لقد كان الحسين الوارث الوحيد لتلك الثورة التي فجَّرها جدُّه الرسول الأعظم على الجاهلية الرعناء والعنصرية والوثنية لإنقاذ المستضعفين في الأرض من الظلم والتسلُّط والاستعباد وواصلها أبوه وأخوه من قبله ، وكان دوره القيادي السيرُ بها على خطى جدِّه وأبيه سَنة ستين للهجرة ، حيث الأمَّة كانت بانتظار مَن ينهض بأعبائها ويكون الحارس الأمين المسؤول عنها بعد أن أخذت دعائمها تنهار وتتقوَّض تحت ضربات بني أميَّة وأعوانهم . وجميع معطياتها التي انطلقت قبل خمسين عاماً أو أكثر قد صادرها الأمويُّون وأعوانهم ، والكتاب الكريم رفع على حرابهم وحراب جلاَّديهم ، والفكر العقائدي الذي جاء به الإسلام ليبني العقول والقلوب خضع لتوجيه السلطات الحاكمة ، وسيوف المجاهدين انتقلت إلى الجلاوزة والجلاَّدين للتنكيل بالصلحاء والأبرياء ، والصدقات والغنائم التي كانت تصل إلى مسجد الرسول وتذهب منه إلى بيوت الفقراء والمساكين أصبحت تنتقل إلى قصر الخضراء لشراء الضمائر وتخدير المعارضين للسلطة الحاكمة ، وجيل الثورة الثاني بين مَن تعرَّض للإبادة الجماعية في مرج عذراء وقصر الخضراء وبين مَن سيطرة عليهم مبادئ الردَّة والمرجئة والمجبِّرة والمتصوِّفة ، فأقعدتهم عن التحرُّك وأفقدتهم القدرة على النضال ، وغرست في نفوسهم وقلوبهم بذور الاستسلام للواقع المرير الذي كانت تتخبَّط فيه الأمَّة من جور الأمويين وإمعانهم في تزوير السُّـنَّة وتحريف مبادئ الإسلام وتعاليمه لصالح جاهليَّتهم التي حاربت محمداً أكثر من عشرين عاماً.
ومن هنا كان دور الحسين ـ الوريث الوحيد لثورة جدِّه وأبيه على الشرك والوثنية والعنصرية ـ شاقَّاً وعسيراً ؛ لأنه لم يرث معها جيشاً ولا سلاحاً ولا مالاً ولا أيَّ قوَّة جبهوية أو مجموعة منظمة غير نفسه وحفنة من بنيه وإخوته ، لم يكن يملك غير ذلك ، ويملك في الوقت ذاته القدرة على الانزواء للعبادة ، ومكانه من الجنَّة مضمون ، ولكنَّه لم يكن من طينة أولئك الذين اختاروا العبادة طريقاً إلى الجنَّة بدلاً عن الجهاد والتضحيات ؛ لأنه يدرك أن الطريق الأكمل إلى الله هو طريق الحق وطريق الحق هو الجهاد والنضال والالتزام بمبادئ الثورة الإسلامية وتعاليمها . وإذا جاز على غيره من صلحاء المسلمين أن ينزوي في المساجد للعبادة ويتخلَّى عن النضال والجهاد ، فلا يجوز ذلك على الحسين وارث الرسول وعلي (عليه السلام) بأن يتخلَّى عن وعيه النضالي ويلجأ إلى زوايا المعابد تاركاً للجاهلية الجديدة المتمثِّلة في حكم يزيد أن تستفحل في بطشها بقيم الحق والعدل وكرامة الإنسان . فلم يبق أمامه إلاّ الثورة ، وبدونها لا يكون سبطاً للرسول وابناً لعلي (عليه السلام) ووارثاً لهما ، وقدره أن يكون شهيداً وابناً لأكرم الشهداء وأباً لآلاف الشهداء ، وأن يكون المثل الأعلى لجميع الأحرار الذين يناضلون من أجل الحق والعدل والمستضعفين في الأرض من الرجال والنساء.
لقد حاول معاوية أن يفرض بيعة ولده يزيد على الحسين فلم يتهيَّأ له ذلك ولا سكوته عنه وهو أدنى ما كان يرجوه معاوية ويتمنَّاه ، واستمر الحسين على موقفه من تلك البيعة التي فرضها معاوية على المسلمين بالسلاح والمال والتشهير بمعاوية وأحداثه وتحريض المسلمين على تلك البيعة الغادرة ، ومات معاوية سَنة ستِّين من الهجرة والحسين على موقفه المتصلِّب منها ، كما امتنع جماعة من البيعة تاسِّياً بالحسين (عليه السلام).
وكما ذكرنا من قبل فإنَّ يزيد بن ميسون لم يكن كأبيه في حزمه واحتياطه للمشاكل والأحداث والتستر بالدين ليسدل ذلك الستار الشفاف على جرائمه وتصرفاته كما كان يفعل أبوه من قبله ، ولمَّا انتقلت السلطة إليه كان من الأولويَّات عنده أنْ يُلزم الحسين ومَن تخلَّف معه من وجوه الصحابة
ببيعته ؛ فكتب إلى الوليد بن عقبة ـ حاكم المدينة يوم ذاك ـ كتاباً يأمره فيه أن يأخذ البيعة من الحسين وعبدالله بن عمر وابن الزبير ولا يسمح لهم بالتأخُّير ولو لحظة واحدة ، وعندما استلم الكتاب استدعي الحسين إليه ليلاً ، وعندما دخل الحسين عليه أخبره بموت معاوية وقرأ عليه كتاب يزيد
إليه ، فأراد الحسين (عليه السلام) أنْ يتخلَّص منه بدون استعمال العنف ، فقال له : (مثلي لا يبايع سرَّاً ، فإذا خرجت غداً إلى الناس ودعوتنا معهم ، كان الأمر واحداً) . وكان الوليد يتمنَّى أن لا تضطرُّه الأمور إلى التورُّط مع الحسين بما يسيء إليه ، فاقتنع بجوابه ، ولكنَّ مروان بن الحكم أبت له أمويَّـته الحاقدة أن يخرج الحسين من مجلس الوالي معزَّزاً مكرَّماً كما دخل ، فحاول أن يستفزَّه ويشحنه عليه ، فقال له: لأنْ فارقك الحسين الساعة ولم يبايع ، لا قدرت منه على مثلها حتّى تكثر القتل بينك وبينه ، ولكن احبسه ، فإنْ أبى ولم يبايع ، فاضرب عنقه.
وهنا لم يعد أمام الحسين (عليه السلام) في مقابل هذا التحدِّي الصارخ إلاّ أن يعلن عن موقفه من يزيد وحكومته وعن تصميمه على الثورة مهما كانت التضحيات ، وقد أصبح وجهاً لوجه أمام دوره التاريخي الذي يتحتَّم عليه أن يصنعه ، فوثب عند ذلك ليعلن عمَّا ينطوي عليه بكل ما في الصراحة من معنى ، فقال له : (ويلي عليك يا ابن الزرقاء ، أنت تأمر بضرب عنقي ؟ كذبت والله وأثمت) . ثم أقبل على الوليد فقال : (أيُّها الأمير ! إنَّا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، وبنا فتح الله ، وبنا ختم الله ، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر ، قاتل النفس المحرمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله).
وجاء في مثير الأحزان لإبن نما أنَّ الوليد ـ وبتحريض من مروان ـ ردَّ على الحسين بأسلوب يتَّسم بالحجة والغلظة ، فهجم مَن كان مع الحسين من إخوته ومواليه وبيدهم الخناجر وأخرجوه من المنزل ، فقال له مروان: أمرتك فعصيتني وسترى ما يصير أمرهم إليه. فردَّ عليه الوليد بقوله(كما جاء في رواية الطبري): ويح غيرك يا مروان ؛ إنَّك اخترت لي التي فيها هلاك ديني ، والله ما أحب أنَّ لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأنَّي قتلت حسيناً ، سبحان الله! أأقتل حسيناً إنْ قال لا أبايع ، والله إنِّي لا أظنُّ امرءاً يحاسب بدم حسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة.
وأضاف إلى ذلك ابن عساكر في تاريخه أن أسماء بنت عبد الرحمن بن الحارث ـ زوجة الوليد ـ أنكرت عليه ما جرى منه مع
الحسين (عليه السلام) ، فأجابها بأنه كان هو البادئ بالشتم والسب ، فقالت له: سببت حسيناً ؟! قال: هو بدأ فسبني . قالت: وإن سبَّك حسين تسبُّه !؟ وإن سبَّ أباك تسبُّ أباه ؟! قال : لا .
لقد أعلن الحسين ثورته على يزيد ودولته بتلك الكلمات التي وجَّهها إلى الوليد بن عقبة المكلَّف بتوطيد حكمه في الحجاز وفي مدينة الرسول بالذات ، ولم يكن الوالي يحسب أن الحسين سيعلنها في مجلسه بتلك الصراحة وفي المجلس من هم أشدُّ عداء لمحمد وآل محمد ورسالة محمد من يزيد وأبيه.
إن فيه الوزغ وابن الوزغ طريد رسول الله الذي لا يستطيع أن يزيح عن قلبه ونفسه تلك العقد الدفينة التي خلَّفتها معاركهم مع الإسلام وانتصاراته التي أرغمتهم على التظاهر به مرغمين ، وما تلا ذلك من إبعادهم عن المدينة إلى مكان مقفر من بلاد الطائف ، وتحريض المسلمين على مقاطعتهم ردَّاً على إيذائهم للنبي وتجسُّسهم عليه وهو في بيته مع أهله ونسائه.
هذا الموقف وما تلاه من المواقف الأخرى التي كان من جملتها موقفه مع مروان بن الحكم وهو ينصحه أن يبايع ليزيد بن معاوية فردَّ عليه بقوله: (وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براعٍ مثل يزيد) ، وقوله : (إنَّ الخلافة محرَّمة على آل أبي سفيان) .
كل هذه المواقف الحسينية تشكِّل إعلاناً صريحاً لتصميمه على الثورة ومناهضة الحكم الأموي بقيادة يزيد بن معاوية مهما بلغ حجم التضحيات في سبيلها ، وقد بلغت مواقفه هذه يزيداً بأقصى حدود السرعة ؛ بواسطة الأمويِّين الذين كانوا يفاوضونه ويراقبون جميع تحرُّكاته وتصرُّفاته ويحصون عليه حتّى أنفاسه.
لقد بلغت مواقف الحسين يزيداً بكل أبعادها ومضاعفاتها ، فأفقدته وعيه واندفع مع نزقه ومضى يعمل للتخلص من الحسين قبل أن يخرج من مدينة جدِّه ويستفحل خطره ، فدسَّ جماعة من جلاديه لقتله في المدينة قبل مغادرتها إلى العراق أو إي بلد آخر كما تؤكِّد ذلك أكثر المصادر ؛ ولعل ذلك هو ما حدا بالحسين إلى مغادرة المدينة إلى مكَّة مع بنيه وأخوته وأسرته ؛ ليفوِّت على يزيد بن ميسون وحفيد هند آكلة الأكباد ما كان يخطِّط له من إجهاض ثورته وهي لا تزال في مراحلها الأولى .
وقد اختار الحسين (عليه السلام) لنفسه مكَّة وهو في طريقه إلى الشهادة على تراب كربلاء ليضع المسلمين ـ حيث يجتمعون فيها في ذلك الفصل من جميع مناطق الحجاز ـ أمام الواقع المرير الذي ينتظرهم في ذلك العهد المظلم ، ويضع بين أيديهم ما يحدق بالإسلام من دولة أبي سفيان ؛ العدو الأكبر لمحمد ورسالته ، وما عزم عليه من الثورة والتضحية لإنقاذ شريعة جدِّه من أولئك المردة ، أحفاد أبي سفيان والحكم بن العاص طريد رسول الله ، حتّى ولو كلَّفه ذلك حياته وحياة بنيه وجميع أسرته .
وفيها اجتمع بتلك الوفود ومَن بقي من أنصار جدِّه ، ووضعهم تجاه مسؤوليَّاتهم ، واستعرضَ جميع أحداث معاوية ومواقفه المعادية للإسلام وما ينتظرهم من خليفته المستهتر الخليع ، ودعاهم إلى نصرته وجهاد الظالمين ، ومضى في طريقه إلى الهدف الأسمى والغاية القصوى وهو يتمثَّل بقول القائل :
إنْ كان دين محمدٍ لم يستقم إلاّ بقتلي يا سيوف iiخذيني
تاركاً وراءه آراء المشيرين والناصحين الذين لم تتَّسع آفاقهم لأهداف ثورته وما سيكون لها من الآثار السخية بالعطاء على مدى التاريخ.