حياة الامام الحسين قبل مقتله
مقتل الامام عليه السلام

بعدما تَمكَّن ابن زياد ، مِن إبطال الحركة الحسينيَّة في داخليَّة الكوفة ، واستأصل جذوره ، وأباد بذوره ، بالوعد والوعيد ، والسجن والتبعيد ، والفَتك والهَتك ، والتخويف والتوظيف ، واستعماله السيف والرغيف ، ومزاج الضرب بالضرب ، واطمأنّ مِن داخليَّة الكوفة ، وكسب الأمنيَّة التامَّة ، عَمد إلى الخارج ، وتَمسَّك بالوسائل الفعّالة ضِدَّ الحسين ( عليه السلام ) ، حينما أُستخبر نزوله في ذات عِرق ، ودخوله العِراق ، وبابه القادسيَّة ( الرحبة ) ، فأرسل إليها جيشاً ، عليه الحُصين بن نُمير ، صاحب شرطة عبيد الله في الكوفة ؛ ليقطع على القادمين مِن الحِجاز طريقهم ؛ ويؤمِّن الضواحي والنواحي مِن الغارات والثورات ؛ ويَحفظ خطوط المواصلات بين الكوفة والشام ؛ فأمر أنْ تؤخَذ الطرق بينها وبين واقصة إلى البصرة ، فلا يدعون أحداً يَلِج ، ولا أحداً يخرُج ، ومَدَّ نِطاق جيشه إلى جذعان ( خفَّان ) مِن جِهة ، وإلى ( القَطقطانيَّة ) مِن الأُخرى ؛ فأحتلها حُصين بجيشه ، وحصّنها ، ثمَّ أرسل إلى العيون والآبار ، التي على طول طريق الحِجاز ، مَفارز مِن عسكره ؛ إذ القوافل مَهْما حادت في مسيرها عن الطُّرق المعروفة ، فهي مُضطرَّة إلى النزول على الآبار والعيون ، سَقياً للراحلة ، أو ترويحاً للسابلة ، وكان مِمَّن أرسله إلى حراسة البَرّ ، الحُرّ بن يزيد الرياحي ، ومعه ألف فارس.
النياق في بادية الحِجاز نقليَّته الوحيدة ، والإبل تطيق الظمأ أيّام ، وتقنع بالقوت الزهيد ، مع تحمُّلها ما لا يُطاق مِن الأثقال والمَشاقِّ ، ولكنَّها في ثالث يوم مِن ظمئها تُشرِف على العَطب ، سيَّما في الحَرِّ ، فلابُدَّ مِن تنشيطها بالنغمات الخاصَّة ( الحَدْي ) ، أو التزوُّد مِن الماء ، ومياه الآبار والعيون نزرة وقليلة ، في مَفاوز الحِجاز ، وبَرِّ الشام ؛ فتبعُد الواحدة عن الأُخرى مرحلة ، أو مراحل على خطوط الطُّرق المألوفة ، أمَّا مَن حاد عنها ، فقد لا يَجد الماء مَهْما هام بوجهه في المَهامة والقِفار ، فلا مَنهل يُرويه ، ولا مأهل يؤويه .
وقد تلقّى ركب الحسين ( عليه السلام ) ، بعد وصوله إلى ( شَراف ) ، أمرهم بالتزوُّد مِن مائها فوق قَدَر الحاجة بكثير ، ولم يعرفوا سِرّ ذلك ، حتَّى إذا بلغوا ( ذا حُسم ) كبَّر رجُل مِن أصحابه تكبيرة الإعجاب ، وزعم أنَّه رأى نخيل الكوفة ، وبعد أنْ أجمعوا على استبعاد رأيه وتحقَّقوا ، علموا أنَّها رؤوس رماح ، وطالعة كِفاح ؛ فتحيَّز الحسين ( عليه السلام ) رحله إلى هضاب ( ذا حُسم ) ، وأخذ التحوّطات الحربيَّة ؛ ليلوذ رحله بالهضاب ؛ فيُدافع الرمات مِن فوقها ؛ تأميناً لخُطَّة الدفاع عن النواميس بكلِّ معانيها .
وما لبِثوا حتَّى أسفرت الآثار عن الحُرِّ بن يزيد الرياحي ، ومعه ألف فارس ، أرسلته القيادة العامَّة الأُمويَّة لحراسة البَرّ ؛ ولكي يَقطع على الحسين (عليه السلام) طريقه أينما صادفوه ، ثمَّ لا يُفارقونه إلى أنْ يأتوا به إلى أقرب مركز للحكومة ، حتَّى إذا اطمأنّوا مِن مُسالمته ومُبايعته ، أدخلوه على ابن زياد .
أمّا الحُرّ وأصحابه ، فقبل أنْ يُظهِروا مُهمَّتهم ، أظهروا بلسان الحال والمَقال عطشهم المُفرِط ، وأنَّهم مِن طول جولاتهم في البَرِّ وفي الحَرِّ ؛ حيث لا ماء ولا مأوى ، قد أشرفوا على العطب ، فأمر حسينُ الفضيلة ( عليه السلام ) فِتيانه وغُلمانه ، بسقاية الأعداء ، وإرواء خيلهم.
فعرف عندئذٍ صَحب الحسين ( عليه السلام ) سِرّ استعداده بالماء ليوم سَماح أو كفاح ، ولمَّا استعبد الحسينُ الحُرَّ بالبِرّ ( وبالبِرِّ يُستعبَد الحُرُّ ) ، سأله عن غايته ، فأجاب على استحياء ، بأنَّه مرسول إليه ؛ ليوفده على ابن زياد ، ولمَّا قال له الحسين ( عليه السلام ) : ( قُمْ إلى أصحابك فصَلِّ بهم ، ونحن نُصلِّي مع أصحابنا ) ، أجابه الحُرُّ : ( بلْ تَقدَّم إلى الصلاة ، يا بن رسول الله ، ونحن نُصلِّي بصلاتك ) ، كأنّه يُذكِّر الحاضرين أنَّ الحسين ( عليه السلام ) إمام حَقٍّ ، وابن إمام ، وأنَّ صلاة غيره بصلاته تَصحُّ ، وبصلاته تُقام .
ثمّ إنَّ الحسين ( عليه السلام ) لم يَسعه ـ بعد أنْ رأى مَنْ كتبوا إليه كتائب عليه ـ إلاَّ الذِّكرى والاحتجاج ، فقال : ( يا أهل الكوفة ، إنَّكم كتبتم إليَّ ، ودعوتموني إلى العراق ؛ لإنقاذكم مِن سُلطة الجَور والفجور ؛ فجئتكم مُلبِّياً دعوتكم ، فإنْ كُنتم قد تغيّرتم عَمَّا كنتم عليه ، فاتركوني أرجع مِن حيث أتيت ) .
قال هذا ، وأخرج لهم الكُتب اعتماداً على شَهامة الحُرِّ ، وصُدور الأحرار قبور الأسرار ؛ ولإتمام الحُجَّة على الناظرين مِن أصحابه ، فاعتذر الحُرُّ بأنَّه ليس مِمَّن كتب إليه .
ولا نَنسى أنَّ الحُرَّ قد هاجت عليه ، في ذلك الموقف الرهيب ، أفكار مُتضاربة ، لم تُطاوعه الحالة الحاضرة أنْ يختار منها ، سِوى طريقة مُتوسِّطة عرضها على الإمام ، وهي ( أنْ يَسلُك مِن فِجاج البَرّ سَبيلاً وسطاً ، لا يؤدِّي به إلى الشام ، ولا يُدخله الكوفة ؛ حتَّى يكون بذلك نَجات الطرفين ) ، واستحسنه الحسين ( عليه السلام ) ؛ لأنَّه يُريد الاتِّقاء مِن شَرِّ الأشرار ، دون أنْ يَبلغ أحداً بسوء ؛ وظَنّ الحُرّ لنفسه في ذلك مَناصاً ، مِن مظلمة إيذاء العِترة النبويَّة ، ومُقنِعاً لأُمراء أُميَّة ؛ إذ دفع عن عِراقهم نَهضة الحسين ( عليه السلام ) ، وأراحهم عنه ، بدون سَفك مُهج ، ولا خوض لُجَج ؛ فكتب بعد نزوله ( أقساس مالك ) كتاباً إلى ابن زياد يتضمَّن الرأي والرواية .
خضعت الكوفة لدَهاء ابن زياد بعد مَقتل مسلم ، وانقادت إليه أحياؤها ورؤساؤها ، وذُلّلِت صِعابها تَذليلاً ، لكنَّه لم يَزل قَلِق البال ، غير مُستريح الخَيال ؛ لعلمه بمبلغ تأثير الدعوة الحسينيَّة في المَجامع والمَسامع ، وما له في العِراق من سابقة ولاء وأولياء ، وكان ابن زياد مُحنَّكاً ، قد درس هو وأبوه حالة العراق الروحيَّة ، وسرعة انقلاب هوائه وأهوائه ، وأنَّ لأبنائه نائمة وقائمة ، كمْ اغترَّت بهما أولياء الأُمور والسياسة ! فجائز أنْ يأتيها الحسين ( عليه السلام ) بجنود لا قِبَل له بها ، أو يتَمرْكز بالقادسيَّة ؛ فتلتفّ حوله قبائل بادية الشام ، وعشائر الفرات ، مِمَّا بين الكوفة والبصرة ، أو يَحدث مِن اقترابه دويٌّ ينعكس صَداه في داخل الكوفة ؛ فيَستفِّز الحِسِّيَّات والنفسيَّات ؛ فيثورون عليه ؛ ويستخرجون مِن سجونه وجوه الشيعة ، ورؤوس القبائل ، فلا يُمسي ابن زياد إلاّ قتيلاً ، أو أسيراً ، وعلى أيٍّ ، يتهدّم كلُّ ما بناه ، ولا يعود عليه التسامح إلاّ بالخُسران ؛ وعليه اندفع ابن زياد بجميع قِواه إلى تأمين الخارج ، بعد تعزيز الأمن في الداخل ، وتحشيده الكوفيِّين ؛ لمُحاربة
الحسين ( عليه السلام ) ، فبادر إلى احتلال القادسيَّة ، قبل أنْ يَسبقه إليها الحسين ( عليه السلام ) ، والنقاط المُهمَّة في الحدود على خطوط سابلة الحِجاز ، وما لبث أنْ ورد عليه كتاب الحُرِّ الرياحي ، وأتته البشائر تَترى، على أنّ الحسين (عليه السلام) ورَدَ وأُبعِد عن حدود الكوفة ، إلى جِهة الشمال الغربي مسافة قاصية ، هو ونفر قليل مِن خاصَّته ، بحيث لا يعود مِن المُمكن أنْ يُهيمن على ضواحي الكوفة ، فَضلاً عَمَّا بينها وبين البصرة ، وأنَّ جيش الحُرّ الرياحي ، أصبح يُراقبه في المسير ، وهو كافٍ لصَدِّه أو رَدِّه .
بات ابن زياد ليلته هادئ البال ، مُستقرَّ الخيال ، وكتب بذلك كلِّه إلى يزيد ؛ لتأمين خواطر الهيئة المركزيَّة ، والمُبادرة بتسجيل خدماته عند سلطانه ، وكأنّي به قد نبَّه على مَيلان الحُرّ ، وصلاته بجيشه مع الحسين ( عليه السلام ) ، وأنّ ابن رسول الله جذَّاب النفوس بهديه ، ومُستملِك القلوب بحديثه ، فلا يَبعُد أنْ يُعلِن الحُرّ في صحبته ولاءه وانضمامه إليه ، ويَسري نبأ تمرُّده في أمثاله مِن أركان القيادة العسكريَّة ، ويتَّسع الخَرق على الراقع ، أو يتَمرْكز الحسين ( عليه السلام ) في الأنبار ؛ فيحصر على ابن زياد المِيرة والذخيرة ، ولا يسع ابن زياد أنْ يُحاصره ؛ بسبب وضعيَّة النهر وموالاة عشائر البَرِّ ، وقربه مِن مدائن كِسرى ، وأينما حَلَّ سبط الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، ناشراً دعوته الصالحة سواء العراق وإيران ؛ فإنَّها تُصادف انتشاراً ، ولا تُعدَم أنصاراً ، فوثب ابن زياد يبثُّ المواعيد ثانية ، ويوزِّع الأموال بين العشائر والأكابر ؛ ليؤلِّف منها أجناداً وقوَّاداً .
كان التخوّف مِن تسرُّب الدعوة الحسينيَّة ، إلى ما وراء الفرات وحدود العَجم ، لا يقتصر عن التخوُّف مِن قدومه الكوفة ؛ لأنّ القِطريَن العراقي والفارسي ، بينهما عَلائق مُتواصلة ، ومصالح مُتبادلة ، حتَّى لقد كان إعزام عمر بن سعد ، إلى حرب الحسين ( عليه السلام ) ، مع ترشُّحه لولاية الري ، بعض فصول هذه الرواية المُحزِنة ؛ فإنَّ ولاية إيران لا تكاد تَستقرُّ لابن سعد ، والحسين ( عليه السلام ) مُتوجِّه إليها بدعوة نافعة ، وحُجَّة بالغة ، وعائلة مِن لُحمة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وبين الحسين ( عليه السلام ) ، وبين الفرس مُصاهَرة في العائلة المالكة المُنقرضة ، وكلّ هذه عوامل قويَّة ، لنفوذ الدعوة الحسينيَّة في بلاد كِسرى ؛ فلم يَجِد والي العِراقين سبيلاً إلى إماتة هذا الشِعار ، وإيقاف هذا التيَّار ، خَيراً مِن ترشيح عمر بن سعد لولاية الري ، وقد كان أبوه سعد بن أبي وقَّاص مِن قوَّاد جيشها الفاتح ، فلهم مِن شهرته كلُّ الرعب ، وله تمام الرغبة فيهم ؛ إذ كانت ولاية الري مُمتازة المَنافع ، مُتنوِّعة المَطامع ، وظاهر أنَّ ولايتها يومئذ كانت ذات صلة قويّة ، بإضعاف الحركة الحسينيَّة ؛ ليتسنَّى لواليها حُرّية الإدارة والإرادة ، مِن مُزاحمٍ مِثل الحسين ( عليه السلام ) ؛ لذلك أقنع ابن زياد عمراً ، بأخذ التدابير اللازمة لإخضاع حسين الشرف ( عليه السلام ) ، قبل التوجُّه إلى مُهمَّته الأصليَّة في إيران .
نعمْ ، وجد ابن زياد عمراً أصلح الناس ، لإخضاع الحسين ( عليه السلام ) سواء بغرض الإخضاع ، أم الإقناع ؛ إذ كان يومئذٍ أمسَّ الكوفييِّن رَحماً بالحسين ( عليه السلام ) ، وعليه مَسحة شرف مِن قريش ، ونسبة إلى الحَرمين ؛ فسرَّحه لمُقابلة الإمام خِداعاً وإطماعاً ( وأكثر مَصارع العقول تحت بروق المَطامع ) .
أمّا ابن سعد ، فقد استمهل ابن زياد ليلته ؛ ليُفكِّر مُستعظِماً إقدامه إلى مُقابلة الحسين ( عليه السلام ) ؛ لعلمه أنَّ الحسين ( عليه السلام ) داعية حَقٍّ ، وأنَّه كأبيه علي ( عليه السلام ) أفضل مِن أنْ يُخدَع ، وأعقل مِن أنْ يَنخدع ، ولا يسع ابن سعد إذا قابله أنْ يُقاتله ، بلْ يَقضي عليه واجبه الديني والرحمي أنْ يَنضمَّ إليه ، ويُقاتل خصومه بين يديه ، غير إنَّ له في مُلك الري قُرَّة عين ، وبَهجة نفس ، وراحة عائلة ، وتأمين مُستقبَل مَديد ؛ فبات ليلته قَلقاً أرقاً بين جاذب ودافع ، يُجيل فكرته بين المَضارِّ والمَنافع ، ويُردِّد أبياته المعروفة :
فو الله ما أدري وإنِّي لحائر أُفكِّر في أمري على خَطرين
أأترك مُلك الرَّيِّ والرَّيُّ مُنيتي أمْ أرجِع مأثومَاً بقتل حسين
إلى آخره .
وكأنَّ خاطره الأخير حدَّثه بأنَّه إنْ ظَهر على الحسين ( عليه السلام ) فبها ، وإلاَّ فحسين الفتوَّة ، أكرم مِن أنْ يُعاقبه ، أو يَنتقم !!
وبالجُملة : فلم يَشعر بنفسه ، إلاَّ قائداً جيشاً كثيفاً ، إلى حرب الحسين ( عليه السلام ) في نَينوى ؛ إذ بها يلتقي الخطَّ العراقيِّ الإيرانيِّ ، بالخَطِّ العراقي الحِجازي ، وهي المرحلة المُشرفة على نقطة الأنبار ، فبلغه نزول الحسين ( عليه السلام) بكربلاء، قبله بيوم واحد ، مع قائد المَفرزة الحُرِّ الرياحي .