إلى أبيات مكّة أو يقضي الله في ذلك ما يحبُّ ويرضـى) .
ثانياً : دخل الإمام مكّة بصورة علنيّة مُتحدّياً بني أُميّة . ويصف الخوارزمي نزول الحسين (عليه السلام) بمكّة فيقول : (وكان قد نزل بأعلى مكّة وضرب هناك فسطاطاً ضخماً ثُمّ تحوّل الحسين إلى دار العبّاس وحوّلها إليه عبد الله بن عبّاس فأقام الحسين مُؤذّناً يُؤذِّن رافعاً صوته فيُصلي بالناس) .
(دخل الحسين إلى مكّة ففرح به أهلها فرحاً شديداً وجعلوا يختلفون إليه بكْرَة وعشيّة واشتدَّ ذلك على عبد الله بن الزبير ؛ لأنّه قد كان طمع أن يُبايعه أهل مكّة فلمّا قدم الحسين شقَّ ذلك عليه لكنّه كان يختلف إليه [ إلى الحسين ] ويُصلِّي بصلاته ويقعد عنده ويسمع من حديثه وهو ـ مع ذلك ـ يعلم أنّه لا يُبايعه أحد من أهل مكّة والحسين بن علي بها ؛ لأنّ الحسين عندهم أعظم في أنفسهم من ابن الزبير) .
وكان عمرو بن سعيد الأشدق يومئذٍ عامل يزيد على مكّة فهاب الحسين وهرب إلى المدينة وكتب إلى يزيد بأمر الحسين يقول الخوارزمي : (وهاب ابن سعيد أن يميل الحُجّاج مع الحسين لِما يرى من كثرة اختلاف الناس إليه من الآفاق فانحدر إلى المدينة وكتب بذلك إلى يزيد) .
ثالثاً : تتَّفق المصادر التاريخيّة أنّ الحسين (عليه السلام) خرج من مكّة إلى العراق يوم الثامن من ذي الحجّة (يوم التروية) عندما كان الحُجّاج يتوجَّهون إلى عرفات استعداداً ليوم عرفة وقد أثار خروج ابن بنت رسول الله يوم التروية ـ من بين الحُجّاج ـ إلى العراق انتباه عامّة الحُجّاج الّذين كانوا قد أمّوا البيت الحرام من مختلَف الآفاق فهذا ابن بنت رسول الله يحلّ من العمرة ويُغادر مكّة في وقت يتوجَّه فيه الحُجّاج إلى عرفات لأداء الحَجّ .
ولا نحتاج إلى تأمُّل طويل لنكشف أنّ طريقة الحسين (عليه السلام) في الخروج من المدينة إلى مكّة ثُمّ مقامه في مكّة ثُمّ مغادرته لها إلى العراق ؛ كان بهدف التعبير والإعلان عن رفْضه للبيعة .
ولو كان الإمام يريد أن يتجنَّب البيعة فقط دون تنبيه وإلفات الرأي العام الإسلامي لهذا الموقف السياسي ؛ لما احتاج إلى كلّ هذه الخطوات التي كلَّفته وكلَّفت أهل بيته وأصحابه كثيراً وأثارت عليه سُخط بني أُميّة وغضبهم .
ولقد كان بنو أُميّة يكتفون من الحسين (عليه السلام) ـ في أغلب الظنِّ ـ أن يحتجب ويبتعد عن الرأي العام ويخرج إلى ثَغر بعيد من ثغور المسلمين بعيداً عن الأجواء السياسيّة لكنّ الحسين أبى أن يبايع إباءً قاطِعاً وأبى أن يخرج إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين ويترك الساحة السياسيّة والاجتماعيّة ومسؤوليَّته الشرعيّة وإليك النصّ الذي يبيِّن اتّجاه هذه الساحة :
هناك نصّ يرويه الطبري عن عقبة بن سمعان بهذا الشأن وعقبة هذا كان قد رافق الحسين (عليه السلام) من المدينة إلى كربلاء ولم يَفته شيء من كلمات الإمام وإشاراته ومواقفه .
يقول ابن سمعان : (صحبتُ حسيناً فخرجتُ معه من المدينة إلى مكّة ومن مكّة إلى العراق ولم أُفارقه حتّى قُتِـل وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكّة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكر إلى يوم مقتلـه إلاّ وقد سمعتُها .
لا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية ولا أن يسيِّروه إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين ولكنّه قال : (دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتّى ننظر ما يصير أمر الناس) .
الخيارات الثلاثة :
إذن كان أمام الإمام الحسين (عليه السلام) خيارات ثلاثة :
الأوّل : أن يُبايع يزيد بن معاوية .
الثاني : أن يُغادر الساحة السياسيّة ووَسط الرأي العامّ إلى ثَغرٍ ناءٍ من ثغور المسلمين . حتّى لا يكون خطراً على الحكم الأموي .
ونكتشف من كلمة عقبة ابن سمعان أنّ هذا الخيار كان أيضاً ممّا يطرحه عليه بنو أُميّة على شكلِ الإبعاد والإقصـاء كما فعَل عثمان بن عفّان بأبي ذَرّ من قبل .
وهذه الطريقة من الإقصاء عن الساحة السياسيّة ؛ لتعطيل المعارضة وإفشال دورها كان معمولاً بها في تلك الأيّام . وكلمة عقبة بن سمعان واضحة أيضاً في ذلك : (أن يُسيِّروه إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين) .
وأمّا الناصحون للإمام فكانوا يقترحون عليه أن يختار هذا الشقّ ويختار الجهة الّتي يعتزل فيها الساحة السياسيّة دون أن يُسيّروه إليها .
ومهما كان من أمر فقد رفض الإمام هذا الخيار من بني أُميّة ومن مُحبِّيه ورفض أن يترك الساحة ويعتزلها ولم يقتصر في أمر رفض البيعة على هذا الحدِّ السلبي الّذي كان لا يرفع التكليف الشرعي والمسؤوليّة عن عاتقه .
فقد كان الإمام يُصرُّ على أن يُترَك لشأنه ليذهب ـ كما يقول عقبة بن سمعان في كلمته ـ في هذه الأرض العريضة مُعلِناً عن رأيه في يزيد ورفضه لبيعته وعاملاً بتكليفه الشرعي في الحُكم الأموي وهذا ما كان يرفضه بنو أُميّة رفضاً قاطعاً وقد عبَّرَ الإمام عن ذلك لأصحابه حينما أراد الخروج من الحجار إلى العراق بقوله :
(والله لو كنتُ في جُحر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني) .
الثالث : هو خيار المواجهة والشهادة . وقد اختاره الإمام ـ بالذات ـ من بين هذه الخيارات .
ومن كلمات الإمام في كربلاء أمام جيش ابن سعد :
(لا والله لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد) .
فلا يُعطيهم يده للبيعة إعطاء الذليل وهو الخيار الأوّل الّذي تحدّثنا عنه ولا يفرّ فرار العبيد وهو الخيار الثاني الذي أقترحه عليه بنو أُميّة لإلغاء دوره وتعطيل موقفه عن خُبثٍ ومَكْر واقترحه عليه بعض الناصحين له عن عدمِ وعي .
وهذا هو العامل الأوّل لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) .
العامل الحركي :
العامل الثاني لحركة الإمام وخروجه وثورته هو : (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ؛ لتحريك الأُمّة وتوعيتها وكسر حالة الركود والجمود والاستسلام في الأُمّة .
وقد بيَّنّا ـ فيما مرّ ـ كيف عمل حُكّام بني أُميّة على نشر الإرهاب والفساد في المجتمع وقد تمكَّنوا فيما أرادوا من تمييع المجتمع الإسلامي والقضاء على روح المقاومة والثورة والتمرّد في المسلمين ونشر روح الاستكانة والاستسلام للواقع الفاسد .
وأبرز دليل على انتشار هذه الحالة السلبيّة في المجتمع الإسلامي ـ يوم ذاك ـ هو أن يتولَّى يزيد أُمور المسلمين ثُمّ لا ترتفع صرخات الاستنكار والاحتجاج في العالم الإسلامي إلاّ ما كان هنا وهناك من اعتراضات ضعيفة ومبتورة للمعارضة لا يسمعها ولا يدعمها أحد .
وكان لابُدّ من حركة قويّة في وسط العالم الإسلامي تهزّ ضمائر المسلمين هزّة عنيفة وتبعث في نفوسهم الحياة والإحساس بالمسؤوليّة وتكسر عنهم طوق الخوف والرُعب الّذي كان يملأ نفوسهم آنذاك وتُعيد إليهم ثقتهم بالله ثُمّ بأنفسهم .
لقد كان لابُدّ من تضحية عزيزة نادرة تهزّ ضمائر المسلمين من الأعماق وتُعيد إليهم شخصيّتهم وإرادتهم الّتي انتزعها النظام الأموي منهم وتُشعِرهم بعُمق المأساة وعُمق المسؤوليّة .
وإنّ للدم والتضحية والفداء من الأثر في تحريك النفوس وكسر حاجز الخوف وإعادة الثقة إلى النفوس والتحسيس بالمسؤوليّة ما ليس لغيره من عوامل التحريك .
فإقدام الإمام على الخروج والثورة على النظام الأموي والمواجهة والمجابهة لم يكن فقط لغَرضِ رفض البَيعة وإعلان هذا الرفض وإنّما كان أيضاً لتحريك المسلمين وتحسيسهم بالمسؤوليّة وإعلان الموقف الشرعي ودعوة المسلمين إلى المواجهة والمُجابهة والمعارضة والتمرّد على النظام والسُلطة الأمويّة . والإنكار بالعمل والتضحية والقوّة من أهمّ شُعَب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد رُوى عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : {مَن رأى منكم مُنكَراً فليُنكِر بيده إن استطاع فإن لم يَستطع فبِلسانه فإن لم يستطع فبقلبِه فحسْبه أن يعلم الله أنه لذلك كاره} .
وروي عن عليّ (عليه السلام) أنّه قال في صفّين : أيّها المؤمنون إنّه مَن رأى عدواناً يُعمَل به ومُنكَراً يُدعَى إليه فأنكره بقلبِه فقد سَلِمَ وبَرئ ومَن أنكرَه بلِسانه فقد أُجِر وهو أفضل من صاحبه ومَن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العُليا وكلمة الظالمين السُفلى فذلك الّذي أصاب سبيل الهُدى وقامَ على الطريق .
والخروج والثورة لإنكار المُنكَر والأمر بالمعروف ولتحريك المسلمين وتنبيههم من أوضح مصاديق (الإنكار باليَـد) وأقوى عوامل التحريك والتوعية في صفوف المسلمين وعندما نستعرض كلمات الإمام في مسيره من المدينة إلى كربلاء نجد أنّ مسألة رفض البيعة وإعلان الرفض كموقف سياسي ضدّ النظام الحاكم لا تُعبِّر عن كلّ أبعاد حركة الحسين (عليه السلام) وثورته فهناك بُعد آخر لهذه الحركة هو : الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر ؛ لتحريك المسلمين لمواجهة الطاغية ومُجابهته وإسقاطه .
وعنصر الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر عنصر بارز في حركة الإمام الحسين (عليه السلام) كما نقرأ في زيارته أشهدُ أنّك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكَر .
يقول أصحاب السيَر : إنّ الحسين (عليه السلام) لمّا تهيَّأ لمُغادَرة المدينة زار قبر جدّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وصلّى ركعتين ثُمّ قال : (اللّهمّ إنّ هذا قبر نبيّك محمّد وأنا ابن بنت محمّد وقد حضرني من الأمر ما قد علمت .
اللهمّ إنّي أُحبّ المعروف ؛ وأكره المنكَر وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومَن فيه إلاّ ما اخترت من أمري هذا ما هو لك رضى) .
وعندما نستعرض كلمات الإمام في مسيرته من المدينة إلى كربلاء نجد أنّ الإمام يُؤكِّد كثيراً في حركته هذه على عامل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الكثير من المواقف ويُعلِن للمسلمين أنّ خروجه على بني أُميّة لم يكن من أجل أن ينال سلطاناً أو مُلكاً وإنّما ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .
وفي وصيَّته (عليه السلام) الّتي أودعها عند أخيه محمد بن الحنفيّة قبل الخروج من المدينة إلى مكّة يقول :
(إنّي لم أخرج أشِراً ولا بَطراً ولا مُفسِداً ولا ظالماً وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي محمّد (صلّى الله عليه وآله) . أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكَر وأسيرُ بسيرة جدّي محمّد وسيرة أبي علي بن أبي طالب) .
وفي مكّة كتب الإمام نسخة واحدة إلى رؤساء الأخماس بالبصرة جاء فيها :
(وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيِّه فإن السُنّة قد أُميتَت وأنّ البُدعة قد أُحييَت وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أُهدكم سبيل الرشاد) .
وفي منزل البيضة في طريق العراق خطب الحسين (عليه السلام) في أصحابه وأصحاب الحرّ فقال : أيّها الناس إنّ رسول الله قال : مَن رأى سلطاناً جائراً مُستحِلاًّ لحرمِ الله ناكثاً لعهد الله مُخالِفاً لسُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يعمل في عباد الله بالإثمِ والعدوان فلم يُغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله ألا أنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان وأظهروا الفساد وعطَّلوا الحدود واستأثروا بالفَيء واحلّوا حرام الله وحرَّموا حلاله وأنا أحقّ مَن غيّر .
وفي منزل (ذي حسم) (بالقُربِ من كربلاء) خطب الحسين (عليه السلام) بعد أن حمد الله وأثنى عليه قائلاً : إنّه قد نزل من الأمر ما قد ترون وأنّ الدنيا قد تغيَّرت وتنكَّرت وأدبرَ معروفها واستمرّت جذّاء فلم يبقَ منها إلاّ صُبابة كصبابة الإناء وخسيس عيشٍ كالمرعى الوبيل . ألا ترَون أن الحقّ لا يُعمَل به وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه ؟! ليَرغب المؤمنُ في لقاء الله مُحقّاً فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً .
وممّا يُؤكِّد عزم الإمام على الخروج والثورة أنّ الإمام صادر أموالاً كان قد بعثها عامل يزيد على اليمن إلى يزيد (بالتنعيم) بالقرب من مكّة المكرّمة . يقول الطبري : ثُمّ أنّ الحسين أقبل حتّى مرّ بالتنعيم فلقى بها عِيراً قد أُقبل بها من اليمن بعث بها مجير بن ريسان الحميري إلى يزيد بن معاوية وكان عامله على اليمن وعلى العِير الوَرس والحَلّ ينطلق بها إلى يزيد فأخذها الحسين فانطلق بها . ثُمّ قال لأصحاب الإبل : (لا أُكرهكم مَن أحبَّ أن يمضي معنا إلى العراق أوفَينا كِراءه وأحسنّا صُحبته ومَن أحبَّ أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكِراء على قدر ما قطَع من الأرض .
وعليه فإنّ حركة الإمام (عليه السلام) ـ كانت ذات بُعدَين : سياسي وحركي .
في البُعد الأوّل كان هدف الإمام الحسين (عليه السلام) رفض البيعة وإعلان هذا الرفض على المجتمع الإسلامي ـ يوم ذاك ـ والاستفادة من الجانب الإعلامي للفرض .
وفي البُعد الثاني كان الإمام يُخطِّط للخروج على النظام الحاكِم وما يُسمّى اليوم بـ (الثورة المُسلَّحة) والجهاد المُسلَّح ؛ بهدف تحريك المجتمع ضدّ الظلم وإيقاظ الأُمّة وبعث روح الجهاد ومقاومة الظالم في نفوسهم ودفع الناس للثورة على الظالم وإسقاطه وكسر حاجز الخوف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر .
وهذان البُعدان واضحان من كلمات الإمام ومواقفه في مسيره من المدينة إلى كربلاء كما رأينا طرفاً من ذلك في هذه الدراسة .
وقد كان الإمام خلال هذه الحركة السياسيّة الجهاديّة على بيّنة من أمرَين اثنين لابُدّ أن نُشير إليهما ؛ لنتمكن من رسم الصورة الكاملة للمسيرة الحسينيّة :
الأمر الأوّل : إنّ هذه الحركة ـ ببُعدَيها السياسي والحركي ـ غير قادرة على إسقاط النظام الأموي فقد كان النظام الأموي قويَّاً مرهوب الجانب قد أعدَّ له معاوية كلّ أسباب القوّة والمنعة من مال وقوّة عسكريّة وإعلام وإرهاب وإدارة ولم يكن الإمام (عليه السلام) بقادر ـ بما كان يتهيّأ له يوم ذاك من أنصار ـ أن يُقاوم قوّة الشام المركزيّة بصورة أكيدة .
كما أنّ النظام الأموي استطاع خلال هذه المُدّة أن يُخمِد جذوة الثورة في نفوس الناس وأن يُقنِع الناس بأنّ من الخير لهم أن يُؤثروا السلامة والعافية على الثورة والتمرّد على النظام وأن يخلدوا إلى الهدوء والسكينة والسمع والطاعة ولا يُفكِّروا في شيء من أُمور الدولة ونظامها ولا ينقادوا لدعوات دُعاة المعارضة . وقد أفلح معاوية بشكل خاصّ في تدجين الناس للنظام وتثبيت رهبة النظام وسطوته في نفوس الناس وتعويدهم على الاستسلام والرضوخ .
وكان الإمام الحسين (عليه السلام) يعرف هذا جيداً ولا يجادل فيه ولم يكن يأمل أن يجد في العراق جيشاً قويّاً يدعمه في موقفه ضدّ سلطان بني أُميّة ويتبنَّى دعوته لإسقاط النظام ويقف إلى جانبه ويثبت وكان يعلم جيّداً أنّ هؤلاء الناس الّذين تجمّعوا لدعوته وبيعته وكتبوا إليه سُرعان ما ينقشعون أمام قوّة الشام والحكومة المركزيّة ولا يبقى معه غير قلَّة قليلة من شيعته الّذين دبّ فيهم التفكّك والضعف وروح الاستسلام والانهزاميّة .
ولقد كان الإمام (عليه السلام) يعرف ذلك أيضاً معرفة جيدة . ولم يكن خروج أخيه الحسن (عليه السلام) لقتال معاوية وما أصاب جيشه من التفكّك والخيانة واضطرار الإمام الحسن لإيقاف القتال ببعيد عنه ولم يكن الإمام الحسين (عليه السلام) يتوقَّع أن تتهيَّأ له من الظروف السياسيّة والقتاليّة أفضل ممّا توفَّرت لأخيه الحسن (عليه السلام) من قَبل .
التحذير من الخروج إلى العراق :
ولم يكن يغيب عن الإمام الحسين (عليه السلام) ما كان يراه ويُذكّره به الكثير من شيعته والناصحين والمُحبِّين لـه ممَّن كان الإمام لا يَتّهم نُصحهم وصدقهم وفَهْمَهم لساحة العراق .
يقول ابن أعثم في (الفتوح) والخوارزمي في (المَقتَل) : (قدم ابن عبّاس إلى مكّة وقد بلغه أنّ الحسين (عليه السلام) عزم على المسير فأتى إليه ودخل عليه مُسلِّماً ثُمّ قال له : جعلت فداك إنّه قد شاع الخبر في الناس وأرجفوا بأنّك سائر إلى العراق . فقال : (نعم قد أزمعتُ على ذلك في أيّامي إن شاء الله لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم) فقال ابن عبّاس : أُعيذك بالله من ذلك وأنت تعلم أنّه بلد قد قُتل فيه أبوك واغتِيل فيه أخوك) .
ودخل عليه عُمَر بن عبد الرحمان بن هشام المخزومي فقال : يابن رسول الله إنّي أتيتُ إليك لحاجة أُريد أن أذكرها فأنا غير غاشّ لك فيها فهل لك أن تسمعها ؟ فقال الحسين : (هات فو الله ما أنت عندي بسيّء الرأي فقُل ما أحبَبت) .
فقال : قد بلغَني أنّك تريد العراق وإنّي مُشفِق عليك من ذلك أنّك تَرِد إلى قوم فيهم الأُمراء ومعهم بيوت الأمـوال ولا آمن عليك أن يُقاتِلك مَن أنت أحبّ إليه من أبيه وأُمّه ؛ ميلاً إلى الدينار والدرهم فقال له الحسين : (جزاك الله خيراً يا بن عمّ فقد علمتُ أنّك أمرت بنُصح . ومهما يقضي الله من أمرٍ فهو كائن أخذتُ برأيك أم تركته) .
ولم يكن الإمام يُكذِّب هؤلاء أو يتردّد في كلامهم وقد كانوا يُؤكِّدون للإمام أنّ أهل العراق لا يثبتون طويلاً أمام جيوش الشام وأنّ العاقبة لن تختلف عن عاقبة الجيش الّذي صحب أخاه الحسن (عليه السلام) من قبل .
كان الإمام يتقبَّل كلّ ذلك ويُصدّقه من دون مناقشة أو تردّد .
يقول الخوارزمي : إنّ الإمام عندما بلغ (ذات عرق) في خروجه إلى العراق لَقيه رجل من بني أسد يُقال له بِشر بن غالب فقال له الحسين (عليه السلام) : (ممَّن الرجُل ؟ قال : من بني أسد .
قال : فمن أين أقبلت ؟ قال : من العراق .
قال : فكيف خلّفت أهل العراق ؟
فقال : يا بن رسول الله خلّفت القلوب معك والسيوف مع بني أُميّة .
فقال له الحسين : صدقت يا أخا بني أسد . إنّ الله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وفي الطريق في منزل (الصفاح) لقي الإمامُ الفرزدقَ بن غالب (الشاعر) فواقف حسيناً فقال له : أعطاك سؤلك وآملك فيما تحبّ . فقال له الحسين (عليه السلام) : بيّن لنا نبأ الناس خلفك فقال له الفرزدق : من الخبيرِ سألت قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أُميّة ... والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء .
فقال له الحسين (عليه السلام) : صدقت للهِ الأمر ويفعل ما يشاء وكلّ يوم ربّنا في شأن) .
ولمّا بلغ عبد الله بن جعفر سفر الحسين (عليه السلام) إلى العراق أرسل إليه كتاباً مع وَلدَيه عون ومحمّد يُخبِره بأنّه خائف عليه من الوجه الّذي يسير إليه (العراق) فلم ينثنِ الإمام عن عزمه .
ومع هذه التأكيدات الّتي ذكرنا طرفاً منها هنا فإنّ من غير المعقول أن يغيب عن الإمام ما كان يعرفه هؤلاء الناس الّذين لم يكن الإمام يشكّ في نصحهم وصدقهم وحُبّهم له .
فلم يكن الإمام ـ إذن ـ يطمح في إسقاط نظام بني أُميّة بهذه القوّة الّتي تطّوعت له في العراق وكلّ القرائن التاريخيّة الّتي رافقت خروج الإمام تنفي هذا الاحتمال من الأساس .
إذن لم يُفكِّر الإمام في خروجه إلاّ بتوعية الرأي العامّ وإثارة سخط الناس ضدّ حُكم بني أُميّة وتثوير المجتمع الإسلامي وتحريكه ضدّ سلطان بني أُميّة دون الإسقاط المباشر .
والأمر الثاني : إنّ الإمام (عليه السلام) كان مُصمّماً على الشهادة عالماً بأنّ غاية خروجه هذا هي الشهادة في سبيل الله وكلّ القرائن الّتي رافقت حركة الإمام (عليه السلام) تُؤكِّد هذه الحقيقة.
فلم يكن من الممكن أن يترك بنو أُميّة الحسين (عليه السلام) مُعلِناً رفضه للبيعة خارجاً على بني أُميّة في رفضه وامتناعه عن البيعة ولم يكن الإمام يقبل بالتنازل عن رفضه للبيعة وإعلانه للرفض وخروجه على يزيد مهما بلغ الأمر في وقت لم تكن له قوّة تحميه .
فليس بُدّ ـ إذن ـ من الشهادة إلاّ أن يتنازل الحسين (عليه السلام) عن رفضه للبيعة والخروج على يزيد ويتقبّل بيعة يزيد أو يعتزل الساحة السياسيّة إلى بعض شعاب الجبال أو البوادي وهو ما كان يرفضه الإمام رفضاً قاطعاً وأكيداً لا يقبل المناقشة وكلمات الإمام في هذه المسيرة صريحة أيضاً على عزمه الأكيد على الإقدام على الشهادة .
ونذكر فيما يلي بعض النصوص :
أوّلاً : كان الإمام الحسين (عليه السلام) قد وعد أخاه محمّد بن الحنفية بأن ينظر في رأيه في الإعراض عن العراق فلمّا غادر (عليه السلام) مكّة مُتوجِّهاً إلى العراق جاءه محمّد بن الحنفية وأخذ بزمام ناقته واستنجزَه الوعد فقال :
يا أخي ألَم تعِدني النظر فيما سألتُك ؟! قال : بلى . قال : فما حداك على الخروج عاجِلاً ؟
قال : أتاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعدما فارقتك فقال : يا حسين اخرج فإنّ الله شاء أن يراك قتيلاً .
فقال محمّد بن الحنفية : إنّا لله وإنّا إليه راجعون فما معنى حمْلك هؤلاء النسوة معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال ؟!
قال : فقال لي (صلّى الله عليه وآله) : إنّ الله قد شاء أن يراهنَّ سبايا .
فسلَّم عليه ومضى) .
ثانياً : لمّا عزم الإمام على الخروج من المدينة أتتْه أمّ سَلَمَه ـ رضي الله عنها ـ فقالت : (يا بُني لا تحزنِّي بخروجك إلى العراق فإنّي سمعتُ جدّك يقول : يُقتَل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يُقال لها كربلاء .
فقال لها : يا أماه أنا والله أعلمُ ذلك وأنّي مقتول لا محالة وليس لي من هذا بُدّ) .
ثالثاً : في الليلة الثانية أو الثالثة من دعوة الوليد الإمام إلى البيعة ذهب الإمام إلى قبر جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقضى الليل كلّه في الصلاة والدعاء حتى إذا كان في بياض الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى ساعة فرأى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قد أقبل في كوكبة من الملائكة ... حتّى ضمّ الحسين (عليه السلام) إلى صدره وقبّل بين عينيه وقال : (يا بُنيّ يا حسين كأنّي عن قريب أراك مقتولاً مذبوحاً بأرض كرب وبلاء من عصابةٍ من أُمّتي وأنت في ذلك عطشان لا تُسقَى وظمآن لا تروى وهُم مع ذلك يرجون شفاعتي ما لهم لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة) .
رابعاً : روي أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لمّا عزم على الخروج إلى العراق من مكّة قام خطيباً فقال : (الحمد لله وما شاء الله ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله وصلّى الله على رسوله وسلَّم .
خُطَّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جِيد الفتاة وما أولَهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف وخِير لي مصرع أنا لاقيه كأنّي بأوصالي تُقطِّعها عسلان الفلَوات بين النواويس وكربلاء فيملأنّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم .
رضا الله رضانا أهل البيت . لن تشذَّ عن رسول الله لُحمَته وهي مجموعة له في حظيرة القدس تُقِرُّ بهـم عينـه وتنجز لهم وعْده مَن كان فينا باذلاً مُهجَته موطِّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإنّي راحل مُصبِحاً إن شاء الله تعالى .
خامساً : يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : لمّا مضى الإمام مُتوجّهاً دعا بقرطاس وكتُب فيه إلى بني هاشم : بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن عليّ بن أبي طالب إلى بني هاشم .
أمّا بعد فإنّه مَن لحقَ بي منكم استُشهد ومَن تخلَّف لم يبلغ مبلَغ الفتح والسلام) .
سادساً : كتَب الإمام من كربلاء إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة :
بسم الله الرحمن الرحيم .
من الحسين بن علي (عليه السلام) إلى محمّد بن عليّ ومَن قبلَه مِن بني هاشم . أمّا بعد فكأنّ الدنيا لم تكن والآخرة لم تزل والسلام .
فالإمام إذن كان قد خرج بدافع إعلان رفض البيعة وإعلان الثورة على يزيد ولم تكن لدعوة أهل العراق أثَر في مسيرة الحسين (عليه السلام) وحركته إلاّ بقَدرِ ما يتعلَّق بتحديد الجِهة في حركة الإمام وسَيره .
ولمّا تبيَّن الإمام أنّ القوم قد انقلبوا عن رأيهم وموقفهم عندما اعترضه الحُرّ بن يزيد الرياحي بجيشه عرض عليهم الحسين أن ينصرف عنهم إلى حيث يشاء من الأرض على أن يختار هو (عليه السلام) الجهة الّتي يريدها لا أن تُفرَض عليه من قِبل ابن زياد .
وقد عرض الإمام (عليه السلام) هذا الأمر على الحُرّ مرّتين يوم اللقاء مرّة بعد صلاة الظهر ومرّة بعد صلاة العصر .
وليس في كلام الإمام هذا إشارة إلى أنّه إن انصرف عن العراق فسوف يكفّ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَـر ودعوة الناس للثورة ضدّ سلطان بني أُميّة أو يحتجب برأيه وموقفه السلبي تجاه بني أُميّة في بعض شعاب الجبال أو ثغور المسلمين .
ولم يتعهّد الإمام للحُرّ يوم ذاك بشيء من هذا وإنّما طلب منه أن يتنحّى عنه حتّى ينصرف إلى حيث يشاء من أرض الله الواسعة . وقد ذكرنا قبل هذا كلمة عقبة بن سمعان ـ الّتي رواها الطبري ـ في امتناع الحسين (عليه السلام) من أن يضع يده بيَد يزيد أو يعتزل الناس في ثغرٍ ناءٍ من ثغور المسلمين .
إذن كان الحسين (عليه السلام) مُقدِماً على إعلان الخروج على يزيد على كلّ حال وكان يبحث عن الفرصة الّتي تُهيّئ له هذا الإعلان ووجد في دعوة أهل العراق وبَيعتهم هذه الفرصة وكان على يقين أنّ هذا الموقف السياسي والثوري سوف يُكلِّفه نفسه والنُخبة الصالحة من أهل بيته وأصحابه ولم يكن من ذلك بُدّ ولذلك فقد قدمَ الإمام على الشهادة راضياً مُطمئنّ البال .
وكان هناك من شيعة الإمام الناصحين له مَن كان يحمل رأياً آخر يختلف عن رأي الإمام ويعتقد أنّ الإمام إذا خرج وقُتل انتُهكت بقتله حُرمة الإسلام ولا يحترم بعده بنو أُميّة أحداً من وجوه المسلمين وأعلامهم ومن هؤلاء ابن عمّه عبد الله بن جعفر وكان ممَّن لا يشكّ الإمام في صدقه ونُصحه .
أرسل إلى الإمام كتاباً مع ولديه عون ومحمّد ـ كما أسلفنا ـ والإمام في طريقه إلى العراق يقول فيه للإمام :
فإنّي مُشفِق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك .
إن هلكتَ اليوم أُطفئ نور الأرض فإنّك علَم المُهتدين ورجاء المؤمنين فلا تعجل بالسَير فإنّي في أثَرِ كتابـي .
ومنهم عبد الله بن مطيع العدوي التقى الإمام في الطريق إلى العراق على ماء من مياه العرب فقال للإمام :
بأبي أنت وأُمّي يا بن رسول الله ما أقدَمك ؟ فقال له الحسين (عليه السلام) : كتَب إليّ أهلُ العراق يدعونني إلى أنفسهم .
فقال له عبد الله بن المطيع : أُذكّرك الله يا بن رسول الله وحرمة الإسلام أنّ تنتهك ... فو الله لئن طلبت ما في أيدي بني أُميّة ليقتُلنَّك ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً أبداً .
وكان الإمام (عليه السلام) يرى على خلاف هؤلاء أنّ الشهادة هي الفتح وأنّ هذه الأُمّة لا يُمكن تحريكها ولا يُمكن أن تُبعَث فيها الحياة والحركة والعزم من جديد إلاّ بشهادته وشهادة النُخبة الطاهرة من أهل بيته وأصحابه . وقد كتب بذلك إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة :
بسم الله الرحمن الرحيم : من الحسين بن علي إلى محمّد بن علي ومَن قَبِلَه من بني هاشم .
أمّا بعد فإنّ مَن لَحقَ بي استُشهد ومَن لم يلحق بي لم يُدرِك الفتح والسلام.
وليس من المُمكن الإجابة بأفضل من هذا الجواب فمَن لحق بالحسين (عليه السلام) لابُدّ أن يستشهد ومَن لم يلحق به فاتَته الشهادة وهي الفتح الّذي لا يشكّ به الحسين ؛ عندما ينظر إليها في امتداداتها البعيدة والنتائج التي تُحقّقها في حياة المسلمين .
فلولا شهادة الحسين (عليه السلام) والنخبة المؤمنة التي خرجت معه إلى العراق والهزَّة العميقة الّتي أحدثَتها في وجدان الأُمّة وضميرها ... لمَضى بنو أُميّة في غَيِّهم وطيشهم وعبثهم بمُقدَّرات الأُمّة ورسالتها .
بَيد أنّ شهادة الحسين (عليه السلام) أعادت الأُمّة إلى وعيها ورشدها وأحسَّتها بمسؤوليّتها الشرعيّة في مواجهة طغيان بني أُميّة وضلالهم .
يقول الشيخ جعفر التُستري (رحمه الله) في كتابه القيِّم (الخصائص الحسينيّة) :
فلو كان الحسين يُبايعهم [ بني أُميّة ] تقيّة ويُسلِّم لهم لم يبقَ من الحقِّ أثَر فإنّ كثيراً من الناس اعتقدوا أنّه لا مُخالِف لهم في جميع الأُمّة وأنّهم خلفاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حقّاً .
فبعد أن حاربهم الحسين (عليه السلام) وصدر ما صدر إلى نفسه وعياله وأطفاله وحُرَم الرسول تَنبَّه الناس لضلالتهم وأنّهم سلاطين الجَور لا حُجَج الله وخلفاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله).
وقد سأل إبراهيم بن طلحة بن عبد الله الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن الغالب في معركة الطفّ حين الرجوع إلى المدينة فقال الإمام زين العابدين (عليه السلام) : إذا دخل وقت الصلاة فأذِّن وأقِمْ تعرف الغالِب.
وجواب الإمام السجاد (عليه السلام) دقيق متين لمَن يتمكّن أن ينفذ من ظواهر الأحداث وسطحها إلى الأعماق وعندما يتمكّن الإنسان من رؤية الامتدادات والنتائج البعيدة للأحداث .