قال أرباب المقاتل و في الاحتجاج: ثم قام الحسين (عليه السلام) فركب فرسه و تقدم إلى القتال و هو يقول:
كفر القوم و قدما رغبوا عن ثواب اللّه رب الثقلين
قتلوا القزم عليا و ابنه حسن الخير كريم الأبوين
حنقا منهم و قالوا أجمعوا أحشروا الناس إلى حرب الحسين
يا لقوم من أناس رذل جمعوا الجمع لأهل الحرمين
ثم صاروا و تواصوا كلهم باجتياحي لرضاء الملحدين
لم يخافوا اللّه في سفك دمي لعبيد اللّه نسل الكافرين
و ابن سعد قد رماني عنوة بجنود كوكوف الهاطلين
لا لشيء كان مني قبل ذا غير فخري بضياء الفرقدين
بعلي الخير من بعد النبي و النبي القرشي الوالدين
خيرة اللّه من الخلق أبي ثم أمي فأنا ابن الخيرتين
فضة قد خلصت من ذهب فأنا الفضة و ابن الذهبين
من له جد كجدي في الورى أو كشيخي فأنا ابن العلمين
فاطم الزهراء أمي و أبي قاصم الكفر ببدر و حنين
عبد اللّه غلاما يافعا و قريش يعبدون الوثنين
يعبدون اللات و العزى معا و علي كان صلى القبلتين
فأبي شمس و أمي قمر فأنا الكوكب و ابن القمرين
و له في يوم أحد وقعة شفت الغل بفض العسكرين
ثم في الأحزاب و الفتح معا كان فيها حتف أهل الفيلقين
في سبيل اللّه ما ذا صنعت أمة السوء معا بالعترتين
عترة البر النبي المصطفى و على الورد يوم الجحفلين
ثم وقف قبالة القوم و سيفه مصلت في يده آيسا من الحياة عازما على الموت و هو يقول:
أنا ابن علي الطهر من آل هاشم كفاني بهذا مفخرا حين أفخر
و جدي رسول اللّه أكرم من مشى و نحن سراج اللّه في الخلق يزهر
و فاطم أمي من سلالة أحمد و عمي يدعى ذا الجناحين جعفر
و فينا كتاب اللّه أنزل صادقا و فينا الهدى و الوحي بالخير يذكر
و نحن أمان اللّه للناس كلهم نسر بهذا في الأنام و نجهر
و نحن ولاة الحوض نسقي ولاتنا بكأس رسول اللّه ما ليس ينكر
و شيعتنا في الناس أكرم شيعة و مبغضنا يوم القيامة يخسر
قال محمد بن أبي طالب: و ذكر أبو علي السلامي في تاريخه أن هذه الأبيات للحسين (عليه السلام) من إنشائه و قال ليس لأحد مثلها:
فإن تكن الدنيا تعد نفيسة فإن ثواب اللّه أعلى و أنبل
و إن تكن الأبدان للموت أنشأت فقتل امرئ بالسيف في اللّه أفضل
و إن تكن الأرزاق قسما مقدرا فقلة سعي المرء في الكسب أجمل
و إن تكن الأموال للترك جمعها فما بال متروك به المرء يبخل
ثم إنه دعا الناس إلى البراز فلم يزل يقتل كل من دنا منه حتى قتل منهم مقتلة عظيمة ثم حمل على الميمنة و قال:
الموت خير من ركوب العار و العار أولى من دخول النار
ثم حمل على الميسرة و هو يقول:
أنا الحسين بن علي آليت أن لا أنثني
أحمي عيالات أبي أمضي على دين النبي
قال بعض الرواة: فو اللّه ما رأيت مكثورا قط قد قتل ولده و أهل بيته و أصحابه أربط جأشا منه (عليه السلام) و إن كانت الرجال لتشد عليه فيشد عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب و لقد كان يحمل فيهم و قد تكملوا ثلاثين ألفا فينهزمون بين يديه كأنهم الجراد المنتشر ثم يرجع إلى مركزه و هو يقول: لا حول و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم.
من ترى مثله إذا دارت الحر ب و دارت على الكماة رحاها
لم يخض في الهياج إلا و أبدى عزمة يتقي الردى إياها
صاحب الهمة التي لو أرادت وطأت عاتق السهى قدماها
ملأ الأرض بالزلازل حتى زاد من ارؤس الكماة رباها
لا تخل سيفه سوى نفخة الصور تسل الأرواح من أشلاها
فكأن الأنفاس قد عاهدته في جفاء النفوس مهما جفاها
فأبان الأعناق عن مركز الأبدان حتى كأن ناف نفاها
لا تقس بأسه ببأس سواه إنما أفضل الظبي أمضاها
و في إثبات الوصية: و روي أنه قتل بيده ذلك اليوم ألفا و ثمانمائة مقاتل .
و في البحار و قال ابن شهرآشوب و محمد بن أبي طالب: و لم يزل يقاتل حتى قتل ألف رجل و تسعمائة رجل و خمسين رجلا سوى المجروحين. فقال عمر ابن سعد لقومه: الويل لكم أ تدرون لمن تقاتلون؟ هذا ابن الأنزع البطين هذا ابن قتال العرب فاحملوا عليه من كل جانب. و كانت الرماة أربعة آلاف فرموه بالسهام فحالوا بينه و بين رحله .
قال ابن أبي طالب و صاحب المناقب و السيد (رحمه الله): فصاح بهم و يحكم يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين و كنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم و ارجعوا إلى أحسابكم إذ كنتم أعرابا. فناداه شمر فقال: ما تقول يا بن فاطمة؟ قال: أقول أنا الذي أقاتلكم و تقاتلوني و النساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم عن التعرض لحرمي ما دمت حيا. فقال شمر: لك هذا. ثم صاح شمر:
إليكم عن حرم الرجل فاقصدوه في نفسه فلعمري هو كفو كريم.
قال: فقصده القوم و هو في ذلك يطلب شربة من ماء فكلما حمل بفرسه على الفرات حملوا عليه بأجمعهم حتى أجلوه عنه .
و قال ابن شهرآشوب: روى أبو مخنف عن الجلودي أن الحسين (عليه السلام) حمل على الأعور السلمي و عمرو بن الحجاج الزبيدي و كانا في أربعة آلاف رجل على الشريعة و أقحم الفرس على الفرات فلما أولغ الفرس برأسه ليشرب قال: أنت عطشان و أنا عطشان و اللّه لا ذقت الماء حتى تشرب. فلما سمع الفرس كلام الحسين (عليه السلام) شال برأسه و لم يشرب كأنه فهم الكلام فقال الحسين:
اشرب فأنا أشرب فمد الحسين (عليه السلام) يده فغرف من الماء فقال فارس: يا أبا عبد اللّه تتلذذ بشرب الماء و قد هتكت حرمك. فنفض الماء من يده و حمل على القوم فكشفهم فإذا الخيمة سالمة .
و قال العلامة المجلسي في الجلاء: ثم ودع ثانيا أهل بيته و أمرهم بالصبر و وعدهم بالثواب و الأجر و أمرهم بلبس أزرهم و قال لهم: استعدوا للبلاء و اعلموا أن اللّه تعالى حافظكم و حاميكم و سينجيكم من شر الأعداء و يجعل عاقبة أمركم إلى خير و يعذب أعاديكم بأنواع البلاء و يعوضكم اللّه عن هذه البلية بأنواع النعم و الكرامة فلا تشكوا و لا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم .
و قال في البحار: و قال أبو الفرج: قال و جعل الحسين (عليه السلام) يطلب الماء و شمر لعنه اللّه يقول: و اللّه لا ترده أو ترد النار. فقال له رجل: أ لا ترى إلى الفرات يا حسين كأنه بطون الحيتان (الحيات خ ل) و اللّه لا تذوقه أو تموت عطشا.
فقال الحسين (عليه السلام): اللهم أمته عطشا. قال: و اللّه لقد كان هذا الرجل يقول اسقوني ماء فيؤتى بماء فيشرب حتى يخرج من فيه ثم يقول اسقوني قتلني العطش. فلم يزل كذلك حتى مات.
قالوا: ثم رماه رجل من القوم يكنى أبا الحتوف بسهم فوقع السهم في جبهته فنزعه من جبهته فسالت الدماء على وجهه و لحيته فقال: اللهم انك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة اللهم أحصهم عددا و اقتلهم بددا و لا تذر على وجه الأرض منهم أحدا و لا تغفر لهم أبدا. ثم حمل عليهم كالليث المغضب فجعل لا يلحق منهم أحدا إلا بعجه (نفحه خ ل) بسيفه فقتله و السهام تأخذه من كل ناحية و هو يتقيها بنحره و صدره و يقول: يا أمة السوء بئسما خلفتم محمدا في عترته أما انكم لن تقتلوا بعدي عبدا من عباد اللّه فتهابوا قتله بل يهون عليكم عند قتلكم إياي و أيم اللّه إني لأرجو أن يكرمني ربي بالشهادة بهوانكم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون.
قال فصاح به الحصين بن مالك السكوني فقال: يا ابن فاطمة و بما ذا ينتقم لك منا؟ قال: يلقى بأسكم بينكم و يسفك دماءكم ثم يصب عليكم العذاب الأليم.
ثم لم يزل يقاتل حتى أصابته جراحات عظيمة .
و قال صاحب المناقب و السيد (رحمه الله): حتى أصابته اثنتان و سبعون جراحة .
و قال ابن شهرآشوب: قال أبو مخنف عن جعفر بن محمد (عليه السلام): قال وجدنا بالحسين ثلاثا و ثلاثين طعنة و أربعا و ثلاثين ضربة .
و قال الباقر (عليه السلام): أصيب الحسين و وجد به ثلاثمائة و بضعة و عشرون طعنة برمح و ضربة بسيف أو رمية بسهم .
و روي: ثلاثمائة و ستون جراحة و قيل: ثلاث و ثلاثون ضربة سوى السهام و قيل: ألف و تسعمائة جراحة و كانت السهام في درعه كالشوك في جلد القنفذ و روي: أنها كانت كلها في مقدمه .
قالوا: فوقف يستريح ساعة و قد ضعف عن القتال. فبينما هو واقف إذ أتاه حجر فوقع في جبهته فأخذ الثوب ليمسح الدم عن وجهه فأتاه سهم محدد مسموم له ثلاث شعب فوقع السهم في صدره- و في بعض الروايات على قلبه- فقال الحسين (عليه السلام): بسم اللّه و باللّه و على ملة رسول اللّه. و رفع رأسه إلى السماء و قال: إلهي إنك تعلم أنهم يقتلون رجلا ليس على وجه الأرض ابن نبي غيره. ثم أخذ السهم فأخرجه من قفاه فانبعث الدم كالميزاب فوضع يده على الجرح فلما امتلأت رمى به إلى السماء فما رجع من ذلك الدم قطرة و ما عرفت الحمرة في السماء حتى رمى الحسين بدمه إلى السماء. ثم وضع يده ثانيا فلما امتلأت لطخ بها رأسه و لحيته و قال: هكذا أكون حتى ألقى جدي رسول اللّه و أنا مخضوب بدمي و أقول: يا رسول اللّه قتلني فلان و فلان .
قال الشيخ المفيد (رحمه الله) بعد أن ذكر ركوب الحسين (عليه السلام) المسناة و قتل أخيه العباس ما هذا لفظه: و لما رجع الحسين من المسناة إلى فسطاطه تقدم إليه شمر بن ذي الجوشن في جماعة من أصحابه فأحاط به فأسرع منهم رجل يقال له مالك بن النسر الكندي فشتم الحسين (عليه السلام) و ضربه على رأسه بالسيف و كان عليه قلنسوة فقطعها حتى وصل السيف إلى رأسه فأدماه فامتلأت القلنسوة دما .
فقال له الحسين (عليه السلام): لا أكلت بيمينك و لا شربت بها و حشرك اللّه مع الظالمين. ثم ألقى القلنسوة و دعا بخرقة فشد بها رأسه و استدعى قلنسوة أخرى فلبسها و اعتم عليها .
قلت: و ذكر مثل ذلك الطبري إلا أنه ذكر مكان القلنسوة البرنس و زاد بعد قوله و اعتم ما هذا لفظه: و قد أعيى (عليه السلام) و بلد و جاء الكندي حتى أخذ البرنس و كان من خز فلما قدم به بعد ذلك على امرأته أم عبد اللّه ابنة الحر أخت حسين بن الحر البدي أقبل يغسل البرنس من الدم فقالت له امرأته: اسلب ابن بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله تدخل بيتي أخرجه عني فذكر أصحابه أنه لم يزل فقيرا بشر حتى مات .
و قال الطبري: قال أبو مخنف في حديثه: ثم أن شمرا بن ذي الجوشن أقبل في نفر من نحو عشرة من رجالة أهل الكوفة قبل منزل الحسين (عليه السلام) الذي فيه ثقله و عياله فمشى نحوه فحالوا بينه و بين رحله فقال الحسين (عليه السلام):
ويلكم إن لم يكن لكم دين و كنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا في أمر دنياكم أحرارا ذوي أحساب امنعوا رحلي و أهلي من طغاتكم (طغامكم خ ل) و جهالكم.
فقال ابن ذي الجوشن: ذلك لك يا بن فاطمة.
قال: و أقدم عليه بالرجالة منهم أبو الجنوب و اسمه عبد الرحمن الجعفي و القشعم بن عمرو بن يزيد الجعفي و صالح بن وهب اليزني و سنان بن أنس النخعي و خولي بن يزيد الأصبحي فجعل شمر بن ذي الجوشن يحرضهم فمر بأبي الجنوب و هو شاك في السلاح فقال له: أقدم عليه. قال: و ما يمنعك أن تقدم عليه أنت؟ فقال له شمر: ألي تقول ذا؟ قال: و أنت لي تقول ذا؟ فاستبا فقال له أبو الجنوب- و كان شجاعا-: و اللّه لهممت أن أخضخض السنان في عينك. قال:
فانصرف عنه شمر و قال: و اللّه لئن قدرت أن أضربك لأضربك.
قال: ثم ان شمر بن ذي الجوشن أقبل في الرجالة نحو الحسين (عليه السلام) فأخذ الحسين يشد عليهم فينكشفون عنه ثم انهم أحاطوا به احاطة. و أقبل إلى الحسين (عليه السلام) غلام من أهله فأخذته أخته زينب ابنة علي (عليه السلام) لتحبسه فقال لها الحسين (عليه السلام): احبسيه فأبى الغلام و جاء يشتد إلى الحسين (عليه السلام) فقام إلى جنبه .
و قال الشيخ المفيد (رحمه الله): فخرج إليهم عبد اللّه بن الحسن بن علي عليهم السلام- و هو غلام لم يراهق- من عند النساء يشتد حتى وقف إلى جنب الحسين (عليه السلام) فلحقته زينب بنت علي لتحبسه فقال لها الحسين (عليه السلام):
احبسيه يا أختي فأبى و امتنع عليها امتناعا شديدا و قال: لا و اللّه لا أفارق عمي و أهوى ابحر (بحر خ ل) بن كعب إلى الحسين (عليه السلام) بالسيف فقال له الغلام: ويلك يا بن الخبيثة أ تقتل عمي فضربه أبحر بالسيف فاتقاه الغلام بيده فأطنها إلى (الا خ ل) الجلدة فإذا يده معلقة فنادى الغلام: يا أبتاه (يا أمتاه خ ل) فأخذه الحسين (عليه السلام) فضمه إليه (إلى صدره خ ل) و قال: يا بن أخي اصبر على ما نزل بك و احتسب في ذلك الخير فإن اللّه يلحقك بآبائك الصالحين برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و علي بن أبي طالب و حمزة و جعفر و الحسن بن علي صلى اللّه عليهم أجمعين. ثم رفع الحسين (عليه السلام) يده و قال: اللهم امسك عنهم قطر السماء و امنعهم بركات الأرض اللهم فإن (ان خ ل) متعتهم إلى حين ففرقهم فرقا و اجعلهم طرائق قددا و لا ترض الولاة عنهم أبدا فانهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا فقتلونا .
قال السيد: فرماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه و هو في حجر عمه الحسين (عليه السلام) .
قال ابن عبد ربه في العقد الفريد: و رأى رجل من أهل الشام عبد اللّه بن الحسن بن علي (عليه السلام)- و كان من أجمل الناس- فقال: لأقتلن هذا الفتى.
فقال له رجل: ويحك ما تصنع به دعه فأبى و حمل عليه فضربه بالسيف فقتله فلما أصابته الضربة قال: يا عماه. قال: لبيك صوتا قل ناصره و كثر واتره. و حمل الحسين (عليه السلام) على قاتله فقطع يده ثم ضربه ضربة أخرى فقتله ثم اقتتلوا .
أقول: الظاهر أنه اشتبه على ابن عبد ربه فذكر مكان القاسم بن الحسن عبد اللّه بن الحسن.
قال الطبري: و ضارب (عليه السلام) الرجالة حتى انكشفوا عنه .
و قال المفيد (رحمه الله): و حملت الرجالة يمينا و شمالا على من كان بقي مع الحسين (عليه السلام) فقتلوهم حتى لم يبق معه إلا ثلاثة نفر أو أربعة .
و قال الطبري و الجزري أيضا: و لما بقي مع الحسين في ثلاثة رهط أو أربعة دعا بسراويل محققة يلمع فيها البصر يماني محقق ففرزه و نكثه لكيلا يسلبه فقال له بعض أصحابه: لو لبست تحته تبانا. قال: ذلك ثوب مذلة و لا ينبغي لي أن ألبسه.
قال: فلما قتل أقبل بحر بن كعب فسلبه إياه فتركه مجردا .
قال الأزدي: فحدثني عمرو بن شعيب عن محمد بن عبد الرحمن أن يدي بحر بن كعب كانتا في الشتاء ينضحان الماء و في الصيف تيبسان كأنهما عودان .
و قال السيد: قال الراوي: و قال الحسين (عليه السلام): ابغوا لي ثوبا لا يرغب فيه أجعله تحت ثيابي لئلا أجرد منه فأتي بتبان فقال: لا ذاك لباس من ضربت عليه الذلة فأخذ ثوبا خلقا فخرقه و جعله تحت ثيابه فلما قتل (عليه السلام) جردوه منه. ثم استدعى الحسين (عليه السلام) بسراويل من حبرة و ذكر مثل ما ذكرناه .
قال الشيخ المفيد (رحمه الله): و لما لم يبق مع الحسين (عليه السلام) أحد إلا ثلاثة رهط من أهله أقبل على القوم يدفعهم عن نفسه و الثلاثة يحمونه حتى قتل الثلاثة و بقي وحده و قد أثخن بالجراح في رأسه و بدنه فجعل يضاربهم بسيفه و هم يتفرقون عنه يمينا و شمالا .
فقال حميد بن مسلم: فو اللّه ما رأيت مكثورا قط قد قتل ولده و أهل بيته و أصحابه أربط جأشا و لا أمضى جنانا منه (عليه السلام) ان كانت الرجالة لتشد عليه فيشد عليها بسيفه فينكشف عن يمينه و شماله انكشاف المعزى إذا شد فيه الذئب.
فلما رأى ذلك شمر بن ذي الجوشن استدعى الفرسان فصاروا في ظهور الرجالة و أمر الرماة أن يرموه فرشقوه بالسهام حتى صار كالقنفذ فأحجم عنهم فوقفوا بإزائه .
و خرجت زينب إلى باب الفسطاط فنادت عمر بن سعد بن أبي وقاص:
ويحك يا عمر أ يقتل أبو عبد اللّه و أنت تنظر إليه؟ فلم يجبها عمر بشيء فنادت:
ويحكم ما فيكم مسلم فلم يجبها أحد بشيء .
و في رواية الطبري: و قد دنا عمر بن سعد من حسين (عليه السلام) فقالت: يا عمر بن سعد أ يقتل أبو عبد اللّه و أنت تنظر إليه؟ قال: فكأني أنظر إلى دموع عمر و هي تسيل على خديه و لحيته. قال: و صرف بوجهه عنها .
قال السيد (رحمه الله): و لما أثخن الحسين (عليه السلام) بالجراح و بقي كالقنفذ طعنه صالح بن وهب المزني (اليزني خ ل) على خاصرته طعنة فسقط الحسين (عليه السلام) عن فرسه إلى الأرض على خده الأيمن و هو يقول: بسم اللّه و باللّه و على ملة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله. ثم قام صلوات اللّه عليه .
قال الراوي: و خرجت زينب من باب الفسطاط و هي تنادي: وا أخاه وا سيداه وا أهل بيتاه ليت السماء أطبقت على الأرض و ليت الجبال تدكدكت على السهل. قال: و صاح شمر بأصحابه: ما تنتظرون بالرجل. قال: و حملوا عليه من كل جانب- انتهى .
و روي عن حميد بن مسلم قال: كانت على الحسين (عليه السلام) جبة من خز و كان معتما و كان مخضوبا بالوسمة. قال: و سمعته يقول قبل أن يقتل و كان راجلا يقاتل على رجليه قتال الفارس الشجاع يتقي الرمية و يقطع من الفارس ما بدا فيه موضع خلل للضرب و يشد على الخيل و هو يقول: أ علي تحاثون أما و اللّه لا تقتلون بعدي عبدا من عباد اللّه اللّه أسخط عليكم لقتله مني و أيم اللّه إني لأرجو أن يكرمني اللّه بهوانكم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون أما و اللّه ان لو قد قتلتموني لقد ألقى اللّه بأسكم بينكم و سفك دماءكم ثم لا يرضى لكم بذلك حتى يضاعف لكم العذاب الأليم.
قال: و لقد مكث طويلا من النهار و لو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا و لكنهم كان يتقي بعضهم ببعض و يحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء. قال: فنادى شمر في الناس:
و يحكم ما ذا تنتظرون بالرجل اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم. قال: فحمل عليه من كل جانب .
قال الشيخ المفيد (رحمه الله): فضربه زرعة بن شريك لعنه اللّه على كفه اليسرى فقطعها و ضربه آخر منهم على عاتقه فكبا منها لوجهه .
و في رواية الطبري: ثم انصرفوا و هو (عليه السلام) ينوء و يكبو. قال: و حمل عليه في تلك الحال سنان بن أنس بن عمرو النخعي فطعنه بالرمح فوقع .
و قال المفيد و الطبرسي: و بدر إليه خولي بن يزيد الأصبحي فنزل ليحتز رأسه فأرعد فقال شمر: فت اللّه في عضدك ما لك ترعد؟ و نزل شمر إليه فذبحه .
قال أبو العباس أحمد بن يوسف الدمشقي القرماني المتوفى سنة 1019 في أخبار الدول:
و اشتد العطش به (عليه السلام) فمنعوه الماء فحصل له شربة ماء فلما أهوى ليشرب رماه حصين بن نمير بسهم في حنكه فصار الماء دما ثم رفع يديه إلى السماء و يقول: اللهم أحصهم عددا و اقتلهم بددا و لا تذر على الأرض منهم أحدا. ثم حمل الرجال على الحسين (عليه السلام) من كل جانب و هو يجول فيهم يمينا و شمالا فضربه ذرعة بن شريك على يده اليسرى و ضربه آخر على عاتقه و طعنه سنان بن أنس بالرمح فوقع فنزل إليه شمر فاحتز رأسه و سلمه الى خولي الأصبحي ثم انتهبوا سلبه .
أقول: و في رواية السيد (رحمه الله) و ابن نما و الصدوق و الطبري و الجزري و ابن عبد البر و المسعودي و أبي الفرج ذبحه سنان الملعون .
قال السيد (رحمه الله): فنزل إليه سنان بن أنس النخعي فضرب بالسيف في حلقه الشريف و هو يقول: و اللّه إني لاحتز رأسك و أعلم أنك ابن رسول اللّه و خير الناس أبا و أما. ثم احتز رأسه المقدس المعظم.
و في ذلك يقول الشاعر:
فأي رزية عدلت حسينا غداة تبيره كفا سنان
و روى أبو طاهر محمد بن الحسن البرسي في كتاب معالم الدين قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): لما كان من أمر الحسين (عليه السلام) ما كان ضجت الملائكة إلى اللّه بالبكاء و قالت: يا رب هذا الحسين صفيك و ابن بنت نبيك. قال:
فأقام اللّه عز و جل ظل القائم (عليه السلام) و قال: بهذا أنتقم لهذا .
و روي أن سنانا هذا أخذه المختار فقطع أنامله أنملة أنملة ثم قطع يديه و رجليه و أغلى له قدرا فيها زيت و رماه فيها و هو يضطرب .
قال الراوي: فارتفعت في السماء في ذلك الوقت غبرة شديدة سوداء مظلمة فيها ريح حمراء لا ترى فيها عين و لا أثر حتى ظن القوم أن العذاب قد جاءهم فلبثوا كذلك ساعة ثم انحلت عنهم .
و روى هلال بن نافع قال: إني كنت واقفا مع أصحاب عمر بن سعد لعنه اللّه إذ صرخ صارخ: أبشر أيها الأمير فهذا شمر قتل الحسين. قال: فخرجت بين الصفين فوقفت عليه- و إنه ليجود بنفسه- فو اللّه ما رأيت قط قتيلا مضمخا بدمه أحسن منه و لا أنور وجها و لقد شغلني نور وجهه و جمال هيئته عن الفكرة في قتله فاستسقى في تلك الحال ماء فسمعت رجلا يقول: و اللّه لا تذوق الماء حتى ترد الحامية فتشرب من حميمها فسمعته يقول: يا ويلك انا لا أرد على الحامية و لا أشرب من حميمها. بل أرد على جدي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و أسكن معه في داره في مقعد صدق عند مليك مقتدر و أشرب من ماء غير آسن و أشكو إليه ما ارتكبتم مني و فعلتم بي.
قال: فغضبوا بأجمعهم حتى كأن اللّه لم يجعل في قلب أحد منهم من الرحمة شيئا فاحتزوا رأسه (عليه السلام) و إنه ليكلمهم فتعجبت من قلة رحمتهم و قلت:
و اللّه لا أجامعكم على أمر أبدا .
قال كمال الدين محمد بن طلحة في مطالب السئول: ثم احتزوا رأس سبط رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و حبه الحسين (عليه السلام) بشبا الحداد و رفعوه كما يرفع رأس ذوي الإلحاد على رءوس الصعاد و اخترقوا به أرجاء البلاد بين العباد و استاقوا حرمه و أطفاله أذلاء من الاضطهاد و أركبوهم على أخشاب الأقتاب بغير وطاء و لا مهاد. هذا مع علمهم بأنها الذرية النبوية المسئول لها المودة بصريح القرآن و صحيح الاعتقاد فلو نطقت السماء و الأرض لرنت لها ورثتها و لو أطلعت عليه (عليها ظ) مردة الكفرة لبكتها و ندبتها و لو حضرت مصرعها عتات الجاهلية لأبكتها و نعتها و لو شهدت وقعتها بغاة الجبابرة لأعانتها و نصرتها. فيا لها مصيبة أنزلت الرزية بقلوب الموحدين فأورثتها و بلية أحلت الكآبة بنفوس المؤمنين سلفا و خلفا فأحزنتها. وا لهفاه لذرية نبوية طل دمها و عترة محمدية فل مخذمها و عصبة علوية خذلت فقتل مقدمها و زمرة هاشمية استبيح حريمها و استحل محرمها.
و عن نوادر علي بن اسباط عن بعض أصحابه رواه قال: إن أبا جعفر (عليه السلام) قال: كان أبي مبطونا يوم قتل أبوه صلوات اللّه عليه و كان في الخيمة و كنت أرى موالينا كيف يختلفون معه يتبعونه بالماء يشد على الميمنة مرة و على الميسرة مرة و على القلب مرة و لقد قتلوه قتلة نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أن يقتل بها الكلاب لقد قتل بالسيف و السنان و بالحجارة و بالخشب و بالعصا و لقد أوطئوه الخيل بعد ذلك .
أقول: قتل الحسين (عليه السلام) في يوم الجمعة العاشر من المحرم سنة إحدى و ستين من الهجرة بعد صلاة الظهر منه و سنه يومئذ ثمان و خمسون سنة.
و قيل: إن مقتله كان يوم السبت و قيل يوم الاثنين و الأول أصح.
قال أبو الفرج: و أما ما تقوله العامة أنه قتل يوم الاثنين فباطل هو شيء قالوا بلا رواية و كان أول المحرم الذي قتل فيه يوم الأربعاء أخرجنا ذلك بالحساب الهندي من سائر الزيجات و إذا كان ذلك كذلك فليس يجوز أن يكون اليوم العاشر من المحرم يوم الاثنين و هذا دليل صحيح واضح تنضاف إليه الرواية- الخ .
و قال الشيخ المفيد (رحمه الله) في ذكر مقتل الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء: و أصبح عمر بن سعد في ذلك اليوم- و هو يوم الجمعة و قيل يوم السبت- (و على الخبر المقدم ذكره يوم الجمعة على التحقيق) و قال في ذكر وروده (عليه السلام) بكربلاء ثم نزل (عليه السلام) و ذلك يوم الخميس و هو يوم الثاني من المحرم سنة إحدى و ستين .
و في تذكرة السبط: و كان مقتله (عليه السلام) يوم الجمعة ما بين الظهر و العصر لأنه صلى صلاة الخوف بأصحابه و قيل يوم السبت و قد ذكرناه.
و فيها أيضا: و قد اختلفوا في قاتله على أقوال: أحدها سنان بن أنس النخعي قاله هشام بن محمد و الثاني الحصين بن نمير رماه بسهم ثم نزل فذبحه و علق رأسه في عنق فرسه ليتقرب به إلى ابن زياد و الثالث مهاجر بن أوس التميمي و الرابع كثير بن عبد اللّه الشعبي و الخامس شمر بن ذي الجوشن- انتهى .
قلت: و السادس خولي بن يزيد الأصبحي لعنه اللّه.
قال محمد بن طلحة الشافعي و علي بن عيسى الاربلي الامامي: قال عمر بن
سعد لأصحابه: انزلوا و حزوا رأسه. فنزل إليه نصر بن خرشة الضبابي ثم جعل يضرب بسيفه في مذبح الحسين (عليه السلام) فغضب عليه عمر بن سعد و قال لرجل عن يمينه: ويحك انزل إلى الحسين فأرحه. فنزل إليه خولي بن يزيد خلده اللّه في النار فاحتز رأسه .
و قال الدينوري: و حمل عليه سنان بن أوس النخعي فطعنه فسقط و نزل إليه خولي بن يزيد الأصبحي ليحز رأسه فأرعدت يداه فنزل أخوه شبل بن يزيد فاحتز رأسه فدفعه إلى أخيه خولي لعنه اللّه .
و قال ابن عبد ربه: قتله سنان بن أنس و أجهز عليه خولة (خولي ظ) بن يزيد الأصبحي من حمير و حز رأسه و أتى به عبيد اللّه بن زياد و هو يقول: اوفر ركابي- الخ .
روي عن الصادق (عليه السلام) أنه لما ضرب الحسين (عليه السلام) بالسيف و سقط ثم ابتدر ليقطع رأسه نادى مناد من بطنان العرش: ألا أيتها الأمة المتحيرة الضالة بعد نبيها لا وفقكم اللّه لأضحى و لا فطر.
و في خبر آخر: لصوم و لا فطر .
قال: ثم قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): فلا جرم و اللّه ما وفقوا و لا يوفقون حتى يثور ثائر الحسين بن علي عليهما السلام .
و روى الشيخ أبو القاسم جعفر بن قولويه القمي عن الحلبي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): أن الحسين صلوات اللّه عليه لما قتل أتاهم آت و هم في العسكر فصرخ فزبر فقال لهم: و كيف لا أصرخ و رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قائم ينظر
إلى الأرض مرة و ينظر إلى حربكم و أنا أخاف أن يدعو اللّه على أهل الأرض فأهلك فيهم. فقال بعضهم لبعض: هذا إنسان مجنون. فقال التوابون: تاللّه ما صنعنا بأنفسنا قتلنا لابن سمية سيد شباب أهل الجنة فخرجوا على عبيد اللّه فكان من أمرهم ما كان. قال: قلت له: جعلت فداك من هذا الصارخ؟ قال: ما نراه إلا جبرئيل (عليه السلام) .
نعى الروح جبريل بأن ذوي الغدر أراقوا دم الموفين للّه بالنذر
نعى فغدا من في الوجود بدهشة هي الحشر لا بل دونها دهشة الحشر
نعى من دعا بالدين حي على الهدى أناسا دعوا بالشرك حي على الكفر
نعى ساجدا صلت إلى اللّه روحه قضى رأسه المرفوع من سجدة الشكر
نعى من أعار اللّه بالطف هامه و من قلبه فيها أقام على جمر
نعى ذات قدس يعلم اللّه أنها منزهة الأفعال في السر و الجهر
نعى الجوهر الفرد الذي في أموره تجرد للرحمن من عالم الأمر
نعى مطعم الهلاك مشبع غرثها أخا الشتوات الشهب في لجج الغبر
نعى من يضيف الطير و الوحش سيفه و جيش المنايا تحت رايته يسري
نعى شاكرا نال الشهادة صابرا و قد يجتنى شهد العواقب بالصبر
و روي مسندا عن سلمة قال: دخلت على أم سلمة و هي تبكي فقلت لها:
ما يبكيك؟ قالت: رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في المنام و على رأسه و لحيته أثر التراب فقلت: ما لك يا رسول اللّه مغبرا. قال: شهدت قتل الحسين (عليه السلام) آنفا .
و في الصواعق لابن حجر قال: و مما ظهر يوم قتله (عليه السلام) من الآيات أيضا أن السماء اسودت اسودادا عظيما حتى رؤيت النجوم نهارا و لم يرفع حجر إلا وجد تحته دم عبيط .
و قال أيضا: و ان السماء احمرت لقتله و انكسفت الشمس حتى بدت الكواكب نصف النهار و ظن الناس أن القيامة قد قامت و لم يرفع حجر في الشام إلا رؤي تحته دم عبيط .