ادلة امامته عليه السلام
فضائل الامام عليه السلام و مناقبه

لا شكَّ في أنَّ قيمة المرء، في علمه و كماله و فضائله و كريم خلقه فافراد البشر مهما تفاوتت أوصافهم الجسمية و العرقية و تمايزوا ببلدانهم و ملابسهم و مالهم و مقامهم و سائر العوارض الاخرى‏ الّا ان كلَّ ذلك لا يفضل بعضهم على‏ بعض، و الأمر الوحيد الذي يمايزهم هو الكمالات الروحية و الاخلاق الحميدة و المآثر الجميلة. و بعبارة، ان فضيلة الإنسان ليست في الاستمتاع باللذائذ الحيوانية و الاتصاف بما يشترك به مع سائر الحيوانات و البهائم، و انما كمال الإنسان بالاتصاف بما يميزه عن الحيوانات، و كلما تعمّق اتصافه بهذه الفوارق، ازداد تمايزاً و ابتعاداً عن عالم البهائم و اقترب الى‏ الإنسانية و تجلّت فيه صفات البشر.
فكثيرٌ من الناس صورهم صور البشر، لكنهم لازالوا يراوحون في الحيوانية، و البعض يطوي الفاصلة بين الحيوانية المحضة و الإنسانية الكاملة و يتوقف في نقطة في منتصف الطريق، و بعضهم الآخر يطوي تلك الفاصلة كاملة فيصل الى‏ حدِّ الكمال التام.
و العلوم و المعارف و الاخلاقيات الحميدة، هي كواشف عن مقدار المسافة التي اجتازها هذا الفرد او ذاك في هذا الطريق، و تجلٍّ للمرحلة التي توقف عندها أو وصلها.
فالانسان بفطرته يمتاز بحب الاخلاق الحميدة، و يُحبُّ ذوي المكارم و الفضل‏ و يتأثر بالمشاهد الاخلاقية و صور القيم الرائعة. و على‏ مرّ العصور، كانت العدالة و طهارة النفس، الامانة، الصدق، الاستقامة، الثبات، الشجاعة، الصراحة، الصبر، الحلم‏ الوفاء بالعهد، التواضع، الرحمة، الاحسان، الايثار، الفداء، و الرغبة في التحرر من الظلم، و خدمة البشرية من الامور المحبّبة و الممدوحة عند الإنسان و مهما تغيرت الظروف الحياتية و تبدل شكل الحياة و تنوعت ظواهر العيش، الّا ان احساس البشر و تفاعلهم مع هذه الاخلاقيات، بقي ثابتاً صامداً لا يعتريه التغيير، لانه امرٌ فطري و في المقابل، تنفر الطبائع البشرية عن رذائل الصفات كالحسد، التكبر، النفاق، الكذب، الظلم، الخيانة، الحقد، الغرور و الخيلاء.
و علمُ الاخلاق و التربية أُنشأ على‏ اساس هذا الافراز الفطري و الادراك الباطني.
و مطالعة التحقيقات العلمية لعلماء الاخلاق و معرفة النفس، ضرورية للسائرين في طريق تهذيب النفوس و تربيتها للتعرف على‏ فوائد و مضار الاخلاق الحميدة و اضدادها.
و قد عنى‏ الإسلام و هو آخر الاديان السماوية الالهية، بهذه الجهة فكانت برامجه التربوية و الاخلاقية، اكمل و اتمِّ البرامج المعروفة منذ بدء الخليقة و الى‏ يوم الناس هذا. فمضافاً الى‏ تضمُّن قسم كبير من الاحكام التكليفية و الوضعية، للمفاهيم الاخلاقية التي تساهم في تربية و تهذيب النفوس، كما في باب العبادات و المعاملات و التكاليف اليومية، كذلك وضع القرآن و المنهج الإسلامي برنامجاً تربوياً مستقلا لاصلاح الارواح و تزكيتها، لايصالها الى‏ الكمال.
و قد كتب العلماء و الفلاسفة المسلمون، اقتباساً من التعاليم الاخلاقية للاسلام، أفضل الكتب في علم الاخلاق، و القاء نظرة خاطفة على‏ أدبيات العرب و العجم، يكشف لنا بوضوح صحة هذه الدعوى‏.
و كلمات نبي الإسلام العظيم الجامعة، و خطب امير المؤمنين و كلماته القصار، و ما نُقل عن ائمة اهل البيت عليهم السلام و محامد اخلاقهم و كرائم صفاتهم و جميل سيرتهم، كلها أسناد فخر للمسلمين و ادلة حيّة على‏ كمال المنهج التربوي للاسلام.
كما إنَّ ميزان اهتمام الدين الاسلامي الحنيف بنشر الاخلاق و المكارم يتجلى‏ اكثر فاكثر من خلال التشويق و الترغيب بالثواب و الأجر الجزيل لكل واحدة من تلك الصفات الكريمة الانفة الذكر.
و في سورة آل عمران، الآية 164، و سورة الجمعة الآية 2، لخصت برامج عمل النبي (صلى الله عليه و آله) التربوية في ثلاث امور هي:
1- تلاوة الايات القرآنية.
2- تزكية و تربية النفوس.
3- تعليم الكتاب و الحكمة.
و قول النبي (صلى الله عليه و آله) معروف و مشهور: «إنَّما بُعثتُ لُاتَمِّمَ مكارِمَ الأخلاق» لقد كان النبي الاكرم (صلى الله عليه و آله) المثل الأعلى‏ لكل الاخلاق الفاضلة و الصفات الحميدة و الكمالات الروحية و النفسية، و باعتراف العدو و الصديق.
فاخلاق النبي (صلى الله عليه و آله) و سيرته الحسنة و معاشرته الحميدة، مذكورة في كتبٍ أُلّفت في هذا المجال بالخصوص، مضافاً الى‏ ما ورد في كتب السيرة و التاريخ، و مطالعة مثل هذه المصنفات لكبار المتخصصين في التربية، كافٍ لتوجيه الإنسان و هدايته لمكارم الاخلاق.
كما إنَّ اهل بيت النبي، الائمة الاطهار عليهم السلام و هم الامتداد الطبيعي للرسول الاكرم، يمثّلون النموذج الجميل للكمال، و باتفاق الموافق و المخالف، كانوا نوابغ عصورهم و المصاديق الاكمل للاخلاق النبوية الإسلامية الحسنة.
و لقد كان عليُّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام ممثلوا التكامل و الرقي الإنساني، و كانت اشعة نور اخلاق رسول اللَّه بادية الانتشار في وجوداتهم الكريمة.
لقد كان لتضحية الحسين (عليه السلام) و استقامته و طلبه الحقَ و توكله و ارادته القوية و تخلّيه عن الدنيا، من أبرز تجليات شخصيته المقدسة في عاشوراء و التي جذبت الانظار الى‏ درجة أنها غطّت على‏ سائر صفاته و عظمة سجاياه الاخرى‏. و كأن العقل البشري و الفكر الاجتماعي اذا وجد الشخص مبالغاً في الفداء و الايثار في طريق الحق، اعتبره مالكاً لكل السجايا الحميدة الاخرى‏، و كلما ارتقى‏ في درجات التضحية و الفداء، و اخلص في الصمود و الايثار، ازدادت عظمته و شموخه في القلوب.
إنَّ فداء الحسين المنقطع النظير، رفعه و رفعه الى‏ درجة امكان قياس كل صفاته الحميدة الاخرى‏ بمقياس هذه الصفة، و وزنها بهذا الميزان، و إنَّ ذلك جعله السّباق لكل الكرام و المتفوق على‏ كل الأفاضل.
و هذه هي الحقيقة، فان صدور مثل تلك التضحيات و الاستقامة و الفداء و الشجاعة و الثبات و المناعة، لا يتيسر الّا لمن تحققت فيه كلّ الكمالات الاخرى‏ باتمِّ صورها و أروعها.
و تحقق ذلك الصمود و الفداء، محالٌ إلّا بوفرة الايمان و اليقين و المعرفة و البصيرة و التوكل و الاعتماد على‏ اللَّه و الزهد و الصبر باعلى‏ مستوياتها، و بغير ذلك لا تتجلى‏ تلك الآيات العظيمة المحكمة في الصبر و الاستقامة العاشورائية.
يقول العلايلي: «و نحن فيما اتَّسق لدينا من الأخبار عن الحسين (عليه السلام) و صفته، نراه كيف كان يتحزَّم على‏ نفسه بكل مظاهر القدوة الصالحة، بحيث لا يَعدُو أن يكون مثالًا نبوياً في حدوده و من شتى‏ أقطاره.
و لقد انصرف بكل نفسه عن الدنيا و ما إليها، حتى‏ قال زين العابدين (عليه السلام) لمن قال له: ما كان أقل ولد أبيك! قال (عليه السلام): العجب كيف ولدت له، كان لا يفتر عن الصلاة في ليل أو نهار فمتى كان يتفرغ للنساء؟
فهذا المَتحنَّث المُتأَلِّه في تأمله و إطراقه، و تحركه و سكونه. هو الذي سنراه مجاهداً مكافحاً و مغامراً مستَميتاً حتى‏ كأنه الأسد لا تُنال تلابيبه. فلم يكن يشغله أمر عن أمر، و لا حاجة للَّه‏ عن حاجة للناس. و يضيف قائلًا: «أرأيتم إلى‏ الرجل يقوم على‏ اسم اللَّه و يمضي على‏ اسم اللَّه و يموت على‏ اسم اللَّه، كيف تسمو به الغاية و يعلو به الهدف. هو هدفٌ و لكن ليس من شهوات النفوس، و غايةٌ و لكن ليس كمثلها الغايات، غاية تحقِر كل ما في الحياة من أشيائها، و لا ترى‏ سِوَى الملكوت الأعلى‏ هدفاً و سوى‏ السماء مستقراً، لأنه مَهدُها فلا بدع أن حنّشت إليه و طلبت اللَّحاق به فللناس أوطانهم، و للناس حَنينهُم، و لمثل هذه الشخصيَّة وطنُها و لها حنينها، فهي تشُقُّ طريقها بين الجلامد و الصُّخور، راضيةً مرضيةً و ماضيةً مطمئنَةً، لانها تناجي الأمنيَّة السامية و تَنشُد المثل الأعلى‏، و هل وراء اللَّه مَطلب؟ و هل إلى‏ غير اللَّه مصير؟ و هل بعد اللَّه حقيقة؟
هذه مبادئُ الرجل المصطفى‏، و الرجل المختار. فلا عَجَب أن راح يطلبها في‏ كل شيء، و لو حال الموت دونها فهو يَستعذ به، لأنه الطَّفرة التي تصل به الى‏ أعذب الأماني، و هل مع الأماني العذاب، شعور بمريرات العذاب.
و قديماً ارتفع صوت المسلم في إقدام و مضاء، بالكلمة الرهيبة عند الناس و الأُغنية عنده.
و لَستُ أُبالي حين أُقتَلُ مُسلِماً على‏ ايِّ جِنب كان في اللَّه مَصرعي‏
الشخصية الكبيرة من الناس، و لكن بما فيها من المعنى الإلهي و السر القدسي و القبس العلوي، تنير السبيل للانسانية في حالة الظلم و في الليل الأليل الادكن‏ «اللَّه نور السمواتِ و الأرضِ مَثَلُ نورِهِ كمشكاةٍ فيها مصباحٌ، المِصباحُ في زجاجَةٍ، الزُّجاجَةُ كأنَّها كوكبٌ درِّيٌ». و كذلك تكون في حياتها دليلا أميناً، و بعد مماتها أُمثُولةً رائعةً فيها من كل عناصر الخلود و السُّمُوّ.
و تاريخ كل أُمة إنما هو في الحقيقة تاريخ عظمائها، فأُمة لا عظيم فيها لا تاريخ فيها أو ليست جديرةً بالتاريخ.
و نحن اذا قدمنا حسيناً بين العظماء، فإنا لا نقدم فيه عظيما فحسب، و انما نقدم فيه عظيماً دونه كلٌ عظيم، و شخصية أسمى‏ من كل شخصية، و رجلا فوق الرجال مجتمعين.
و لا بِدع فكلُّ مَن عرفهم التاريخ و عرفناهم قَضَوا دون غاية من أمجاد الأرض، فكان مَن قضى دون مجد من أمجاد السماء أسمى‏.
و الآن سأخوض في بيان نواحي العظمة التي امتاز بها الحسين (عليه السلام) في كل ميدان، حتى‏ يبدو أمة بين العظماء. فقد عرفنا العظيم في ثوب الشجاع، و عرفنا العظيم في ثوب البطل، و عرفنا العظيم في ثوب الضحيَّة الشَّهيد، و عرفنا العظيم في ثوب الزاهد، و عرفنا العظيم في ثوب العالم، و أما العظمةُ في كل ثوب، و العظمة في‏ كل مَظهر، حتى‏ كأنها تَآزَحَت من أقطارها فكانت شخصاً ماثلًا للناس يقرَأُونه و يعتبرون به. فهذا ما نراه في الحسين (عليه السلام) وَحدَه، و هذا ما نَلمَسُه فيه فقط، حيث هو من نفسه و حيث هو من نسبه، فلقد يكون أبوه مِثله و لكن لا يجد له أباً كمثل نفسه.
فرجل كيفما سَمَوت به من أيِّ جهاته انتهى‏ بك الى‏ عظيم، فهو مُلتَقى‏ عظمات و مجمع أفذاذ. فإن من يَنبثِق من عظمة النبوة «محمد (صلى الله عليه و آله)»، و عظمة الرُّجولة «على (عليه السلام)» و عظمة الفضيلة «فاطمة عليها السلام» يكون أُمثولة عظمة الانسان، و آية الآيات البينات.
فلم تكن ذكراه ذكرى‏ رجل بل ذِكرى‏ الإنسانيّة الخالدة، و لم تكن أخباره أخبار بطل بل خبر البطولة الفذَّة.
فالحسين (عليه السلام) رجل و لكن فيه آيةُ الرجال، و عظيم و لكن فيه حقيقة العظمة.
فَرَعياً لذكراه، و رَعياً للعِظَة به.
و من ثَمّ كان جديراً بنا أن نستوحيه على‏ الدوام، كمصدر إلهامي انبثق وهاجاً قوياً، و امتد بأنواره أجيالًا و أجيالا، و لا يزال يسطع كذلك حتى‏ ينتظم اللانهايات و ينفذ إلى‏ ماوراء الأرض و السموات، و هل لنور اللَّه حد يقف عنده أو مَعلَم ينتهي اليه؟ «و يَأبى‏ اللهُ إلّا أن يُتِمَّ نورَهُ»
و يقول العقّاد: «و قد لبث بنو أميّة بعد مصرعه (الحسين (عليه السلام)) ستّين سنة يسبّونه و يسبّون أباه على‏ المنابر، و لم يجسر أحدٌ منهم قط على‏ المساس بورعه و تقواه و رعايته لاحكام الدين في اصغر صغيرة يباشرها المرء سرّاً أو علانية، و حاولوا ان يعيبوه‏ بشي غير خروجه على‏ دولتهم فقصرت ألسنتهم و ألسنة الصنائع و الأجراء دون ذلك.» و قال أيضاً: «فهي (كربلاء) اليوم حرمٌ يزوره المسلمون للعبرة و الذكرى‏، و يزوره غير المسلمين للنظر و المشاهدة، و لكنها لو اعطيت حقّها من التنويه و التخليد، لحقَّ لها ان تصبح مزاراً لكلِّ ادمي يعرف لبني نوعه نصيباً من القداسة و حظاً من الفضيلة، لاننا لا نذكر بقعة من بقاع الارض يقترن إسمها بجملة من الفضائل و المناقب اسمى‏ و ألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء، بعد مصرع الحسين (عليه السلام) فيها.»
فكلُّ صفة من تلك الصفات العلوية التي بها الإنسانُ انسانٌ و بغيرها لا يحسب غير ضربٍ من الحيوان السائم، فهي مقرونة في الذاكرة بايام الحسين (عليه السلام) في تلك البقعة الجرداء.
و ليس في نوع الإنسان صفات علويات أنبل و لا ألزم له من الايمان و الفداء و الايثار و يقظة الضمير و تعظيم الحق و رعاية الواجب و الجدِّ في المحنة و الانفة من الضيم و الشجاعة في وجه الموت المحتوم- و هي و مثيلات لها من طرازها هي التي تجلَّت في حوادث كربلاء منذ نزل بها ركب الحسين (عليه السلام).
ثم يقول بعد ذلك: «و حسبك من تقويم الاخلاق في تلك النفوس، انه ما من أحدٍ قتل في كربلاء الّا كان في وسعه ان يتجنب القتل بكلمة أو بخطوة و لكنهم جميعا آثروا الموت عطاشاً جياعاً مناضلين على‏ ان يقولوا تلك الكلمة و أو يخطوا تلك الخطوة لانّهم آثروا جمال الاخلاق على‏ متاع الحياة.»
و بعد ان يُفصل العقاد بذكر جملة من فضائل الحسين و اصحابه و مناقبهم في كربلاء، يقول:
«و قد تناهت هذه المناقب الى‏ مداها الاعلى‏ في نفس قائدهم الكريم و يُخيل الى‏ الناطر في أعماله بكربلاء ان خلائقه الشريفة كانت في سباق بينها، ايّها يظفر بفخار اليوم، فلا يدرى‏ أكان في شجاعته أشجع، ام في صبره أصبر، ام في كرمه اكرم، ام في ايمانه و أنَفَتِهِ و غيرته على‏ الحق بالغاً من تلك المناقب المثلى‏ أقصى‏ مداه. و مع اننا نقرُّ بعجزنا عن وصف عظام سجايا الحسين (عليه السلام) و من حقنا ان نعجز عن بيان كل تلك المناقب، و لكننا مع ذلك سنذكر بعض جوانب كمالات الحسين الاخلاقية و العلمية بنحو الاختصار، ليُعلم ان وجوده (عليه السلام) هو التجلّي الاتمّ للعظمة و الاستقامة و الصبر و الفداء و الاباء في طريق تعظيم الحق، و انه (عليه السلام) محور كل كرائم المزايا و الصفات.