حياة الامام الحسين قبل مقتله
مقتل الامام عليه السلام

كان خروج مسلم بن عقيل رضي اللّه عنه بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين و قتله لتسع خلون منه يوم عرفة و كان توجه الحسين (عليه السلام) من مكة إلى العراق يوم خروج مسلم بالكوفة و هو يوم التروية بعد مقامه بمكة بقية شعبان و شهر رمضان و شوالا و ذا القعدة و ثماني ليال خلون من ذي الحجة سنة ستين و كان قد اجتمع إليه (عليه السلام) مدة مقامه بمكة نفر من أهل الحجاز و نفر من أهل البصرة انضافوا إلى أهل بيته و مواليه.
و لما أراد الحسين (عليه السلام) التوجه إلى العراق طاف بالبيت و سعى بين الصفا و المروة و أحل من احرامه و جعلها عمرة لأنه لم يتمكن من تمام الحج مخافة أن يقبض عليه بمكة فينفذ به إلى يزيد بن معاوية .
فقد روي أنه لما كان يوم التروية قدم عمرو بن سعيد بن العاص‏ إلى مكة في جند كثيف قد أمره يزيد أن يناجز الحسين (عليه السلام) القتال‏ ان هو ناجزه أو يقاتله إن قدر عليه فخرج الحسين (عليه السلام) يوم التروية .
قلت: و روي عن ابن عباس قال: رأيت الحسين (عليه السلام) قبل أن يتوجه إلى العراق على باب الكعبة و كف جبرئيل (عليه السلام) في كفه و جبرئيل ينادي هلموا إلى بيعة اللّه عز و جل‏ .
و روي أنه لما عزم على الخروج إلى العراق قام خطيبا و قال: الحمد للّه ما شاء اللّه و لا قوة إلا باللّه و صلى اللّه على رسوله خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة و ما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف و خير لي مصرع أنا ألاقيه كأني بأوصالي تتقطعها عسلان الفلوات بين النواويس و كربلا فيملأن مني أكراشا جوفا و أجربة سغبا لا محيص عن يوم خط بالقلم رضى اللّه رضانا أهل البيت نصبر على بلائه و يوفينا أجر الصابرين لن تشذ عن رسول اللّه لحمته و هي مجموعة له في حظيرة القدس تقر بهم عينه و ينجز بهم وعده من كان باذلا فينا مهجته و موطنا على لقاء اللّه نفسه فليرحل معنا فإنني راحل مصبحا إنشاء اللّه‏ .
أقول: قال شيخنا المحدث النوري ره في كتاب نفس الرحمن و النواويس مقابر النصارى كما في حواشي الكفعمي (في عوذة يوم الجمعة) و سمعنا أنها في المكان الذي فيه مزار حر بن يزيد الرياحي من شهداء الطف و هو ما بين الغرب و شمال البلد.
و أما كربلا فالمعروف عند أهل تلك النواحي أنها قطعة من الأرض الواقعة في جنب نهر يجري من قبلي سور البلد و يمر بمزار المعروف بابن حمزة منها بساتين و منها مزارع و البلد واقع بينهما. انتهى‏ .
روي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سار (جاء خ ل) محمد بن الحنفية إلى الحسين (عليه السلام) في الليلة التي أراد الخروج في صبيحتها عن مكة فقال:
يا أخي ان أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك و أخيك و قد خفت أن يكون حالك كحال من مضى فإن رأيت أن تقيم فإنك أعز من في الحرم و أمنعه. فقال:
يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت. فقال له ابن الحنفية: فإن خفت فسر إلى اليمن أو بعض نواحي البر فإنك أمنع الناس به و لا يقدر عليك. فقال: انظر فيما قلت.
فلما كان في السحر ارتحل الحسين عليه السلام فبلغ ذلك ابن الحنفية فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها فقال له: يا أخي أ لم تعدني النظر فيما سألتك قال:
بلى. قال: فما حداك على الخروج عاجلا؟ فقال: أتاني رسول اللّه (صلى اللّه‏ عليه و آله) بعد ما فارقتك فقال: يا حسين اخرج فإن اللّه قد شاء أن يراك قتيلا. فقال له ابن الحنفية: انا للّه و إنا إليه راجعون فما معنى حملك هؤلاء النساء معك و أنت تخرج على مثل هذه الحال. قال: فقال له: قد قال لي: إن اللّه قد شاء أن يراهن سبايا. و سلم عليه فمضى‏ .
و عن حمزة بن حمران عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: ذكرنا خروج الحسين (عليه السلام) و تخلف ابن الحنفية عنه فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: يا حمزة إني سأحدثك بحديث لا تسأل عنه بعد مجلسنا هذا إن الحسين (عليه السلام) لما فصل متوجها أمر بقرطاس و كتب:
بسم اللّه الرحمن الرحيم. من الحسين بن علي إلى بني هاشم أما بعد فإنه من لحق بي منكم استشهد و من تخلف عني لم يبلغ الفتح. و السلام .
و عنه (عليه السلام) أيضا قال: إن الحسين بن علي (عليه السلام) لما سار إلى العراق استودع أم سلمة الكتب و الوصية فلما رجع علي بن الحسين عليهما السلام دفعتها إليه‏ .
قال المسعودي في إثبات الوصية: و لما عزم الحسين (عليه السلام) على الخروج إلى العراق بعد أن كاتبه أهل الكوفة و وجه مسلم بن عقيل إليهم على مقدمته فكان من أمره ما كان و أراد الخروج بعثت إليه أم سلمة إني أذكرك اللّه يا سيدي أن لا تخرج. قال: و لم؟ قالت: سمعت رسول اللّه (صلى اللّه‏ عليه و آله) يقول: يقتل الحسين ابني بالعراق و أعطاني من التربة في قارورة أمرني بحفظها و مراعاة ما فيها. فبعث إليها: و اللّه يا أمه إني لمقتول لا محالة فأين المفر من قدر اللّه المقدور ما من الموت بد و إني لأعرف اليوم و الساعة و المكان الذي أقتل فيه و أعرف مكان مصرعي و البقعة التي أدفن فيها و أعرفها كما أعرفك فإن أحببت أن أريك مضجعي و مضجع من يستشهد معي فعلت. قالت: قد شئت و حضرته.
فتكلم باسم اللّه عز و جل الأعظم فانخفضت الأرض حتى أراها مضجعه و مضجعهم و أعطاها من التربة حتى خلطها بما كان معها ثم قال لها: إني أقتل في يوم عاشوراء و هو يوم عاشوراء بعد صلاة الزوال فعليك السلام رضي اللّه عنك يا أمه برضانا عنك. و كانت أم سلمة تسأل عن خبره و تراعي قرب عاشوراء .
و قال في مروج الذهب: فلما هم الحسين (عليه السلام) بالخروج إلى العراق أتاه ابن عباس فقال له: يا بن عم قد بلغني أنك تريد العراق و انهم أهل غدر و إنما يدعونك للحرب فلا تعجل و ان أبيت إلا محاربة هذا الجبار و كرهت المقام بمكة فاشخص إلى اليمن فإنها في عزلة و لك فيها أنصار و إخوان فأقم بها و بث دعاتك و اكتب إلى أهل الكوفة و أنصارك بالعراق فيخرجوا أميرهم فإن قووا على ذلك و نفوه عنها و لم يكن بها أحد يعاديك أتيتهم و ما أنا بغدرهم بآمن و إن لم يفعلوا أقمت بمكانك إلى أن يأتي اللّه بأمره فإن فيها حصونا و شعابا.
فقال الحسين عليه السلام: يا بن عم إني لأعلم أنك [لي‏] ناصح و علي شفيق و لكن مسلم بن عقيل كتب إلي باجتماع أهل المصر على بيعتي و نصرتي و قد أجمعت على المسير.
قال: إنهم من جربت و جربت‏ و هم أصحاب أبيك و أخيك و قتلتك غدا مع أميرهم إنك لو خرجت فبلغ ابن زياد خروجك استنفرهم إليك و كان الذين كتبوا إليك أشد من عدوك فإن عصيتني فأبيت إلا الخروج إلى الكوفة فلا تخرجن نساءك و ولدك معك فو اللّه إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان و نساؤه و ولده ينظرون إليه‏ .
فكان الذي رد عليه: لأن أقتل و اللّه بمكان كذا أحب إلي من أن أستحل بمكة. فيئس ابن عباس منه و خرج من عنده فمر بعبد اللّه بن الزبير فقال: قرت عينك يا بن الزبير و أنشد:
يا لك من قبرة بمعمر خلا لك الجو فبيضي و اصفري‏
و نقري ما شئت أن تنقري‏
هذا حسين يخرج إلى العراق و يخليك و الحجاز.
و بلغ ابن الزبير أنه (عليه السلام) يريد الخروج إلى الكوفة و هو أثقل الناس عليه قد غمه مكانه بمكة لأن الناس ما كانوا يعدلونه بالحسين (عليه السلام) فلم يكن شي‏ء يؤتاه أحب إليه من شخوص الحسين (عليه السلام) عن مكة فقال: أبا عبد اللّه ما عندك؟ فو اللّه لقد خفت اللّه في ترك جهاد هؤلاء القوم على ظلمهم و استذلالهم الصالحين من عباد اللّه. فقال الحسين عليه السلام: قد عزمت على إتيان الكوفة.
فقال: وفقك اللّه أما لو أن لي مثل أنصارك ما عدلت عنها. ثم خاف أن يتهمه فقال: و لو أقمت بمكانك فدعوتنا و أهل الحجاز إلى بيعتك أجبناك و كنا إليك سراعا و كنت أحق بذلك من يزيد و أبي يزيد.
و دخل أبو بكر بن الحارث بن هشام‏ على الحسين (عليه السلام) فقال: يا ابن عم ان الرحم يظأرني عليك و لا أدري كيف أنا في النصيحة لك. فقال: يا أبا بكر ما أنت ممن يستغش‏ . فقال أبو بكر: كان أبوك أشد بأسا و الناس له أرجى و منه أسمع و عليه أجمع فسار إلى معاوية و الناس مجتمعون عليه إلا أهل الشام و هو أعز منه فخذلوه و تثاقلوا عنه حرصا على الدنيا و ضنا بها فجرعوه الغيظ و خالفوه حتى صار إلى ما صار إليه من كرامة اللّه و رضوانه ثم صنعوا بأخيك بعد أبيك ما صنعوا و قد شهدت ذلك كله و رأيته ثم أنت تريد أن تسير إلى الذين عدوا على أبيك و أخيك تقاتل بهم أهل الشام و أهل العراق و من هو أعد منك و أقوى و الناس منه أخوف و له أرجى فلو بلغهم مسيرك إليهم لاستطغوا الناس بالأموال‏ و هم عبيد الدنيا فيقاتلك من قد وعدك أن ينصرك و يخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره فاذكر اللّه في نفسه (نفسك. المصدر) فقال الحسين عليه السلام: جزاك اللّه خيرا يا بن عم فقد أجهدت رأيك و مهما يقض اللّه يكن. فقال: عند اللّه نحتسبك أبا عبد اللّه‏ .
و روى الشيخ ابن قولويه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الحسين (عليه السلام) خرج من مكة قبل التروية بيوم فشيعه عبد اللّه بن الزبير فقال: يا أبا عبد اللّه قد حضر الحج و تدعه و تأتي العراق. فقال: يا بن الزبير لأن ادفن بشاطئ الفرات أحب إلي من أن أدفن بفناء الكعبة .
و في تاريخ الطبري قال: قال أبو مخنف: قال أبو جناب يحيى بن أبي حية عن عدي بن حرملة الأسدي عن عبد اللّه بن سليم و المذري بن المشمعل الأسديين قالا: خرجنا حاجين من الكوفة حتى قدمنا مكة فدخلنا يوم التروية فإذا نحن بالحسين و عبد اللّه بن الزبير قائمين عند ارتفاع الضحى فيما بين الحجر و الباب.
قالا: فتقربنا منهما فسمعنا ابن الزبير و هو يقول للحسين عليه السلام: إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هذا الأمر فآزرناك و ساعدناك و نصحنا لك و بايعناك. فقال الحسين عليه السلام: إن أبي حدثني أن بها كبشا يستحل حرمتها فما أحب أن أكون أنا ذلك الكبش. فقال له ابن الزبير: فأقم إن شئت و توليني أنا الأمر فتطاع و لا تعصى. فقال: و ما أريد هذا أيضا. قالا: ثم إنهما أخفيا كلامهما دوننا فما زالا يتناجيان حتى سمعنا دعاء الناس رائحين متوجهين إلى منى عند الظهر. قالا:
فطاف الحسين (عليه السلام) بالبيت و بين الصفا و المروة و قص من شعره و حل من عمرته ثم توجه نحو الكوفة و توجهنا نحو الناس إلى منى‏ .
و في تذكرة السبط: و لما بلغ محمد بن الحنفية رضي اللّه عنه مسيره و كان‏ يتوضأ و بين يديه طست فبكى حتى ملأه من دموعه. و لم يبق بمكة إلا من حزن لمسيره و لما أكثروا عليه أنشد أبيات أخي الأوس:
سأمضي فما في الموت عار على الفتى‏ إذا ما نوى خيرا و جاهد مغرما
و آسى الرجال الصالحين بنفسه‏ و فارق مثبورا و خالف مجرما
و إن عشت لم أذمم و إن مت لم ألم‏ كفى بك ذلا أن تعيش و ترغما
ثم قرأ {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38] .
يوم التروية مبادرا بأهله و ولده و من انضم إليه من شيعته و هم اثنان و ثمانون رجلا كما في مطالب السئول‏ و غيره و لم يكن خبر مسلم قد بلغه لخروجه في يوم خروجه على ما ذكرناه.
و في كتاب المخزون في تسلية المحزون: جمع الحسين (عليه السلام) أصحابه الذين قد عزموا على الخروج معه إلى العراق و أعطى كل واحد منهم عشرة دنانير و جملا يحمل عليه رحله و زاده و رحل عن مكة يوم الثلاثاء يوم التروية لثمان مضت من ذي الحجة و معه اثنان و ثمانون رجلا من شيعته و محبيه و مواليه و أهل بيته. انتهى‏ .
و روي عن الفرزدق الشاعر قال: حججت بأمي في سنة ستين فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم إذ لقيت الحسين خارجا من مكة معه أسيافه و تراسه‏ فقلت: لمن هذا القطار؟ فقيل: للحسين بن علي عليه السلام. فأتيته‏ فسلمت عليه فقلت له: أعطاك اللّه سؤلك و أملك فيما تحب بأبي أنت و أمي يا بن رسول اللّه ما أعجلك من الحج؟ فقال: لو لم أعجل لأخذت. ثم قال لي: من أنت قلت: امرؤ من العرب فلا و اللّه ما فتشني عن أكثر من ذلك ثم قال لي: أخبرني عن الناس خلفك. فقلت: الخبير سألت‏ قلوب الناس معك و أسيافهم عليك و القضاء ينزل من السماء و اللّه يفعل ما يشاء. فقال: صدقت للّه الأمر و كل يوم ربنا في شأن إن نزل (ينزل خ ل) القضاء بما نحب فنحمد اللّه على نعمائه و هو المستعان على أداء الشكر و إن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعد من كان الحق نيته و التقوى سريرته. فقلت له: أجل بلغك اللّه ما تحب و كفاك ما تحذر و سألته عن أشياء من نذور و مناسك فأخبرني بها و حرك راحلته و قال: السلام عليك. ثم افترقنا .
و كان الحسين بن علي (عليه السلام) لما خرج من مكة اعترضه يحيى بن سعيد بن العاص و معه جماعة أرسلهم عمرو بن سعيد إليه فقالوا له: انصرف أين تذهب فأبى عليهم و مضى و تدافع الفريقان و اضطربوا (و تضاربوا خ ل) بالسياط و امتنع الحسين (عليه السلام) و أصحابه عنهم امتناعا قويا.
و في العقد الفريد: لما بلغ عمرو بن سعيد أن حسينا قد خرج فقال: اطلبوه اركبوا كل بعير بين السماء و الأرض فاطلبوه. فقال: فعجب الناس من قوله هذا فطلبوه فلم يدركوه. انتهى‏ .
و سار حتى أتى التنعيم‏ فلقي بها عيرا قد أقبلت من اليمين بعث بها بحير ابن ريسان من اليمن إلى يزيد بن معاوية و كان عامله على اليمن و على العير الورس و الحلل فأخذه الحسين (عليه السلام) و قال لأصحاب الابل: من أحب منكم أن يمضي معنا إلى العراق أوفينا كراءه و أحسنا صحبته و من أحب أن يفارقنا من مكاننا أعطيناه نصيبه من الكراء فمن فارق منهم أعطاه حقه و من سار معه أعطاه كراءه و كساه‏ .
قال الجزري: ثم سار حتى انتهى إلى الصفاح‏ لقيه الفرزدق الشاعر. ثم ذكر قريبا مما ذكرناه ثم قال: و أدرك الحسين (عليه السلام) كتاب عبد اللّه بن جعفر مع ابنيه عون و محمد و فيه: أما بعد فإني أسألك باللّه لما انصرفت حين تقرأ كتابي هذا فإني مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك و استيصال أهل بيتك إن هلكت اليوم طفئ نور الأرض فإنك علم المهتدين و رجاء المؤمنين فلا تعجل بالمسير فإني في آخر كتابي. و السلام .
قال الطبري: و قام عبد اللّه بن جعفر إلى عمرو بن سعيد بن العاص فكلمه و قال: أكتب إلى الحسين (عليه السلام) كتابا تجعل له فيه الأمان و تمنيه فيه البر و الصلة و توثق له في كتابك و تسأله الرجوع لعله يطمئن إلى ذلك فيرجع. فقال عمرو بن سعيد: اكتب ما شئت و أتني به حتى أختمه و ابعث به مع أخيك (أخي ظ) يحيى بن سعيد فإنه أحرى أن تطمئن نفسه إليه و يعلم أنه الجد منك ففعل.
و كان عمرو بن سعيد عامل يزيد بن معاوية على مكة. قال: فلحقه يحيى و عبد اللّه بن جعفر ثم انصرفا بعد أن أقرأه يحيى الكتاب فقالا: اقرأناه الكتاب و جهدنا به و كان مما اعتذر به إلينا أن قال: إني رأيت رؤيا فيها رسول اللّه ((صلى اللّه‏ عليه و آله)) و أمرت فيها بأمر أنا ماض له على ما كان أولى. فقالا له: فما تلك الرؤيا؟
قال: ما حدثت أحدا بها و ما أنا محدث بها حتى ألقى ربي‏ .
و في رواية الارشاد: فلما آيس منه عبد اللّه بن جعفر أمر ابنيه عونا و محمدا بلزومه و المسير معه و الجهاد دونه و رجع مع يحيى بن سعيد إلى مكة .
قال الطبري: و كان كتاب عمرو بن سعيد إلى الحسين عليه السلام:
بسم اللّه الرحمن الرحيم. من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي عليهما السلام أما بعد فإني أسأل اللّه أن يصرفك عما يوبقك و أن يهديك لما يرشدك بلغني أنك قد توجهت إلى العراق و أني أعيذك باللّه من الشقاق فإني أخاف عليك فيه الهلاك و قد بعثت إليك عبد اللّه بن جعفر و يحيى بن سعيد فأقبل إلي معهما فإن لك عندي الأمان و الصلة و البر و حسن الجوار لك اللّه علي بذلك شهيد و كفيل و مراع و وكيل. و السلام عليك.
و كتب إليه الحسين عليه السلام:
أما بعد فإنه لم يشاقق اللّه و رسوله من دعا إلى اللّه عز و جل و عمل صالحا و قال إنني من المسلمين و قد دعوت إلى الأمان و البر و الصلة فخير الأمان أمان اللّه و لن يؤمن اللّه في الآخرة من لم يخفه في الدنيا فنسأل اللّه مخافة في الدنيا توجب لنا أمانة يوم القيامة فإن كنت نويت بالكتاب صلتي و بري فجزيت خيرا في الدنيا و الآخرة .
و توجه الحسين (عليه السلام) نحو العراق مغذا لا يلوي على شي‏ء حتى نزل ذات عرق‏ .
قلت: و ظهر معنى كلام أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه كما عن أمالي‏ الطوسي عن عمارة الدهني قال: سمعت أبا الطفيل يقول: جاء المسيب بن نجبة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) متلببا بعبد اللّه بن سبا فقال له أمير المؤمنين: ما شأنك؟ فقال له: يكذب على اللّه و رسوله. فقال: ما يقول؟ فلم أسمع‏ مقالة المسيب و سمعت عليا (عليه السلام) يقول: هيهات هيهات الغضب و لكن يأتيكم راكب الذعلبة يشد حقوها بوضينها لم يقض تفثا من حج و لا عمرة فيقتلونه‏ يريد بذلك الحسين بن علي عليهما السلام.
و لما بلغ الحسين (عليه السلام) ذات عرق‏ لقي بشر بن غالب واردا من العراق فسأله عن أهلها فقال: خلفت القلوب معك و السيوف مع بني أمية. فقال عليه السلام: صدق أخو بني أسد إن اللّه يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد .
و لما بلغ عبيد اللّه بن زياد اقبال الحسين بن علي عليهما السلام من مكة إلى الكوفة بعث الحصين بن تميم‏ صاحب شرطه حتى نزل القادسية و نظم الخيل بين القادسية إلى خفان و ما بين القادسية إلى القطقطانية و قال للناس: هذا الحسين يريد العراق‏ .
و عن محمد بن أبي طالب الموسوي قال: و اتصل الخبر بالوليد بن عتبة أمير المدينة بأن الحسين (عليه السلام) توجه إلى العراق فكتب إلى ابن زياد:
أما بعد فإن الحسين (عليه السلام) قد توجه إلى العراق و هو ابن فاطمة و فاطمة بنت رسول اللّه فاحذر يا بن زياد أن تأتي إليه بسوء فتهيج على نفسك و قومك أمرا في هذه الدنيا لا يصده شي‏ء و لا تنساه الخاصة و العامة أبدا ما دامت الدنيا. قال: فلم يلتفت ابن زياد إلى كتاب الوليد .
و حكي عن الرياشي‏ بإسناده إلى راوي حديثه قال: حججت و تركت أصحابي و انطلقت أتعسف الطريق وحدي فبينما أنا أسير إذ رفعت طرفي إلى أخبية و فساطيط فانطلقت نحوها حتى أتيت أدناها فقلت: لمن هذه الأبنية (الأخبية خ ل)؟ فقالوا: للحسين عليه السلام. قلت: ابن علي و ابن فاطمة؟ قالوا: نعم.
قلت: في أيها هو؟ قالوا: في ذلك الفسطاط. فانطلقت نحوه فإذا الحسين متك على باب الفسطاط يقرأ كتابا بين يديه فسلمت فرد علي فقلت: يا ابن رسول اللّه بأبي أنت و أمي ما أنزلك في هذه الأرض القفراء التي ليس فيها ريف و لا منعة.
قال: إن هؤلاء أخافوني و هذه كتب أهل الكوفة و هم قاتلي فإذا فعلوا ذلك و لم يدعوا للّه محرما إلا انتهكوه بعث اللّه إليهم من يقتلهم حتى يكونوا أذل من قوم الأمة .
أقول: يحتمل قويا أن يكون قوم الأمة مصحف فرام الأمة فإنه قد روي أن الحسين (عليه السلام) كان يقول: و اللّه لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي فإذا فعلوا سلط اللّه عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرام المرأة .
و الفرام ككتاب خرقة تجعلها المرأة في قبلها إذا حاضت‏ .
و لما بلغ الحسين (عليه السلام) الحاجر من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي و يقال: بل بعث أخاه من الرضاعة عبد اللّه بن يقطر الى أهل الكوفة و لم يكن (عليه السلام) علم بخبر مسلم بن عقيل رحمه اللّه و كتب معه إليهم:
بسم اللّه الرحمن الرحيم. من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين و المسلمين سلام عليكم فإني أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبر فيه بحسن رأيكم و اجتماع ملأكم على نصرنا و الطلب بحقنا فسألت اللّه عز و جل أن يحسن لنا الصنع و أن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر و قد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا (فانكمشوا خ ل) في أمركم وجدوا فإني قادم عليكم في أيامي هذه. و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته.
و كان مسلم كتب إليه (عليه السلام) قبل أن يقتل بسبع و عشرين ليلة:
أما بعد فإن الرائد لا يكذب أهله و قد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا فعجل الإقبال حين يأتيك كتابي.
و كتب إليه (عليه السلام) أهل الكوفة أن لك هاهنا مائة ألف سيف فلا تتأخر فأقبل قيس بن مسهر الصيداوي إلى الكوفة بكتاب الحسين (عليه السلام) حتى انتهى إلى القادسية أخذه الحصين بن تميم‏ فبعث به إلى عبيد اللّه بن زياد فقال له عبيد اللّه: اصعد فسب الكذاب بن الكذاب الحسين بن علي (عليه السلام) .
و في رواية أخرى: لما قارب دخول الكوفة اعترضه الحصين بن نمير صاحب عبيد اللّه ليفتشه فأخرج قيس الكتاب و مزقه (خرقه) فحمله الحصين إلى عبيد اللّه بن زياد فلما مثل بين يديه قال له: من أنت؟ قال: أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) و ابنه. قال: فلما ذا خرقت الكتاب؟ قال:
لئلا تعلم ما فيه. قال: و ممن الكتاب و إلى من؟ قال: من الحسين (عليه السلام) إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم. فغضب ابن زياد و قال: و اللّه لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم أو تصعد المنبر فتلعن الحسين بن علي و أباه و أخاه و إلا قطعتك إربا إربا. فقال قيس: أما القوم فلا أخبرك بأسمائهم و أما لعن الحسين و أبيه و أخيه فأفعل. فصعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه و صلى على النبي (صلى اللّه‏ عليه و آله) و أكثر من الترحم على علي و الحسن و الحسين صلوات اللّه عليهم ثم لعن عبيد اللّه بن زياد و أباه و لعن عتاة بني أمية عن آخرهم.
ثم قال: أيها الناس أنا رسول الحسين إليكم و قد خلفته بموضع كذا فأجيبوه. فأخبر ابن زياد بذلك فأمر بإلقائه من أعالي القصر فألقي من هناك فمات‏ .
و روي أنه وقع على الأرض مكتوفا فتكسرت عظامه و بقي به رمق فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه فقيل له في ذلك و عيب عليه فقال:
أردت أن أريحه‏ .
ثم أقبل الحسين (عليه السلام) من الحاجر يسير نحو العراق فانتهى إلى ماء من مياه العرب فإذا عليه عبد اللّه بن مطيع العدوي‏ و هو نازل به فلما رأى الحسين (عليه السلام) قام إليه فقال: بأبي أنت و أمي يا بن رسول اللّه ما أقدمك و احتمله فأنزله. فقال له الحسين: كان من موت معاوية ما قد بلغك فكتب إلي أهل‏ العراق يدعونني إلى أنفسهم.
فقال له عبد اللّه بن مطيع: أذكرك اللّه يا ابن رسول اللّه و حرمة الإسلام أن تنتهك أنشدك اللّه في حرمة قريش أنشدك اللّه في حرمة العرب فو اللّه لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك و لئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحدا أبدا و اللّه إنها لحرمة الإسلام تنتهك و حرمة قريش و حرمة العرب فلا تفعل و لا تأت الكوفة و لا تعرض نفسك لبني أمية. فأبى الحسين (عليه السلام) إلا أن يمضي.
و كان عبيد اللّه بن زياد أمر فأخذ ما بين واقصة إلى طريق الشام إلى طريق البصرة فلا يدعون أحدا يلج و لا أحدا يخرج‏ .
و أقبل الحسين (عليه السلام) لا يشعر بشي‏ء حتى لقي الأعراب فسألهم فقالوا: لا و اللّه ما ندري غير انا لا نستطيع أن نلج و لا نخرج. فسار تلقاء وجهه (عليه السلام) .
و روي أنه (عليه السلام) لما نزل الخزيمية أقام بها يوما و ليلة فلما أصبح أقبلت عليه أخته زينب عليها السلام فقالت: يا أخي أ لا أخبرك بشي‏ء سمعته البارحة؟ فقال الحسين عليه السلام: و ما ذاك؟ فقالت: خرجت في بعض الليل لقضاء حاجة فسمعت هاتفا يهتف و هو يقول:
ألا يا عين فاحتفلي بجهد و من يبكي على الشهداء بعدي‏
على قوم تسوقهم المنايا بمقدار إلى إنجاز وعد
فقال لها الحسين (عليه السلام) : يا أختاه كل الذي قضى فهو كائن‏ .
و في تاريخ الطبري: فأقبل الحسين (عليه السلام) حتى إذا كان بالماء فوق زرود . قال أبو مخنف: فحدثني السدي عن رجل من بني فزارة قال: لما كان زمن الحجاج بن يوسف كنا في دار الحرث بن أبي ربيعة التي في التمارين التي أقطعت بعد زهير بن القين رحمه اللّه من بني عمرو بن يشكر من بجيلة و كان أهل الشام لا يدخلونها فكنا مختبئين فيها. قال: فقلت للفزاري حدثني عنكم حين أقبلتم مع الحسين عليه السلام. قال: كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة نساير الحسين عليه السلام فلم يكن شي‏ء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل فإذا سار الحسين (عليه السلام) تخلف زهير بن القين و إذا نزل الحسين تقدم زهير حتى نزلنا يومئذ في منزل لم نجد بدا من أن ننازله فيه فنزل الحسين (عليه السلام) في جانب و نزلنا في جانب فبينا نحن جلوس نتغذى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين (عليه السلام) حتى سلم ثم دخل فقال: يا زهير بن القين إن أبا عبد اللّه الحسين بن علي عليهما السلام بعثني إليك لتأتيه. قال: فطرح كل إنسان ما في يده حتى كأننا على رءوسنا الطير.
قال أبو مخنف: فحدثتني دلهم بنت عمرو امرأة زهير بن القين قالت: فقلت له: أ يبعث إليك ابن رسول اللّه ثم لا تأتيه سبحان اللّه لو أتيته فسمعت من كلامه ثم انصرفت. قالت: فأتاه زهير بن القين فما لبث أن جاء مستبشرا قد أسفر وجهه. قالت: فأمر بفسطاطه و ثقله و متاعه فقدم (فقوض ظ) و حمل إلى الحسين (عليه السلام) ثم قال لامرأته: أنت طالق الحقي بأهلك فإني لا أحب أن يصبك بسببي إلّا خير .
و في رواية اللهوف قال: و قد عزمت على صحبة الحسين (عليه السلام) لأفديه بنفسي و أقيه بروحي. ثم أعطاها مالها و سلمها إلى بعض بني عمها ليوصلها إلى أهلها فقامت إليه و بكت و ودعته و قالت: كان اللّه عونا و معينا خار اللّه لك أسألك أن تذكرني في القيامة عند جد الحسين (عليه السلام) .
قال الطبري: ثم قال لأصحابه: من أحب منكم أن يتبعني و إلا فإنه آخر العهد إني سأحدثكم حديثا غزونا بلنجر ففتح اللّه علينا و أصبنا غنائم فقال لنا سلمان الباهلي- و في روايات أخر سلمان الفارسي رضي اللّه عنه- أ فرحتم بما فتح اللّه عليكم و أصبتم من المغانم؟ فقلنا: نعم. فقال: إذ أدركتم سيد شباب آل محمد عليهم السلام فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم بما أصبتم من الغنائم فأما أنا فإني أستودعكم اللّه. قال: ثم و اللّه ما زال في أول القوم حتى قتل رضوان اللّه عليه‏ .
و يأتي بعد ذلك أن زهيرا لما قتل مع الحسين (عليه السلام) بعثت زوجته غلاما له ليذهب إلى كربلا و يكفن مولاه.
و في تذكرة السبط: و كان زهير بن القين قد قتل مع الحسين (عليه السلام) و قالت امرأته لغلام له: اذهب فكفن مولاك فذهب فرأى الحسين (عليه السلام) مجردا فقال: اكفن مولاي و أدع الحسين عليه السلام لا و اللّه. فكفنه ثم كفن مولاه في كفن آخر .
و روى عبد اللّه بن سليمان و المنذر بن المشمعل الأسديان قالا: لما قضينا حجنا لم تكن لنا همة إلا اللحاق بالحسين (عليه السلام) في الطريق لننظر ما يكون من أمره فأقبلنا ترقل (أي تسرع) بنا ناقتانا مسرعين حتى لحقنا بزرود فلما دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين عليه السلام فوقف الحسين كأنه يريده ثم تركه و مضى و مضينا نحوه فقال أحدنا لصاحبه:
اذهب بنا إلى هذا لنسأله فإن عنده خبر الكوفة. فمضينا حتى انتهينا إليه فقلنا: السلام عليك. فقال: و عليكم (و عليكما ل) السلام. قلنا: ممن الرجل؟ قال: أسدي. قلنا: و نحن أسديان فمن أنت؟ قال: أنا بكر بن فلان و انتسبنا له ثم قلنا له: أخبرنا عن الناس وراءك. قال: نعم لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل و هانئ بن عروة و رأيتهما يجران بأرجلهما في السوق. فأقبلنا حتى لحقنا بالحسين (عليه السلام) فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسيا فجئناه حين نزل فسلمنا عليه فرد علينا السلام فقلنا له: يرحمك اللّه إن عندنا خبرا إن شئت حدثناك علانية و إن شئت حدثناك سرا. فنظر إلينا و إلى أصحابه ثم قال: ما دون هؤلاء ستر (سر خ ل). فقلنا له: أ رأيت الراكب الذي استقبلته عشي أمس؟ قال: نعم و قد أردت مسألته. فقلنا: قد و اللّه استبرأنا لك خبره و كفيناك مسألته و هو امرؤ منا ذو رأي و صدق و عقل و انه حدثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم و هاني بن عروة و رآهما يجران‏ في السوق بأرجلهما. فقال عليه السلام: إنا للّه و إنا إليه راجعون رحمة اللّه عليهما. يردد ذلك مرارا. فقلنا له: ننشدك اللّه في نفسك و أهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا فإنه ليس لك بالكوفة ناصر و لا شيعة بل نتخوف أن يكونوا عليك. فنظر إلى بني عقيل فقال: ما ترون فقد قتل مسلم.
فقالوا: و اللّه ما (لا خ ل) نرجع حتى نصيب ثارنا أو نذوق ما ذاق. فأقبل علينا الحسين (عليه السلام) و قال: لا خير في العيش بعد هؤلاء فعلمنا أنه قد عزم رأيه على المسير فقلنا له: خار اللّه لك. فقال: رحمكما اللّه. فقال له أصحابه: إنك و اللّه ما أنت مثل مسلم بن عقيل لو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع.
فسكت ثم انتظر حتى إذا كان السحر قال لفتيانه و غلمانه: أكثروا من الماء فاستقوا و أكثروا ثم ارتحلوا .
و روي أنه لما أصبح إذا برجل من الكوفة يكنى أبا هرة الأزدي قد أتاه فسلم عليه ثم قال: يا بن رسول اللّه ما الذي أخرجك عن حرم اللّه و حرم جدك رسول اللّه (صلى اللّه‏ عليه و آله). فقال الحسين عليه السلام: ويحك يا أبا هرة ان بني أمية أخذوا مالي فصبرت و شتموا عرضي فصبرت و طلبوا دمي فهربت و أيم اللّه لتقتلني الفئة الباغية و ليلبسنهم اللّه ذلا شاملا و سيفا قاطعا و ليسلطن اللّه عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة فحكمت في أموالهم و دمائهم‏ .
و روى الشيخ الأجل أبو جعفر الكليني ره عن الحكم بن عتيبة قال: لقي رجل الحسين بن علي عليهما السلام بالثعلبية و هو يريد كربلا فدخل عليه فسلم عليه فقال له الحسين عليه السلام: من أي البلاد أنت؟ قال: من أهل الكوفة.
قال: أما و اللّه يا أخا أهل الكوفة لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل من دارنا و نزوله بالوحي على جدي يا أخا أهل الكوفة أ فمستفتي الناس من العلم من عندنا فعلموا و جهلنا هذا ما لا يكون‏ .
فسار (عليه السلام) حتى انتهى إلى زبالة فأتاه خبر عبد اللّه بن يقطر.
و في رواية أتاه خبر مسلم‏ فأخرج إلى الناس كتابا فقرأه عليهم:
بسم اللّه الرحمن الرحيم. أما بعد فإنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل و هانئ بن عروة و عبد اللّه بن يقطر و قد خذلنا شيعتنا فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف غير حرج ليس عليه ذمام.
فتفرق الناس عنه و أخذوا يمينا و شمالا حتى بقي من أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة و نفر يسير ممن انضموا إليه و إنما فعل ذلك لأنه (عليه السلام) علم أن الأعراب الذين اتبعوه إنما اتبعوه و هم يظنون أنه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهله فكره أن يسيروا معه إلا و هم يعلمون على ما يقدمون‏ .
قلت: و لعل لهذا السبب كان (عليه السلام) يذكر حال يحيى (عليه السلام) كثيرا مشيرا إلى أنه يشبهه في أنه يقتل و يهدى رأسه كما فعل بيحيى.
فقد روي عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: خرجنا مع الحسين عليه السلام فما نزل منزلا و لا ارتحل عنه إلا و ذكر يحيى بن زكريا و قال يوما: إن من هوان الدنيا على اللّه تعالى أن رأس يحيى أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل‏ . فلما كان السحر أمر أصحابه فاستقوا ماء و أكثروا.
ثم سار حتى مر ببطن العقبة فنزل عنها (عليها خ ل) فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له عمرو بن لوذان فسأله أين تريد؟ فقال له الحسين عليه السلام:
الكوفة. فقال الشيخ: أنشدك اللّه لما انصرفت فو اللّه ما تقدم إلا على الأسنة وحد السيوف و إن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مئونة القتال و وطئوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأيا فأما على هذه الحال التي تذكر فإني لا أرى لك أن تفعل. فقال له: يا عبد اللّه ليس يخفى علي الرأي و لكن اللّه تعالى لا يغلب على أمره.
ثم قال عليه السلام: و اللّه لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي فإذا فعلوا سلط اللّه عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل فرق الأمم‏ .
و روى الشيخ أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه القمي عطر اللّه مرقده عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) أنه قال: لما صعد الحسين (عليه السلام) عقبة البطن قال لأصحابه: ما أراني إلا مقتولا. قالوا: و ما ذاك يا أبا عبد اللّه. قال: رؤيا رأيتها في المنام. قالوا: و ما هي؟ قال: رأيت كلابا تنهشني أشدها علي كلب أبقع‏ .
ثم سار (عليه السلام) من بطن العقبة حتى نزل شراف‏ فلما كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا ثم سار منها .
ثم سار (عليه السلام) من شراف حتى انتصف النهار فبينا هو يسير إذ كبر رجل من أصحابه فقال له الحسين عليه السلام: اللّه أكبر لم كبرت؟ قال: رأيت النخل. فقال له جماعة من أصحابه: و اللّه إن هذا المكان ما رأينا به نخلة قط.
فقال الحسين عليه السلام: فما ترونه؟ قالوا: نراه و اللّه اذني الخيل قال الحسين عليه السلام: و أنا و اللّه أرى ذلك. ثم قال عليه السلام: ما لنا ملجأ نلجأ إليه فنجعله في ظهورنا و نستقبل القوم بوجه واحد. فقلنا: بلى هذا ذو حسم (حسمى خ ل) إلى جنبيك تميل (فمل خ ل) إليه عن يسارك فإن سبقت إليه فهو كما تريد. فأخذ إليه ذات اليسار و ملنا معه فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي‏ الخيل فتبيناها و عدلنا فلما رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأن أسنتهم اليعاسيب و كأن راياتهم أجنحة الطير فاستبقنا إلى ذي حسم فسبقناهم إليه و أمر الحسين (عليه السلام) بأبنيته فضربت و جاء القوم زهاء ألف فارس مع الحر ابن يزيد التميمي حتى وقف هو و خيله مقابل الحسين (عليه السلام) في حر الظهيرة و الحسين و أصحابه معتمون متقلدو أسيافهم فقال الحسين لفتيانه: أسقوا القوم و ارووهم من الماء و رشفوا الخيل ترشيفا. ففعلوا و أقبلوا يملئون القصاع و الطساس من الماء ثم يدنونها من الفرس فإذا عب فيها ثلاثا أو أربعا أو خمسا عزلت عنه و سقوا آخر حتى سقوها كلها.
فقال علي بن الطعان المحاربي: كنت مع الحر يومئذ فجئت في آخر من جاء من أصحابه فلما رأى الحسين (عليه السلام) ما بي و بفرسي من العطش قال:
أنخ الراوية- و الراوية عندي السقاء- ثم قال عليه السلام: يا بن أخي انخ الجمل.
فأنخته فقال: اشرب فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء فقال الحسين عليه السلام: أخنث السقاء أي أعطف فلم أدر كيف أفعل فقام فخنثه فشربت و سقيت فرسي.
و كان مجي‏ء الحر بن يزيد الرياحي من القادسية و كان عبيد اللّه بن زياد بعث الحصين بن تميم (نمير خ ل) و أمره أن ينزل القادسية و يقدم الحر بن يزيد بين يديه في ألف فارس يستقبل بهم حسينا عليه السلام. فلم يزل الحر موافقا للحسين حتى حضرت صلاة الظهر فأمر الحسين (عليه السلام) الحجاج بن مسروق (مسرور خ ل) أن يؤذن‏ .
فلما حضرت الإقامة خرج الحسين (عليه السلام) في إزار و رداء و نعلين فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم و قدمت علي رسلكم أن أقدم علينا فإنه ليس لنا امام لعل اللّه أن يجمعنا بك على الهدى و الحق فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم و مواثيقكم و إن لم تفعلوا و كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم من المكان الذي جئت منه إليكم.
فسكتوا عنه و لم يتكلم أحد منهم بكلمة فقال للمؤذن أقم فأقام الصلاة فقال (عليه السلام) للحر: أ تريد أن تصلي بأصحابك؟ قال: لا بل تصلي أنت و نصلي بصلاتك. فصلى بهم الحسين عليه السلام ثم دخل فاجتمع إليه أصحابه و انصرف الحر إلى مكانه الذي كان فيه فدخل خيمة قد ضربت له و اجتمع إليه حمامة (جماعة خ ل) من أصحابه و عاد الباقون إلى صفهم الذي كانوا فيه فأعادوه ثم أخذ كل رجل منهم بعنان دابته و جلس في ظلها.
فلما كان وقت العصر أمر الحسين (عليه السلام) أصحابه أن يتهيؤوا للرحيل ففعلوا ثم أمر مناديه فنادى بالعصر و أقام فاستقدم الحسين (عليه السلام) و قام فصلى بالقوم ثم سلم و انصرف إليهم بوجهه فحمد اللّه و أثنى عليه.
ثم قال: أما بعد أيها الناس فإنكم ان تتقوا اللّه و تعرفوا الحق لأهله يكن أرضى للّه عنكم و نحن أهل بيت محمد عليهم السلام أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم و السائرين فيكم بالجور و العدوان و إن أبيتم إلا الكراهة لنا و الجهل بحقنا و كان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم و قدمت علي به رسلكم انصرفت عنكم.
فقال له الحر: أما و اللّه ما أدري ما هذه الكتب و الرسل التي تذكر فقال الحسين (عليه السلام) لبعض أصحابه: يا عقبة بن سمعان أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إلي. فأخرج خرجين مملوءين صحفا فنثرت بين يديه فقال له الحر:
انا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك و قد أمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد اللّه بن زياد. فقال له الحسين عليه السلام: الموت أدنى إليك من ذلك. ثم قال لأصحابه: قوموا فاركبوا فركبوا و انتظر حتى ركب نساؤهم فقال لأصحابه: انصرفوا.
فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم و بين الانصراف فقال الحسين (عليه السلام) للحر: ثكلتك أمك ما تريد؟ قال له الحر: أما لو غيرك من العرب يقولها لي و هو على مثل الحال التي أنت عليها لما تركت ذكر أمه بالثكل كائنا من كان و لكن و اللّه ما إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه. فقال له الحسين عليه السلام: فما تريد؟ قال: أريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيد اللّه قال: إذا و اللّه لا أتبعك. قال: إذا و اللّه لا أدعك فترادا القول ثلاث مرات فلما كثر الكلام بينهما قال له الحر: إني لم أؤمر بقتالك إنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة فإذا أبيت فخذ طريقا لا يدخلك الكوفة و لا يردك إلى المدينة يكون بيني و بينك نصفا حتى أكتب إلى الأمير و تكتب إلى يزيد أو إلى عبيد اللّه‏ فلعل اللّه أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلى بشي‏ء من أمرك فخذ هاهنا و تياسر عن طريق العذيب و القادسية و سار الحسين (عليه السلام) و سار الحر في أصحابه يسائره‏ .
قال الطبري: قال أبو مخنف: عن عقبة بن أبي العيزار أن الحسين (عليه السلام) خطب أصحابه و أصحاب الحر بالبيضة فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال:
أيها الناس ان رسول اللّه (صلى اللّه‏ عليه و آله) قال: من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم اللّه ناكثا لعهد اللّه مخالفا لسنة رسول اللّه يعمل في عباد اللّه بالإثم و العدوان فلم يعير (يغير) عليه بفعل و لا قول كان حقا على اللّه أن يدخله مدخله ألا و إن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان و تركوا طاعة الرحمن و أظهروا الفساد و عطلوا الحدود و استأثروا بالفي‏ء و أحلوا حرام اللّه و حرموا حلاله و أنا أحق من عير (غير) و قد أتتني كتبكم و قدمت علي رسلكم ببيعتكم أنكم لا تسلموني و لا تخذلوني فإن تممتم علي بيعتكم تصيبوا رشدكم فأنا الحسين بن علي و ابن فاطمة بنت رسول اللّه نفسي مع أنفسكم و أهلي مع أهليكم فلكم في أسوة و ان لم تفعلوا و نقضتم عهدكم و خلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر لقد فعلتموها بأبي و أخي و ابن عمي مسلم و المغرور من اغتر بكم فحظكم أخطأتم و نصيبكم ضيعتم و من نكث فإنما ينكث على نفسه و سيغنيني اللّه عنكم. و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته‏ .
و قال عقبة بن أبي العيزار: قام الحسين (عليه السلام) بذي حسم فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال: أما بعد إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون و ان الدنيا قد تغيرت و تنكرت و أدبر معروفها و استمرت حذاء فلم يبق منها الا صبابة كصبابة الإناء و خسيس عيش كالمرعى الوبيل أ لا ترون أن الحق لا يعمل به و أن الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء اللّه محقا فإني لا أرى الموت إلا شهادة و لا الحياة مع الظالمين إلا برما.
قال الراوي: فقام زهير بن القين البجلي فقال لأصحابه: تكلمون أم أتكلم؟ قالوا: لا بل تكلم. فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال: قد سمعنا هداك اللّه يا ابن رسول اللّه مقالتك و اللّه لو كانت الدنيا لنا باقية و كنا فيها مخلدين إلا أن فراقها في نصرك و مواساتك لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها. قال: فدعا له الحسين (عليه السلام) ثم قال له خيرا .
و في رواية أخرى: قال و وثب نافع بن هلال بن نافع البجلي فقال: و اللّه ما كرهنا لقاء ربنا و انا على نياتنا و بصائرنا نوالي من والاك و نعادي من عاداك.
قال: و قام برير بن خضير فقال و اللّه يا بن رسول اللّه لقد من اللّه بك علينا أن نقاتل بين يديك فيقطع فيك أعضاؤنا ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة .
و أقبل الحر يسائره و هو يقول له: يا حسين إني أذكرك اللّه في نفسك فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن. فقال له الحسين عليه السلام: أ فبالموت تخوفني و هل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني و سأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه و هو يريد نصرة رسول اللّه (صلى اللّه‏ عليه و آله) فخوفه ابن عمه و قال: أين تذهب فإنك مقتول.
فقال:
سأمضي و ما بالموت عار على الفتى‏ إذا ما نوى حقا و جاهد مسلما
و آسى الرجال‏ الصالحين بنفسه‏ و فارق مثبورا و خالف مجرما
فإن عشت لم أندم و إن مت لم ألم‏ كفى بك ذلا أن تعيش و ترغما
فلما سمع ذلك الحر تنحى عنه و كان يسير بأصحابه ناحية و الحسين عليه‏
السلام في ناحية أخرى‏ حتى انتهوا إلى عذيب‏ الهجانات كان بها هجائن‏ النعمان ترعى هنالك فنسب إليها فإذا هو بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يجنبون فرسا لنافع بن هلال يقال له الكامل و معهم دليلهم طرماح بن عدي‏ فانتهوا إلى الحسين (عليه السلام) .
و في بعض المقاتل: أن الطرماح لما رمى ببصره إلى الحسين (عليه السلام) أنشأ يرتجز و يقول:
يا ناقتي لا تزعري من زجري‏ و امض بنا قبل طلوع الفجر
بخير ركبان و خير سفر حتى تحلى بكريم النحر
الماجد الحر رحيب الصدر أتى به اللّه لخير أمر
لمة أبقاه بقاء الدهر آل رسول اللّه آل الفخر
السادة البيض الوجوه الزهر الطاعنين بالرماح السمر
الضاربين بالسيوف البتر يا مالك النفع معا و الضر
أيد حسينا سيدي بالنصر على الطغاة من بغايا الكفر
على اللعينين سليلي صخر يزيد لا زال حليف الخمر
و ابن زياد عهر ابن العهر
فلما انتهوا إلى الحسين (عليه السلام) أقبل إليهم الحر و قال: إن هؤلاء النفر من أهل الكوفة و أنا حابسهم أو رادّهم. فقال الحسين عليه السلام: لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي إنما هؤلاء أنصاري و هم بمنزلة من جاء معي فإن تممت على ما كان بيني و بينك و إلا ناجزتك. فكف الحر عنهم فقال لهم الحسين عليه السلام:
أخبروني خبر الناس خلفكم. فقال له مجمع بن عبد اللّه العائذي و هو أحدهم: أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم و ملئت غرائرهم يستمال و دهم و يستخلص به نصيحتهم فهم ألب واحد عليك و أما سائر الناس بعدهم فإن قلوبهم تهوي إليك و سيوفهم غدا مشهورة عليك.
و سألهم عن رسوله قيس بن مسهر الصيداوي فقالوا: نعم أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى ابن زياد فأمره ابن زياد أن يلعنك و يلعن أباك فصلى عليك و على أبيك و لعن ابن زياد و أباه و دعا إلى نصرتك و أخبرهم بقدومك فأمر به ابن زياد فألقي من طمار القصر. فترقرقت عينا الحسين (عليه السلام) بالدموع و لم يملك دمعته ثم قرأ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى‏ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا اللهم اجعل لنا و لهم الجنة نزلا و اجمع بيننا و بينهم في مستقر رحمتك و غائب مذخور ثوابك‏ .
ثم دنا طرماح بن عدي رضي اللّه عنه و قال: و اللّه ما أرى معك كثير أحد و لو لم يقاتلك إلا هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفى بهم و لقد رأيت قبل خروجي من الكوفة بيوم ظهر الكوفة و فيه من الناس ما لم تر عيناي جميعا في صعيد
واحد أكثر منه قط فسألت عنهم فقيل اجتمعوا ليعرضوا ثم يسرحون إلى الحسين فأنشدك اللّه إن قدرت على أن لا تقدم إليهم شبرا فافعل فإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك اللّه به حتى ترى رأيك و يستبين لك ما أنت صانع فسر حتى أنزلك جبلنا أجاء فهو و اللّه جبل امتنعنا به من ملوك غسان و حمير و النعمان بن المنذر و من الأحمر و الأبيض و اللّه ما ان دخل علينا ذل قط فأسير معك حتى أنزلك ثم تبعث إلى الرجال ممن بأجأ و سلمى من طي فو اللّه لا يأتي عليك عشرة أيام حتى يأتيك طي رجالا و ركبانا ثم أقم فينا ما بدا لك فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم فو اللّه لا يوصل إليك أبدا و فيهم عين تطرف. فقال (عليه السلام) له: جزاك اللّه و قومك خيرا إنه قد كان بيننا و بين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف و لا ندري على ما تنصرف بنا و بهم الأمور في عاقبة .
قال أبو مخنف: فحدثني جميل بن مرثد قال: حدثني الطرماح بن عدي قال: فودعته و قلت له: دفع اللّه عنك شر الجن و الإنس إني قد امترت لأهلي من الكوفة ميرة و معي نفقة لهم فآتيهم فأضع ذلك فيهم ثم أقبل إليك إنشاء اللّه فإن ألحقك فو اللّه لأكونن من أنصارك. قال: فإن كنت فاعلا فعجل رحمك اللّه. قال:
فعلمت أنه مستوحش إلى الرجال حتى يسألني التعجيل. قال: فلما بلغت أهلي وضعت عندهم ما يصلحهم و أوصيت فأخذ أهلي يقولون: انك تصنع مرتك شيئا ما كنت تصنعه قبل اليوم فأخبرتهم بما أريد و أقبلت في طريق بني ثعل حتى إذا دنوت من عذيب الهجانات استقبلني سماعة بن بدر فنعاه إلي فرجعت‏ .
أقول: فظهر بهذه الرواية التي نقلها أبو جعفر الطبري عن أبي مخنف أن الطرماح بن عدي لم يحضر وقعة الطف و لم يكن في الشهداء بل لما سمع خبر شهادة الحسين (عليه السلام) رجع إلى مكانه فما في هذا المقتل المنسوب إلى أبي‏ مخنف قال الطرماح بن عدي رحمه اللّه تعالى: كنت في القتلى و قد وقع في جراحات و لو حلفت لكنت صادقا أني كنت غير نائم إذ أقبل عشرون فارسا- الخ‏ فهو شي‏ء ليس عليه الاعتماد و لا إليه الركون و الاستناد. و اللّه الموفق للسداد.
ثم سار الحسين (عليه السلام) حتى بلغ قصر بني مقاتل فنزل به‏ فإذا هو بفسطاط مضروب فقا