حياة الامام الحسين قبل مقتله
مقتل الامام عليه السلام

ثم إنّ الحسين (عليه السلام) أقبل حتى مرّ بالتنعيم فلقى بها بعيرا قد بعث بها بحير بن ريسان الحميري‏ إلى يزيد بن معاوية، و كان عامله على اليمن، و على البعير الورس‏ و الحلل ينطلق بها إلى يزيد، فأخذها الحسين (عليه السلام) فانطلق بها.
ثم قال لأصحاب الإبل: لا اكرهكم، من أحبّ أن يمضي معنا إلى العراق أوفينا كراءه و أحسنّا صحبته، و من أحبّ أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكراء على قدر ما قطع من الأرض.
فمن فارقه منهم حوسب فأوفى حقّه، و من مضى منهم معه أعطاه كراءه و كساه‏
عن عبد اللّه بن سليم الأسدي‏ و المذري بن المشمعلّ الأسدي‏ قالا: أقبلنا حتى انتهينا إلى الصفاح فلقينا الفرزدق بن غالب الشاعر فواقف حسينا (عليه السلام) فقال له: أعطاك اللّه سؤلك و أمّلك فيما تحبّه.
فقال له الحسين (عليه السلام): بيّن لنا نبأ الناس خلفك.
فقال له الفرزدق: من الخبير سألت؛ قلوب الناس معك و سيوفهم مع بني اميّة و القضاء ينزل من السماء، و اللّه يفعل ما يشاء!
فقال له الحسين (عليه السلام): صدقت، للّه الأمر، و اللّه يفعل ما يشاء، و كلّ يوم ربّنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد اللّه على نعمائه، و هو المستعان على أداء الشكر، و إن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتد من كان الحق نيّته و التقوى سريرته.
ثم حرّك الحسين (عليه السلام) راحلته فقال: السلام عليك، ثم افترقا و لمّا بلغ عبيد اللّه ابن زياد إقبال الحسين (عليه السلام) من مكّة الى الكوفة، بعث الحصين بن تميم التميمي‏ صاحب شرطه حتى نزل القادسية و نظّم الخيل ما بين القادسيّة الى خفّان‏ ، و ما بين القادسيّة الى القطقطانة و الى لعلع‏ و أقبل الحسين (عليه السلام) حتى اذا بلغ الحاجر من بطن الرمّة بعث‏ قيس بن مسهر الصيداوي الى أهل الكوفة و كتب معه إليهم: بسم اللّه الرحمن الرحيم؛ من الحسين بن علي الى اخوانه من المؤمنين و المسلمين- سلام عليكم، فاني أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلا هو، أمّا بعد، فانّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم، و اجتماع ملئكم على نصرنا، و الطلب بحقّنا، فسألت اللّه أن يحسن لنا الصنع، و أن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر، و قد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية، فاذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم و جدّوا، فاني قادم عليكم في أيامي هذه ان شاء اللّه؛ و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته.
و أقبل قيس بن مسهر الصيداوي الى الكوفة بكتاب الحسين (عليه السلام) حتى اذا انتهى الى القادسيّة أخذه الحصين بن تميم فبعث به الى عبيد اللّه بن زياد، فقال له عبيد اللّه: اصعد الى القصر فسبّ الكذّاب ابن الكذّاب!
فصعد ثم قال: أيها الناس! انّ هذا الحسين بن علي- خير خلق اللّه- ابن فاطمة بنت رسول اللّه، و أنا رسوله إليكم، و قد فارقته بالحاجر، فأجيبوه، ثم لعن عبيد اللّه بن زياد و أباه، و استغفر لعلّي بن أبي طالب.
فأمر به عبيد اللّه بن زياد أن يرمى به من فوق القصر، فرمي به فتقطّع فمات رحمه اللّه‏
ثم أقبل الحسين (عليه السلام) سيرا الى الكوفة فانتهى الى ماء من مياه‏ العرب فاذا عليه عبد اللّه بن مطيع العدوي‏ و هو نازل هاهنا، فلمّا رأى الحسين (عليه السلام) قام إليه فقال: بأبي أنت و امّي يا ابن رسول اللّه ما أقدمك؟! فقال له الحسين (عليه السلام): كتب إليّ أهل العراق يدعونني الى أنفسهم، فقال له عبد اللّه بن مطيع: اذكّرك اللّه يا ابن رسول اللّه و حرمة الاسلام أن تنتهك! انشدك اللّه في حرمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله‏ و سلّم! انشدك اللّه في حرمة العرب! فو اللّه لئن طلبت ما في أيدي بني اميّة ليقتلنّك، و لئن قتلوك لا يهابون بعدك أحدا أبدا و اللّه انّها لحرمة الاسلام تنتهك، و حرمة قريش، و حرمة العرب، فلا تفعل، و لا تأت الكوفة، و لا تعرض لبني اميّة. فأبى إلا أن يمضي.
فأقبل الحسين (عليه السلام) حتى كان بالماء فوق زرود و هي الخزيميّة.
لحوق زهير بن القين بالإمام الحسين عليه السّلام‏
عن رجل من بني فزارة، قال: كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكّة نساير الحسين (عليه السلام)، فلم يكن شي‏ء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل، فاذا سار الحسين تخلّف زهير بن القين، و اذا نزل الحسين تقدّم زهير، حتى نزلنا في منزل لم نجد بدّا من أن ننازله فيه، فنزل الحسين (عليه السلام) في جانب، و نزلنا في جانب، فبينا نحن جلوس نتغدّى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين حتّى سلّم ثم دخل فقال: يا زهير بن القين؛ إنّ أبا عبد اللّه الحسين بن علي بعثني إليك لتأتيه. فطرح كلّ انسان ما في يده حتّى كأنّ على رؤوسنا الطير!
قالت دلهم بنت عمرو امرأة زهير بن القين: فقلت له: أ يبعث إليك ابن رسول اللّه ثم لا تأتيه! سبحان اللّه! لو أتيته فسمعت كلامه، ثم انصرفت. فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشرا قد أسفر وجهه.
ثم قال لأصحابه: من أحبّ منكم أن يتبعني؛ و إلا فانه آخر العهد! إني سأحدّثكم حديثا: غزونا بلنجر ففتح اللّه علينا و أصبنا غنائم، فقال سلمان الباهلي: أ بما فتح اللّه عليكم و أصبتم من الغنائم؟ فقلنا: نعم، فقال لنا: اذا أدركتم شباب آل محمد صلّى اللّه عليه و آله‏ فكونوا أشدّ فرحا بقتالكم‏ معهم منكم بما أصبتم من الغنائم فأمّا أنا فاني أستودعكم اللّه!
ثم قال لامرأته: أنت طالق، الحقي بأهلك، فانّي لا أحبّ أن يصيبك من سببي إلا خير و
و سرّح الحسين (عليه السلام) عبد اللّه بن بقطر الحميري‏ من بعض الطريق الى مسلم بن عقيل‏ فتلقّاه خيل الحصين بن تميم بالقادسيّة فسرّح به الى عبيد اللّه بن زياد، فقال: اصعد فوق القصر فالعن الكذّاب ابن الكذّاب، ثم انزل حتّى أرى فيك رأيي! فصعد، فلمّا أشرف على الناس قال: أيّها الناس؛ إني رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله‏ و سلّم لتنصروه و توازروه على ابن مرجانة ابن سميّة الدعي! فأمر به عبيد اللّه ابن زياد فالقي من فوق القصر الى الأرض فكسرت عظامه، و كان‏ به رمق، فأتاه عبد الملك بن عمير اللخمي‏ فذبحه!.
عن عبد اللّه بن سليم و المذري بن المشمعل الأسديّين؛ قالا: لمّا قضينا حجّنا لم يكن لنا همّة إلا اللحاق بالحسين (عليه السلام) في الطريق، لننظر ما يكون من أمره و شأنه، فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حتى لحقنا بزرود فلمّا دنونا منه اذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين (عليه السلام)، فوقف الحسين كأنه يريده، ثم تركه و مضى، فقال أحدنا لصاحبه: اذهب بنا الى هذا فلنسأله، فان كان عنده خبر الكوفة علمناه.
فمضينا حتى انتهينا إليه فقلنا: السلام عليك. قال: و عليكم السلام و رحمة اللّه.
ثم قلنا: فمن الرجل؟ قال: أسدي. فقلنا: فنحن أسديّان، فمن أنت؟ قال: أنا بكير بن المثعبة. فانتسبنا له، ثم قلنا: أخبرنا عن الناس وراءك؟ قال: نعم، لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل و هانئ بن عروة فرأيتهما يجرّان بأرجلهما في السوق! قالا: فأقبلنا حتى لحقنا بالحسين (عليه السلام) فسايرناه حتى نزل.
الثعلبيّة
الثعلبيّة ممسيا، فجئناه حين نزل، فسلّمنا عليه، فردّ علينا، فقلنا له: يرحمك‏ اللّه؛ إنّ عندنا خبرا، فان شئت حدّثنا علانية، و ان شئت سرّا. فنظر الى أصحابه و قال: ما دون هؤلاء سرّ. فقلنا له: أ رأيت الراكب الذي استقبلك عشاء أمس؟ قال: نعم، و قد أردت مسألته. فقلنا قد استبرأنا لك خبره و كفيناك مسألته، و هو امرؤ من أسد منّا ذو رأي و صدق و فضل و عقل، و انه حدّثنا: أنه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل و هانئ بن عروة! و حتى رآهما يجرّان في السوق بأرجلهما! فقال: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون! رحمة اللّه عليهما، فردّد ذلك مرارا .
فقلنا: ننشدك اللّه في نفسك و أهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا، فانه ليس لك بالكوفة ناصر و لا شيعة، بل نتخوّف أن تكون عليك! فوثب عند ذلك بنو عقيل بن أبي طالب‏
و قالوا: لا و اللّه لا نبرح حتى ندرك ثارنا، أو نذوق ما ذاق أخونا! .
قالا: فنظر إلينا الحسين (عليه السلام) فقال: لا خير في العيش بعد هؤلاء! فعلمنا أنه قد عزم له رأيه على المسير، فقلنا: خار اللّه لك، فقال: رحمكما اللّه.
ثم انتظر حتى اذا كان السحر قال لفتيانه و غلمانه: أكثروا من الماء، فاستقوا و أكثروا ثم ارتحلوا و ساروا حتى انتهوا الى زبالة ف سقط إليه خبر مقتل أخيه من الرضاعة عبد اللّه بن يقطر ، فأخرج للناس كتابا و نادى‏ بسم اللّه الرحمن الرحيم أمّا بعد؛ فقد أتانا خبر فضيع! قتل مسلم بن عقيل و هانئ بن عروة و عبد اللّه بن يقطر، و قد خذلتنا شيعتنا فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف، ليس عليه منّا ذمام.
فتفرّق الناس عنه تفرّقا، فأخذوا يمينا و شمالا، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة.
و إنّما فعل ذلك لأنه إنّما تبعه الأعراب لأنهم ظنّوا أنه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلا و هم يعلمون علام يقدمون، و قد علم أنهم اذا بيّن لهم لم يصحبه إلا من يريد مواساته و الموت معه! .
فلمّا كان من السحر أمر فتيانه فاستقوا الماء و أكثروا، ثم سار حتى مرّ ب: بطن العقبة
بطن العقبة، فنزل بها فسأله أحد بني عكرمة: إني انشدك اللّه لمّا انصرفت، فو اللّه لا تقدم إلا على الأسنّة و حدّ السيوف، فانّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال و وطّئوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأيا، فأمّا على هذه الحال التي تذكرها فاني لا أرى لك أن تفعل!.
فقال له: يا عبد اللّه! انه ليس يخفى عليّ، الرأي ما رأيت، و لكنّ اللّه لا يغلب على أمره‏ ثم ارتحل منها
و أقبل الحسين (عليه السلام) حتى نزل شراف، فلمّا كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا، ثم ساروا منها، فرسموا صدر يومهم حتى انتصف النهار.
ثم انّ رجلا قال: اللّه أكبر! فقال الحسين (عليه السلام): اللّه أكبر، ممّ كبّرت؟ قال: رأيت النخل، فقال له الأسديّان عبد اللّه بن سليم و المذري بن المشمعل‏: انّ هذا المكان ما رأينا به نخلة قط، فقال الحسين (عليه السلام): فما بريانه رأى؟ قلنا: نراه رأى هوادي الخيل أي رءوسها، فقال الرجل‏: و أنا و اللّه أرى ذلك.
فقال الحسين (عليه السلام): أ ما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا و نستقبل القوم من وجه واحد؟ فقلنا له: بلى هذا ذو حسم الى جنبك تميل إليه عن يسارك، فان سبقت القوم إليه فهو كما تريد. فأخذ إليه ذات اليسار و ملنا معه، فاستبقنا الى ذي حسم فسبقناهم إليه، فلمّا رأونا و قد عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا، فنزل الحسين (عليه السلام) فأمر بأبنيته فضربت.
فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل، و كأنّ راياتهم أجنحة الطير، و جاء القوم و هم ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميمي اليربوعي حتى وقف هو و خيله مقابل الحسين (عليه السلام) في حرّ الظهيرة، و الحسين و أصحابه معتمّون متقلّدون أسيافهم.
فقال الحسين (عليه السلام) لفتيانه: اسقوا القوم و ارووهم من الماء، و رشّفوا الخيل ترشيفا.
فقام فتيانه، و سقوا القوم من الماء حتى أرووهم، و اقبلوا يملئون القصاع و الطساس و الأتوار من الماء ثم يدنونها من الفرس، فاذا عبّ فيه ثلاثا أو أربعا أو خمسا عزلت عنه و سقوا آخر حتى سقوا الخيل كلها .
و حضرت الصلاة صلاة الظهر، فأمر الحسين الحجّاج بن مسروق الجعفي أن يؤذن، فأذّن، فلمّا حضرت الاقامة خرج الحسين (عليه السلام) في ازار و رداء و نعلين.
فحمد اللّه و أثنى عليه، ثم قال: أيها الناس؛ انها معذرة الى اللّه عزّ و جل و إليكم؛ اني لم آتكم حتى أتتني كتبكم و قدمت عليّ رسلكم، أن أقدم علينا فانه ليس لنا إمام، لعلّ اللّه يجمعنا بك على الهدى. فان كنتم على ذلك فقد جئتكم، فان تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم و مواثيقكم أقدم مصركم، و إن لم تفعلوا و كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم الى المكان الذي أقبلت منه إليكم!.
فسكتوا عنه، و قالوا للمؤذّن: أقم، فأقام للصلاة.
فقال الحسين (عليه السلام) للحرّ: أ تريد أن تصلّي بأصحابك؟ قال: لا، بل تصلّي أنت و نصلّي بصلاتك. فصلّى بهم الحسين (عليه السلام). ثم انه‏ دخل، و اجتمع إليه أصحابه.
و انصرف الحر الى مكانه الذي كان به، فدخل خيمة قد ضربت له، فاجتمع إليه جماعة من أصحابه، و عاد أصحابه الى صفّهم الذي كانوا فيه فأعادوه، ثم أخذ كلّ رجل منهم بعنان دابّته و جلس في ظلّها.
فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين (عليه السلام) أن يتهيّئوا للرحيل، ثم خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر و أقام، فاستقدم الحسين (عليه السلام) فصلّى بالقوم ثم سلّم و انصرف الى القوم بوجهه.
فحمد اللّه و أثنى عليه، ثم قال: أمّا بعد؛ أيها الناس! فانّكم إن تتّقوا و تعرفوا الحق لأهله يكن أرضى للّه، و نحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، و السائرين فيكم بالجور و العدوان! و إن أنتم كرهتمونا و جهلتم حقّنا، و كان رأيكم غير ما أتتني كتبكم و قدمت به عليّ رسلكم، انصرفت عنكم!.
فقال له الحرّ بن يزيد: إنّا- و اللّه- ما ندري ما هذه الكتاب التي تذكر!.
فقال الحسين (عليه السلام): يا عاقبة بن سمعان! أخرج الخرجين‏ اللذين فيهما كتبهم إليّ.
فأخرج خرجين مملوءين صحفا فنشرها بين أيديهم.
فقال الحر: فانّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، و قد امرنا اذا نحن لقيناك ألّا نفارقك حتى نقدمك على عبيد اللّه بن زياد!.
فقال له الحسين (عليه السلام): الموت أدنى إليك من ذلك!. ثم قال لأصحابه: قوموا فاركبوا.
فركبوا، و انتظروا حتى ركبت نساؤهم.
فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم و بين الانصراف.
فقال الحسين (عليه السلام) للحر: ثكلتك امّك! ما تريد؟!.
قال: أما و اللّه لو غيرك من العرب يقولها لي و هو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر امّه بالثكل أن أقوله كائنا من كان، و لكن- و اللّه- ما لي الى ذكر امّك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه! .
فقال له الحسين (عليه السلام): فما تريد؟
قال الحرّ: اريد- و اللّه- أن أنطلق بك الى عبيد اللّه بن زياد!.
قال له الحسين (عليه السلام): إذن و اللّه لا اتّبعك!.
فقال له الحرّ: إذن و اللّه لا أدعك!.
و لمّا كثر الكلام بينهما قال له الحرّ: إنى لم أومر بقتالك، و إنما امرت ألّا أفارقك حتى اقدمك الكوفة، فاذا أبيت فخذ طريقا لا تدخلك الكوفة و لا تردّك الى المدينة تكون بيني و بينك نصفا حتى أكتب الى ابن زياد، و تكتب أنت الى يزيد بن معاوية إن أردت أن تكتب إليه، أو الى عبيد اللّه بن زياد إن شئت، فلعلّ اللّه الى ذلك أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن ابتلى بشي‏ء من أمرك، فخذها هنا فتياسر عن طريق العذيب و القادسيّة كان هذا و هم بذي حسم‏ و بينه و بين العذيب ثمانية و ثلاثون ميلا، ف سار الحسين في أصحابه و الحرّ يسايره‏ .
و بالبيضة خطب الحسين (عليه السلام) أصحابه و أصحاب الحر:
فحمد اللّه و أثني عليه، ثم قال: أيها الناس؛ إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله‏ و سلّم قال: من رأى سلطانا جائرا مستحلّا لحرم اللّه؛ ناكثا لعهد اللّه؛ مخالفا لسنّة رسول اللّه؛ يعمل في عباد اللّه بالإثم و العدوان فلم يغيّر عليه بفعل و لا قول، كان حقّا على اللّه أن يدخله مدخله ألا و إنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، و تركوا طاعة الرحمن، و اظهروا الفساد، و عطّلوا الحدود، و استأثروا بالفي‏ء، و أحلّوا حرام اللّه، و حرّموا حلال اللّه، و أنا أحقّ من غيّر.
قد أتتني كتبكم و قدمت عليّ رسلكم ببيعتكم أنكم لا تسلموني و لا تخذلوني، فان تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن عليّ، و ابن فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله‏ و سلّم، نفسي مع أنفسكم، و أهلي مع أهليكم، فلكم فيّ اسوة، و إن لم تفعلوا و نقضتم عهدكم، و خلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي و أخي و ابن عمّي مسلم! و المغرور من اغترّ بكم؛ فحظّكم أخطأتم، و نصيبكم ضيّعتم و من نكث فانّما ينكث على نفسه و سيغني اللّه عنكم، و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته‏
و أقبل الحرّ يسايره و هو يقول له: يا حسين إني اذكّرك اللّه في نفسك، فانّي شهد لئن قاتلت لتقتلنّ، و لئن قوتلت لتهلكنّ فيما أرى!
فقال له الحسين (عليه السلام): أ فبالموت تخوّفني! و هل يعدو بكم الخطب‏
أن تقتلوني! ما أدري ما أقول لك! و لكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه و لقيه و هو يريد نصرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله‏ و سلّم، فقال له:
أين تذهب؟ فانّك مقتول! فقال:
سأمضي و ما بالموت عار على الفتى‏ إذا ما نوى حقّا و جاهد مسلما
و آسى الرجال الصالحين بنفسه‏ و فارق مثبورا يغش و يرغما
فلمّا سمع ذلك الحرّ منه تنحّى عنه. و كان يسير بأصحابه في ناحية، و حسين (عليه السلام) في ناحية اخرى، حتى انتهوا الى:
عذيب الهجانات، فاذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم، يجنبون فرسا لنافع بن هلال، و معهم دليلهم الطرمّاح بن عدي على فرسه، فلمّا انتهوا الى الحسين (عليه السلام) انشدوه هذه الأبيات:
يا ناقتي لا تذعري من زجري‏ و شمّري قبل طلوع الفجر
بخير ركبان و خير سفر حتّى تحلّي بكريم النجر
الماجد الحرّ رحيب الصدر اتى به اللّه لخير أمر
ثمّة أبقاه بقاء الدهر
فقال الحسين عليه السّلام‏: أما و اللّه إني لأرجو أن يكون خيرا ما أراد اللّه بنا قتلنا أم ظفرنا!.
و أقبل الحرّ بن يزيد فقال للامام عليه السّلام‏: إنّ هؤلاء النفر الذين من أهل الكوفة ليسوا ممن اقبل معك، و انا حابسهم أو رادّهم.
فقال له الحسين (عليه السلام): لأمنعنّهم مما أمنع منه نفسي، إنّما هؤلاء أنصاري و أعواني، و قد كنت أعطيتني أن لا تعرض لي بشي‏ء حتى يأتيك كتاب من ابن زياد.
فقال الحرّ: أجل، لكن لم يأتوا معك.
قال الحسين عليه السّلام‏: هم أصحابي و هم بمنزلة من جاء معي، فانّ تممت عليّ ما كان بيني و بينك و إلا ناجزتك! فكفّ عنهم الحرّ.
ثم قال لهم الحسين (عليه السلام): أخبروني خبر الناس وراءكم؟
فقال له مجمّع بن عبد اللّه العائذي- و هو أحد النفر الأربعة الذين جاءوه‏ : أمّا أشراف الناس فقد اعظمت رشوتهم و ملئت غرائرهم، يستمال ودّهم و يستخلص به نصيحتهم، فهم ألب‏ واحد عليك! و أمّا سائر الناس بعد فانّ أفئدتهم تهوي إليك و سيوفهم غدا مشهورة عليك!.
قال: اخبروني فهل لكم برسولي إليكم؟ قالوا: من هو؟ قال: قيس بن مسهر الصيداوي، قالوا: نعم، أخذه الحصين بن تميم فبعث به الى ابن زياد، فأمره ابن زياد أن يلعنك و يلعن أباك فصلّى عليك و على أبيك و لعن ابن زياد و أباه، و دعا الى نصرتك و أخبرهم بقدومك، فأمر به ابن زياد فالقي من طمار القصر!.
فترقرقت عينا حسين (عليه السلام) و لم يملك دمعه، ثم قال: منهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدّلوا تبديلا اللهمّ اجعل لنا و لهم الجنّة نزلا، و اجمع بيننا و بينهم في مستقرّ رحمتك و رغائب مذخور ثوابك‏
ثم انّ‏ الطرّماح بن عدي دنا من الحسين فقال له: إنّي و اللّه لأنظر فما أرى معك أحدا، و لو لم يقاتلك إلا هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفى بهم، و قد رأيت- قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم- ظهر الكوفة، و فيه من الناس ما لم تر عيناي- في صعيد واحد- جمعا أكثر منه، فسألت عنهم، فقيل:
اجتمعوا ليعرضوا ثم يسرّحون الى الحسين. فانشدك إن قدرت على أن لا تقدم عليهم شبرا إلا فعلت! فان أردت أن تنزل بلدا يمنعك اللّه به حتى ترى من رأيك و يستبين لك ما أنت صانع، فسر حتى انزلك مناع جبلنا الذي يدعى أجأ فأسير معك حتى انزلك القرية .
فقال له الحسين عليه السّلام‏: جزاك اللّه و قومك خيرا! انه قد كان بيننا و بين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف، و لا ندري علام تنصرف بنا و بهم الامور في عاقبة!.
قال الطرمّاح بن عدي: فودّعته و قلت له: دفع اللّه عنك شرّ الجنّ و الإنس‏ . و مضى الحسين (عليه السّلام) حتى انتهى الى‏
قصر بني مقاتل، فنزل به، فاذا هو بفسطاط مضروب‏
ف قال: لمن هذا الفسطاط؟ فقيل: لعبيد اللّه بن الحرّ الجعفي‏ قال:
ادعوه لي، و بعث إليه رسولا، فلمّا أتاه الرسول قال له‏: هذا الحسين بن علي يدعوك. قال عبيد اللّه بن الحرّ: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون! و اللّه ما خرجت من الكوفة إلا كراهة أن يدخلها الحسين و أنا بها، و اللّه ما اريد أن أراه و لا يراني!.
فأتاه الرسول فأخبره، فأخذ الحسين (عليه السلام) نعليه فانتعل ثم قام فجاءه حتى دخل عليه فسلّم و جلس ثم دعاه الى الخروج معه، فأعاد ابن الحرّ تلك المقالة! فقال (عليه السلام): فان لا تنصرنا فاتّق اللّه أن تكون ممن يقاتلنا، فو اللّه لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلا هلك! ثم قام من عنده‏ .
قال عاقبة بن سمعان: لمّا كان في آخر الليل أمر الحسين (عليه السلام) بالاستقاء من الماء، ثم أمرنا بالرحيل ففعلنا، فلمّا ارتحلنا من قصر بني مقاتل و سرنا ساعة خفق الحسين (عليه السلام) برأسه خفقة ثم انتبه و هو يقول: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، و الحمد للّه ربّ العالمين؛ ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثا.
فأقبل إليه ابنه عليّ بن الحسين (عليه السلام) على فرس له فقال: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، و الحمد للّه ربّ العالمين، يا أبت جعلت فداك ممّ حمدت اللّه‏ و استرجعت؟.
قال (عليه السلام): يا بنيّ إني خفقت برأسي خفقة فعنّ لي فارس على فرس فقال: القوم يسيرون و المنايا تسري إليهم. فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا!.
قال له: يا أبت- لا أراك اللّه سوءا- ألسنا على الحق؟!.
قال (عليه السلام): بلى و الذي إليه مرجع العباد!.
قال: يا أبت إذا لا نبالي؛ نموت محقّين!.
فقال له: جزاك اللّه من ولد خير ما جزى ولدا عن والده.
فلمّا أصبح نزل فصلّى الغداة، ثم عجّل الركوب فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفارقهم فيأتيه الحرّ بن يزيد فيردّهم، فاذا ردّهم الى الكوفة ردّا شديدا امتنعوا عليه فارتفعوا، فلم يزالوا يتياسرون حتى انتهوا الى نينوى؛ المكان الذي نزل به الحسين (عليه السلام) فاذا راكب على نجيب له و عليه السلاح، متنكّب قوسا مقبل من الكوفة، فوقفوا جميعا ينتظرونه، فلمّا انتهى إليهم سلّم على الحرّ بن يزيد و أصحابه و لم يسلّم على الحسين (عليه السلام) و أصحابه، فدفع الى الحرّ كتابا من عبيد اللّه بن زياد، فاذا فيه: أمّا بعد؛ فجعجع‏ بالحسين حين يبلغك كتابي، و يقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصن و على غير ماء، و قد أمرت رسولي أن يلزمك و لا يفارقك حتى يأتيني بانفاذك أمري؛ و السلام.
فلمّا قرأ الكتاب قال لهم الحرّ: هذا كتاب الأمير عبيد اللّه بن زياد يأمرني فيه أن اجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه، و هذا رسوله، و قد أمره أن لا يفارقني حتى انفذ رأيه و أمره.
فنظر الشعثاء يزيد بن زياد المهاصر الكندي البهدلي‏ الى رسول عبيد اللّه ابن زياد فعنّ له فقال: أمالك بن النسير البدّي‏ من كندة؟ قال:
نعم، فقال له يزيد بن زياد: ثكلتك امّك! ما ذا جئت فيه؟ قال: و ما جئت فيه! أطعت إمامى و وفيت ببيعتي! فقال له أبو الشعثاء: عصيت ربّك و أطعت إمامك في هلاك نفسك! كسبت العار و النار! قال اللّه عزّ و جل: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} القصص: 41 فهو إمامك!.
و أخذ الحرّ بن يزيد القوم بالنزول في ذلك المكان على غير ماء و لا في‏ قرية ، فقالوا: دعنا ننزل في هذه القرية- يعنون نينوى- أو هذه القرية- يعنون الغاضريّة- أو هذه الاخرى- يعنون شفيّة- ، فقال: لا و اللّه لا أستطيع ذلك، هذا رجل قد بعث إليّ عينا.
فقال له زهير بن القين: يا ابن رسول اللّه؛ إنّ قتال هؤلاء أهون من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعد من ترى ما لا قبل لنا به.
فقال له الحسين (عليه السلام): ما كنت لأبدأهم بالقتال.
فقال له زهير بن القين: سربنا الى هذه القرية حتى تنزلها فانها حصينة، و هي على شاطئ الفرات، فان منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا من قتال من يجي‏ء من بعدهم.
فقال له الحسين (عليه السلام): و أيّة قرية هي؟ قال: هي العقر ، فقال الحسين (عليه السلام): اللهم إني أعوذ بك من العقر، ثم نزل، و ذلك يوم الخميس، و هو اليوم الثاني من المحرّم سنة إحدى و ستّين.
فلمّا كان من الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقّاص‏ من الكوفة في أربعة آلاف