ادلة امامته عليه السلام
فضائل الامام عليه السلام و مناقبه

من الضروري احتياج المجتمع البشري إلى مصلح يسد خلته و يسدد زلته و يكمل اعوازه و يقوّم أوده لتوفر دواعي الفساد فيه، فلو لم يكن في الأمة من يكبح جماح النفوس الشريرة للعبت الأهواء بهم و فرقتهم أيدي سبا و بات حميم لا يأمن حميمه، و أصبحت أفراد البشر ضحايا المطامع. و هذا المصلح يختاره المولى سبحانه من بين عباده لأنه العارف بطهارة النفوس و نزاهتها عما لا يرضى به رب العالمين، و يكون الواجب عصمته مما في العباد من الرذائل و السجايا الذميمة حتى لا يشاركهم فيها فيزداد الطين بلة و يفوته التعريف و الارشاد إلى مناهج الاصلاح و مساقط الهلكة و قد برأ اللّه ذات النبي الأعظم صلى اللّه عليه و آله و سلم من نور قدسه و حباه بأكمل الصفات الحميدة حتى بذ العالم وفاق من في الوجود فكان محلا للتجليات الإلهيّة و ممنوحا بالوحي العزيز، و إن اليراع ليقف مترددا عن تحديد تلك الشخصية الفذة التي أنبأ عنها النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم بقوله لأمير المؤمنين عليه السّلام: لا يعرف اللّه إلا أنا و أنت و لا يعرفني إلا اللّه و أنت و لا يعرفك إلا اللّه و أنا «1».
و حيث إن عمر النبي غير باق إلى الأبد لأنه لم يخرج عما عليه الناس في مدة الأجل و جملة من تعاليمه لا تخلو من أن تكون كليات لم تأت أزمنة تطبيقها على الخارج. كان الواجب في شريعة الحق الداعية إلى اصلاح الأمة إقامة خليفة مقامه يحذو حذوه في نفسياته و اخلاصه و عصمته، لأن السرائر الكامنة بين الجوانح لا يعلمها إلا خالقها و لو أوكل معرفتها إلى الأمة لتعذر عليها التمييز لعدم الاهتداء إلى تلك المزايا الخاصة في الإمام فتحصل الفوضى و ينتشر الفساد و يعود النزاع و التخاصم و هو خلاف اللطف الواجب على المولى سبحانه : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [القصص : 68] , {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب : 36].
فالخلافة منصب الهي يقيض اللّه تعالى رجلا ينوء بأثقال النبوة فيبلغ الدعوة لمن تبلغه و يدعو إلى تفاصيل الشريعة التي جاء بها المنقذ الأكبر فيرشد الجاهل و ينبه الغافل و يؤدب المتعدي و يبين ما أجمله النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم لضرب من المصلحة أو أهمله لعدم السعة في زمانه.
بعد انقضاء أمد الرسالة في شخصية أمير المؤمنين ثم ابنه الحسن و بعده أخوه سيد الشهداء الحسين فابنه زين العابدين علي ثم ابنه الباقر محمد فابنه الصادق جعفر فابنه الكاظم موسى فابنه الرضا علي فابنه الجواد محمد فابنه الهادي علي فابنه الحسن العسكري ثم ابنه المنتظر أبو القاسم محمد عجل اللّه فرجه.
كما أفاد المتواتر من الأحاديث بأن اللّه عز شأنه أودع في الإمام المنصوب حجة للعباد و منارا يهتدي به الضالون، قوة قدسية نورية يتمكن بوساطتها من استعلام الكائنات و ما يقع في الوجود من حوادث و ملاحم فيقول الحديث الصحيح إذا ولد المولود منا رفع له عمود نور يرى به أعمال العباد و ما يحدث في البلدان‏ «2».
و التعبير بذلك إشارة إلى القوة القدسية المفاضة من ساحة (الحق) سبحانه ليكتشف بها جميع الحقائق على ما هي عليه من قول أو عمل أو غيرهما من أجزاء الكيان الملكي و الملكوتي و بتلك القوة القدسية يرتفع سدول الجهل و استتار الغفلة فلا تدع لهم شيئا إلا و هو حاضر بذاته عند ذواتهم القدسية، كما أن النور يجلو ما أسدلته غياهب الظلمة فيجد المبصر ما حجبه الحلك الدامس نصب عينيه و قد أنبأ أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام عما حباهم به المولى جل شأنه من الوقوف على أمر الأولين و الآخرين و ما في السماوات و الأرضين و ما كان و يكون حتى كأن الأشياء كلها حاضرة لديهم‏ «3».
ثم يسجل التدليل عليه بقوله: كل ما كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم فلنا مثله إلا النبوة و الأزواج‏ «4».
و لا غلو في ذلك بعد قابلية تلك الذوات المطهرة بنص الذكر الحميد : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب : 33] , لتحمل الفيض الأقدس و عدم الشح في (المبدأ الأعلى) تعالت آلاؤه و المغالاة «5» في شخص عبارة عن اثبات صفة له إما أن يحملها العقل أو لعدم القابلية لها و العقل لا يمنع الكرم الالهي كيف و الجليل عز لطفه يدر النعم على المتمادين في الطغيان المتمردين على قدس جلاله حتى كأن المنة لهم عليه فلم يمنعه ذلك من الرحمة بهم و الاحسان إليهم و التفضل عليهم لا تنفد خزائنه و لا يفوته من طلبه و هذا من القضايا التي قياساتها معها و إذا كان حال المهيمن سبحانه كما وصفناه مع أولئك الطغاة فكيف به عز و جل مع من اشتقهم من الحقيقة الأحمدية التي هي من (الشعاع الأقدس) جل شأنه فالتقى مبدأ فياض و ذوات قابلة للإفاضة، فلا بدع في كل ما ورد في حقهم عليهم السّلام من علم الغيب و الوقوف على أعمال العباد و ما يحدث في البلدان مما كان و يكون.
فالغيب المدعى فيهم عليهم السّلام غير المختص بالباري تعالى ليستحيل في حقهم عليهم السّلام فإنه فيه تعالى شأنه ذاتي، و أما في الأئمة فمجعول من اللّه سبحانه، فبوساطة فيضه و لطفه كانوا يتمكنون من استعلام خواص الطبائع و الحوادث.
فإذا الغيب على قسمين: منه ما هو عين واجب الوجود بحيث لم يكن صادرا عن علة غير ذات فاطر السماوات و الأرضين و منه ما كان صادرا عن علة و متوقفا على وجود الفيض الالهي و هو ما كان موجودا في الأنبياء و الأوصياء و إلى هذا الذي قررناه تنبه العلامة الآلوسي المفسر فإنه عند قوله تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ‏ قال لعل الحق أن يقال إن علم الغيب للنفي عن غيره جل و علا هو ما كان للشخص بذاته أي بلا وساطة في ثبوته له و ما وقع للخواص ليس من هذا العلم المنفي في شي‏ء و إنما هو من الواجب عز و جل أفاضه منه عليهم بوجه من الوجوه فلا يقال إنهم علموا الغيب بذلك المعنى فإنه كفر بل يقال إنهم أظهروا و أطلعوا على الغيب‏ «6».
و يشهد له ما جاء عن أبي جعفر الجواد عليه السّلام فإنه لما أخبر أم الفضل بنت المأمون بما فاجأها مما يعتري النساء عند العادة قالت له: لا يعلم الغيب إلا اللّه، قال عليه السّلام: و أنا أعلمه من علم اللّه تعالى‏ «7».
فالأئمة محتاجون في جميع الأوقات إلى الفضل الالهي بحيث لو لا دوام الاتصال و تتابع الفيوضات لنفد ما عندهم على حد تعبير الإمام أبي عبد اللّه الصادق فإنه قال: لو لا أنا نزداد في كل ليلة جمعة لنفد ما عندنا «8» و مراده التعريف بأن علمهم مجعول من الباري تعالى و أنهم في حاجة إلى استمرار ذلك الفيض الأقدس و تتابع الرحمات السبحانية و التخصيص بليلة الجمعة من جهة بركتها بنزول الالطاف الربانية فيها من أول الليل إلى آخره على العكس من سائر الليالي و إلى هذا يرجع قول الرضا عليه السّلام: يبسط لنا العلم فنعلم و يقبض عنا فلا نعلم‏ «9».
و هل يشك من يقرأ في سورة الجن : {عالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن : 26، 27] أن من كان من ربه قاب قوسين أو أدنى هو خاتم الأنبياء الرسول المرتضى لأنه لم يفضله أحد من الخلق و كان أبو جعفر يقول : كان‏ و اللّه محمدا ممن ارتضاه‏ «10» و لم يبعد اللّه الخلفاء عن هذه المنزلة بعد اشتقاقهم من النور المحمدي و يشهد له جواب الرضا عليه السّلام لعمرو بن هداب فإنه لما نفى عن الأئمة عليهم السّلام علم الغيب محتجا بهذه الآية قال له: إن رسول اللّه هو المرتضى عند اللّه و نحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه اللّه على غيبه، فعلمنا ما كان و يكون إلى يوم القيامة «11».
و كيف لا يكون حبيب اللّه هو ذلك الرسول المرتضى و قد شرفه الباري سبحانه بمخاطبته اياه بلا وسيط ملك، يحدث زرارة أنه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الغشية التي كانت تأخذ رسول اللّه أهي عند الوحي قال عليه السّلام: لا، فإنها تعتريه عند مخاطبته اللّه عز و جل اياه بلا وساطة أحد و أما جبرئيل فإنه لم يدخل عليه إلا مستأذنا فإذا دخل جلس بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم جلسة العبد «12».
و إذا كان رسول اللّه على حال لا ينبغي أن يؤذن له قام مكانه إلى أن يخرج الاذن و المكان الذي يقف فيه حيال الميزاب‏ «13» و قد اذعن بالوحي بلا وساطة ملك، برهان الدين الحلبي‏ «14» و السهيلي‏ «15» و ابن سيد الناس‏ «16» و السيوطي‏ «17» و الزرقاني‏ «18».
و على طبق هذه الأحاديث المعربة عن مقام الرسول الأعظم من المولى تعالت آلاؤه سجل الشيخ الصدوق اعتقاده في الوحي و الغشية «19» كما لم يتباعد عنه الشيخ المفيد فيقول: الوحي منه ما يسمعه النبي من غير وساطة و منه ما يسمعه بوساطة الملائكة «20» و اقتص أثره الحجة الشيخ محمد تقي الأصفهاني المعروف بآقا نجفي مع زيادة علم النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم بالقرآن و بما حواه من المعارف و الفنون و ما اشتمل عليه من أسرار الطبائع و خواص الأشياء قبل أن يوحى به إليه، غاية الأمر عرفه المولى جل شأنه أن لا يفيض هذا العلم قبل أن يوحى به إليه، فقال سبحانه : { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه : 114]‏ «21» و لو لا وقوف النبي (صلى اللّه عليه و آله و سلم) على ما حواه الكتاب المجيد من الأسرار و المعارف لما كان للنهي عن بيان ما فيه معنى فظهر أن علم النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم بالحوادث الكائنة و التي كانت و تكون لم يتوقف على نزول جبرئيل عليه لأن المنحة الالهية المباركة اوقفته على جمع الحقائق قبل خلق جبرئيل.
و من هنا تتجلى ظاهرة أخرى لم يدركها من لم يفقه ما تحلت به هذه الشخصيات من مراتب الجلال و الجمال و هي معرفة الرسول الأعظم بالقراءة و الكتابة على اختلاف انحاء اللغات و تباين الخطوط قبل البعثة و بعدها لبلوغه اسمى درجات الكمال فلا تفوته هذه الصفة مع أن اللازم من عدم معرفته بها رجوعه إلى غيره فيما يحتاج إليه من كتابة و قراءة فيكون مفضولا بالنسبة إليه مع أنه الفاضل في المحامد كلها، و بهذا الذي قلناه اذعن المحققون من الاعلام‏ «22» و آية {وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت : 48] , لا تنفي معرفته بالكتابة على اطوارها فإنها غاية ما تثبته عدم كتابته صلى اللّه عليه و آله و سلم و لا ربط لها بعدم المعرفة للكتابة فهو صلى اللّه عليه و آله و سلم عارف بالكتابة و لكنه لم يكتب و العلة في نفي كتابته ارتياب المبطلين كما صرح به القرآن.
و المتحصل مما قررناه أن اللّه عز و جل منح الأئمة من ذرية الرسول جميع ما حبا به جدهم الأقدس من المآثر و الفضائل عدى النبوة و الأزواج لأنه صلوات اللّه عليه و على آله خاتم الأنبياء و قد اختص في التزويج دائما بأكثر من أربعة.
و من لم يعرف المراد من علم الغيب المدعى لهؤلاء الأفذاذ استعظمه فأنكره. و حكم من لا يفقه الشرع و الشريعة بكفر معتقده! يحدث شيخ زاده الحنفي: أن قاسم الصفار أفتى بكفر من تزوج على شهادة اللّه تعالى و رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم مدعيا بأنه يقتضي اعتقاده في علم النبي بالغيب، و لكن صاحب التتارخانية نفى الكفر عنه لأنّ بعض الأشياء تعرض على روح النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم الطاهرة فيعرف بعض الغيب و قد قال اللّه تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن : 26 ، 27] «23»، و كلاهما لم يفقها معنى الغيب المراد اثباته و لا أدركا كنه خاتم الأنبياء صلى اللّه عليه و آله و سلم فقالا بما شاء لهما ادراكهما.
و بعد أن أوضحنا المراد منه لم يبق للقارى‏ء النابه مجال التردد و التشكيك نعم، لا ينكر أن للباري سبحانه علما استأثر به خاصة و لم يطلع عليه أحدا و منه العلم بالساعة.
و أما ما ورد عنهم عليهم السّلام من نفي علمهم بالغيب كقول أبي عبد اللّه: عجبا لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب ما يعلم الغيب إلا اللّه لقد هممت بضرب جاريتي فهربت مني ما علمت في أي بيوت الدار «24» فمحمول على التقية لحضور المجلس داود الرقي و يحيى البزاز و أبي بصير و لم يكن لهم قابلية تحمل غامض علم أهل البيت. فأراد أبو عبد اللّه بنفي علم الغيب عنهم تثبيت عقيدة هؤلاء و يؤيده أن‏ سديرا الراوي لهذا الحديث دخل عليه في وقت آخر و ذكر له استغراب ما سمعه منه من نفي العلم بالغيب، فطمنه بأنه يعلم ما هو أرقى من ذلك و هو العلم بالكتاب كله و ما حواه من فنون المعارف و أسرارها على أن هذا الحديث لم يعبأ به المجلسي في مرآة العقول لجهالة رواته.
و يحتمل أن يريد بنفي العلم بمكان الجارية الرؤية البصرية لا الانكشاف الواقعي فقوله: (ما علمت) أي ما رأيتها بعيني في أي بيت دخلت و إلا فمن يقول في صفة علمه: لم يفتني ما سبقني و لم يعزب عني ما غاب عني لا يخفى عليه أمر الجارية، و لما طرق الباب (مبشر) على الباقر و خرجت الجارية تفتحه قبض على كفها فصاح به أبو جعفر عليه السّلام من داخل الدار: ادخل لا أبا لك فيدخل مبشر معتذرا بأنه لم يرد السوء و إنما أراد الازدياد قال له: لو كانت الجدران تحجبنا كما تحجبكم لكنا و أنتم سواء «25» ثم يقول لمحمد بن مسلم لو لم نعلم ما أنتم فيه و عليه ما كان لنا على الناس فضل ثم استدل عليه بما وقع في الربذة بينه و بين زميله في أمر الإمامة «26».
و أما الحكاية عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم: لو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير، فلا يفيد إلا كونه مفتقرا إلى اللّه تعالى في التعليم و أنه لم يكن عالما بالغيب من تلقاء نفسه، و هذا لا ريب فيه فإن المعتقد أن اللّه تعالى هو المتلطف على النبي و أبنائه عليهم السّلام بالملكة القدسية التي تمكنوا بواسطتها من استكشاف ما في الكون‏ «27».
و سؤال الصادق عن وجود العين عليهم يوم كان في الحجر و معه أصحابه فعرفوه بعدم العين فقال و رب هذه البنية ثلاثا لو كنت بين موسى و الخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما و لا نبأتهما بما ليس في أيديهما إنهما أعطيا علم ما كان‏ و يكون و ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة و قد ورثناه من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم‏ «28».
فبعد التسليم بصحة الحديث و عدم ضعف إبراهيم بن إسحاق الأحمر نقول بعدم منافاته لعلمه الواسع لما ورد عنهم أنهم غير مكلفين باظهار ما يعلمونه بل لا بد من العمل بما توجبه التقية ظاهرا أو لأنه كان يراعي حال بعض أصحابه في ظنه وجود العين عليهم، و هذا نظير قوله الآخر: إني أعلم ما في السموات و الأرضين و اعلم ما في الجنة و النار و اعلم ما كان و يكون فلما رأى عظم ذلك و خاف على من عنده قال عليه السّلام: إني علمت ذلك من كتاب اللّه إن اللّه تعالى يقول: فيه تبيان كل شي‏ء «29».
فالإمام راعى حال أصحابه فاستدل لهم بما يقنعهم و هكذا الأئمة فيما يعلمونه من المصالح الوقتية و الأحوال الشخصية و قوله عليه السّلام في حق موسى و الخضر: إنهما أعطيا علم ما كان لا ينافي علم الخضر بمستقبل أمر الغلام فإنه من القضايا التي أطلعه اللّه عليها لمصلحة وقتية.
و أما ما ورد عنهم عليهم السّلام أن الإمام إذا أراد أن يعلم شيئا أعلمه اللّه‏ «30» فليس فيه دلالة على تحديد علمهم في وقت خاص بل الحديث يدل على أن إعمال تلك القوة القدسية الثابتة لديهم عند الولادة موقوف على إرادتهم المتوقفة على وجود المصلحة في ابراز الحقائق المستورة و اظهار ما عندهم من مكنون العلم على أن هذا المضمون ورد في أحاديث ثلاثة، ردها المجلسي في مرآة العقول بضعف بعضها و جهالة الآخرين.
فالمتحصل من جميع ما ذكرناه أنّ اللّه تعالى أفاض على خلفائه الاطهار ملكة نورية تمكنوا بوساطتها من استعلام ما يقع من الحوادث و ما في الكائنات من خواص الطبائع و أسرار الموجودات و ما يحدث في الكون من خير و شر و لا غلو فيه بعد قابلية ذواتهم لهذا الفيض الأقدس و عدم الشح في عطاء الرب سبحانه فإنه يهب ما يشاء لمن يشاء و صارح الأئمة عليهم السّلام بهذه الحبوة الالهية و أنهم في جميع‏ الآنات محتاجون إلى تتابع الآلاء منه جل شأنه، و لولاها لنفد ما عندهم من مواد العلم و هذا غير بعيد فيمن تجرد لطاعة اللّه تعالى و عجنت طينته بماء النزاهة من الأولياء و الصديقين فضلا عمن قيضهم الباري تعالى أمناء شرعه و قد صادق على ذلك المحققون من الاعلام كما حكاه الشيخ المفيد في المقالات ص 77 و المجلسي في مرآة العقول ج 1 ص 187، و مشى على ضوئهم المحقق الآشتياني في حاشيته على رسائل الشيخ الأنصاري ج 2 ص 60.
و قال ابن حجر الهيثمي: لا منافاة بين قوله تعالى : {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل : 65] ، و قوله : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن : 26] ، و بين علم الأنبياء و الأولياء بجزئيات من الغيب فإن علمهم إنما هو بإعلام من اللّه تعالى، و هذا غير علمه الذي تفرد به تعالى شأنه من صفاته القديمة الازلية الدائمة الأبدية المنزهة عن التغيير و هذا العلم الذاتي هو الذي تمدح به و أخبر في الآيتين بأنه لا يشاركه أحد فيه و أما من سواه فإنما يعلم بجزئيات الغيب فبإعلامه تعالى و اعلام اللّه للأنبياء و الأولياء ببعض الغيوب ممكن لا يستلزم محالا بوجه، فانكار وقوعه عناد و من البداهة أنه لا يؤدي إلى مشاركتهم له تعالى فيما تفرد به من العلم الذي تمدح به و اتصف به من الازل و على هذا مشى النووي في فتاواه‏ «31».
فاتضح بهذا البيان أن ابن حجر لم يتباعد عن القول بعلم الأولياء بالغيب و إنما لم يوافق الشيعة على ما يعتقدونه في أئمتهم من أهل البيت عليهم السّلام من قدرتهم على العلم بالحوادث الكائنة و التي تكون إلى يوم القيامة لاعتقاده أن هذه السعة مختصة بالباري جل شأنه و لكن الملاك الذي قرره لمعرفة الأولياء ببعض الغيب و هو تمكين المولى سبحانه لهم من الوقوف على الغيب يقيد ما تعتقده الشيعة، فإن الميزان للوقوف على المغيبات إذا كان بإقدار اللّه تعالى و جعله الملكة النورية في هذه الذوات الخاصة من آل الرسول، فمن الممكن أن تكون تلك القوة بالغة أقصى مداها فلا يتوقف من أفيضت عليه من جميع المغيبات حتى كأن الأشياء كلها حاضرة لديه على حد تعبير الإمام الصادق عليه السّلام اللهم إلا الأشياء التي‏ استأثر بها اللّه تعالى وحده، فلا وقوف لأحد عليها مهما ترقى إلى فوق ذروة الكمال.
و على هذا الذي قرره ابن حجر سجل اعتقاده النيسابوري صاحب التفسير فقال: إن امتناع الكرامة من الأولياء إما لأن اللّه ليس أهلا لأن يعطي المؤمن ما يريد، و إما لأن المؤمن ليس أهلا لذلك و كل منهما بعيد فإن توفيق المؤمن لمعرفته لمن أشرف المواهب منه تعالى لعبده فإذا لم يبخل الفياض بالأشرف فلأن لا يبخل بالدون أولى‏ و قال ابن أبي الحديد إنّا لا ننكر أن يكون في نوع من البشر أشخاص يخبرون عن الغيوب و كله مستند إلى الباري جل شأنه بإقداره و تمكينه و تهيئة أسبابه‏ و قال لا منافاة بين قوله تعالى: وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً و بين علمه صلى اللّه عليه و آله و سلم بفتح مكة و ما سيكون من قتال الناكثين و القاسطين و المارقين فإن الآية غاية ما تدل عليه نفي العلم بما يكون في الغد و أما إذا كان باعلام اللّه عز و جل فلا، فإنّه يجوز أن يعلم اللّه نبيه بما يكون‏.
_________________
(1) المحتضر للحسن بن سليمان الحلي من تلامذة الشهيد الأول كان حيا سنة 802 ه ص 165 و مختصر البصائر له ص 125.
(2) بصائر الدرجات للصفار ص 128 جزء 9 ملحق بنفس الرحمن للنوري «قده».
(3) مختصر البصائر ص 101.
(4) المحتضر ص 20.
(5) من الغلو ما قاله أحمد بن يحيى البلاذري في المستعين:
و لو أن برد المصطفى إذ لبسته‏ يظن لظن البرد أنك صاحبه‏
و قال و قد اعطيته و لبسته‏ نعم هذه اعطافه و مناكبه‏
(الآثار النبوية ص 13) لأحمد تيمور باشا.
(6) روح المعاني ج 20 ص 11.
(7) البحار ج 12 ص 29 ط كمپاني عن مشارق الأنوار للبرسي.
(8) أصول الكافي على هامش مرآة العقول ج 1 ص 185.
(9) مختصر البصائر ص 63.
(10) البحار ج 15 ص 74 و تكلم على هذه الآية ابن حجر في فتح الباري ج 13 ص 284 كتاب التوحيد.
(11) البحار ج 12 ص 22 باب وروده البصرة و ج 15 ص 74 عن الخرائج.
(12) توحيد الصدوق ص 102 باب نفي الرؤية و في علل الشرائع ص 14 باب 7 و علم اليقين للفيض 86.
(13) البحار ج 11 ص 216 باب أحوال أصحاب الصادق.
(14) السيرة الحلبية ج 1 ص 294 باب بدء الوحي.
(15) الروض الأنف ج 1 ص 154.
(16) عيون الأثر ج 1 ص 90.
(17) الخصائص الكبرى ج 2 ص 193.
(18) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية ج 1 ص 221 الطبعة الأولى.
(19) الاعتقادات ملحق بالباب الحادي عشر للعلامة.
(20) شرح اعتقادات الصدوق ص 211 ملحق بالمقالات طبع طهران.
(21) العنايات الرضوية ص 51.
(22) نص عليه الشيخ المفيد في المقالات ص 123 و الشيخ الطوسي في التبيان ج 2 ص 23، و المبسوط و هو ظاهر الشهيد الأول في غاية المراد و العلامة في التحرير و القواعد و السيد المجاهد في المناهل و صرح به ابن شهراشوب في المناقب ج 1 ص 161 و المجلسي في مرآة العقول ج 1 ص 147 و السيد في الرياض و الفاضل الهندي في كشف اللثام و المقداد في التنقيح و الحاج ملا علي الكنّي في القضاء و عبارة السرائر مشعرة بدعوى الاجماع عليه تعرضوا لذلك في مسألة كتابة القاضي من كتاب القضاء.
و به صرح الشهاب الخفاجي في شرح الشفا ج 2 ص 398 في فصل أسمائه من الباب الثالث و في ص 514 فصل اعجازه و في روح المعاني للآلوسي ج 21 ص 4 عند قوله:
وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ‏ ذكر جماعة قالوا بمعرفته الكتابة ثم نقل عن صحيح البخاري أنه صلى اللّه عليه و آله و سلم كتب عهد الصلح و حمل الأستاذ عبد العظيم الزرقاني في مناهل العرفان ص 260 ط أول، الاخبار النافية على أوليات أمره و المثبتة للكتابة على اخريات أمره و في- - تهذيب تاريخ ابن عساكر ج 6 ص 249 كتب أبو الوليد الباجي رسالة في كتابة النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم. و انتصر له أحمد بن محمد اللخمي و جعفر بن عبد الجبار مع جماعة آخرين.
(23) مجمع الأنهر ج 1 ص 320 في الفقه الحسن.
(24) بصائر الدرجات ص 57 و 62 و أصول الكافي على هامش مرآة العقول ج 1 ص 186.
(25) مناقب ابن شهراشوب ج 2 ص 274 و البحار ج 11 ص 70 عن أبي الصباح الكناني.
(26) البحار ج 11 ص 72 عن الخرائج.
(27) في شرح الشفا للخفاجي ج 3 ص 150 المنفي في الآيات اطلاعه على الغيب من غير وساطة و أما علمه بالغيب فبإعلام اللّه تعالى فثابت و متحقق لقوله تعالى: فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ‏. (28) أصول الكافي على هامش مرآة العقول ج 1 ص 189.
(29) المصدر السابق ص 190.
(30) المصدر السابق ص 187.
(1) الفتاوى الحديثة ص 222.