لقد خرج من المدينة بأهله و إخوته و بني عمومته و بعض الخواص من شيعته و ترك أخاه محمد بن الحنفية فيها ليخبره بتحركات القوم بعد أن ذهب إلى قبر جده و أمه و أخيه فودعهم و شكا إليهم ما تلاقي الأمة من عسف و جور و استهتار بالقيم و المقدسات، و مضى في طريقه إلى مكة في الأشهر التي يلتقي فيها المسلمون لأداء العمرة و الحج فأقام فيها أربعة أشهر و أياما من ذي الحجة كان فيها مهوى القلوب و الأفئدة، فالتف حوله المسلمون يأخذون عنه الأحكام و يتعلمون منه الحلال و الحرام، و كان ابن الزبير يقصده مع الناس في أغلب الأوقات، و لم يتعرض له أمير مكة يحيى بن حكيم و لأنه ترك الحسين و شأنه عزله يزيد عنها و استعمل عليها عمرو بن سعيد بن العاص، و في رمضان من تلك السنة ضم إليه المدينة و عزل عنها الوليد بن عتبة لأنه كان معتدلا في موقفه من الحسين و لم يستجب لطلب مروان كما نص على ذلك ابن قتيبة.
و قد عرف الناس في مختلف الأقطار امتناع الحسين (عليه السلام) عن البيعة فاتجهت إليه الأنظار و بخاصة الكوفة و أهلها فقد كانوا يوم ذاك من أشد الناس نقمة على يزيد و أكثرهم ميلا إلى الحسين (عليه السلام) فاجتمعوا في دار سليمان بن صرد الخزاعي فقام فيهم خطيبا و قال: إنكم قد علمتم بموت معاوية و استيلاء ولده على الملك و قد خالفه الحسين بن علي و خرج في أهله من المدينة إلى مكة، و أنتم أنصاره و شيعته و هو اليوم أحوج إلى نصرتكم، فان كنتم تعلمون انكم ناصروه و مجاهدو عدوه فاكتبوا إليه، و ان خفتم الوهن و الفشل فلا تغروا الرجل من نفسه، فقالوا بأجمعهم: بل نقاتل عدوه و نقتل أنفسنا دونه. و بعد حوار و مشاورات استقر الرأي على أن يرسلوا وفدا من قبلهم إلى مكة لمقابلته و كتبوا إليه مع الوفد كتابا من وجوههم و أشرافهم جاء فيه: أما بعد فالحمد للّه انه ليس علينا إمام غيرك فأقبل إلينا لعل اللّه يجمعنا بك على الحق، و النعمان بن بشير في قصر الامارة و لسنا نجتمع معه في جمعة و لا جماعة و لا نخرج معه إلى عيد و عند ما يبلغنا قدومك نخرجه من الكوفة حتى يلحق بالشام. و راحت كتبهم تتوالى عليه من العشرة و العشرين و الخمسين، و في أكثرها يقولون: لقد اخضر الجناب و أينعت الثمار، و ليس علينا أمير غيرك فأقبل علينا فأنت أحق خلق اللّه بالإمرة و أولاهم بالخلافة و الإمامة، و ظلت كتبهم تتوالى عليه بين الحين و الآخر حتى بلغت من الكثرة حدا ملأ منها الحسين خرجين و حملهما معه إلى العراق ليحتج بها عليهم إذا وجد منهم فتورا و انحرافا.
و تنص بعض المرويات أنه تلقى رسائل بهذا المضمون من أهل البصرة و المدائن و غيرهما، بالإضافة إلى الوفود التي كانت تأتيه من العراق و اليمن و سائر المناطق الإسلامية تعرض عليه ولاءها و بيعتها و تصف له تكتلهم ضد السلطة الحاكمة، و مع ذلك فلم يفكر في إجابة طلبهم حتى يرى حقيقة امرهم و يختبرهم بشكل ملموس واضح لا لبس فيه و لاخفاء، فكلف ابن عمه مسلم بن عقيل و كان من أفضل ثقاته عنده و ذوي الرأي و الخبرة و الشجاعة، بالذهاب الى الكوفة فإن رأى أهلها على مثل ما جاءت به كتبهم أخبره بحالهم ليكون في أثره.
و يبدو من بعض المرويات أن مسلم بن عقيل لم يكن متفائلا في سفره لما يعرفه من تقلب أهل العراق و مواقفهم الملتوية من عمه أمير المؤمنين الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، و خيانتهم لابن عمه الحسن حتى اضطروه إلى ترك السلطة لمعاوية، و قد صارح الحسين بذلك و لكنه لم يعفه من تلك المهمة و اتهمه بالجبن و سوء الرأي، و مضى و هو متشائم من هذه المهمة، و لما مات أحد دليليه في الطريق من العطش بعد أن ضلا عن الطريق، كتب إلى الحسين مرة أخرى يطلب منه إعفاءه و لكن الحسين (عليه السلام) أصر عليه بالمضي في طريقه إلى الكوفة، فمضى يجد السير حتى دخلها و استقبله أهلها بالترحاب فنزل ضيفا على المختار بن عبيد الثقفي، و منها راح يستقبل الناس و ينشر الدعوة إلى الحسين (عليه السلام) فبلغ عدد من بايعوه على الموت أربعين ألفا و قيل أقل من ذلك، و أمير الكوفة ليزيد يوم ذاك النعمان بن بشير، كان كما يصفه المؤرخون مسالما يكره الفرقة و يؤثر العافية و متهما بالضعف و سوء التدبير و حاول أنصاره من أتباع يزيد أن يجروه إلى معركة مع أنصار مسلم بن عقيل فأبى أن يعالج الأمور بالشدة و القسوة.
و مضت الدعوة إلى الحسين تتسع في الكوفة و جوارها و الناس يهتفون باسمه حتى ضاق الأمر على النعمان و حاشيته، فكتب أحد انصار الأمويين كتابا ليزيد يخبره بما انتهى إليه مسلم و ضعف النعمان بن بشير و كان مما كتبه إليه: إذا كان لك في العراق حاجة فأرسل إليه من تثق بحزمه و قوته و صلابته، و لما وصل كتابه إلى يزيد بن معاوية جمع انصاره و استشارهم في الأمر، و كان سرجون الرومي من المقربين إلى أبيه، فقال ليزيد: أ رأيت لو نشر لك معاوية و أشار عليك كنت تقبل قوله؟ فقال نعم، فأخرج كتابا كان قد كتبه معاوية قبيل وفاته و سلمه لسرجون بولاية عبيد اللّه بن زياد على الكوفة عند ما تدعو الحاجة لذلك، فلم يتردد في العمل بمضمون الكتاب و أرسل إلى ابن زياد من ساعته يأمره بالذهاب الى الكوفة للاشراف على السلطة فيها و ادارة شئونها و ترك له أن يستخلف مكانه على البصرة من يراه مناسبا لذلك، و أمره بقتل مسلم بن عقيل ان أمكنه اللّه منه، و أن يقاتل الحسين و يقتله ان هو تمكن منه و يبعث إليه برأسه، وفور وصول الكتاب إليه ترك البصرة لأحد اعوانه و مضى في طريقه إلى الكوفة في عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة و دخلها ملثما متنكرا فظنه الناس الحسين بن علي (عليه السلام) فكان كلما مر على مجلس من مجالس أهل الكوفة قابلوه بالهتاف و الترحيب و تعالت الأصوات من كل جانب مرحبا و ألف أهلا بك يا ابن رسول اللّه حللت أهلا و نزلت سهلا، و هو صامت لا يتكلم و لا يسلم على أحد إلا بالإيماء و قد امتلأ غيظا و حقدا و مضى يشتد حتى انتهى الى القصر و كان قد أغلقه النعمان خوفا من الجماهير المتحمسة للحسين (عليه السلام)، فأبى أن يفتحه له و قال: يا ابن رسول اللّه و اللّه ما قاتلتك حتى تقاتلني و لا يحل لي أن أفرط في أمانتي فاذهب عني و تنقل حيث شئت في الكوفة فو اللّه لا أقاتلك ما كففت عني، و لم يعد عبيد اللّه يملك نفسه من الغيظ، فقد رأى الجماهير في طريقه الى القصر تهتف مرحبة بالحسين، و رأى الوالي معزولا عن الناس و محاصرا في قصره لا يملك من الأمر شيئا و قد استولى عليه الخوف و القلق حتى لتكاد نفسه أن تذهب من جسده، فقال له: افتح لا فتحت، أنا عبيد اللّه بن زياد و قد ولاني أميرك مقاليد هذا البلد.
الغدر بمسلم بن عقيل :
و ما كاد الوالي الجديد يضع اقدامه في القصر و يتسلم مقاليد السلطة حتى اخذ يفكر في امر مسلم و يستعمل جميع الاسلحة لتشتيت امر الناس و تفريقهم عن مسلم و القبض عليه مهما كانت النتائج، و تسامع الناس بقدوم ابن زياد الى الكوفة و أهلها يعرفونه بالصرامة و الحزم و الشدة، فكان من الطبيعي ان يحدث قدومه هزة في اوساط المعارضين لسياسته بقيادة مسلم بن عقيل و ان يبحثوا عن وسيلة جديدة للسير في دعوتهم نحو الهدف المطلوب، فانتقل مسلم الى دار هانئ بن عروة و جعل يتستر في دعوته و تحركاته الا عن خلص اصحابه و أخذ ابن زياد يتحراه بوسائله الخاصة، و بحيلة احكم حبكها و صياغتها استطاع ان يكتشف مخبأ مسلم بن عقيل و ان يعلم بمقره و هانئ يوم ذاك سيد بني مراد و صاحب الكلمة المسموعة في الكوفة و الرأي المطاع، و جرت أحداث و أحداث مشهورة بين المؤرخين و محفوظة على ألسنة اكثر المتشيعين لصلتها بمأساة كربلاء التي ما زالت منذ حدوثها حديث الاجيال و من ابرز سمات التشيع لأهل البيت (عليه السلام)، و ستبقى ما دام على وجه الأرض اناس يقدسون البطولات و التضحيات الجسام و المثل العليا التي تجسدت في ثورة الحسين من ابرز الاحداث في تاريخ البشرية و اكثرها عطاء و نفعا، و حتى لا اطيل على القارئ سأكون سريعا الى ابعد الحدود في عرض تلك المرحلة التي ختم بها ابو الشهداء ثمانية و خمسين عاما من حياته كانت حافلة بالخير و الجهاد و الاحسان و بكل معاني النبل و الفضيلة و الخلق الكريم.
لقد استطاع الوالي الجديد ان يحكم الحيلة ليقبض على هانئ بن عروة الذي آوى رسول الحسين (عليه السلام) و أحسن ضيافته و اشترك معه في الرأي و التدبير، فقبض عليه و قتله بعد حوار طويل جرى بينهما و ألقى بجثمانه من أعلى القصر إلى الجماهير المحتشدة حوله، فاستولى الخوف و التخاذل على الناس و ذهب كل انسان إلى بيته و كأن الأمر لا يعنيه.
و لما علم مسلم بما جرى لهانئ و رأى تخاذل مذحج الغنية بعددها و عدتها، خرج في أصحابه و نادى مناديه في الناس و سار بهم لمحاصرة القصر و اشتد الحصار على ابن زياد و ضاق به امره، و لكنه استطاع بدهائه و مكره ان يتغلب على المحنة و يخذل الناس عن مسلم، فانصرفوا عنه، و بدخول الليل صلى بمن بقي معه و خرج من المسجد الجامع وحيدا لا ناصر له و لا مؤازر، و لا من يدله على الطريق و أقفل الناس ابوابهم في وجهه فمضى يبحث عن دار يأوي إليها في ليلته تلك، و فيما هو يسير في ظلمة الليل، وجد امرأة على باب دارها و كأنها تنتظر شيئا فعرفها بنفسه و سألها المبيت عندها الى الصباح فرحبت به و أدخلته بيتها و عرضت عليه العشاء فأبى ان يأكل شيئا، و عرف ولدها بمكانه و كان ابن زياد قد اعد جائزة لمن يخبره عنه، و ما كاد الصبح يتنفس حتى اسرع ولدها الى القصر و أخبر محمد بن الاشعث بمكان مسلم بن عقيل، وفور وصول النبأ الى ابن زياد ارسل قوة كبيرة من جنده بقيادة ابن الاشعث الى المكان الذي فيه مسلم، و ما ان سمع بالضجة حتى ادرك ان القوم يطلبونه فخرج إليهم بسيفه و كانوا قد طوقوا الدار من كل جهاتها فانهزموا بين يديه و هم اكثر من مائتي مقاتل، و لما اعياهم امره أمدهم ابن زياد بالخيل و الرجال، و بعد معارك ضارية بينه و بينهم في الشوارع استعملوا فيها النار و الحجارة من اعلى السطوح استسلم لهم مسلم بعد ان أمنه ابن الاشعث و أعطاه العهود و المواثيق بذلك.
و مضى معهم الى القصر فأدخل على ابن زياد و لم يسلم عليه و جرى بينهما حوار طويل كان فيه ابن عقيل رضوان اللّه عليه رابط الجأش منطلقا في بيانه قوي الحجة حتى اعياه امره و انتفخت اوداجه و جعل يشتم عليا و الحسن و الحسين، ثم امر اجهزته ان يصعدوا به الى اعلى القصر و يقتلوه و يرموا جسده الى الناس و يسحبوه في شوارع الكوفة ثم يصلبوه الى جانب هانئ بن عروة، هذا و أهل الكوفة وقوف في الشوارع و كأنهم لا يعرفون من امره شيئا و قد صور الفرزدق الشاعر هذه المأساة بقوله:
فان كنت لا تدرين ما الموت فانظري الى هانئ في السوق و ابن عقيل
الى بطل قد غيّر الموت لونه و آخر يهوي من طمار قتيل
فان انتم لم تثأروا لأخيكم فكونوا نساء أرضيت بقليل
و كان مسلم قد طلب من ابن الاشعث ان يكتب الى الحسين يخبره بما جرى له في الكوفة وينصحه بعدم الشخوص إليهم فوعده ابن الاشعث بذلك، و لكنه لم يف بوعده.