لما قدم الحسين (عليه السلام) الى مكة في الثالث من شعبان سنة (60) للهجرة، بقي فيها ذلك الشهر و شهر رمضان و شوّال و ذي القعدة، و اشتغل هناك بعبادة اللّه و اطاعته، و اجتمع إليه تلك الفترة جمع من شيعة الحجاز و البصرة.
فأحرم الامام (عليه السلام) للحج في ذي الحجة، و في الثامن من هذا الشهر و هو يوم التروية قدم عمرو بن سعيد بن العاص مكة في جمع كثيف و اظهر انّه يريد الحج لكنه أمر من قبل يزيد بالقاء القبض على الحسين (عليه السلام) ثم ارساله الى يزيد أو قتله.
و كان الحسين (عليه السلام) يعلم مكنون خاطرهم فعدل عن الحج الى العمرة و طاف بالبيت و سعى ما بين الصفا و المروة و أحلّ فتوجّه من يومه الى العراق.
قال ابن عباس: رأيت الحسين (عليه السلام) قبل أن يتوجّه الى العراق على باب الكعبة و كفّ جبرئيل (عليه السلام) في كفّه، و جبرئيل ينادي: «هلمّوا الى بيعة اللّه».
و روى السيد ابن طاوس انّه: لما عزم الحسين (عليه السلام) على الخروج الى العراق قام خطيبا فقال: «الحمد للّه ما شاء اللّه و لا قوّة الّا باللّه و صلى اللّه على رسوله، خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، و ما أولهني الى أسلافي اشتياق يعقوب الى يوسف، و خيّر لي مصرع أنا لاقيه كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات (أي جيش أهل الكوفة) بين النواويس و كربلاء، فيملأنّ منّي اكراشا جوفا و أجربة سغبا لا محيص عن يوم خطّ بالقلم رضى اللّه رضانا أهل البيت نصبر على بلائه و يوفّينا أجر الصابرين.
لن تشذّ عن رسول اللّه (صلى الله عليه واله)لحمته و هي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّبهم عينه و ينجز بهم وعده، من كان باذلا فينا مهجته و موطنا على لقاء اللّه نفسه فليرحل معنا فانّني راحل مصبحا إن شاء اللّه تعالى».
و روى أيضا بسند معتبر عن الصادق (عليه السلام) انّه قال: سار محمد بن الحنفية الى الحسين (عليه السلام) في الليلة التي أراد الخروج صبيحتها عن مكة، فقال: يا أخي انّ أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بابيك و أخيك و قد خفت أن يكون حالك كحال من مضى، فان رأيت أن تقيم فانّك أعزّ من في الحرم و أمنعه.
فقال: يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فاكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت، فقال له ابن الحنفية: فان خفت ذلك فصر الى اليمن أو بعض نواحي البرّ فانّك أمنع الناس به و لا يقدر عليك، فقال: أنظر فيما قلت.
فلمّا كان في السحر ارتحل الحسين (عليه السلام) فبلغ ذلك ابن الحنفية، فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها، فقال له: يا أخي أ لم تعدني النظر فيما سألتك؟ قال: بلى، قال: فما حداك على الخروج عاجلا؟ فقال: أتاني رسول اللّه (صلى الله عليه واله)بعد ما فارقتك فقال: «يا حسين أخرج فانّ اللّه قد شاء أن يراك قتيلا».
فقال له ابن الحنفية: انّا للّه و انّا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك و أنت تخرج على مثل هذه الحال؟ قال له: «قد قال لي: انّ اللّه قد شاء أن يراهنّ سبايا».
و سلّم عليه و مضى .
و في روايات معتبرة انّه جاء كل من العبادلة (عبد اللّه بن عباس و عبد اللّه بن الزبير و عبد اللّه بن عمر) و منعوا الحسين (عليه السلام) من السير نحو العراق، فكان يجيب كل واحد منهم جوابا شافيا ثم يودّعه و يذهب.
و روى أبو الفرج الاصبهاني و غيره انّه: و جاء به عبد اللّه بن عباس، و قد اجمع الحسين (عليه السلام) رأيه على الخروج و حققه، فجعل يناشده في المقام و يعظم عليه القول في ذمّ أهل الكوفة، و قال له: انّك تأتي قوما قتلوا أباك، و طعنوا أخاك، و ما أراهم الّا خاذليك، فقال له: هذه كتبهم معي و هذا كتاب مسلم باجتماعهم، فقال له ابن عباس: أما اذ كنت لا بد فاعلا فلا تخرج أحدا من ولدك و لا حرمك و لا نسائك، فخليق أن تقتل و هم ينظرون إليك كما قتل ابن عفان، فأبى ذلك و لم يقبله.
قال: فذكر من حضره يوم قتل و هو يلتفت الى حرمه و اخوته و هنّ يخرجن من أخبيتهنّ جزعا لقتل من يقتل معه و ما يرينه به و يقول: للّه درّ ابن عباس فيما أشار عليّ به.
قال: فلما أبى الحسين (عليه السلام) قبول رأي ابن عباس أرسل عينيه في البكاء و ودّع الحسين (عليه السلام) و انصرف، و مضى الحسين (عليه السلام) لوجهه و لقى ابن عباس بعد خروجه عبد اللّه ابن الزبير فقال له ابن عباس:
يا لك من قبّرة بمعمر خلا لك الجوّ فبيضي و اصفري
و نقّري ما شئت أن تنقّري هذا الحسين خارج فاستبشري
على كل حال، لمّا خرج الحسين (عليه السلام) من مكة، بعث عمرو بن سعيد بن العاص أخاه يحيى في جماعة كي يمنعوه من السفر، فلمّا وصلوا إليه قالوا: انصرف الى أين تذهب؟ فأبى عليهم و مضى و تدافع الفريقان و اضطربوا بالسياط و امتنع الحسين و اصحابه منهم، فتركوه (عليه السلام) قبل وقوع القتال.