الشعائر الحسينيه
الزيارة و فضلها

لقد راق أئمة الهدى عليهم السّلام أن تبقى تلك الذكريات الخالدة مدى الدهر تتحدث بها الأجيال المتعاقبة علما منهم ببقاء الدين غضا طريا ما دامت الأمة تتذاكر تلك الفاجعة العظمى و لم يقتصروا على لازمها و هو البكاء حتى رغبوا إلى‏ التباكي و هو التشبه بالباكي من دون أن يخرج منه دمع فيقول الإمام الصادق: من تباكى فله الجنة «1».
و معلوم أن التباكي إنما يتصور فيمن تتعسر عليه الدمعة لكنه لم يفقد التأثر لأجل المصاب كما يشاهد في كثيرين فالتأثير النفساني بتصور ما ورد على المحبوب من آلام و فوادح يستلزم قهرا النفرة عمن أورد ذلك العدوان.
و في الحديث عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم أنه قرأ آخر الزمر: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر : 71] على جماعة من الأنصار فبكوا إلا شابا منهم قال: لم تقطر من عيني قطرة و إني تباكيت قال صلى اللّه عليه و آله و سلم: من تباكى فله الجنة «2».
و روى جرير عنه صلى اللّه عليه و آله و سلم أنه صلى اللّه عليه و آله و سلم قال: إنى قارى‏ء عليكم: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } [التكاثر : 1] من بكى فله الجنة و من تباكى فله الجنة «3».
و حدث أبو ذر الغفاري عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم: إذا استطاع أحدكم أن يبكي فليبك و من لم يستطع فليستشعر قلبه الحزن و ليتباك فإن القلب القاسي بعيد من اللّه‏ «4».
و هذه الأحاديث تدلنا على أن التباكي منبعث عن حزن القلب و تأثر النفس كالبكاء، لكن في باب الرهبة منه سبحانه و تعالى يكون الحزن و التأثر لأجل تصور ما يترتب على مخالفة المولى من الخزي في الآخرة فيتباعد عنه و يعمل ما يقربه من المولى زلفة. و في باب تذكر مصائب آل الرسول يستوجب بغض من ناوأهم و أوقع بهم و أساء إليهم.
و لعل ما أشرنا إليه هو مراد الشيخ محمد عبده، فإنه قال: التباكي تكلف البكاء لا عن رياء «5».
و يقول الشريف الجرجاني: باب التفاعل أكثره اظهار صفة غير موجودة كالتغافل و التجاهل و التواجد، و قد انكره قوم لمن فيه من التكلف و التصنع و اجازه قوم لم يقصد به تحصيل الصفة و الأصل فيه قوله صلى اللّه عليه و آله و سلم: إن لم تبكوا فتباكوا، أراد به التباكي ممن هو مستعد للبكاء لا تباكي الغافل اللاهي‏ «6».
فالباكي و المتباكي مشتركان في احتراق القلب و تأثر النفس لأجل تصور ما ورد من الظلم على أهل البيت عليهم السّلام و مشتركان في لازمه و هو النفرة و التباعد عن كل من دفعهم عن مقامهم.
و من لا يفقه مغازي كلام المعصومين يحكم بالرياء على المتباكي و بعد ما أوضحنا من السر تعرف قيمة البلاغة و قدر البلغاء.
و كم لأهل البيت عليهم السّلام من أسرار غامضة لا يقف عليها إلا من مارس كلامهم و درس مقتضيات الأحوال، فإنهم لم يزالوا يتحرون الوسائل الدقيقة لتوجيه النفوس نحوهم و تعريف ما لهم من حق مغصوب.
فمن ذلك ما أوصى به الإمام الباقر عليه السّلام باعطاء ثمانمائة درهم لنوادب يندبنه بمنى أيام الموسم‏ «7».
فإنك إذا عرفت أن الناس من مختلف الاقطار و المذاهب يجتمعون في منى أيام الحج و قد احلوا من كل ما حرم عليهم إلا النساء و أنها أيام عيد و تزاور فتعقد هنالك حفلات المسرة و نوادي التهاني.
تعرف النكتة الدقيقة التي لاحظها الإمام عليه السّلام باختياره أيام منى على عرفات و المشعر لاشتغال الناس بالعبادة و الابتهال إلى المولى سبحانه في هذين الموقفين مع قصر الزمان.
نعم في أيام منى حيث إنها ثلاثة و هي أيام عيد و فرح و سرور لا حزن و بكاء و طبعا أن السامع للبكاء في أيام المسرات يستفز إلى الأسباب الموجبة له و يتساءل‏ عمن يندبنه و ما هي دعوته و أعماله و يسأل عمن ناوأه و دافعه عن حقه، و بهذا الفحص يتجلى له الحق و الطريقة المثلى لأن نور اللّه لا يطفى و الدعوة إليه جلية البرهان.
و هذا النبأ يتناقله الناس إلى من كان نائيا عن هذه المواقف عند الاياب إلى مقرهم، فيصل إلى الغائبين بهذا الطريق و به تتم الحجة فلا يسع كل أحد أن يتذرع بعذر عدم الوصول إلى المدينة التي هي موطن «حجة اللّه عليه السّلام» و لا من أبلغه خبره، و لا عرفت دعوة الإمام و ضلال مناوئه فلا يبقى حينئذ جاهل قاصر على الأغلب.
و من هنا نفهم السبب في اعراض الإمام عليه السّلام عن الوصية للنوادب يندبنه بمكة أو في المدينة أيام الحج فإنه في البلدين لا تكون الندبة إلا في الدور فمن أين يقف الرجال عليهن و كيف يكون هذا البكاء مشعرا بالغرض المطلوب.
و دعوى كون صوت المرأة عورة و يحرم على الأجانب سماعه مردودة بما رواه الكليني في الكافي: أن أم خالد دخلت على الإمام الصادق عليه السّلام و كانت عاقلة عارفة و عنده أبو بصير، فقال عليه السّلام لأبي بصير أتحب أن تسمع كلامها؟ ثم اجلسها معه على الطنفسة و تكلمت أم خالد فإذا هي امرأة بليغة عاقلة «8» فلو كان سماع صوت المرأة محرما على الأجانب لما اجاز الإمام ذلك لأبي بصير.
على أن وصية الإمام الباقر بالمال للنوادب بمنى تفيد الجواز لأن سماع الرجال أصواتهن لا ينكر و إلا لأمر بالبكاء عليه في دور المدينة و مكة بل النكتة الملحوظة للإمام عليه السّلام لا تحصل إلا بسماع الرجال أصواتهن و ما يدعون إليه.
و في حديث حماد الكوفي أن الصادق قال له: بلغني أن أناسا من أهل الكوفة يأتون قبر أبي عبد اللّه عليه السّلام في النصف من شعبان فبين من يقرأ و يقص إلى أن قال و نساء يندبنه، قال حماد: قد شهدت بعض ما تصف، فقال: الحمد للّه الذي جعل في شيعتنا من يفد إلينا و يمدحنا و يرثي لنا «9» و لا ينكر أن ندبة النساء عند القبر يلزمها سماع الأجانب أصواتهن و لو كان محرما لما استحسنه الإمام الحجة و دعا لهم بالرحمة.
و أما كون صوت المرأة عورة فلم تشهد به رواية و ما ورد من منع الرجال محادثة الأجنبية أو المبيت معها في بيت واحد فليس من جهة كون صوتها عورة بل للحذر عن الوقوع فيما لا يحمد عقباه و ما ذكره العلامة الحلي في التحرير أول النكاح المسألة التاسعة لا يجوز للأعمى سماع صوت الأجنبية فلعله لذلك لا لأنه عورة. نعم صرح في التذكرة أول النكاح أن صوتها عورة يحرم استماعه مع خوف الفتنة لا بدونه و للشافعية قولان في كونه عورة أو لا ورد صاحب الجواهر على المحقق بالسيرة المتواترة في الاعصار فقد كانت النساء تخاطب الأئمة و خطبة الزهراء و بناتها معلومة.
و الفقه السني لم يمنع منه ، ففي الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 167 صوت المرأة ليس بعورة لأن نساء النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم كن يتكلمن مع الصحابة و يستمعون منهن أحكام الدين. و قال الشيباني الحنبلي في نيل المآرب ج 2 ص 127: صوت المرأة لم يكن عورة و لكن يحرم التلذذ بصوتها و هو مختار ابن حجر في كف الرعاع على هامش الزواجر ج 2 ص 27: نعم ذهب بعض أهل السنة إلى كونه عورة و لم يستصحه ابن حجر و في البحر الرائق لابن نجيم الحنفي ج 1 ص 270 ذكر المصنف في الكافي أن المرأة لا تلبي جهرا لأن صوتها عورة و عليه صاحب المحيط في باب الاذان و في فتح القدير على هذا لو قيل إذا جهرت في الصلاة فسدت كان متجها و في شرح المنية الأشبه أن صوتها ليس بعورة و إنما يؤدي إلى الفتنة كما علل به صاحب الهداية و غيره في مسألة التلبية و في النوازل نغمة المرأة عورة و بنى عليه تعلمها القرآن من المرأة أحب من تعلمها من الأعمى انتهى البحر الرائق. و قال ابن نجيم في الاشباه و النظائر ص 200 في أحكام الخنثى صوتها عورة في قول و في الفروع لابن مفلح الحنبلي ج 3 ص 12 لا يحرم سماع صوتها على الأصح لأنه ليس بعورة و في عمدة القاري للعيني شرح البخاري ج 4 ص 12 آخر باب الأمر باتباع الجنائز يجب على المرأة رد سلام الرجل و لا ترفع صوتها لأنه عورة. و في طرح التثريب لزين الدين العراقي ج 1 ص 250 عند ابن عبد البر في الاستذكار عدم كونه عورة و هو الصحيح عند الشافعية و فيه ج 7 ص 45 في النكاح‏ صوتها ليس بعورة و في شرح المجموع للنووي ج 7 ص 249 طبع ثاني صرح الدارمي و القاضي أبو الطيب أن رفع صوتها بالتلبية غير حرام و في نيل الأوطار للشوكاني ج 4 ص 274 باب التلبية عند الروياني و ابن الرفعة لا يحرم رفع صوتها بالتلبية لأنه ليس بعورة.
__________________
(1) أمالي الصدوق ص 86 مجلس 29.
(2) كنز العمال ج 1 ص 147.
(3) نفس المصدر ص 148.
(4) اللؤلؤ و المرجان للنوري ص 47 و مجموعة شيخ ورام ص 272.
(5) تفسير المنار ج 8 ص 301.
(6) التعريفات ص 48.
(7) التهذيب للطوسي ج 2 ص 108 كتاب المكاسب، و المنتهى للعلامة الحلي ج 2 ص 112، و الذكرى للشهيد الأول المبحث الرابع من أحكام الأموات، و في من لا يحضره الفقيه ص 36 أنه عليه السّلام أوصى بثمانمائة درهم لمأتمه و أن يندب في المواسم عشر سنين.
(8) الوسائل للحر العاملي ج 3 ص 25 باب 106 حكم سماع صوت الأجنبية و في روضة الكافي حديث 319.
(9) كامل الزيارات ص 325 باب 108 أول النوادر.