حياة الامام الحسين قبل مقتله
مقتل الامام عليه السلام

الاستنصار الحُسيني :
يقول الشيخ جعفر التُسْتَري (رحمه الله) في الخصائص الحسينيَّة : إنّ الحسين (عليه السلام) (استنصر) الناس سبع مرّات و (استغاث) سبعاً .
ثمّ يقول (رحمه الله) : إنّ التَلبيات السبعة الواردة في زيارة الحُسين (عليه السلام) (لبّيك داعي الله) إجابة وإشارة إلى هذه الاستنصارات والاستغاثات).
وفيما يلي نستعرض طائفة من استنصارات الحسين (عليه السلام) واستغاثته بالمسلمين منذ خروجه من المدينة إلى اليوم العاشر من المُحرَّم سَنة (61 هـ) في كربلاء .
ثُمّ نقوم بدراسة دلالات الاستنصار الحُسيني .
أ ـ الاستعراض
نَماذِج من الاستنصار الحُسيني
في المدينة :
1 ـ خرج الحسين (عليه السلام) من المدينة مُتوجّهاً نحو مكّة ليلة الأحد لِيومَين بَقيا من رجب ومعه بنوه وإخوته وبنو أخيه الحسن (عليه السلام) وأهل بيته وكتب قبل أن يخرج من المدينة وصيّته الّتي يستنصر فيها المسلمين وأودَعها عند أخيه محمّد بن الحَنَفيّة .
قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم : هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ (عليهما السلام) إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة :
إنّ الحسين يشهد أن لا اله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنّ محمّداً عبده ورسوله جاء بالحقّ من عنده وأنّ الجنّة حقّ والنار حقّ والساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث مَن في القبور ...
وأنّي لم أخرج أشِراً ولا بطِراً ولا مُفسِداً ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي (صلّى الله عليه وآله) أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب .
فمَن قَبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ومَن ردّ عليَّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين.
ثمّ طَوى الكتاب وختمَه ودفعه إلى أخيه محمّد .
2 ـ واستنصر الحُسين عبد الله بن عُمَر بن الخطّاب وقال لعبد الله بن عُمَر ـ لمّا طلب منه البقاء في المدينة :
يا عبد الله إنّ من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا يُهدَى إلى بَغيٍّ من بغايا بني إسرائيل وأنّ رأسي يُهدى إلى بغيٍّ من بَني أُميّة .
ولمّا عرف ابن عُمَر من الحسين العزم على مغادرة المدينة قال له : يا أبا عبد الله اكشف لي عن الموضع الذي لم يَزل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يُقبِّله منك فكشف له عن سُرّته فقَبَّلها ثلاثاً وبكى .
فقال له : (اتقِ الله يا أبا عبد الرحمان ولا تدعنَّ نصرتي) .
في مكّة :
3 ـ وكتب الحسين نسخة واحدة (تَعميماً) إلى رُؤساء الأخماس بالبصرة وهُم :
مالك بن مسمع البكري والأحنف بن القَيس والجارود بن المنذر ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم وعمرو بن عبيد بن معمّر وأرسله مع مولى له يُقال له سليمان وفيه : أمّا بعد فإنّ الله اصطفى محمّداً (صلّى الله عليه وآله) على خلْقه وأكرمه بنبوّته واختاره لرسالته ثمّ قبضه إليه وقد نصح لعباده وبلّغَ ما أُرسل به (صلّى الله عليه وآله) وكُنّا أهله وأولياءه وأوصياءه ووَرَثته وأحقّ الناس بمَقامه في الناس .
فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا وكرهنا الفُرقة وأحببنا العافية ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلك الحقّ المُستَحق علينا ممّن توَلاّه .
وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه فإنّ السنّة قد أُميتَتْ والبُدعَة قد أُحييتْ .
فإن تسمعوا قَوْلي أُهدِكم إلى سبيل الرشاد .
فسلّم الجارود بن المُنذر العبدي رسولَ الحسين إلى ابن زياد فصلبه عشيّة الليلة التي خرجَ في صبيحتها إلى الكوفة ليسبق الحسين إليها . وكانت ابنة الجارود (بخرية) زوجة ابن زياد فزعم أن يكون الرسول دسيساً من ابن زياد .
وأمّا الأحنف فإنّه كتب إلى الحسين (عليه السلام) : أمّا بعد فاصبر إنّ وعد الله حقّ ولا يَستخفنّك الّذين لا يُوقنون.
وأمّا يزيد بن مسعود فإنّه جمع بني تميم وبني حنظلة وبني سعد فلمّا حضروا قال : (يا بني تميم كيف ترون موضعي فيكم وحسَبي منكم ؟
قالوا : بَخٍ بَخٍ ! أنت والله فقرة الظهر ورأس الفخر حللتَ في الشرفِ وسطاً وتقدّمت فيه فرطاً قال : فإنّي قد جمعتكم لأمرٍ أُريد أن أُشاوركم فيه وأستعين بكم عليه فقالوا : وقال ابن حزم في : جمهرة أنساب العرب ص218 : كان عباد بن مسعود بن خالد بن مالك النهشلي سيّداً وأخته ليلى بنت مسعود تحت علي بن أبي طالب ولدت له أبا بكر قتل مع الحسين وعبد الله كان مع مصعب ابن الزبير على المختار وقُتل يوم هزيمة أصحاب المختار وذكرنا في (زيد الشهيد : ص 101 طبع ثاني) نصوص المؤرّخين في قتله بالمذار من سواد البصرة ولم يُعلم قاتله .
وفي الخرايج للراوندي في معجزات علي (عليه السلام) : وُجِد مذبوحاً في فسطاطه ولم يُعلَم ذابحه إنّا والله نمنحك النصيحة ونجهد لك الرأي فقُل حتّى نسمع .
فقال : إنّ معاوية مات فأهوِن به والله هالكاً ومفقوداً ألا وأنّه قد انكسر باب الجَور والإثم وتضعضعت أركان الظلم وكان قد أحدث بيعة عقدَ بها أمراً ظنّ أنّه قد أحكَمه وهيهات الذي أراد اجتهدَ والله ففشلَ وشاورَ فخُذلَ وقد قام يزيد ـ شارب الخمور ورأس الفجور ـ يدّعي الخلافة على المسلمين ويتآمر عليهم بغير رضاً منهم مع قصر حلْمٍ وقلّة علم لا يعرف من الحقّ موطأ قدميه .
فأُقسم بالله قَسَماً مبروراً لَجهاده على الدِين أفضل من جهاد المشركين وهذا الحسين بن عليّ وابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل له فضل لا يُوصَف وعِلم لا ينزف وهو أَولى بهذا الأمر ؛ لسابقته وسنّه وقِدمه وقَرابته يعطف على الصغير ويُحسِن إلى الكبير فأكرم به راعي رعيَّة وإمام قوم وجبتْ لله به الحُجَّة وبلغتْ به الموعظة فلا تعشو عن نور الحقّ ولا تَكْسَعوا في وهدِ الباطل فقد كان صخر بن قيس انخذلَ بكم يوم الجَمَل فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ونصرته .
والله لا يُقَصّر أحدكم عن نصرته إلاّ أورثه الله تعالى الذلّ في ولده والقلّة في عشيرته .
وها أنا ذا قد لبست للحرب لامتها وادّرعتُ لها بدِرعِها .
مَن لم يُقتَل يَمُت ومَن يهرب لم يَفتْ فأحسنوا رحمكم الله ردّ الجواب .
فقالت بنو حنظلة : يا أبا خالد نحن نَبْلُ كنانتك وفرسان عشيرتك إن رميتَ بنا أصَبتْ وإن غزوتَ بنا فتحتْ لا تخوض والله غمرة إلاّ خضناها ولا تَلقى والله شدّة إلاّ لقيناها ننصرك بأسيافنا ونقيك بأبداننا إذا شئت .
وتكلّمتْ بنو عامر بن تميم فقالوا : يا أبا خالد نحن بنو أبيك وحلفاؤك لا نرضى إن غضبت ولا نبقى إن ظَعَنْتْ والأمر إليك فادعُنا إذا شئت .
وقالت بنو سعد بن زيد : أبا خالد إنّ أبغض الأشياء إلينا خلافك والخروج عن رأيك وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترْك القتال يوم الجمَل فحمدنا ما أمرنا وبقي عزّنا فينا فأمهلنا نراجع المشورة ونأتيك برأينا .
فقال لهم : لئن فعلتموها لا رفع الله السيف عنكم أبداً ولا زال سيفكم فيكم .
ثُمّ كتب إلى الحسين (عليه السلام) : أمّا بعد فقد وصل إليّ كتابك وفهمتُ ما ندبتَني إليه ودعوتني له من الأخذ بحظّي من طاعتك والفوز بنصيبي من نُصرتك وإنّ الله لم يخل الأرض قطّ من عامل عليها بخير ودليل على سبيل نجاة وأنتم حُجّة الله على خلْقه ووديعته في أرضه تفرّعتم من زيتونة أحمديّة هو أصلها وأنتم فرعها فأقدم سعدت بأسعد طائر فقد ذلّلت لك أعناق بني تميم وتركتهم أشدّ تتابعاً في طاعتك من الإبلِ الظماء لورود الماء يوم خمْسها وقد ذلّلت لك رقاب بني سعد وغسلت دَرَن قلوبها سحاب مُزْن حين استهلّ بَرقُها فلَمَع .
فلمّا قرأ الحسين (عليه السلام) كتابه قال : (آمنكَ الله من الخوف وأعزّك وأرواك يوم العَطش الأكبر) .
ولمّا تجهّز ابن مسعود إلى المسير بلَغه قتل الحسين (عليه السلام) فأشتدّ جزعة وكثُر أسَفه لفوات الأُمنية من السعادة بالشهادة .
وكانت (مارية) ـ ابنة سعد أو منقذ ـ من الشيعة المُخلصين ودارها مَألَفاً لهم يتحدّثون فيه فضل أهل البيت (عليهم السلام) فقال يزيد بن نبيط ـ وهو من عبد القيس ـ لأولاده وهم عشرة : أيّكم يخرج معي ؟ فانتدب منهم اثنين عبد الله وعبيد الله وقال له أصحابه ـ في بيت تلك المرأة ـ : نخاف عليك أصحاب ابن زياد قال : والله لو قد استوَت أخفافها بالجُدَد لهانَ عليَّ طلبُ مَن طلبَني .
وصحبه مولاه عامر ،وسيف بن مالك والأدهم بن أُميّة فوافَوا الحسين بمكّة وضمّوا رحلهم إلى رحله حتّى وردوا كربلاء وقُتلوا معه .
4 ـ وخطب الحسين (عليه السلام) في المسلمين عشيّة خروجه من مكّة وقال :
(خُطّ الموت على وُلد آدم مَخطّ القِلادة على جِيد الفتاة وما أَولَهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف وخُيّر لي مَصرَع أنا لاقيه .
كأنّي بأوصالي تُقطّعها عُسلان الفلَوات بين النواويس وكربلاء فيملأنّ منّي أكراشاً جوَفاً وأجربةً سغَباً لا مَحيص من يوم خُطّ بالقلم .
رضا الله رضانا أهل البيت . نصبر على بلائه ويُوَفّينا أُجور الصابرين .
لن تشذّ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لُحمته بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده .
ألا ومَن كان فينا باذِلاً مُهجَته مُوطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإنّي راحل مُصبحاً إن شاء الله) .
وفي هذه الخطبة ينعى الإمام نفسه ويستنصر المسلمين ويطلب منهم مُهجَهم ويطلب ممَّن يُريد أن يخرج معه أن يُوطِّن نفسه للقاء الله ويعلن للمسلمين أنّه يخرج غداً إلى العراق ومَن أراد أن يلتحق به فليعدّ نفسه للخروج منذ الليلة .
وهي دعوة غريبة من نوعها في تاريخ الثائرين والخارجين فلا يُمنّيهم الحسين (عليه السلام) بمُلك ولا سلطان وإنّما يدعوهم إلى القتل .
وهذه الدعوة بهذه الخصوصيّة ممّا تتميَّز بها ثورة الحسين (عليه السلام) في التاريخ عن غيرها من الثورات والحركات .
إنّ الحسين (عليه السلام) يطلب من الناس مُهجَهم ويطلب منهم أن ينتزعوا أنفسهم من الدنيا ويوطّنوا أنفسهم للقاء الله .
والحسين (عليه السلام) يقصد ما يقول .
ولو خرج يومئذٍ مع الحسين (عليه السلام) ناس يريدون الدنيا وليس وجه الله ويطلبون المال والسلطان في خروجهم مع الحسين (عليه السلام) ؛ لأخلّوا بهذه الحركة وأفقدوها قيمتها وتأثيرها العميق الخالد في التاريخ .
وبهذه الطريقة يُعلن الحسين (عليه السلام) ـ من بدء خروجه ـ عن رفضه لأُولئك الذين يريدون أن يلتحقوا به للمال والسُلطان والدنيا .
هذه الخطبة عجيبة في لَهْجتها عجيبة في مضامينها ودعوتها وتتضمَّن الاستنصار والاستماتة والترغيب والتزهيد والدعوة والرفض .
5 ـ في الحاجر :
ولمّا بلغ الحاجر من بطن الرمة كتب إلى أهل الكوفة جواب كتاب مسلم ابن عقيل وبعثه مع قيس بن مسهر الصيداوي وفيه : (أمّا بعد فقد ورَد عليَّ كتاب مسلم بن عقيل يُخبرني باجتماعكم على نصرنا والطلب بحقّنا فسألت الله أن يُحسن لنا الصنع ويُثيبكم على ذلك أعظم الأجر وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحُجّة فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم فإنّي قادم في أيّامي هذه) .
ولمّا وصل قيس إلى القادسيّة أخذه الحُصين بن نمير التميمي ـ وكان صاحب شرَطة ابن زياد ـ أمَره أن ينظِم الخيل ما بين القادسيّة إلى خفان ومنها إلى القُطْقطانة فأراد أن يُفتِّشه فأخرج قيس الكتاب وخرّقه .
ولمّا مثُل بين يدي ابن زياد قال : لماذا خرّقت الكتاب ؟ قال : لئلاّ تطَّلع عليه فأصرّ ابن زياد على الإخبار بما فيـه فأبى قيس فقال : إن لم تخبرني فاصعد المنبر وسُبّ الحسين وأباه وأخاه وإلاّ قطّعتُك إرباً إرباً .
فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ وآله وأكثر من الترحُّم على أمير المؤمنين والحسن والحسين ولعن عُبيد الله بن زياد وأباه وبني أُميّة .
ثُمّ قال : أيّها الناس أنا رسول الحسين إليكم وقد خلّفته في موضع كذا فأجيبوه .
فأمر ابن زياد أن يُرمَى من أعلى القصر فتكسّرت عظامه ومات .
ويُقال : أمر ابن زياد أن يُرمى مكتوفاً فرُمي من أعلى القصر وكان به رَمَق فقام إليه عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه فعِيب عليه قال : أردتُ أن أُريحه .
6 ـ في زرود :
ونزل الحسين في زرود ونزل بالقرب منه زهير بن القَين البجلي وكان غير مُشايع له ويكره النزول معه ولكنّ الماء جمعهم في المكان .
روى السدّي عن رجل من بني فزارة ـ كان يُرافِق زهيراً (رحمه الله) في السفر الّذي التحق فيه بالحسين ـ قال :
(كُنّا مع زهير بن القَين البجلي (رحمه الله) حين أقبلنا مكّة نُساير الحسين (عليه السلام) فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نُسايره في منزله فإذا سار الحسين (عليه السلام) تخلّف زهير بن القَين وإذا نزل الحسين تقدَّم زهير حتّى نزلنا يومئذ في منزل لم نجد بُدّاً من أن نُنازِله فيه فنزل الحسين (عليه السلام) في جانب ونزلنا في جانب فبينما نحن جلوس نتغذّى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين (عليه السلام) حتّى سلّم ثُمّ دخل فقال :
يا زهير بن القَين إنّ أبا عبد الله الحسين بن علي (عليهما السلام) بعثني إليك لتأتيه قال : فطرح كلّ إنسان ما في يده حتّى كأنّنا على رؤوسنا الطَير .
قال أبو مَخنف : فحدّثتني دلهم بنت عمرو ـ امرأة زهير بن القَين ـ قالت فقلت له : أيبعث إليك ابن رسول الله ثُمّ لا تأتيه ؟! سبحان الله ! لو أتيته فسمعت من كلامه ثُمّ انصرفت .
قالت : فأتاه زهير بن القَين فما لبث أن جاء مُستبشِراً قد أسفر وجهه .
قالت : فأمر بفسطاطه وثِقْله ومتاعه فقَدم [ فقوّض ظ ] وحُمِل إلى الحسين (عليه السلام) ثمّ قال لامرأته : أنتِ طالق الحقي بأهلك فإنّي لا أُحبّ أن يُصيبك بسببي إلاّ خير) .
وفي رواية الملهوف قال : (قد عزمتُ على صُحبة الحسين (عليه السلام) لأفديه بنفسي ، وأقيه بروحي ثُمّ أعطاها مالها وسلَّمها إلى بعض بني عمِّها ليُوصلها إلى أهلها فقامت إليه وبكَتْ وودّعته وقالت : كان الله عوناً ومُعيناً خارَ الله لك أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين (عليه السلام) .
قال الطبري : ثُمّ قال لأصحابه : مَن أحبَّ منكم أن يتبعني وإلاّ فإنّه آخِر العهد إنّي سأُحدِّثكم حديثاً : غزونا بَلَنْجَر ففتحَ الله علينا وأصبنا غنائم فقال لنا سلمان الباهلي ـ وفي روايات أُخر سلمان الفارسي (رضي الله عنه) ـ : أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من المغانم ؟! فقلنا : نعم فقال : إذا أدركتم سيّد شباب آل محمّد (عليهم السلام) فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم بما أصبتم من الغنائم .
فأمّا أنا فإنّي أستودعكم الله .
قال : ثُمّ والله ما زال في أوّل القوم حتّى قُتل (رضوان الله عليه) .
وفي القمقام : (بلنجر ـ بفتح الموحّدة واللام وسكون النون وجيم مفتوحة وراء ـ : مدينة ببلاد الخَزَر خلف باب الأبواب قالوا : فتحها عبد الرحمان بن ربيعة .
وقال البلاذري : سلمان (أي فتحها سلمان) بن ربيعة الباهلي وتجاوزها ولَقِيَه خاقان في جيشه خلف بلنجر فاستشهد هو وأصحابه وكانوا أربعة آلاف وكان في أوّل الأمر قد خافهم التُرك وقالوا إنّ هؤلاء ملائكة لا يعمل فيهم السلاح فاتّفق أنّ تركيّاً اختفى في غيضه (يعني بيشه) ورشقَ مسلماً بسَهم فقتله فنادى في قومه أنّ هؤلاء يموتون كما تموتون فلِمَ تخافونهم فأجرَوا عليهم وأوقعوهم حتّى استشهد عبد الرحمان بن ربيعة وأخذ الراية أخوه ولم يزل يُقاتل حتّى أمكنه دفن أخيه بنواحي (بلنجر) ورجع ببقيّة المسلمين على طريق جيلان وقُتل سلمان بن ربيعة وأصحابـه وكانوا ينظرون في كلّ ليلة نوراً على مصارعهم فأخذوا سلمان بن ربيعة وجعلوه في تابوت فهُم يستسقون به إذا فحطوا (منه) .
واحتمل أنّ الكلمة (بالبَحْرِ) وليس (بَلَنْجر) وقد اخطأ النُسّاخ في كتابة الكلمة .
وقد بدأ المسلمون في ذلك التاريخ بغزوات البحر .
7 ـ في قصر بني مقاتل :
وفي قصر بني مقاتل رأى فسطاطاً مضروباً ورُمحاً مركوزاً وفرساً واقفاً فسأل عنه فقيل : هو لعبيد الله بن الحُرّ الجعفي وبعث إليه الحجّاج بن مسروق الجعفي فسأله ابن الحُرّ عمّا وراءه ؟
قال : هدية إليك وكرامة إن قبلتها . هذا حسين يدعوك إلى نُصرته فإن قاتلت بين يديه أُجِرت وإن قُتلت استشهدت .
فقال ابن الحُرّ : والله ما خرجتُ مِن الكوفة إلاّ لكثرة ما رأيته خارجاً لمُحاربته وخذلان شيعته فعلمت أنّه مقتول ولا أقدر على نصره ولست أُحبّ أن يراني وأراه .
فأعاد الحجّاج كلامه على الحسين فقام (صلوات الله عليه) ومشى إليه في جماعة من أهل بيته وصحْبه فدخل عليه الفسطاط فوسَّع له عن صدر المجلس .
يقول ابن الحُرّ : ما رأيت أحداً قطّ أحسن مِن الحسين ولا أملأ للعَين منه ولا رققتُ على أحدٍ قطّ رقّتي عليه حين رأيته يمشي والصبيان حَوله ونظرت إلى لحيَته فرأيتها كأنّها جناح غراب فقلت له أَسَواد أم خضاب ؟ .
قال : (يا ابن الحُرّ عجَّلَ عليّ الشيب) فعرفت أنّه خضاب .
ولمّا استقر المجلس بأبي عبد الله حمَد الله وأثنى عليه ثُمّ قال : (يابن الحرّ إنّ أهل مِصْركم كتبوا إليّ أنّهم مجتمعون على نصرتي وسألوني القدوم عليهم وليس الأمر على ما زعموا . وإنّ عليك ذنوباً كثيرة فهل لك مِن توبة تُمحي بها ذنوبك ؟!) .
قال : وما هي يا ابن رسول الله ؟ فقال : (تنصر ابن بنت نبيّك وتُقاتل معه) .
فقال ابن الحُرّ : والله إنّي لأعلم أنّ مَن شايعك كان السعيد في الآخرة ولكن ما عسى أن أُغني عنك ولم أُخلّف لك بالكوفة ناصراً ؟ فأُنشدك الله أن تحملني على هذه الخطّة فإنّ نفسي لا تسمح بالموت ولكن فرَسي هذه (الملحقة) ـ والله ـ ما طلبت عليها شيئاً قطّ إلاّ لحِقته ولا طلبني أحد وأنا عليها إلاّ سبقته فخُذها فهي لك .
قال الحسين : (أمّا إذا رغبت بنفسك عنّا فلا حاجة لنا في فرَسك ولا فيك وما كنتُ مُتّخذ المُضلّين عضداً . وأنّي أنصحك كما نصحتني إن استطعت أن لا تسمع صراخنا ولا تشهد وقعتنا فافعل فو الله لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا إلاّ أكبّه الله في نار جهنّم) .
وندِم ابن الحُرّ على ما فاته مِن نصرة الحسين (عليه السلام) فأنشأ :
أيـا لَـك حسرةً ما دمتُ iiحيّاً تـردَّد بـين صدري والتراقي
غَـداة يقولُ لي بالقصر iiقولاً أتـتـركنا وتـعزم iiبـالفِراقِ
حسينٌ حين يطلب بذْل نصري عـلى أهـل العداوة iiوالشِقاقِ
فـلو فـلَقَ الـتلهّف قلب iiحُرٍّ لـهَمَّ الـيوم قـلبي iiبـانفلاقِ
ولـو واسـيتُه يـوماً iiبنفسي لـنلتُ كـرامة يـوم الـتلاقِ
مـع ابـن محمّد تُفديه iiنفسي فـودّع ثُـمّ أسـرع iiبانطلاق
لـقد فاز الأُلى نصروا iiحُسيناً وخـاب الآخَرون ذَووا iiالنفاق
وفي هذا الموضع اجتمع به عمرو بن قيس المشرقي وابن عمّه فقال لهما الحسين : (جئتما لنُصرتي ؟!) قالا له : إنّا كثيروا العيال وفي أيدينا بضائع للناس ولم ندرِ ماذا يكون ونَكْره أن نُضيِّع الأمانة .
فقال لهما (عليه السلام) : (انطلقا فلا تسمعا لي واعية ولا ترَيا لي سواداً فإنّه مَن سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يُجيبنا كان حقّاً على الله عزّ وجلّ أن يكبّه على مِنْخريه في النار) .
8 ـ في منزل شراف :
وفي (شراف) طلع عليهم الحُرّ الرياحي بألف فارس بعثه ابن زياد ليحبس الحسين (عليه السلام) عن الرجوع إلى المدينة أينما يجده أو يقْدِم به إلى الكوفة .
فسقاهم الحسين (عليه السلام) ماءً وكانوا عطاشى ثُمّ خطب فيهم الحسين (عليه السلام) وقال : إنّها معذرة إلى الله عزّ وجلّ وإليكم وإنّي لم آتكم حتّى أتتني كُتبُكم وقدِمت بها عليَّ رُسلُكم أن اقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام ولعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فاعطوني ما أطمئنّ به مِن عهودكم ومواثيقكم وإن كنتم لمقدَمي كارهين انصرفت عنكم .
9 ـ في منزل البيضة :
وفي منزل البيضة خطب الحسين (عليه السلام) في أصحاب الحُرّ فقال : (أيّها الناس إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : (مَن رأى سُلطاناً جائراً مُستحِلاًّ لحرام الله
ناكثاً عهده مُخالِفاً لسُنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يُغيِّر عليه بفِعلٍ ولا قول كان حقّاً على الله أن يُدخله مَدخله .
ألا وأنّ هؤلاء قد لزِموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفـيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقّ من غيّر وقد أتتني كُتبكم وقدِمَت عليَّ رسُلُكم أنّكم لا تسلّموني ولا تخذلوني فإن تممتُم على بيعتكم تصيبوا رُشدكم فأنا الحسين بن عليّ وأمّي فاطمة بنت رسول الله . نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم ولكم فيَّ أُسوة وإن لم تفعلوا ونقضْتُم عهدكم وخلعتُم بيعتي مِن أعناقكم فلَعمري ما هي لكم بنُكـر . لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مُسلم . فالمغرور مَن اغترّ بكم . فحظّكم أخطأتم ونصيبكم ضيّعتم ومَن نكث فإنّما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته) .
10 ـ في كربلاء :
وفي كربلاء أقبل حبيب بن مظاهر الأسدي إلى الحسين بن عليّ (عليهما السلام) فقال : هاهنا حيّ مِن بني أسد بالقرب منّا أتأذن لي أن أسير إليهم أدعوهم إلى نصرتك ؟ فعسى الله أن يدفع بهم عنك بعض ما تكره فقال له الحسين (عليه السلام) : قد أذِنتُ لك يا حبيب .
قال : فخرج حبيب بن مظاهر في جوف الليل متنكّراً حتّى صار إلى أولئك القوم فحيّاهم وحيّوه وعرفوا أنّه مِن بني أسد فقالوا : ما حاجتك ؟ يا ابن عمّ ! فقال : حاجتي إليكم قد أتيتكم بخير ما أتى به وافدٌ إلى قوم أتيتكم أدعوكم إلى نصرة ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فإنّه في عصابة مِن المؤمنين الرجُل منهم خيرٌ مِن ألف رجُل لن يخذلوه ولن يُسلموه وفيهم عينٌ نظرَت وهذا عمَر بن سعد قد أحاط به في اثنين وعشرين ألف وأنتم قومي وعشيرتي وقد جئتكم بهذه النصيحة فأطيعوني اليوم في نصرته تنالون غداً شرفاً في الآخرة فإنّي أُقسم بالله أنّه لا يُقتَل منكم رجُل مع ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صابراً محتسباً إلاّ كان رفيق محمّد (صلّى الله عليه وآله) في أعلى علّيين .
قال : فوَثب رجُل مِن بني أسد يُقال له بشر بن عبيد الله فقال : والله أنا أوّل مَن أجاب إلى هذه الدعوة ثمّ أنشأ يقول :
قد علِم القوم إذا توَاكلوا وأحجم الفُرسان أو تناصلوا
إنّي شجاع بطل مقاتل كأنّني ليث عرين باسل
قال : ثمّ تبادر رجال الحيّ مع حبيب بن مظاهر الأسدي .
قال : وخرج رجُل مِن الحيّ في ذلك الوقت حتّى صار إلى عمَر بن سعد في جوف الليل فخبّره بذلك فأرسل عمَر رجُلاً من أصحابه يُقال له الأزرق بن حرب الصيداوي فضمّ إليه أربعة آلاف فارس ووجّه به في الليل إلى حيّ بني أسد مع الرجُل الذي جاء بالخبر .
قال : فبينما القوم في جوف الليل قد أقبلوا يريدون معسكر الحسين إذ استقبلهم جُند عمَر بن سعد على شاطىء الفرات قال : فتناوش القوم بعضهم [بعضاً] واقتتلوا قتالاً شديداً صاح به حبيب بن مظاهر : ويلك يا أزرق ما لك ولنا دعْنا ؟ قال : واقتتلوا قتالاً شديداً
فلمّا رأى القوم ذلك انهزموا راجعين إلى منازلهم فرجع حبيب بن مظاهر إلى الحسين (عليه السلام) فأعلمه بذلك الخبر فقال : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم .
11 ـ وفي كربلاء دعا الحسين (عليه السلام) بدَواة وبيضاء وكتَب إلى أشراف الكوفة ممّن كان يظنّ أنّه على رأيه :
(بسم الله الرحمن الرحيم مِن الحسين بن عليّ إلى سليمان بن صرد الخزاعي .
أمّا بعد فقد علِمتُم أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد قال في حياته : مَن رأى سلطاناً جائراً إلى آخِر ما ذكره في خطبة الأصحاب) .