حياة الامام الحسين قبل مقتله
مقتل الامام عليه السلام

ذكر أهل التاريخ أن سيد الشهداء أفرد خيمة في حومة الميدان‏ «1» و كان يأمر بحمل من قتل من صحبه و أهل بيته إليها، و كلما يؤتى بشهيد يقول عليه السّلام: قتلة مثل قتلة النبيين و آل النبيين‏ «2».
إلا أخاه أبا الفضل العباس عليه السّلام تركه في محل سقوطه قريبا من شط الفرات‏ «3».
و لما ارتحل عمر بن سعد بحرم الرسالة إلى الكوفة ترك أولئك الذين وصفهم أمير المؤمنين عليه السّلام بأنهم سادة الشهداء في الدنيا و الآخرة لم يسبقهم سابق و لا يلحقهم لاحق‏ «4» على وجه الصعيد تصهرهم الشمس و يزورهم وحش الفلا.
قد غيّر الطعن منهم كل جارحة إلا المكارم في أمن من الغير

و بينهم سيد شباب أهل الجنة بحالة تفطر الصخر الأصم، غير أن الأنوار الإلهية تسطع من جوانبه و الأرواح العطرة تفوح من نواحيه.
و مجرح ما غيّرت منه القنا حسنا و لا أخلقن منه جديدا
قد كان بدرا فاغتدى شمس الضحى‏ مذ ألبسته يد الدماء لبودا
تحمي أشعته العيون فكلما حاولن نهجا خلنه مسدودا
و تظله شجر القنا حتى أبت‏ إرسال هاجرة إليه بريدا «5»

و حدّث رجل من بني أسد أنه أتى المعركة بعد ارتحال العسكر فشاهد من تلك الجسوم المضرجة أنوارا ساطعة و أرواحا طيبة و رأى أسدا هائل المنظر يتخطى تلك الأشلاء المقطعة حتى إذا وصل إلى هيكل القداسة و قربان الهداية تمرغ بدمه و لاذ بجسده و له همهمة و صياح فأدهشه الحال إذ لم يعهد مثل هذا الحيوان المفترس يترك ما هو طعمة أمثاله فاختفى في بعض الأكم لينظر ما يصنع فلم يظهر له غير ذلك الحال.
و مما زاد في بعض تحيره و تعجبه أنّه عند انتصاف الليل رأى شموعا مسرجة ملأت الأرض بكاءا و عويلا مفجعا «6».
و في اليوم الثالث عشر من المحرم أقبل زين العابدين لدفن أبيه الشهيد عليه السّلام لأنّ الإمام لا يلي أمره إلّا إمام مثله‏ «7».
يشهد له مناظرة الإمام الرضا مع علي بن أبي حمزة فإنّ أبا الحسن عليه السّلام قال له: أخبرني عن الحسين بن علي كان إماما؟ قال: بلى، فقال الرضا: فمن ولي أمره؟ قال ابن أبي حمزة: تولاه علي بن الحسين السجّاد فقال الرضا: فأين كان علي بن الحسين؟ قال ابن أبي حمزة: كان محبوسا بالكوفة عند ابن زياد و لكنّه خرج و هم لا يعلمون به حتى ولي أمر أبيه ثم انصرف إلى السجن.
فقال الرضا: إن من مكّن علي بن الحسين أن يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه ثم ينصرف يمكّن صاحب هذا الأمر أن يأتي بغداد فيلي أمر أبيه و ليس هو في حبس و لا إسار.
و لما أقبل السجّاد عليه السّلام وجد بني أسد مجتمعين عند القتلى متحيرين لا يدرون ما يصنعون و لم يهتدوا إلى معرفتهم و قد فرّق القوم بين رؤوسهم و أبدانهم و ربما يسألون من أهلهم و عشيرتهم!!
فأخبرهم عليه السّلام عما جاء إليه من مواراة هذه الجسوم الطاهرة و أوقفهم على أسمائهم كما عرفهم بالهاشميين من الأصحاب فارتفع البكاء و العويل، و سالت الدموع منهم كل مسيل و نشرت الأسديات الشعور و لطمن الخدود.
ثم مشى الإمام زين العابدين إلى جسد أبيه و اعتنقه و بكى بكاءا عاليا و أتى إلى موضع القبر و رفع قليلا من التراب فبان قبر محفور و ضريح مشقوق فبسط كفّيه تحت ظهره و قال : «بسم اللّه و في سبيل اللّه و على ملّة رسول اللّه صدق اللّه و رسوله‏ ما شاء اللّه لا حول و لا قوّة إلا باللّه العظيم».
و أنزله وحده لم يشاركه بنو أسد فيه و قال لهم : إن معي من يعينني. و لما أقره في لحده وضع خده على منحره الشريف قائلا :
«طوبى لأرض تضمنت جسدك الطاهر، فإن الدنيا بعدك مظلمة و الآخرة بنورك مشرقة، أما الليل فمسهد و الحزن سرمد أو يختار اللّه لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم و عليك مني السلام يا ابن رسول اللّه و رحمة اللّه و بركاته».
و كتب على القبر: «هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قتلوه عطشانا غريبا».
ثم مشى إلى عمّه العبّاس عليه السّلام فرآه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين أطباق السماء و أبكت الحور في غرف الجنان و وقع عليه يلثم نحره المقدّس قائلا:
على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم و عليك مني السلام من شهيد محتسب و رحمة اللّه و بركاته.
و شق له ضريحا و أنزله وحده كما فعل بأبيه الشهيد و قال لبني أسد إنّ معي من يعينني!
نعم ترك مساغا لبني أسد بمشاركته في مواراة الشهداء و عيّن لهم موضعين و أمرهم أن يحفروا حفرتين و وضع في الأولى بني هاشم و في الثانية الأصحاب‏ «8».
و أما الحر الرياحي فأبعدته عشيرته إلى حيث مرقده الآن و قيل إنّ أمّه كانت حاضرة فلما رأت ما يصنع بالأجساد حملت الحر إلى هذا المكان‏ «9».
و كان أقرب الشهداء إلى الحسين ولده «الأكبر» عليه السّلام و في ذلك يقول الإمام الصادق لحماد البصري: قتل أبو عبد اللّه غريبا بأرض غربة يبكيه من زاره و يحزن له من لم يزره و يحترق له من لم يشهده و يرحمه من نظر إلى قبر ابنه عند رجليه في أرض فلاة و لا حميم قربه ثم منع الحق و توازر عليه أهل الردة حتى قتلوه و ضيّعوه و عرضوه للسباع و منعوه شرب ماء الفرات الذي يشربه الكلاب و ضيّعوا حق رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم و وصيّته به و بأهل بيته فأمسى مجفوا في حفرته صريعا بين قرابته و شيعته قد أوحش قربه في الوحدة و البعد عن جدّه و المنزل الذي لا يأتيه إلا من امتحن اللّه قلبه للإيمان و عرف حقّنا.
و لقد حدّثني أبي أنه لم يخل مكانه منذ قتل من مصلّ عليه من الملائكة أو من الجن و الإنس أو من الوحش و ما من أحد إلّا و يغبط زائره و يتمسّح به و يرجو في النظر إليه الخير لنظره إلى قبره.
و إنّ اللّه تعالى ليباهي الملائكة بزائريه.
و أمّا ما له عندنا فالترحم عليه كلّ صباح و مساء.
و لقد بلغني أنّ قوما من أهل الكوفة و ناسا من نواحيها يأتونه في النصف من شعبان فبين قارى‏ء يقرأ وقاص يقص و نادب يندب و نساء يندبنه و قائل يقول المراثي!
فقال حماد: قد شهدت بعض ما تصف.
قال عليه السّلام: «الحمد للّه الذي جعل في الناس من يفد إلينا و يمدحنا و يرثي لنا و جعل عدوّنا من يطعن عليهم و يهددونهم و يقبح ما يصنعون» «10».
ثوى اليوم أحماها عن الضيم جانبا و أصدقها عند الحفيظة مخبرا
و أطعمها للوحش من جثث العدى‏ و أخضبها للطير ظفرا و منسرا
قضى بعد ما رد السيوف على القنا و مرهفة فيها و في الموت أثّرا
و مات كريم العهد عند شبا القنا يواريه منها ما عليه تكسرا
فان يمس مغبر الجبين فطالما ضحى الحرب في وجه الكتيبة غبرا
و إن يقض ظمآنا تفطر قلبه‏ فقد راع قلب الموت حتى تفطرا
و ألحقها شعواء تشقى بها العدى‏ و لود المنايا ترضع الحتف ممقرا
فظاهر فيها بين درعين نثرة و صبر، و درع الصبر أقواهما عرى‏
سطا و هو أحمى من يصون كريمة و أشجع من يقتاد للحرب عسكرا
فرافده في حومة الضرب مرهف‏ على قلة الأنصار فيه تكثرا
تعثر حتى مات في الهام حده‏ و قائمه في كفه ما تعثرا
كأن أخاه السيف أعطي صبره‏ فلم يبرح الهيجاء حتى تكسرا
له اللّه مفطورا من الصبر قلبه‏ و لو كان من صم الصفا لتفطرا
و منعطف أهوى لتقبيل طفله‏ فقبّل منه قبله السهم منحرا
لقد ولدا في ساعة هو و الردى‏ و من قبله في نحره السهم كبّرا
و في السبي مما يصطفي الخدر نسوة يعز على فتيانها أن تسيّرا
حمت خدرها تقضي وودت بنومها ترد عليها جفنها لا على الكرى‏
مشى الدهر يوم الطف أعمى فلم يدع‏ عمادا لها إلّا و فيه تعثّرا
و جشمها المسرى ببيداء قفرة و لم تدر قبل الطف ما البيد و السرى‏
و لم تر حتى عينها ظل شخصها إلى أن بدت في الغاضرية حسّرا «11»


________________________
(1) تاريخ الطبري ج 6 ص 256، و كامل ابن الأثير ج 4 ص 30 و إرشاد الشيخ المفيد.
(2) حكاه في البحار ج 10 ص 211 و ج 13 ص 125 عن غيبة النعماني.
(3) نص عليه جماعة من المؤرخين أنظر كتابنا «قمر بني هاشم» ص 115 ط المطبعة الحيدرية في النجف.
(4) كامل الزيارات ص 219.
(5) للحاج هاشم الكعبي.
(6) مدينة المعاجز ص 263 باب 127.
(7) إثبات الوصية للمسعودي ص 173، و قد ذكرنا في كتاب «زين العابدين» ص 402 الأحاديث الدالة على أن الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله.
لم تكشف الأحاديث هذا السر المصون، و لعل النكتة فيه أن جثمان المعصوم عند سيره إلى المبدأ الأعلى بانتهاء أمد الفيض الإلهي يختص بآثار منها: أن لا يقرب منه من لم يكن من أهل هذه المرتبة إذ هو مقام قاب قوسين أو أدنى، ذلك المقام تقهقر عنه الروح - الأمين و عام النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم وحده في سبحات الملكوت و ليست هذه الدعوى في الأئمة بغريبة بعد أن تكوّنوا من الحقيقة المحمدية و شاركوا جدهم في المآثر كلها إلا النبوة و الأزواج كما في المحتضر للحسن بن سليمان الحلي ص 22 طبع النجف و هذه أسرار لا تصل إليها أفكار البشر و لا سبيل لنا إلى الإنكار بمجرد بعدنا عن إدراكها ما لم تبلغ حد الاستحالة و قد نطقت الآثار الصحيحة بأن للأئمة أحوالا غريبة ليس لسائر الخلق الشركة معهم كإحيائهم الأموات بالأجساد الأصلية و رؤية بعضهم بعضا و صعود أجسادهم إلى السماء و سماعهم سلام الزائرين لهم و قد صادق على ذلك شيخنا المفيد في المقالات ص 84 ط طهران و الكراجكي في كنز الفوائد و المجلسي في مرآة العقول ج 1 ص 373 و كاشف الغطاء في منهج الرشاد ص 51، و النوري في دار السلام ج 1 ص 289.
(8) الكبريت الأحمر (و أسرار الشهادة) و (الإيقاد).
(9) الكبريت الأحمر و نقل السيد الجزائري في الأنوار النعمانية ص 344 ما يشهد بذلك، فإنه نقل أن إسماعيل الصفوي نبش الموضع فظهر له رجل كهيئته لما قتل و على رأسه عصابة فلما حلها انبعث الدم و لم ينقطع إلا بشدها فبنى على القبر قبة و عيّن له خادما؟
و عليه فإنكار النوري في اللؤلؤ و المرجان دفنه هنا لم يدعم بقرينة. و في تحفة العالم للسيد جعفر بحر العلوم ج 1 ص 37 أن حمد اللّه المستوفي ذكر في نزهة القلوب، أن في ظاهر كربلاء قبر الحر تزوره الناس و هو جده الثامن عشر، و كان أحدهم يقول:
أشر للحر من قرب و بعد فإن الحر تكفيه الإشاره‏
- فرد عليه الحجة السيد محمد القزويني :
زر الحر الشهيد و لا تؤخر زيارته على الشهداء قدم‏
و لا تسمع مقالة من ينادي‏ أشر للحر من بعد و سلم
(10) كامل الزيارات ص 325 و عنه في مزار البحار ص 124.
(11) للسيد حيدر الحلي نور اللّه ضريحه.