الدروس المستخلصة منها
الاسباب و الاهداف

لقد أحدثت تلك المجزرة هزَّة عنيفة في العالم الإسلامي لم يعرف المسلمون في تاريخهم الحافل بالأحداث أعنف منها أو مثلها ، ولا حادثاً من الأحداث كان له من الآثار العميقة في النفوس والعقائد والحياة السياسية والاجتماعية والأدبية ما كان لمجزرة كربلاء.
لقد تركت تلك المجزرة صدمة في نفوس المسلمين لم يُحدِّث التاريخ بمثلها ، ألهبت مشاعر المسلمين ولا تزال ذكراها تُلهب المشاعر وتثير الأحاسيس حتّى يومنا الحالي ، وستبقى لها تلك الآثار ما دام التاريخ ، وأصبح التشيُّع بعدها عقيدة ممزوجة بالدماء متغلغلة في النفوس بعد أن كان عقيدة هامدة تنقصها الحماسة ، وشتَّان بين العقيدة الهامدة والعقيدة الممزوجة بالحماس والدماء ، وغدت ذكرى تلك المجزرة الرهيبة الملطَّخة بدماء آل بيت الرسول كافية لأن تثير عاطفة الحماس والحزن في قلوب الناس في مختلف العصور ومنبعاً لكل ما يلهب النفوس وحتّى للأخيلة والأقاصيص.
ولا احسب أنَّ في كل ذلك شيئاً من الغلو والغرابة ؛ لأنَّ المسلمين ـ على ما بينهم من خلافات في النزعات والاتجاهات ـ يقدِّرون للحسين (عليه السلام) مكانته من الإسلام وصلاته بجده صاحب الرسالة ، وقد سمعوا منه الكثير الكثير ممَّا كان يقوله فيه وفي أخيه الحسين وكيف كان يعامله في مجالسه العامَّة والخاصَّة ، ورأوه أحياناً وكأنَّ الغيب قد تكشَّف له عن مصيره يبكي لحاله ولِمَا يجري عليه ، وكانوا يبكون لبكائه ، فليس بغريب إذا ألهب مصرعه على النحو الذي وقع عليه المشاعر وأرهف الأحاسيس وأطلق الألسن وترك في نفوس المسلمين أثراً حزيناً دامياً يجمع القلوب حول هذا البيت المنكوب :

وأيُّ رزيَّة عدلت حسيناً غـداة تبيُّره كفَّاً سنان

نعم ، ليس بغريب إذا استعظم الناس على اختلاف ميولهم ونزعاتهم هذا التنكيل الشائن بعترة الرسول الأمين (صلى الله عليه واله) وسلالته وفلذَّات كبده وقرَّة عينه ، ورأوا فيه كفراناً لحقِّه وتعريضاً لغضبه وامتهاناً لكرامته ، وقال قائلهم :

مـاذا تـقولون إذ قـال النبي لكم مـاذا فـعلتم وأنـتم أخـر الأمم
بـعترتي وبـأهلي بـعد مُـفتقدي نصفٌ أُسارى ونصفٌ ضُرِّجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم أن تـخلفوني بـشرٍّ في ذوي رحمِ

فبهذا وأمثاله قالت النائحات في جميع العواصم والبلاد الإسلامية ، يندبن الحسين ومَن قُتل معه من بنيه وإخوته وأنصاره ، ويبكين لمصارعهم وما جرى لهم من حفيد هند وأبي سفيان وجلاَّديه ، وانطلقت الألسن الشاعرة ترثيه وتُصور أسف النبي (صلى الله عليه واله) وهو في قبره ، وحزنه العميق على سبطه ، واحتجاجه على أمته التي لم تحفظ له حقَّاً وترعَ له حرمة ، وتُلقي على الأمويِّين مسؤولية جريمتهم ومروقهم من الدين وانتهاكهم لجميع الحرمات والمقدَّسات.
لقد هال الناس هذا الحادث الجلل حتّى الأمويِّين أنفسهم ، فأقضَّ المضاجع وأذهل العقول ، وارتسم في الأذهان حتّى أصبح الشغل الشاغل للجماهير ، وحديث النوادي ومسرحاً خصباً للتخيُّلات ، وادعى الناس في المدينة غيرها : إنَّ الجنَّ كانت تنوح على الحسين وإنَّهم سمعوا هاتفاً يقول كما جاء في الطبري وابن الأثير:

أيُّـها القاتلون جهلاً حسينا ابـشروا بالعذاب والتنكيل
كل أهل السماء يدعو عليكم مـن نـبيٍّ ومَـلاكٍ وقبيل
قد لُعنتم على لسان بن داود وموسى وصاحب الإنجيل

وراحوا يتصوَّرون لمدة شهرين أو أكثر كأنَّ الحيطان ملطَّخة بالدماء ساعة تطلع الشمس حتّى ترتفع كما نص على ذلك الطبري في تاريخه.
ورووا عن النوار ـ زوجة خولي بن يزيد الأصبحي ـ أنَّها قالت لزوجها ليلة دخل الكوفة برأس الحسين وأدخله عليها: لقد جاء الناس بالذهب والفضة وجئتني برأس الحسين ، وكان قد وضعه تحت الإجانة في صحن الدار ، فقامت من فراشها غضبى وخرجت إلى الدار ، فرأتْ نوراً يسطع مثل العمود من السماء إلى الإجانة وطيوراً بيضاء تتهاوى من السماء وترفرف حولها.
كما استغلَّ الشعراء هذا الحادث المفجع فرووا حوله شتى الأحاديث وصاغوها بألوان شعرية دامية يصدرها قلب مكلوم ثائر حزين يدعو إلى الثورة العارمة بعنف وصرامة ، ويسجِّل تلك الأحزان العلَوَيَّة بأسف ولوعة ، منادياً : يالثارات الحسين ، وغلبت على الأدب الشيعي والشعر الشيعي وبخاصة العراقي منه هذه النزعة الحزينة الباكية ، وغدوا أمام أدب تبعثه عاطفتان بارزتان : عاطفة الحزن ، وعاطفة الغضب ، تُصدره الأولى حزيناً باكياًَ ، وتبعثه الثانية قويَّاً ثائراً ، ومن هذه النماذج التي حفظها لنا تاريخ تلك الفترة ما رواء الرواة عن عبدالله بن الحُرِّ الجعفي ، الذي زار المعركة بعد أيَّام من حدوثها وهو يتلوَّى أسفاً ولوعة ويتمنَّى لو أنَّه وفِّق لنصرته والاستشهاد بين يديه ، وأنشد على قبر الحسين (عليه السلام):

يـقول أمـير غـادر حـق غادر ألا كـنتَ قاتلتَ الحسين بن فاطمه
فـيـا نـدمي ألاَّ أكـون نـصرتُه ألا كــلُّ نـفسٍ لا تُـسدِّد نـادمه
وأنِّـي لأنِّـي لـم أكـنُ من حُماته لـذو حـسرة مـا أن تفارق لازمه
سـقى الله أرواح الَّـذين تـآزروا عـلى نصره سقياً من الغيث دائمه
وقـفتُ عـلى أجـداثهم ومـجالهم فـكاد الحشى ينقضُّ والعين ساجمه
لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى سِـراعاً إلى الهيجا حماة خضارمه
تـأسُّوا عـلى نصر ابن بنت نبيِّهم بـأسيافهم آسـاد غـيل ضـراغمه
ومـا أن رأى الـراؤن أفضل منهم لـدى الـموت سادات وزُهرٌ قماقمه
أتـقـتلهم ظـلماً وتـرجو ودادنـا فـدعْ خـطة لـيست لـنا بملائمه
لـعمري لـقد راغـمتمونا بـقتلهم فـكم نـاقمٍ مـنَّا عـليكم ونـاقمه
أهـمُّ مـراراً أن أسـير بـجحفل إلـى فـئة زاغت عن الحق ظالمه
فـكـفُّوا وإلاّ زرتـكـم بـكتائب أشـدَّ عـليكم مـن زحوف الديالمه
ومن هؤلاء الذين أحسُّوا بأخطار تلك الجريمة النكراء رضي بن منقذ العبدي ، فقال :

ولـو شـاء ربـي ما شهدت قتالهم ولا جعل النعماء عندي ابن جابر(1)
لـقد كان ذاك اليوم عاراً وسبة تـعيُّره الأبـناء بـعد المعاشر
فـيا ليت أنِّي كنتُ من قبل قتلة ويوم حسين كنت في رمس قابر
لقد أحسَّ المسلمون على اختلاف ميولهم واتجاهاتهم بالندم والخيبة لخذلانه وعدم مناصرته ، وحتّى الذين قاتلوه وقادوا المعركة ضدَّه كانوا يبكون ويندبون مصيرهم السيِّء ، فقد جاء عن عمر بن سعد الذي قاد تلك المعركة أنَّه كان يقول: لا تسل عن حالي ؛ فإنَّه لم يرجع غائب عن منزله بأشرَّ ممَّا رجعت به ، فلقد قطعت القرابة القريبة وارتكبت الأمر العظيم . وحتّى أنَّ يزيداً بكى وندم على قتله ، وكلَّما ذكر الحسين ، كان يقول: وما عليَّ لو احتملت الأذى وأنزلت الحسين معي في داري ، وحكَّمته فيما يريد وإن كان عليَّ وهن في سلطاني ؛ حفظاً لرسول الله ورعاية لحقِّه وقرابته من رسول الله ، لعن الله ابن مرجانة فإنَّه اضطره ، وقد سأله أن يضع يده في يدي أو يلحق بثغر من الثغور حتّى يتوفَّاه الله ، فلم يجبه إلى ذلك ، فبغضني إلى قلوب المسلمين بقتله وزرع لي في قلوبهم العداوة ، فأبغضني البرُّ والفاجر ، مالي ولابن مرجانة لعنه الله وغضب عليه).
وحينما علم ملك الروم بتلك المجزرة غضب لذلك وكتب إلى يزيد كتاباً جاء فيه: لقد قتلتم نبيَّاً أو ابن نبيٍّ ظلماً وعدواناً على حد تعبير البيهقي في كتابه المجالس والأجسادي .
وقال عثمان بن زياد شقيق عبيد الله: والله ، لوددت أنَّه ليس من بني زياد رجل إلاّ وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة وأنَّ حسيناً لم يُقتل.
والى جانب تلك الآثار النفسية السيئة التي خلَّفتها تلك المجزرة الرهيبة في نفوس الجماهير المسلمة ، فلقد كان لها أعظم الأثر في تقويض الدولة الأمويَّة وعدم الاطمئنان إليها واستغلالها من قبل أعداء أهل البيت كابن الزبير وأمثاله ، وجعل يندِّد على يزيد والأمويِّين ويرثي الحسين وأصحابه ويلعن أهل الكوفة لخذلانهم أباه ويزيد بن معاوية وجميع مَن اشترك في قتاله ، ويقول: أبعد الحسين نطمئن إلى هؤلاء القوم ونصدِّق لهم قولاً ، أمَا والله لقد قتلوه ، طويلاً بالليل قيامه ، كثيراً بالنهار صيامه ، أحقَّ بما هم فيه منهم ، وأولى في الدين والفضل.
لقد استغل ابن الزبير مصرع الحسين وراح يندبه ويتباكى عليه في حين لم يكن في العالم الإسلامي أحد أثقل عليه من الحسين (عليه السلام) ، ولم يكن معاوية ويزيد ابنه أشدَّ عداء للبيت العلوي من ابن الزبير ، وكان ذلك معروفاً لدى عامة المسلمين ؛ لأنَّ مواقفه من أمير المؤمنين وتحريضه عليه في البصرة وسواها لا تزال ماثلة لهم ، وبالإضافة إلى ذلك ، فلقد اشترك هو وطلحة في التغرير بعائشة وأخرجاها من البيت الذي أمرها الله أن تقرَّ فيه إلى البصرة لتقود المعركة ، وقد قال فيه وفي أبيه أمير المؤمنين: (ما زال الزبير منَّا أهل البيت حتّى نشأ ابنه عبد الله) ، وكان وجود الحسين في مكَّة حائلاً بينه وبين الاتصال بالناس ، وقال له ابن عبَّاس بعد أن يئس من إقناع الحسين بعدم التوجُّه إلى العراق: قرَّت عينك يا ابن الزبير بخروج الحسين إلى العراق.
لقد أقرَّ الحسين عين الزبير وهيَّأ له بخروجه من مكَّة المناخ المناسب لغرس أطماعه ، ولم يبق على الساحة غيره ، فالتفَّ حوله المكِّيُّون وغيرهم ، وبخاصة بعد تلك المجزرة التي أدمت قلوبهم وألهبت مشاعرهم وأصبحوا يدركون أنَّ الأخطار باتت تهدِّدهم وتطاردهم من كل جانب ومكان.
لقد كان موقف ابن الزبير من مصرع الحسين (عليه السلام) أشبه ما يكون بموقف معاوية من مصرع عثمان بن عفَّان ، وهما كما يبدو من تاريخهما من معدن واحد في الدجل والنفاق والإجرام واستعمال الدين غشاء للتضليل والتمويه عندما تدعو الحاجة ، لقد كان بن هند يتمنَّى أن يُقتل عثمان خلال ثورة المهاجرين والأنصار عليه ، ويَعمل بكل ما لديه من وسائل الإجرام من أجل ذلك ؛ ليتَّخذ من قتله أداة للتشنيع على علي (عليه السلام) والمطالبة بالخلافة ، وكان يتمنَّى لعائشة أن تُقتل في البصرة ليشنِّع بقتلها على أمير المؤمنين كما صارحها بذلك خلال زيارته للمدينة بعد أن تمَّ له الاستيلاء على السلطة.
أمَّا ابن الزبير ، فلم يكن شيء من الدنيا أحبُّ إليه من خروج الحسين من مكَّة إلى العراق ، ومن المصير الذي انتهى إليه . وكان يرغِّبه في الخروج إلى العراق والاستجابة لطلب أهل الكوفة بأسلوب مليء بالمكر والدهاء ، وحينما بلغه نبأ مقتله ووجَدَ المسلمين ـ على ما بينهم من خلاف في الاتجاهات ـ يتململون لِمَا جرى عليه ، ويندبونه ويلعنون أميَّة وأشياعها ، طابت نفسه واطمأنَّ لمصيره ، وراح يتباكى على الحسين ويردِّد فضله وما جرى عليه في مجالسه واجتماعاته ويندِّد بالأمويِّين وجرائمهم ، تجاوباً مع شعور الجماهير ورغباتهم دجلاً ونفاقاً ؛ ليعْبُر من وراء ذلك إلى السلطة التي كان يتمنَّاها ، واستطاع بهذا الأسلوب الماكر أن يستحوذ على العدد الأكبر من مسلمي الحجاز الذين كانوا يبحثون عن بديل للأمويِّين ، وأصبح الناس يقولون ـ كما جاء في رواية الطبري ـ : ليس لها بعد الحسين غير ابن الزبير . وتمَّت له البيعة في الحجاز بسبب ما جرى للحسين وبنيه وإخوته وأسرته من قتل وتمثيل وسبي وامتهان لعترة الرسول وكرامته ، وتوالت الانتفاضات في مختلف أنحاء العالم الإسلامي ضدَّ الأمويِّين وأنصارهم ، وشعار الثائرين ـ مع ما بينهم من خلاف في الاتجاهات ـ : يا لثارات الحسين.
ولم تخمد ثورة في مكان إلاّ لتقوم ثورة أخرى في مكان آخر بسواعد الشيعة وشعارهم الوحيد: يا لثارات الحسين.
لقد كانت تلك المجزرة ذا حدَّين استفاد منها أعداء الحسين كابن الزبير الذي استغلها في الحجاز للتشهير بيزيد والأمويِّين وجعل يتباكى ويتظاهر بالحزن على الحسين وأصحابه حتّى اجتمع الناس عليه والتفَّوا من حوله ، كما أيقظت شيعةَ الحسين وجعلتهم يشعرون بأخطائهم وتقصيرهم وتخاذلهم عنه وعن أبيه وأخيه ، وانضمَّ إليهم جميع العناصر المناوئة للأمويِّين من الموالي وغيرهم واتفقوا جميعاً على صيحة واحدة تستر وراءها أغراضهم المختلفة: يا لثارات الحسين ، فكان لهذه الصيحة الصدى الواسع في جميع الأوساط الإسلامية الذي أقلق الظالمين وزعزع عروشهم وقوَّض دعائهم دولتهم في المشرق العربي وأصبحوا لعنة على لسان الأجيال إلى قيام يوم الدين ، وباء الحسين وحده بالفخر الذي لا فخر مثله في تاريخ بني الإنسان ؛ وحسبه أنَّه وحده في هذه الدنيا الشهيد بن الشهيد وأب للمئات من الشهداء والقدوة لكل ثائر على الظلم والظالمين وفراعنة العصور في كل مكان وزمان.
______________
(1) لقد كان كعب بن جابر أحد جنود الجيش الذي شارك في حرب الحسين (عليه السلام) ، فقالت له زوجته بعد أن رجع من المعركة : أعنت على ابن فاطمة وقتلت سيِّد القراء ـ وكان قد قتل برير سيِّد القراء في الكوفة ـ لقد أتيت عظيماً من الأمر ، والله لا أكلِّمك من رأسي كلمة أبداً ، فأجابها بأبيات يفتخر فيها بفعله وضمنها بيتاً يذكر فيه أنَّه أنقذ رضيَّ بن منقذ من القتل حيث أعانه على قتل خصمه.