حياة الامام الحسين قبل مقتله
مقتل الامام عليه السلام

لما قتل العباس التفت الحسين (عليه السّلام) فلم ير أحدا ينصره و نظر إلى أهله و صحبه مجزرين كالأضاحي و هو إذ ذاك يسمع عويل الأيامى و صراخ الأطفال صاح بأعلى صوته: هل من ذاب عن حرم رسول اللّه؟ هل من موحد يخاف اللّه فينا؟ هل من مغيث يرجو اللّه في اغاثتنا؟ فارتفعت أصوات النساء بالبكاء «1».
و نهض السجاد عليه السّلام يتوكأ على عصا و يجر سيفه لأنه مريض لا يستطيع الحركة فصاح الحسين بأم كلثوم احبسيه لئلا تخلو الأرض من نسل آل محمد فأرجعته إلى فراشه‏ «2».
ثم إنه عليه السّلام أمر عياله بالسكوت و ودعهم و كانت عليه جبة خز دكناء «3» و عمامة موردة أرخى لها ذؤابتين و التحف ببردة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم و تقلد بسيفه‏ «4».
و طلب ثوبا لا يرغب فيه أحد يضعه تحت ثيابه لئلا يجرد منه فإنه مقتول مسلوب، فأتوه بتبان‏ «5» فلم يرغب فيه لأنه من لباس‏ الذلة «6» و أخذ ثوبا خلقا و خرقه و جعله تحت ثيابه‏ «7» و دعا بسراويل حبرة ففزرها و لبسها لئلا يسلبها «8».
الرضيع‏
و دعا بولده الرضيع يودعه، فأتته زينب بابنه عبد اللّه‏ «9» و أمه الرباب فأجلسه في حجره يقبله‏ «10» و يقول بعدا لهؤلاء القوم إذا كان جدك المصطفى خصمهم‏ «11» ثم أتى به نحو القوم يطلب له الماء، فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فذبحه فتلقى الحسين الدم بكفه ورمى به نحو السماء.
قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام: فلم تسقط منه قطرة «12» و فيه يقول حجة آل محمد عجل اللّه فرجه: السلام على عبد اللّه الرضيع المرمي الصريع المتشحط دما و المصعد بدمه إلى السماء المذبوح بالسهم في حجر أبيه، لعن اللّه راميه حرملة بن‏ كاهل الأسدي و ذويه‏ «13».
أعزز علي و أنت تحمل طفلك‏ الظامي و حر أوامه لا يبرد
قد بح من لفح الهجيرة صوته‏ بمرنة منها يذوب الجلمد
و قصدت نحو القوم تطلب منهم‏ وردا و لكن أين منك المورد
و القوس طوّق نحره فكأنه‏ خيط الهلال يحل فيه الفرقد
و على الربية في الخيام نوائح‏ تومي لطفلك بالشجى و تردد
و رب رضيع ارضعته قسيهم‏ من النبل ثديا دره الثر فاطمه‏
فلهفي له مذ طوق السهم جيده‏ كما زينته قبل ذاك تمائمه‏
هفا لعناق السبط مبتسم اللمى‏ وداعا و هل غير العناق يلائمه‏
و لهفي على أم الرضيع و قد دجى‏ عليها الدجى و الدوح نادت حمائمه‏
تسلل في الظلماء ترتاد طفلها و قد نجمت بين الضحايا علائمه‏
فمذ لاح سهم النحر ودت لو إنها تشاطره سهم الردى و تساهمه‏
أقلته بالكفين ترشف ثغره‏ و تلثم نحرا قبلها السهم لاثمه‏
و ادنته للنهدين و لهى فتارة تناغيه إلطافا و أخرى تكالمه‏
بنيّ افق من سكرة الموت و ارتضع‏ بثدييك على القلب يهدأ هائمه‏
بنيّ فقد درّا و قد كظّك الظما فعله يطفي من غليلك ضارمه‏
بني لقد كنت الأنيس لوحشتي‏ و سلواي إذ يسطو من الهم غاشمه‏ «14»

ثم قال الحسين عليه السّلام هوّن ما نزل بي أنه بعين اللّه تعالى‏ «15» اللهم لا يكون أهون عليك من فصيل ناقة صالح، إلهي إن كنت حبست عنا النصر فاجعله لما هو خير منه و انتقم لنا من الظالمين‏ «16» و اجعل ما حل بنا في العاجل ذخيرة لنا في الآجل‏ «17» اللهم أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولك‏ محمد (صلى اللّه عليه و آله و سلم)‏ «18» و سمع عليه السّلام قائلا يقول: دعه يا حسين فإن له مرضعا في الجنة «19» ثم نزل عليه السّلام عن فرسه و حفر له بجفن سيفه و دفنه مرملا بدمه و صلى عليه‏ «20» و يقال وضعه مع قتلى أهل بيته‏ «21».
لهفي على أبيه إذ رآه‏ غارت لشدة الظما عيناه‏
و لم يجد شربة ماء للصبي‏ فساقه التقدير نحو الطلب‏
و هو على الأبيّ أعظم الكرب‏ فكيف بالحرمان من بعد الطلب‏
من دمه الزاكي رمى نحو السما فما أجل لطفه و اعظما
لو كان لم يرم به إليها لساخت الأرض بمن عليها
فاحمرت السماء من فيض دمه‏ ويل من اللّه لهم من نقمه‏
و كيف حال أمه حيث ترى‏ رضيعها جرى عليه ما جرى‏
غادرها كالدرة البيضاء و عاد كالياقوتة الحمراء
حنت عليه حنة الفصيل‏ بكته بالإشراق و الأصيل‏
لهفي لها إذ تندب الرضيعا ندبا يحاكي قلبها الوجيعا
تقول يا بني يا مؤملي‏ يا منتهى قصدي و أقصى املي‏
جف الرضاع حين عز الماء أصبحت لا ماء و لا كلاء
فساقك الظما إلى ري الردى‏ كأنما ريك في سهم العدى‏
يا ماء عيني و حياة قلبي‏ من لبلائي و عظيم كربي‏
رجوت أن تكون لي نعم الخلف‏ و سلوة لي عن مصابي بالسلف‏
ما خلت أن السهم للفطام‏ حتى ارتني جهرة أيامي‏ «22»

و تقدم الحسين (عليه السّلام) نحو القوم مصلتا سيفه آيسا من الحياة و دعا الناس إلى البراز فلم يزل يقتل كل من برز إليه حتى قتل جمعا كثيرا «23» ثم حمل على الميمنة و هو يقول:
الموت أولى من ركوب العار و العار أولى من دخول النار «24»

و حمل على الميسرة و هو يقول:
أنا الحسين بن علي‏ آليت أن لا انثني‏
احمي عيالات أبي‏ امضي على دين النبي‏ «25»

قال عبد اللّه بن عمار بن يغوث: ما رأيت مكثورا قط قد قتل ولده و أهل بيته و صحبه اربط جأشا منه و لا امضى جنانا و لا اجرأ مقدما و لقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شد فيها و لم يثبت له أحد «26».
فصاح عمر بن سعد بالجمع: هذا ابن الانزع البطين، هذا ابن قتال العرب احملوا عليه من كل جانب، فأتته أربعة آلاف نبلة «27» و حال الرجال بينه و بين رحله فصاح بهم: يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين و كنتم لا تخافون المعاد فكونوا احرارا في دنياكم و ارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا كما تزعمون.
فناداه شمر: ما تقول يا ابن فاطمة؟ قال: أنا الذي اقاتلكم و النساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم عن التعرض لحرمي ما دمت حيا.

قال اقصدوني بنفسي و اتركوا حرمي‏ قد حان حيني و قد لاحت لوائحه‏

فقال الشمر: لك ذلك.
و قصده القوم و اشتد القتال و قد اشتد به العطش‏ «28» فحمل من نحو الفرات على عمرو بن الحجاج و كان في أربعة آلاف فكشفهم عن الماء و اقحم الفرس الماء فلما هم الفرس ليشرب قال الحسين أنت عطشان و أنا عطشان فلا أشرب حتى تشرب! فرفع الفرس رأسه كأنه فهم الكلام و لما مد الحسين يده ليشرب ناداه رجل اتلتذ بالماء و قد هتكت حرمك؟ فرمى الماء و لم يشرب و قصد الخيمة «29».
يروي الثرى بدمائهم و حشاه من‏ ظمأ تطاير شعلة قطعاتها
لو قلبت من فوق غلة قلبه‏ صم الصفا ذابت عليه صفاتها
تبكي السماء له دما افلا بكت‏ ماء لغلة قلبه قطراتها
و احر قلبي يا ابن بنت محمد لك و العدى بك انجحت طلباتها
منعتك من نيل الفرات فلا هنا للناس بعدك نيلها و فراتها «30»

_____________
(1) اللهوف ص 65.
(2) الخصائص الحسينية للشيخ جعفر الشوشتري قدس سره ص 129 الاستغاثة الرابعة ..
و ممن نص على مرضه يوم كربلاء، مصعب الزبيري في نسب قريش ص 58 و اليعقوبي في تاريخه ج 2 ص 217. و قال الخوارزمي في مقتل الحسين ج 2 ص 32 خرج علي بن الحسين و هو أصغر من أخيه القتيل و كان مريضا لا يقدر على حمل السيف. الخ.
(3) روى الكليني في الكافي على هامش مرآة العقول ج 4 ص 105 عن الباقر عليه السّلام و الآلوسي في روح المعاني ج 8 ص 111 عند قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ‏ و ابن حجر في مجمع الزوائد ج 9 ص 192 و الخوارزمي في مقتل الحسين ج 2 ص 35 كان على الحسين عليه السّلام يوم عاشوراء جبة خز دكناء.
(4) المنتخب ص 315 المطبعة الحيدرية سنة 1369.
(5) في الصحاح بالضم و التشديد هي سراويل صغيرة مقدار شبر تستر العورة المغلظة و في شفاء الغليل ص 52 هو من الدخيل و الأصوب فيه الضم.
(6) مناقب ابن شهراشوب ج 2 ص 222 و البحار ج 10 ص 305.
(7) مجمع الزوائد لابن حجر الهيثمي ج 9 ص 193 و البحار ج 10 ص 205.
(8) اللهوف ص 69 و تاريخ الطبري ج 6 ص 259.
(9) سماه ابن شهراشوب في المناقب ج 2 ص 222 علي الأصغر و ذكر السيد ابن طاووس في الاقبال زيارة للحسين يوم عاشوراء و فيها صلى اللّه عليك و عليهم و على ولدك علي الأصغر الذي فجعت به، و الذي نص على أنه عبد اللّه و أمه الرباب الشيخ المفيد في الاختصاص ص 3 و أبو الفرج في مقاتل الطالبيين ص 35 و مصعب الزبيري في نسب قريش ص 59 و في سرّ السلسلة ص 30 المقتول بالسهم في حجر أبيه عبد اللّه و لم يذكر أمه.
(10) اللهوف ص 65 و في تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 218 طبع النجف أن الحسين لواقف إذ أتى بمولود له ولد الساعة أذن في أذنه و جعل يحنكه إذ أتاه سهم وقع في حلق الصبي فذبحه فنزع الحسين السهم من حلقه و جعل يلطخه بدمه و يقول: و اللّه لأنت أكرم على اللّه من الناقة و لمحمد اكرم على اللّه من صالح ثم أتى فوضعه مع ولده و بني أخيه.
(11) البحار ج 10 ص 23 و مقتل الخوارزمي ج 2 ص 22.
(12) في مناقب ابن شهراشوب ج 2 ص 222 لم يرجع منه شي‏ء و ذكر ابن نما في مثير الأحزان ص 36 و السيد في اللهوف ص 66 رواية الباقر عليه السّلام و ذكر ابن كثير في البداية ج 8 ص 186 و القرماني في أخبار الدول ص 108 و مقتل الخوارزمي ج 2 ص 32: رمى به نحو السماء قال ابن كثير و الذي رماه بالسهم رجل من بني أسد يقال له «ابن موقد النار».
(13) زيارة الناحية المقدسة و الأبيات للخطيب الفاضل سيد محمد جواد شبر.
(14) للعلامة الشيخ محمد تقي آل صاحب الجواهر.
(15) اللهوف ص 66.
(16) مثير الأحزان لابن نما ص 26 و مقتل الخوارزمي ج 2 ص 32.
(17) تظلم الزهراء ص 122.
(18) المنتخب ص 313.
(19) تذكرة الخواص ص 144 و القمقام لميرزا فرهاد ص 385 و في الإصابة بترجمة إبراهيم ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم و تهذيب الأسماء للنووي ج 1 ص 102 و شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج 3 ص 214 باب أولاده لما توفي إبراهيم ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم قال النبي إن له مرضعا في الجنة.
(20) مقتل الخوارزمي ج 2 ص 32 و الاحتجاج للطبرسي ص 163 طبع النجف.
(21) الارشاد و مثير الأحزان ص 36.
(22) من ارجوزة آية اللّه الحجة الشيخ محمد حسين الأصفهاني «قده».
(23) مقتل العوالم ص 97 و مثير الأحزان لابن نما ص 37 و مقتل الخوارزمي ج 2 ص 33.
(24) في البيان و التبيين للجاحظ ج 3 ص 171 طبع ثاني تحت عنوان (كلام في الأدب) بعد أن ذكر هذا البيت اتبعه بقوله:
و اللّه من هذا و هذا جار
(25) مناقب ابن شهراشوب ج 2 ص 223.
(26) الطبري ج 6 ص 259 و نسبه الخوارزمي في مقتل الحسين ج 2 ص 38 إلى بعض من شهد الوقعة.
(27) مناقب ابن شهراشوب ج 2 ص 223.
(28) اللهوف ص 67.
(29) البحار ج 10 ص 204 و مقتل العوالم ص 98 و نفس المهموم ص 188 و الخصائص الحسينية ص 46 باب خصائص الحيوانات.
إني لا اضمن صحة هذا الحديث المتضمن لامتناع الفرس من الشرب و لرمي الحسين الماء من يده لمجرد قول الأعداء و هو العالم بأنه مكيدة، لكن خصائص هذا اليوم المختصة بسيد الشهداء و من معه على أن يقضوا عطاشى خارجة عما نعرفه و لا سبيل لنا إلا التسليم بعد أن كان الإمام عليه السّلام حكيما في افعاله و أقواله لا يعمل إلا بما تلقاه من جده الذي لا ينطق عن الهوى، و كل قضايا الطف محدودة الظرف و المكان لأسرار و مصالح لا يعلمها إلا رب العالمين تعالى شأنه!
و هناك شي‏ء آخر لاحظه سيد الشهداء و كانت العرب تتفانى دونه و هو حماية الحرم بأنفس الذخائر، و أبو عبد اللّه سيد العرب و ابن سيدها فلا تفوته هذه الخصلة التي يستهلك دونها النفس و النفيس! و لما ناداه الرجل هتكت الحرم لم يشرب الماء اعلاما للجمع بما يحمله من الغيرة على حرمه و لو لم يبال بالنداء لتيقن الناس فقدانه الحمية العربية و لا يقدم عليه أبيّ الضيم حتى لو علم بكذب النداء، و فعل سيد الاباة من عدم شرب الماء و لو في آن يسير هو غاية ما يمدح به الرجل.
(30) من قصيدة لآية اللّه الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رحمه اللّه.