الدروس المستخلصة منها
الاسباب و الاهداف

كان الحسين بأبي واُمّي ! على يقين من ترتّب هذه الآثار الشريفة على قتله وانتهاب رحله وذبح أطفاله وسبي عياله بل لَم يجد طريقاً لإرشاد الخلق إلى الأئمّة بالحقّ واستنقاذ الدِّين من أئمّة المنافقين ـ الذين خفي مكرهم وعلا في نفوس العامّة أمرهم ـ إلاّ الإستسلام لتلك الرزايا والصبر على هاتيك البلايا .
وما قصد كربلاء إلاّ لتحمّل ذلك البلاء عهد معهود عن أخيه عن أبيه عن جدّه عن الله عزّ وجلّ.
ويرشدك إلى ذلك ـ مضافاً إلى أخبارنا المتواترة من طريق العترة الطاهرة ـ دلائل أقواله وقرائن أفعاله فإنّها نصّ فيما قلناه .
وحسبك منها جوابه لاُمّ سلمة إذ قالت له كما في البحار وجلاء العيون وغيرهما : يا بُني لا تحزن بخروجك إلى العراق فإنّي سمعت جدّك (صلّى الله عليه وآله) يقول : يُقتل ولدي الحسين بأرضِ العراقِ في أرضٍ يقال لَها كربلاء .
فقال لها : يا اُمّاه وأنا والله أعلَمُ ذلكَ وإنّي مقتولٌ لا محالة وليسَ لي منه بدّ وقد شاء اللهُ عزّ وجلّ أن يراني مقتولاً ويرى حرمي مُشرّدين وأطفالي مَذبوحين .
وجوابه لأخيه عمر إذ قال له حين امتنع من البيعة ليزيد : حدّثني أخوك أبو محمّد عن أبيه ثمّ بكى حتّى علا شهيقه فضمّه الحسين (عليه السلام) إليه وقال كما في الملهوف وغيره : حدّثك أني مقتول ؟ قال : حوشيت يابن رسول الله فقال : بحقِّ أبيكَ بِقتلي خبّرك ؟ قال : نعم فلَو بايعت . فقال (عليه السّلام) : حدّثني أبي : أنّ رسولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله) أخبرَه بِقتله وقتلي وأنّ تربتي تكون بِقربِ تربتِهِ . أتظنّ أنّك علمتَ ما لَم أعلم ؟ .
والرؤيا التي رآها في مسجد جدّه (صلّى الله عليه وآله) حين ذهب ليودّعه وقول النّبي (صلى الله عليه واله) له فيها كما في أمالي الصدوق وغيره : بأبي أنت ! كأنّي أراكَ مرمّلاً بدمِك بَينَ عصابةٍ مِن هذهِ الاُمّة يرجونَ شفاعتي مالهم عند اللهِ مِن خَلاق .
وكتابه إلى بني هاشم لمّا فصل من المدينة وقوله فيه كما في الملهوف نقلاً عن رسائل ثقة الإسلام : أمّا بعد فإنّ مَن لَحِق بي منكم استشهد ومَن تخلّف لَم يبلغ الفتح . وخطبته ليلة خروجه من مكّة وقوله فيها كما في الملهوف وغيره : كأنّي بأوصالي تُقطّعُها عَسلان الفلَوات بَينَ النّواويس وكربلاء إلى أنْ قال : ألا ومَن كان باذلاً فينا مهجته موطّئاً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى . وقوله كما في الملهوف وغيره : لَولا تقارب الأشياء وهبوط الأجل لقاتلتهم بهؤلاء ولكنّي أعلم يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصرع أصحابي لا ينجو منهم إلاّ ولدي علي .
وجوابه لأخيه محمّد بن الحنفيّة إذ قال له كما في الملهوف وغيره : يا أخي ألم تعدني النّظر فيما سألتك ؟ قال (عليه السلام) : بلى ولكن أتاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعدما فارقتك فقال : يا حسين اخرج فإنّ الله قد شاء أنْ يراك قتيلاً . فقال ابن الحنفيّة : إنّا لله وإنّا إليه راجعون فما معنى حملك هذه النّسوة وأنت تخرج على مثل هذه الحال ؟ فقال له : قال لي : إنّ الله شاء أن يراهنّ سبايا .
وجوابه لابن عبّاس وابن الزبير إذ أشارا عليه بالإمساك فقال (عليه السلام) لهما كما في الملهوف وغيره : إنّ رسول الله قد أمرني بأمر وأنا ماض فيه . فخرج ابن عبّاس وهو يقول : وا حسيناه ! .
وجوابه لعبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد إذ حاولا منه الرجوع فأبى وقال لهما كما في تاريخي ابن جرير وابن الأثير وغيرهما : رأيتُ رؤيا رأيتُ فيها رسولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله) واُمرتُ فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له .
وقوله في كلام له مع ابن الزبير كما في تاريخَي ابن جرير وابن الاثير وغيرهما : وأيم اللهِ لَو كنتُ في حجر هامةٍ من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا فيَّ حاجتَهم و واللهِ ليعتُدنّ عليَّ كما اعتدت اليهودُ في السّبتِ .
وقوله في مقام آخر كما في كامل ابن الأثير وغيره : واللهِ لا يَدَعونني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جَوفي فإذا فعلوا ذلك سلّط اللهُ عليهم مَن يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من فَرْم المرأة ( يعني : من خرقة الحيض ) .
وقوله لأبي هرّة كما في تاريخ ابن جرير وغيره : وأيمَ اللهِ لتقتلني الفئةُ الباغيةُ .
ورؤياه التي رآها لما ارتحل من قصر بني مقاتل كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال حين انتبه : إنّا للهِ وإنّا له راجعون والحمد لله ربّ العالمين . قال : ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثاً قال : فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين على فرس له فقال : يا أبتاه جعلتُ فداك ممَّ حمدت الله واسترجعت ؟ فقال : يا بُني خَفقتُ بِرأسي خَفقةً فعنّ لي فارسٌ فقال : القَوم يَسيرون والمَنايا تَسير إلَيهم فَعلِمتُ أنّها أنفسَنا نُعيت إلَينا . فقال : يا أبت لا أراك الله سوءاً
ألسنا على الحق ؟ قال (عليه السلام) : بَلى والذي إليهِ مرجعُ العِبادِ . قال : يا أبت إذاً لا نبالي نموت مُحقّين فقال (عليه السلام) له : جزاكَ اللهُ مِن وَلَدٍ خيرَ ما جزى ولداً عن والدِه .
وقوله لمّا اُخبر بقتل قيس بن مسهر الصيداوي كما في تاريخ الطبري وغيره : {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] إلى غير ذلك من أقواله الصريحة بأنّه كان على يقين ممّا انتهى إليه حاله وأنّه ما خرج إلاّ ليبذل في سبيل الله نفسه وجميع ما ملكته يده ويضحّي في إحياء دين الله : أولاده وإخوته وأبناء أخيه وبني عمومته وخاصّة أوليائه والعقائل الطاهرات من نسائه .
إذ لم ير السبط للدين الحنيف شفا إلاّ إذا دمه في نصره سفكا
ومـا سـمعنا عـليلاً لا عـلاج له إلاّ بـنـفس مـداويـه إذ هـلـكا
بـقتله فـاح لـلاسلام طيب هدى فـكـلّما ذكـرته الـمسلمون ذكـا
وصـان ستر الهدى عن كلّ خائنة سـتر الـفواطم يوم الطف إذ هتكا
نـفسي الـفداء لـفاد شـرع والده بـنـفـسه وبـأهـليه ومـامـلكا
قـد آثـر الـدين أن يحيى فقحمها حيث استقام القنا الخطي واشتبكا
على أنّ الأمر الذي انتهى إليه حاله كان من الوضوح بمثابة لَم تخفَ على أحد وقد نهاه عن ذلك الوجه ـ جهلاً بمقاصده السامية ـ كثير من النّاس وأشفقوا عليه وأنذروه بلؤم بني اُميّة وغدر أهل العراق فقال له أخوه محمّد بن الحنفيّة كما في الملهوف وغيره : يا أخي إنّ أهل الكوفة مَن قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك وقد خفتُ أنْ يكون حالك كحال مَن مضى فإنْ رأيت أن تقيم فإنّك أعزّ مَن في الحرم وأمنعه ... فإنْ خفتَ فسر إلى اليمن أو بعض نواحي البر فإنّك أمنع النّاس به ولا يقدر عليك أحد . فردّه الحسين (عليه السّلام) برأفة ورفق وقال : أنظرُ فيما قلتَ .
وأتاه ابن عبّاس فقال : يابن عم قد أرجف النّاس أنّك سائر إلى العراق فبيِّن لي ما أنت صانع ؟ قال (عليه السلام) : إنّي قد أجمعت المسير في أحد يومَي هذين إن شاء الله تعالى . فقال له ابن عبّاس كما في تاريخَي الطبري وابن الأثير وغيرهما : فإنّي اُعيذك بالله من ذلك أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم ؟ فإنْ كانوا فعلوا ذلك فسر إليهم وإن كانوا إنّما دَعَوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعمّاله تجبي بلادهم فإنّهم إنّما دَعوك إلى الحرب والقتال ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك وأن يستنفروا إليك فيكونوا أشدّ النّاس عليك فردّه الحسين (عليه السّلام) ردّ رحمة وحنان فقال له : أستخير الله وأنظر ما يكون (1) .
فخرج ابن عبّاس ثمّ جاءه مرّة اُخرى فقال له كما في تاريخَي الطبري وابن الأثير وغيرهما : يابن عم إنّي أتصبّر ولا أصبر إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال إنّ أهل العراق قوم غُدُر فلا تقربنّهم أقم بهذا البلد فإنّك سيّد أهل الحجاز فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم ثمّ أقدم عليهم فإنْ أبيت إلاّ أنْ تخرج فسِر إلى اليمن فإنّ بها حصوناً وشعاباً وهي أرض طويلة عريضة ولأبيك بها شيعة وأنت عن النّاس في عزلة فتكتُب إلى النّاس وترسل وتبث دعاتك فإنّي أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية فقال له الحسين (عليه السّلام) : يابن عم إنّي والله لأعلم أنّك ناصحٌ مُشفِق ولكن قد أزمعتُ وأجمعتُ على المَسير .
ودخل عليه عمر بن عبد الرحمن المخزومي فقال له كما في تاريخَي الطبري وابن الأثير وغيرهما : إنّي مُشفِق عليك إنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال وإنّما النّاس عبيد الدينار والدرهم فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصرَه فقال له الحسين (عليه السلام) : جزاك الله خيراً يابن عم فقد والله علمتُ أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل ومهما يُقض من أمر يكن .
وكتب إليه عبد الله بن جعفر بعد خروجه من مكّة كما في تاريخَي الطبري وابن الأثير وغيرهما : أمّا بعد فإنّي أسألك بالله لِما انصرفت حين تقرأ كتابي هذا فإنّي مشفق عليك من هذا الوجه أنْ يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك وإنْ هلكتَ اليوم طُفىء نور الأرض فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين فلا تعجّل بالسّير فإنّي في أثر كتابي والسّلام .
وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد وهو عامل يزيد يومئذ بمكّة فقال له : اكتب للحسين كتاباً تجعل له الأمان فيه وتمنّيه فيه البرّ والصلة واسأله الرجوع ففعل عمرو ذلك وأرسل الكتاب مع أخيه يحيى بن سعيد وعبد الله بن جعفر فلحقاه وقرّءا عليه الكتاب وجهداً أن يرجع فلَم يفعل .
وقال له عبد الله بن مطيع ـ إذ إجتمع به في الطريق على بعض مياه العرب ـ كما في تاريخ الطبري وغيره : اُذكّرك الله يابن رسول الله وحرمةَ الإسلام أنْ تنهتك اُنشدك الله في حرمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) اُنشدك الله في حرمة العرب
فو الله لئن طلبت ما في أيدي بني اُميّة ليقتلنّك ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً أبداً والله إنّها لحرمة الإسلام تنتهك وحرمة قريش وحرمة العرب فلا تفعل ولا تأت الكوفة ولا تعرَّض لبني اُميّة . قال : فأبى إلاّ أنْ يمضي إنجازاً لمقاصده السّامية .
ولقيَه أحد بني عكرمة ببطن العقبة كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال له : اُنشدك الله لما انصرفتَ فو الله لا تقدم إلاّ على الأسنّة وحدّ السيوف فانّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لَو كانوا كفَوك مؤنة القتال ووطأوا لك الأشياء فقدِمت عليهم كان ذلك رأياً فأمّا على هذه الحال التي تذكرها فإنّي لا أرى لك أنْ تفعل . قال : فقال (عليه السلام) له : يا عبدَ اللهِ إنّه ليس يخفى عليّ الرأيُ ما رأيتَ ولكنّ الله لا يُغْلَب على أمرِهِ .
ولقيه بعض بني تميم قريباً من القادسيّة كما في تاريخ الطبري وغيره فقال له : إرجع فإنّي لَم أدَع لك خيراً أرجوه .
وكان قد لقيه الفرزدق بن غالب الشاعر في الصفاح كما في تاريخ الطبري وغيره فقال له : قلوب النّاس معك وسيوفهم مع بني اُميّة .
وما التقى في الطريق بأحد إلاّ التمسه على الرجوع إشفاقاً عليه من لؤم بني اُميّة وغدر أهل العراق وما كان ليخفى عليه ماظهر لأغلب النّاس لكنّه وهؤلاء كما قيل : أنت بواد والعذول بوادي .
ما نزل بأبي واُمّي ! منزلاً ولا ارتحل منه كما في الإرشاد وغيره إلاّ ذكر يحيى بن زكريا وقتله .
وقال يوماً : مِن هَوانِ الدُّنيا على اللهِ إنّ رأس يَحيى بن زكرّيا اُهدِيَ إلى بَغيٍ مِن بَغايا بَني إسرائيل .
فهل تراه أراد بهذا غير الإشارة إلى أنّ سبيله في هذا الوجه
وأخبره الأسديّان وهو نازل في الثعلبيّة كما في تاريخ الطبري وغيره بقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وأنّهما يجرّان بأرجلهما في الأسواق بلا نكير .
فهل يمكن بعد هذا أنْ يبقى له أمل بنصرة أهل الكوفة أو طمع في شيء من خيرهم ؟! والله ما جاءهم إلاّ يائساً منهم عالماً بكلّ ما كان منهم عليه .
وقد كتب وهو نازل بزبالة كتاباً قرئ بأمره على النّاس وفيه :
بسم الله الرحمن الرحيم أمّا بعد فإنّه قد أتانا خبر فظيع قُتل مسلمُ بن عقيل وهانئ بن عروة وعبدُ اللهِ بن بُقطر وقد خذلتنا شيعتُنا فمَن أحبّ منكم الانصرافَ فَلينصَرف ليس عليه منّا ذِمام .
قال محمّد بن جرير الطبري في تاريخ الاُمم والملوك : فتفرّق النّاس عنه تفرّقاً فأخذوا يميناً وشمالاً حتّى بَقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة . قال : وإنّما فعل ذلك ؛ لأنّه ظنّ إنّما اتّبعه الأعراب ؛ لأنّهم ظنّوا أنّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون علامَ يقدمون .
قال : وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلاّ مَن يريد مواساته والموت معه .
وذكر أهل الأخبار : إنّ الطرمّاح بن عدي لمّا اجتمع به في عذيب الهجانات دنا منه فقال له كما في تاريخ الطبري وغيره : والله إنّي لانظر فما أرى معك أحداً ولَو لَم يقاتلك إلاّ هؤلاء الذين أراهم ملازميك ( يعني : الحرّ وأصحابه ـ لكان كفى بهم وقد رأيتُ قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من النّاس مالَم ترَ عيناي في صعيد واحد جمعاً أكثر منه فسألت عنهم ؟ فقيل : اجتمعوا ليعرضوا ثمّ يسرحوا إلى حرب الحسين (عليه السلام) فاُنشدك الله إن قدرتَ على أن لا تقدم عليهم شبراً إلاّ فعلت فإنْ أردت أنْ تنزل بلداً يمنعك الله به حتّى ترى من رأيك ويستبيّن لك ما أنت صانع فسر حتّى اُنزلك مناع جبلنا الذي يُدعى ( أجأ ) امتنعنا والله به من ملوك غسّان وحمير ومن النّعمان بن المنذر ومن الأسود والأحمر والله ما دخل علينا فيه ذل قط فأسير معك حتّى أنزلك القرية ثمّ نبعث إلى الرجال ممّن بأجأ وسلمى من طيّئ فو الله لا يأتي عليك عشرة أيام حتّى تأتيك طيئ رجالاً وركباناً ثمّ أقم فينا مابدا لك فإنْ هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائيّ يضربون بين يدَيك بأسيافهم والله لا يوصل إليك أبداً ومنهم عين تطرف . فقال (عليه السلام) له : جزاكَ اللهُ وقومَك خيراً . وأبى أن ينصرف عن مقصده .
وأنت تعلم أنّه لَو كان له رغبة في غلبة أو مَيل إلى سلطان لكان لكلام الطرمّاح وقع في نفسه (عليه السّلام) ولظهر منه المَيل إلى ما عرضه عليه لكنّه بأبي واُمّي ! أبى إلاّ الفوز بالشهادة والموت في إحياء دين الإسلام .
وقد صرّح بذلك فيما تمثل به إذ قال له الحرّ : أذكّرك الله في نفسك فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقتلن فقال (عليه السّلام) كما في تاريخ الطبري وغيره :
سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا مـا نـوى حـقاً وجـاهد مسلماً
وآسـى الـرجال الصالحين بنفسه وفـارق مـثبوراً يغُشّ ويُرغما
وحسبك في إثبات علمه من أوّل الأمر بما انتهى إليه حاله ما سمعته من ؛ إخبار النّبي (صلّى الله عليه وآله) بقتله في شاطىء الفرات بموضع يقال له كربلاء وبكائه عليه ونداء أمير المؤمنين (عليه السّلام) لمّا حاذى نينوى وهو منصرف إلى صفين : صَبراً أبا عبدِ اللهِ صبراً أبا عبدِ اللهِ بشاطىء الفراتِ . وقوله (عليه السلام) إذ مرّ بكربلاء : ها هنا مناخُ رِكابِهم وها هنا مَوضعُ رحالِهم وها هنا مِهراق دمائِهم . وقول الحسين (عليه السّلام) لأخيه عمر : حدّثَني أبي أنّ رسولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله) أخبرهُ بقتلِه وقتلي وأنّ تُربتي تَكونَ بقربِ تربتِهِ . وقول الحسن للحسين (عليهما السّلام) كما في أمالي الصدوق وغيره من جملة كلام كان بينهما : ولكنَّ لا يوم كيومِكَ يا أبا عبدِ اللهِ يزدلفُ إليكَ ثلاثون ألف رجل فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك فعندها يحلّ الله ببني اُميّة اللعنة .
إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على أنّ قُتل الحسين (عليه السّلام) كان معروفاً عند أهل البيت منذ أخبر الله به نبيّه (صلّى الله عليه وآله) بل صريح أخبارنا أنّ ذلك ممّا اُوحي إلى الأنبياء السّابقين وقد سمعت ما أشرنا إليه من بكائهم (عليهم السّلام) .
ويظهر من بعض الأخبار أنّ قتل الحسين (عليه السلام) كان معروفاً عند جملة من الصحابة والتابعين حتّى أنّهم لَيعلمون أنّ قاتله عمر بن سعد .
وحسبك ما نقله ابن الأثير حيث ذكر مقتل عمر بن سعد في كامله عن عبد الله بن شريك قال : أدرك أصحاب الأردية المعلمة وأصحاب البرانس السّود من أصحاب السّواري إذ مرّ بهم عمر بن سعد قالوا : هذا قاتل الحسين وذلك قبل أنْ يقتله .
قال : وقال ابن سيرين : قال علي (عليه السلام) لعمر بن سعد : كيفَ أنتَ إذا قُمتَ مقاماً تخيّر فيهِ بينَ الجنّةِ والنّارِ فتختار النّارَ .
أترى الحسين (عليه السّلام) كان جاهلاً بما عليه أصحاب السّواري ؟ كلاّ والله ما علم أصحاب البرانس السّود ذلك إلاّ منه أو من أخيه أو من جدّه أو من أبيه .
وقد أطلنا الكلام في هذا المقام إذ لم نجد مَن وفّاه حقّه وخرج من عهدة التكليف بإيضاحه والحمد لله على التوفيق لتحرير هذه المسألة وتقرير شواهدها وأدلّتها على وجه تركن النّفس إليه ولا يجد المُنصف بدّاً من البناء عليه بل لا أظنّ أحداً يقف على ما تلوناه ثمّ يرتاب فيما قرّرناه .