حياة الامام الحسين قبل مقتله
مقتل الامام عليه السلام

ودع عياله (عليه السّلام) ثانياً و أمرهم بالصبر و لبس الأزر و قال : استعدوا للبلاء و اعلموا أن اللّه تعالى حاميكم و حافظكم و سينجيكم من شر الأعداء و يجعل عاقبة أمركم إلى خير و يعذب عدوكم بأنواع العذاب و يعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم و الكرامة فلا تشكوا و لا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم‏ «1».
حقا لو قيل بأن هذا الموقف من أعظم ما لاقاه سيد الشهداء في هذا اليوم‏ «2» فإن عقائل النبوة تشاهد عماد أخبيتها و سياج صونها و حمى عزها و معقد شرفها مؤذنا بفراق لا رجوع بعده فلا يدرين بمن يعتصمن من عادية الأعداء و بمن العزاء بعد فقده! فلا غرو إذا اجتمعن عليه و احطن به و تعلقن بأطرافه بين صبي يئن و والهة أذهلها المصاب و طفلة تطلب الأمن و أخرى تنشد الماء! إذا فما حال سيد الغيارى و مثال الحنان و هو ينظر «بعلمه الواسع» إلى ودائع الرسالة و حرائر بيت العصمة و هن لا يعرفن إلا سجف العز و حجب الجلال، كيف يتراكضن في هذه البيداء المقفرة بعولة مشجية و هتاف يفطر الصخر الأصم و زفرات متصاعدة من أفئدة حرى! فإن فررن فعن السلب و إن تباعدن فمن الضرب و لا محام لهن غير الإمام الذي انهكته العلة:
فلو أن أيوبا رأى بعض ما رأى‏ لقال بلى هذا العظيمة بلواه‏

اما عقيلة بني هاشم «زينب الكبرى» فإنها تبصر هذا و ذاك فتجد عروة الدين‏ الوثقى عرضة للانفصام و حبل النبوة آيلا إلى الانصرام و منار الشريعة إلى الخمود و شجرة الإمامة إلى الذبول.
تنعى ليوث البأس من فتيانها و غيوثها إن عمت البأساء
تبكيهم بدم فقل بالمهجة الحرا تسيل العبرة الحمراء
حنت و لكن الحنين بكا و قد ناحت و لكن نوحها ايماء «3»

و التفت الحسين إلى ابنته سكينة التي يصفها للحسن المثنى «بأن الاستغراق مع اللّه غالب عليها» فرآها منحازة عن النساء باكية نادبة فوقف عليها مصبرا و مسليا و لسان حاله يقول:
هذا الوداع عزيزتي و الملتقى‏ يوم القيامة عند حوض الكوثر
فدعي البكاء و للأسار تهيأي‏ و استشعري الصبر الجميل و بادري‏
و إذا رأيتيني على وجه الثرى‏ دامي الوريد مبضعا فتصبري‏ «4»

فقال عمر بن سعد: و يحكم اهجموا عليه ما دام مشغولا بنفسه و حرمه و اللّه إن فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم، فحملوا عليه يرمونه بالسهام حتى تخالفت السهام بين أطناب المخيم و شك سهم بعض أزر النساء فدهشن و أرعبن و صحن و دخلن الخيمة ينظرن إلى الحسين كيف يصنع فحمل عليهم كالليث الغضبان فلا يلحق أحدا إلا بعجه بسيفه فقتله و السهام تأخذه من كل ناحية و هو يتقيها بصدره و نحره‏ «5».
و رجع إلى مركزه يكثر من قول لا حول و لا قوة إلا باللّه العظيم‏ «6» و طلب في هذه الحال ماء فقال الشمر: لا تذوقه حتى ترد النار و ناداه رجل: يا حسين ألا ترى الفرات كأنه بطون الحيات؟ فلا تشرب منه حتى تموت عطشا فقال الحسين عليه السّلام: اللهم أمته عطشا، فكان ذلك الرجل يطلب الماء فيؤتى به‏ فيشرب حتى يخرج من فيه و ما زال كذلك إلى أن مات عطشا «7».
و رماه أبو الحتوف الجعفي بسهم في جبهته فنزعه و سالت الدماء على وجهه فقال: اللهم إنك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة، اللهم أحصهم عددا و اقتلهم بددا و لا تذر على وجه الأرض منهم أحدا و لا تغفر لهم أبدا.
و صاح بصوت عال: يا أمة السوء بئسما خلفتم محمدا في عترته أما إنكم لا تقتلون رجلا بعدي فتهابون قتله بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم اياي و ايم اللّه إني لأرجو أن يكرمني اللّه بالشهادة ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون.
فقال الحصين: و بماذا ينتقم لك منا يا ابن فاطمة؟ قال يلقي بأسكم بينكم و يسفك دماءكم ثم يصب عليكم العذاب صبا «8».
و لما ضعف عن القتال وقف يستريح فرماه رجل بحجر على جبهته فسال الدم على وجهه فأخذ الثوب ليمسح الدم عن عينيه رماه آخر بسهم محدد له ثلاث شعب وقع على قلبه فقال: بسم اللّه و باللّه و على ملة رسول اللّه و رفع رأسه إلى السماء و قال: إلهي إنك تعلم أنهم يقتلون رجلا ليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيري!!
ثم اخرج السهم من قفاه و انبعث الدم كالميزاب‏ «9» فوضع يده تحت الجرح فلما امتلأت رمى به نحو السماء و قال: هوّن علي ما نزل بي أنه بعين اللّه فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض‏ «10»! ثم وضعها ثانيا فلما امتلأت لطخ به رأسه و وجهه و لحيته و قال: هكذا اكون حتى ألقى اللّه و جدي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم و أنا مخضب بدمي و أقول: يا جدي قتلني فلان و فلان‏ «11».

فهوى بضاحية الهجير ضريبة تحت السيوف لحدها المسنون‏
وقفت له الافلاك حين هويّه‏ و تبدلت حركاتها بسكون‏
و بها نعاه الروح يهتف منشدا عن قلب والهة بصوت حزين‏
أضمير غيب اللّه كيف لك القنا نفذت وراء حجابه المخزون‏
و تصك جبهتك اليسوف و إنها لو لا يمينك لم تكن ليمين‏
ما كنت حين صرعت مضعوف القوى‏ فأقول لم ترفد بنصر معين‏
أما و شيبتك الخضيبة إنها لأبر كل إليّة و يمين‏
لو كنت تستام الحياة لأرخصت‏ منها لك الاقدار كل ثمين‏
أو شئت محو عداك حتى لا يرى‏ منهم على الغبراء شخص قطين‏
لأخذت آفاق البلاد عليهم‏ و شحنت قطريها بجيش منون‏
حتى بها لم تبق نافخ ضرمة منهم بكل مفاوز و حصون‏
لكن دعتك لبذل نفسك عصبة حان انتشار ضلالها المدفون‏
فرأيت أن لقاء ربك باذلا للنفس أفضل من بقاء ضنين‏
فصبرت نفسك حيث تلتهب الظبى‏ ضربا يذيب فؤاد كل رزين‏
و الحرب تطحن شوسها برحاتها و الرعب يلهم حلم كل رصين‏
و السمر كالأضلاع فوقك تنحني‏ و البيض تنطبق انطباق جفون‏
و قضيت نحبك بين اظهر معشر حملوا بأخبث أظهر و بطون‏ «12»

و أعياه نزف الدم فجلس على الأرض ينوء برقبته فانتهى إليه في هذا الحال مالك بن النسر فشتمه ثم ضربه بالسيف على رأسه و كان عليه برنس فامتلأ البرنس دما فقال الحسين: لا أكلت بيمينك و لا شربت و حشرك اللّه مع الظالمين ثم ألقى البرنس و اعتم على القلنسوة «13».
________________
(1) جلاء العيون للمجلسي بالفارسية، و هنا شي‏ء لم يتنبه له أحد و هي إرادة بيان أمرين عدم القتل و عدم السلب فإن تعليل لبس الأزر بالحماية و المحافظة مع أن أحدهما كاف في التعريف بأن اليد العادية لا تمد إليهم، يكون الاتيان بهما مع بعد غرض بلوغه أعلى مراتب البلاغة دليل على أن المقصود من أحدهما بيان عدم السلب و من الثاني عدم القتل.
(2) هذا هو الظاهر من وصية الصديقة الزهراء للمجلسي أعلى اللّه مقامه بقراءته مصيبة ولدها عند الوداع. كما ذكره النوري في دار السلام ج 1.
(3) من قصيدة لكاشف الغطاء «قده».
(4) للخطيب شيخ مسلم ابن الخطيب الشيخ محمد علي الجابري النجفي رحمهما اللّه تعالى.
(5) مثير الأحزان للعلامة الشيخ شريف آل صاحب الجواهر «قده».
(6) اللهوف ص 67.
(7) مقاتل أبي الفرج ص 47 ط إيران و تهذيب تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 338 و حكاه في البحار ج 10 ص 254 طبع كمبني عن أبي الفرج و في البحار ج 10 ص 203 نقلا عن المفيد و السيد ابن طاووس و ابن نما: اشتد العطش بالحسين فقصد الفرات فحالوا بينه و بين الماء.
(8) مقتل العوالم ص 98، و نفس المهموم ص 189، و مقتل الخوارزمي ج 2 ص 34.
(9) نفس المهموم ص 189، و مقتل الخوارزمي ج 2 ص 34 و اللهوف ص 68.
(10) تهذيب تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 338 و مقتل الخوارزمي ج 2 ص 34.
(11) مقتل الخوارزمي ج 2 ص 34 و اللهوف ص 70.
(12) ديوان السيد حيدر الحلي رحمه اللّه.
(13) كامل ابن الأثير ج 4 ص 31 و مقتل الخوارزمي ج 2 ص 35.