حياة الامام الحسين قبل مقتله
مقتل الامام عليه السلام

خرج الإمام الحسين (عليه السلام) من المدينة متوجّهاً إلى مكة بأهله وإخوته وبني عمومته و بعض الخواصّ من شيعته ، ولم يبقَ إلاّ أخوه محمد بن الحنفية ، وأفادت بعض المصادر التاريخية بأنّ الإمام (عليه السلام) أقام في بيت العباس بن عبد المطلب فيما تحدّثت مصادر أخرى عن إقامته (عليه السلام) في شِعْب عليّ ، وأقام الإمام (عليه السلام) في مكة أربعة أشهر وأياماً من ذي الحجّة ، كان فيها مهوى القلوب ، فالتفّ حوله المسلمون يأخذون عنه الأحكام ويتعلّمون منه الحلال و الحرام ، ولم يتعرّض له أمير مكة يحيى بن حكيم بسوء ، وحيث ترك الإمام(عليه السلام) وشأنَه فقد عزله يزيد بن معاوية عنها ، واستعمل عليها عمرو بن سعيد بن العاص. وفي شهر رمضان من تلك السنة (60 هـ ) ضمّ إليه المدينة ، وعزل عنها الوليد بن عتبة ، لأنّه كان معتدلا في موقفه من الإمام(عليه السلام) ولم يستجب لطلب مروان.
رسائل أهل الكوفة إلى الإمام (عليه السلام) :
وقد عرف الناس في مختلف الأقطار امتناع الإمام الحسين (عليه السلام) عن البيعة فاتّجهت إليه الأنظار و بخاصّة أهل الكوفة ، فقد كانوا يومذاك من أشدّ الناس نقمةً على يزيد و أكثرِهم ميلا إلى الإمام(عليه السلام) فاجتمعوا في دار سليمان ابن صرد الخزاعي فقام فيهم خطيباً فقال : (إنَّ معاوية قد هلك ، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته ، وقد خرج إلى مكة ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه وأعلموه ، وإنْ خفتم الفشل والوهن فلا تغرّوا الرجل في نفسه ، قالوا : لا ، بل نقاتل عدوّه و نقتل أنفسنا دونه. قال: فاكتبوا إليه ، فكتبوا إليه :
(بسم الله الرحمن الرحيم للحسين بن عليّ (عليهما السلام) من سليمان بن صرد والمسيّب بن نَجَبَة ورفاعة بن شدّاد البجلي وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.
سلام عليك ، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو.
أمَّا بعد ، فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد ، الذي انتزى على هذه الأمة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، و تأمّر عليها بغير رضىً منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دُوْلةً بين جبابرتها وأغنيائها ، فبعداً له كما بعدت ثمود، إنّه ليس علينا إمام غيرك ، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ ، وانّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة ، وإننا لم نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى) .
ثم سرّحوا بالكتاب مع عبد الله بن مِسْمَع الهَمْداني و عبد الله بن وال وأمروهما بالنجاء فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسين (عليه السلام) بمكة لعشر مضين من شهر رمضان ، ولبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب ، وأنفذوا قيس بن مُسْهِر الصيداوي وعبد الله وعبد الرحمن ابني شداد الأرحبي وعمارة بن عبد السَلولي إلى الحسين (عليه السلام) ومعهم نحو من مائة وخمسين صحيفةً من الرجل والاثنين والأربعة ، ثم لبثوا يومين آخرين وسرّحوا إليه هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي ، وكتبوا إليه:
(بسم الله الرحمن الرحيم للحسين بن علي (عليهما السلام) من شيعته من المؤمنين والمسلمين.
أمَّا بعد ، فإنّ الناس ينتظرونك ، لا رأي لهم غيرك ، فالعجل العجل ، ثم العجل العجل والسلام).
ثم كتب شبث بن ربعي وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رُوَيْم وعروة بن قيس وعمرو بن الحجّاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي : (أمَّا بعد ، فقد اخضرّ الجَناب وأينعت الثمار ، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجنّدة ، والسلام).
جواب الإمام (عليه السلام) على رسائل الكوفيّين :
تتابعت كتب الكوفيّين كالسيل إلى الإمام الحسين (عليه السلام) وهي تدعوه إلى المسير والقدوم إليهم لإنقاذهم من ظلم الأمويين وبطشهم ، وكانت بعض تلك الرسائل تُحَمِّلُه المسؤولية أمام الله والأمة إن تأخّر عن إجابتهم ، ورأى الإمام ـ قبل كلّ شيء ـ أنْ يختار للقياهم سفيراً له يُعَرّفُه باتّجاهاتهم وصدق نيّاتهم ، وقد اختار ثقته و كبير أهل بيته مسلم بن عقيل ، وهو من أمهر الساسة وأكثرهم قدرةً على مواجهة الظروف الصعبة والصمود أمام الأحداث الجسام ، وزوّده برسالة رويت بصور متعدّدة، من بينها النصّ الذي رواه صاحب الإرشاد ، وهي كما يلي :
(بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن عليّ إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين : أمّا بعد ، فإنّ هانئاً و سعيداً قَدِما عليّ بكتبكم، وكانا آخر من قَدِمَ عليّ من رسلكم، وقد فهمتُ كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جُلّكم: أنّه ليس علينا إمام، فأقبلْ لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ والهدى، وإنّي باعث إليكم أخي وابنَ عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإنْ كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأيُ ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمتْ به رسلُكم، وقرأتُ في كتبكم فإنّي أقدمُ إليكم وشيكاً إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحقّ الحابسُ نَفسه على ذات الله ، والسلام).
تحرّك مسلم بن عقيل نحو الكوفة :
لقد أكّد المؤرّخون أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) أرسل مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبد الله السلولي وعبد الله وعبد الرحمن ابني شدّاد الأرحبي إلى الكوفة، بعد أنْ أمره (بالتقوى وكتمانِ أمرِه واللطف بالناس ، فإنْ رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّلَ إليه بذلك).
وفي النصف من شهر رمضان انطلق مسلم من مكة نحو الكوفة ، فعرّج
على المدينة فصلّى في مسجد رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) وودّع مَنْ أحَبَّ من أهله وواصل مسيره إلى الكوفة.
وتعدّدت أقوال المؤرّخين بشأن المكان الذي نزل فيه مسلم بن عقيل بعد أنْ وصل إلى الكوفة، فثمّة مَنْ قال : إنّه نزل في دار المختار بن أبي عبيدة ، وقيل : نزل في بيت مسلم بن عوسجة ، وقيل : في بيت هاني بن عروة.
وعندما علم الكوفيّون بوصول مبعوث الحسين (عليه السلام) إلى مدينتهم ; ازدحموا للقائه و بيعته، وحسب قول بعض المؤرّخين فقد أقبلت الشيعة تختلف إليه ، فلمّا اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين (عليه السلام) وهم يبكون وبايعه الناس ، حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً.
رسالة مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين (عليه السلام) :
ظلّ مسلم بن عقيل يجمع القواعد الشعبية ويأخذ البيعة للإمام (عليه السلام) وتوالت الوفود تقدم ولاءها ، و الجماهير تعلن عن استبشارها. وقد لاحظنا كيف أنّ الناس كانوا يبكون وهم يسمعون مسلماً يقرأ عليهم رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) التي فيها يحيّيهم ويعلن استعداده للقدوم إليهم وقيادة الثورة على الحكم الطاغي.
وبعد أن لاحظ مسلم كثرة الأنصار; بادر بالكتابة إلى الإمام(عليه السلام) ناقلا إليه صورةً حيّة للأحداث والوقائع التي تجري أمام عينيه في الكوفة ، وقيّم له
الموقف وأعرب عن تفاؤلهِ وسأله القدوم.
وقد جاء في رسالة مسلم للإمام(عليه السلام): (أَمّا بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشَر ألفاً، فعجّل حين يأتيك كتابي، فإنّ الناس كلَّهُم معك ، ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوىً).
رسالة الإمام (عليه السلام) إلى زعماء البصرة :
وذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) ـ بعد أن قرّر التوجّه إلى العراق ـ بعث رسالة إلى زعماء البصرة جاء فيها: (أمّا بعد ، فإنّ الله اصطفى محمّداً ( صلَّى الله عليه وآله) من خلقه ، وأكرمه بنبوّته ، واختاره لرسالته ، ثم قبضه إليه ، وقد نصح لعباده وبلّغ ما أرسل به ، و كنّا أهلَه و أولياءه و أوصياءه وورثته و أحقَّ الناس بمقامه فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية ، و نحن نعلم أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولاّه ، وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب ، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ، فإنّ السنّة قد أُميتت والبدعة قد أُحييت ، فإنْ تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد).
وقد بعث(عليه السلام) عدّة نسخ من هذه الرسالة إلى كلٍّ من : مالك بن مسمع البكري والأحنفِ بن قيس ، والمنذر بن الجارود ، و مسعود بن عمرو ، وقيس ابن الهيثم وعمرو بن عبيد بن معمر، ويزيد بن مسعود النهشلي ، وأرسل الإمام(عليه السلام) النسخ مع مولىً له يقال له: سليمان أبو رزين.
ولم يجب على رسالة الإمام(عليه السلام) غيرُ الأحنف بن قيس و يزيد بن مسعود، أمّا المنذر بن الجارود فقد سلّم رسول الحسين إلى ابن زياد ـ
وكان حينها والياً على البصرة ـ فصلبه عشية الليلة التي خرج في صبيحتها إلى الكوفة. وكانت ابنة المنذر زوجة ابن زياد فزعم المنذر أنّه كان يخشى أن يكون الرسول مدسوساً من ابن زياد لكشف نواياه.
جواب الأحنف بن قيس :
وأمّا الأحنف بن قيس ـ وهو أحد زعماء البصرة ـ فقد أجاب على رسالة الإمام(عليه السلام) برسالة كتب فيها هذه الآية الكريمة ولم يزد عليها: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم : 60]
وهذا الجواب يعكس مدى تخاذله وتقاعسه في مواجهة الظلم والمنكر.
جواب يزيد بن مسعود النهشلي :
واستجاب الزعيم الكبير يزيد بن مسعود النهشلي إلى تلبية نداء الحقّ، فاندفع بوحي من إيمانه و عقيدته إلى نصرة الإمام، فعقد مؤتمراً عامّاً دعا فيه القبائل الموالية له وهي :
1 ـ بنو تميم . 2 ـ بنو حنظلة . 3 ـ بنو سعد .
وانبرى فيهم خطيباً فكان ممّا قال : إنَّ معاوية مات ، فأهونْ به واللهِ هالكاً ومفقوداً ، ألا إنّه قد انكسر باب الجور والإثم ، وتضعضعت أركان الظلم ، وكان قد أحدث بيعة عقد بها أمراً ظنّ أنّه قد أحكمه ، و هيهات الذي أراد ، اجتهد والله ففشل , وشاور فخذل ، وقد قام يزيد شارب الخمور ورأس الفجور يدّعي الخلافة للمسلمين ، ويتأمرّ عليهم بغير رضىً منهم مع قصر حلم وقلّة علم ، لا يعرف من الحقّ موطأ قدميه ، فأُقسم بالله قسماً مبروراً لَجِهادُه على الدين أفضل من جهاد المشركين.
وهذا الحسين بن عليّ وابن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ذو الشرف الأصيل ، والرأي الأثيل. له فضل لا يوصف ، وعلم لا ينزف. وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وسنّه ، وقِدمه وقرابته من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله). يعطف على الصغير، ويُحسن إلى الكبير فأكرم به راعي رعية ، و إمام قوم و جبت لله به الحجّة ، وبلغت به الموعظة. فلا تعشوا عن نور الحقّ ، و لا تسكعوا في وهد الباطل ... والله لا يُقصِّر أحدكم عن نصرته إلاّ أورثه الله الذلّ في ولده ، والقلّة في عشيرته ، وها أنا قد لَبَسْتُ للحرب لامَتها وادَّرَعْتُ لها بِدِرْعِها. من لم يُقْتَلْ يَمُتْ , و مَن يهرب لم يفت ، فأحسنوا رحمكم الله رد الجواب).
ولما أنهى النهشلي خطابه ; انبرى وجهاء القبائل فأظهروا الدعم الكامل له ، فرفع النهشلي رسالة للإمام (عليه السلام) دلّت على شرفه ونبله و هذا نصها :
أمّا بعد ، فقد وصل إليَّ كتابك وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له من الأخذ بحظّي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك، وإنّ الله لم يخل الأرض قط من عامل عليها بخير ودليل على سبيل نجاة ، و أنتم حجّة الله على خلقه ووديعتُه في أرضه، تفرّعتم من زيتونة أحمدية، هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدم سعدت بأسعد طائر، فقد ذلّلت لك أعناق بني تميم، وتركتهم أشد تتابعاً في طاعتك من الإبل الضمأى لورود الماء يوم خمسها وقد ذلّلت لك رقاب بني سعد، و غسلت درن قلوبها بماء سحابة مزن حين استهلّ برقُها فلمع)
ويقول بعض المؤرّخين : إنّ الرسالة انتهت إلى الإمام(عليه السلام) في اليوم العاشر من المحرم بعد مقتل أصحابه وأهل بيته ، وهو وحيد فريد قد أحاطت به القوى الغادرة ، فلمّا قرأ الرسالة قال(عليه السلام) : (آمنك الله من الخوف، وأرواك يوم العطش الأكبر) .
ولمّا تجهّز ابن مسعود لنصرة الإمام بلغه قتله فَجَزع لذلك، وذابت نفسه أسىً وحسرات.
موقف والي الكوفة :
كان النعمان بن بشير والياً على الكوفة وقتذاك، ومع أنّه كان عثماني الهوى وأموي الرغبة لكنّه لم يكن راضياً عن خلافة يزيد، وبعد موت معاوية انضم إلى عبد الله بن الزبير وقاتل وقُتل معه.
وعليه فإنّه لم يتّخذ موقفاً متشدّداً من نشاطات مسلم بن عقيل في الكوفة، ولم يُنقل عنه في تلك المرحلة الحسّاسة سوى خِطاب ألقاه في جمع الكوفيين كان ـ كما يتصور ـ
لرفع العتب والتظاهر بأنّه يقوم بواجبه كوال تابع لحكومة الشام، وقد ذكر في خطابه :
(أمّا بعد، فاتّقوا الله عبادَ الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإنّ فيها تَهلِكُ الرجال وتُسفَكُ الدماء وتُغْصَبُ الأموال، إنّي لا أُقاتل مَنْ لا يقاتلني، ولا آتي على من لم يأت عليَّ، ولا أُنبّه نائمكم ولا أتحرّش بكم ولا آخُذُ بالقرف ولا الظِنَّة ولا التهمة، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فو الله الذي لا إله غَيرُه َلأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما أنّي أرجو أن يكون مَن يعرف الحقّ منكم أكثرَ مِمَّنْ يرديهِ الباطل).
فقام إليه عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني أمية فقال: إنَّهُ لا يُصْلِحُ ما ترى أيّها الأمير إلاّ الغُشْمُ، وأنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأيُ المستضعفين، فقال له النعمان: لئن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبُّ إليّ مِنْ أن أكون من الأعزّين في معصية الله.
أنصار الأمويين يتداركون أُمورهم :
كانت الكوفة تضمّ آنذاك فئةً من أنصار الأمويين والمعارضين لأهل البيت(عليهم السلام) وبين هذه الفئة كان بعض المنافقين الذين يتظاهرون بالتشيّع لأمير المؤمنين(عليه السلام) فيما كانوا يُبْطِنُونَ محبّة الأمويين، الأمر الذي ساعدهم في اختراق صفوف شيعة أهل البيت(عليهم السلام) والتجسس لصالح الحكم الأموي، وكان من بين هؤلاء عبد الله الحضرمي، الذي عاب على النعمان رأيَه كما لاحظنا قبل قليل، فقد كتب رسالةً إلى يزيد جاء فيها: (أمّا بعد، فإنّ مسلم بن عقيل قد قَدِمَ الكوفة و بايعته الشيعة للحسين بن عليّ بن أبي طالب، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعثْ إليها رجلا قويّاً ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضَعَّفُ).
ويضيف المؤرّخون أنّه كتب إليه ـ يعني إلى يزيد ـ عمارة بن عقبة بنحو كتابه ـ يعني كتاب الحضرمي ـ ثم كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص مثلَ ذلك.
قلق يزيد واستشارة السيرجون :
قَلِقَ يزيد كثيراً من الأخبار التي وصلته من الكوفة، وهي تتحدّث عن موقف الكوفيّين من الحكم الأموي ومبايعتهم للإمام الحسين(عليه السلام) فدعا يزيد السيرجون الذي كان يعدّ غلاماً لمعاوية فقال له: ما رأيك ؟ ـ إنّ حسيناً قد أنفذ إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيء، فَمَنْ ترى أن أستعمل على الكوفة؟ ، وكان يزيد عاتباً على عبيد الله ابن زياد ، فقال له السيرجون: أَرأيت لو يشير إليك معاوية حيّاً هل كنتَ آخذاً برأيه؟ قال : بلى. فأخرج السيرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة،

وقال: هذا رأي معاوية، مات وقد أمر بهذا الكتاب، فضُمّ المصرَيْن (يعني الكوفة والبصرة والتي كان والياً عليها أيام معاوية) إلى عبيد الله، فقال له يزيد: أفعلُ. إبعث بعهد عبيد الله ابن زياد إليه... ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي و كتب إلى عبيد الله معه كتاباً جاء فيه :
(أمّا بعد ، فإنّه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل فيها، يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتيَ الكوفة فتطلب ابنَ عقيل طَلَب الخِرزةِ حتى تثقفه فتُوثِقَه أو تقتله أو تنفيَهُ ، والسلام).
توجّه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة :
استلم عبيد الله بن زياد كتاب يزيد بن معاوية ، فانطلق في اليوم الثاني نحو الكوفة و معه مسلم بن عمرو الباهلي وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته ، حيث ينتظر أهلُها قدومَ الإمام الحسين (عليه السلام) و معظمهم لا يعرف شخصية الإمام ولم تكن قد التقته من قبل، وقد تعجّل ابن زياد الانتقال إلى الكوفة ليصلها قبل الإمام الحسين (عليه السلام).
باغت ابن زياد جماهير الكوفة وهو يُخفي معالم شخصيتِه و يتستّر على ملامحه ، فقد تلثّم ولبس عمامةً سوداء ، وراح يخترق الكوفة والناس ترحّب به وتسلِّمُ عليه وتردِّد : مرحباً بك يا ابن رسول الله قدمت خير مقدم.
فساءه ما سمع وراح يواصل السير نحو قصر الإمارة ، فاضطرب النعمان

وأطلّ من شرفات القصر يخاطب عبيد الله بن زياد ، وكان هو أيضاً قد ظنّ أنّه الإمام فخاطبه : أنشدك الله إلاّ ما تنحّيتَ، واللهِ ما أنا بمسلِّم إليك أمانتي، وما لي في قتالك من إرب ... .
صمت ابن زياد وراح يقترب من باب القصر ، حتى شخّص النعمان أنّ القادم هو ابن زياد، ففتح الباب ودخل ابن زياد القصر وأغلق بابه وباتَ ليلته ، وباتت الكوفة على وجل وترقّب وفي منعطف سياسي خطير.
محاولات ابن زياد للسيطرة على الكوفة :
فوجئ أهل الكوفة بابن زياد عند الصباح وهو يحتلّ القصر بالنداء : الصلاة جامعةً ، فقام خطيباً في الجموع المحتشدة وراح يُمنّي المطيع والسائر في ركب السياسة القائمة بالأماني العريضة ، ويهدّد ويتوعّد المعارضة والمعارضين والرافضين لحكومة يزيد ، حتى قال: . . سوطي وسيفي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي.
ثم فرض على الحاضرين مسؤولية التجسّس على المعارضين ، وهدّد مَنْ لَمْ يُساهم في هذه العملية ويُنَفِّذْ هذا القرار بالعقوبة وقطع المخصّصات المالية ، فقال : (... فمن يجيء لنا بهم فهو بريء ، و مَنْ لم يكتب لنا أحدٌ فليضمن لنا في عَرافته أن لا يخالِفَنا منهم مخالف ، ولا يبغي علينا منهم باغ ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ برئت منه الذمّة وحلال لنا دمُه ومالُه وأيُّما عريف وجد في عرافته من بُغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه الينا صُلب على باب داره وألغيت.
تلك العرافة من العطاء).
وقد كان ابن زياد معروفاً في أوساط الكوفيّين بالقسوة والشدّة، فكان من الطبيعي أن يُحْدِثَ قدومُه و خطابُه الشديد اللهجة هزّةً عند المعارضين لسياسته، فلاحت بوادر النكوص والتخاذل والإرجاف تظهر على الكوفيّين وقياداتهم، من هنا اعتمد مسلم بن عقيل وسيلةً جديدة للسير في حركته نحو الهدف المطلوب. فانتقل إلى دار هانئ بن عروة وجعل يتستّر في دعوته وتحركاته إلاّ عن خلّص أصحابه ، وهانىء يومذاك سيّد بني مراد وصاحب الكلمة المسموعة في الكوفة والرأي المطاع.


موقف مسلم من اغتيال ابن زياد :
لقد كان مسلم بن عقيل ـ رضوان الله تعالى عليه ـ يحمل رسالةً ساميةً وأخلاقاً فاضلة اكتسبها من بيت النبوّة، كما كان يملك درايةً بكلّ تقاليد وأعراف المجتمع الذي كان يتحرّك فيه، ففي موقف كان يمكن فيه لمسلم ابن عقيل أن يغتال ابن زياد رفض ذلك لاعتبارات شتّى.
فقد روي أنّ شريك بن الأعور حين نزل في دار هانئ بن عروة مرض مرضاً شديداً، وحين علم عبيد الله بن زياد بذلك قدم لعيادته، وهنا اقترح شريك على مسلم أن يغتال ابن زياد، فقال: إنّما غايتك و غاية شيعتك هلاك هذا الطاغية، وقد أمكنك الله منه وهو صائر إليّ ليعودني، فقم وأدخل الخزانة حتى إذا اطمأنّ عندي فاخرج إليه فاقتله، ثم صر إلى قصر الإمارة فاجلس فيه فإنّه لا ينازعنّك فيه أحد من الناس.
ولمس مسلم كراهية هانئ أن يقتل عبيد الله في داره، ولم يأخذ مسلم باقتراح شريك، وحين خرج عبيد الله قال شريك بحسرة وألم لمسلم : ما منعك من قتله؟ قال مسلم: منعني منه خلّتان: أحدهما كراهية هانىء لقتله في منزله، والاُخرى قول رسول الله(صلَّى الله عليه وآله): (إنّ الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن).
الغدر بمسلم بن عقيل :
اتّخذ ابن زياد كلّ وسيلة مهما كانت دنيئة للقضاء على الوجود السياسي والتحرّك الذي برز منذراً بالخطر بوجود مسلم بن عقيل على النظام الأموي، وسارع للقضاء على مسلم بن عقيل وكلّ الموالين له قبل وصول الإمام الحسين (عليه السلام) وليتمكّن بذلك من إفشال الثورة ، فدبّر خطّةً للتجسّس على تحرّكات مسلم ومكانه والموالين له ، واستطاع أن يكتشف مخبأه وأن يعلم بمقرّه فكانت بداية تخاذل الناس عن الصمود في مواجهة الظلم.
لقد استطاع الوالي الجديد عبيد الله بن زياد أن يُحْكِمَ الحيلةَ والخداع ليقبضَ على هانئ بن عروة الذي آوى رسول الحسين(عليه السلام) وأحسن ضيافته واشترك معه في الرأي والتدبير، فقبض عليه وقتله بعد حوار طويل جرى بينهما ، وألقى بجثمانه من أعلى القصر إلى الجماهير المحتشدة حوله ، فاستولى الخوف والتخاذل على الناس ، وذهب كلّ إِنسان إلى بيته وكأنّ الأمر لا يعنيه.
ولمّا علم مسلم بما جرى لهانىء ورأى تَخاذُلَ عشيرته مذحج الغنية بعددها وعدَّتِها خرج في أصحابه ونادى مناديه في الناس وسار بهم لمحاصرة القصر، واشتد الحصار على ابن زياد وضاق به أمرُه، ولكنّه استطاع بدهائه ومكره أن يتغلّب على المحنة ويُخذِّلَ الناسَ عن مسلم.
لقد دسّ ابن زياد في أوساط الناس أشخاصاً يُخَذِّلونهم ويتظاهرون بالدعوة إلى حفظ الأمن والاستقرار وعدم إراقة الدماء ، ويحذّرون من قدوم جيش جرّار من الشام بهدف كسب الوقت وتفتيت قوى الثوار. واستمرّ الموقف كذلك والناس تنصرف وتتفرّق عن مسلم. وبدخول الليل صلّى بمن بقي معه وخرج من المسجد الجامع وحيداً لا ناصر له ولا مؤازر ولا مَنْ يَدُ لُّه على الطريق ، وأقفل الناس أبوابهم في وجهه، فمضى يبحث عن دار يأوي إليها في ليلته تلك ، وفيما هو يسير في ظلمة الليل وجد امرأةً على باب دارها وكأنّها تنتظر شيئاً ، فعرّفها بنفسه وسألها المبيت عندها إلى الصباح , فرحّبت به وأدخلته بيتها وعرضت عليه العشاء فأبى أن يأكل شيئا ، وعرف ولدها بمكانه وكان ابن زياد قد أعدّ جائزة لِمَنْ يخبره عنه ، وما كاد الصبح يتنفّس حتى أسرع ولدها إلى القصر وأخبر محمد بن الأشعث بمكان مسلم بن عقيل ، و فور وصول النبأ إلى ابن زياد أرسل قوّة كبيرة من جنده بقيادة ابن الأشعث إلى المكان الذي فيه مسلم، وما أن سمع بالضجّة حتى أدرك أنّ القوم يطلبونه فخرج إليهم بسيفه.
وقد اقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك، مع انّهم تكاثروا عليه بعد أن اُثخن بالجراح فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض فاُخذ أسيراً وحمل على بلغة وانتزع الأشعث سيفه وسلاحه وأخذوه إلى القصر فاُدْخِلَ على ابن زياد ولم يسلّم عليه، وجرى بينهما حوار طويل كان فيه ابن عقيل (رضوان الله عليه) رابط الجأش منطلقاً في بيانه قويّ الحجّة، حتى أعياه أمرُه وانتفخت أوداجه وجعل يشتم عليّاً والحسن والحسين، ثم أمر أجهزته أن يصعَدوا به إلى أعلى القصر ويقتلوه ويرموا جسده إلى الناس ويسحبوه في شوارع الكوفة ثم يصلبوه إلى جانب هانىء بن عروة ، هذا وأهل الكوفة وقوف في الشوارع لا يحرّكون ساكناً وكأنّهم لا يعرفون من أمره شيئاً.
وكان مسلم قد طلب من ابن الأشعث أن يكتب إلى الحسين(عليه السلام) يخبره بما جرى في الكوفة وينصحه بعدم الشخوص إليهم، فوعده ابن الأشعث بذلك، ولكنّه لم يفِ بوعده.