الشعائر الحسينيه
الزيارة و فضلها

أهل الحجاز يبكون الحسين (عليه السلام) :
ولمّا عزمَ الإمام الحسين (عليه السلام) على مغادرة مدينة جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والتوجّه إلى العراق تلبية لنداءات ورسائل ورُسل أهل الكوفة، عزّ على أهل المدينة أن يفارقهم سبط الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهم في أمسّ الحاجة إلى زَعامته وإمامته وإرشاداته، فتوسّلوا إليه أن يعدِل عن هذه الرِحلة ذات المصير المجهول.
والأعداء ـ وخاصّة الأمويون منهم ـ مترصِّدون له، وعازمون على قتله والفتك به وبأصحابه، والقضاء على نهضته الإصلاحيّة التي بها إحياء لدين جدّه محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مهما كلّفهم الأمر، ولكنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان قد قرّ قراره على الرحيل لأمور كان هو أعلم بها، وفيما يلي بعض المرويّات عن بدء الإمام بهذه الرحلة المشؤومة:
1 ـ جاء في الصفحة (75) من المجلّد الرابع من موسوعة (أعيان الشيعة)، القسمُ الأول منها عند بيان تفاصيل كيفيّة خروج الحسين (عليه السلام) من المدينة، يصحبه إخوته، وأهله، وشيعته، يريد مكّة ثُمّ الكوفة قوله:
(وأقبَلَت نساء عبد المطلب فاجتمعنَ للنياحة، لمّا بلغَهنّ أنّ الحسين (عليه السلام) يريد الشخوص من المدينة، حتى مشى فيهنّ الحسين (عليه السلام) فقال: (أُنشدكنّ الله أن تُبدين هذا الأمر معصية لله ولرسوله)، فقالت له نساء بني عبد المطلب: فلمَن نستبقي النياحة والبكاء؟ فهو عندنا كيوم ماتَ فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعلي، وفاطمة، والحسن، ورقية، وزينب، وأم كلثوم، جَعَلنا الله فداك من الموت يا حبيب الأبرار من أهل القبور..).
وكأنّ القَدَر كان أوحى لهؤلاء النسوة بأنّ الإمام وأهل بيته ـ ومَن يُرافقه في هذه الرحلة ـ مستشهدون لا محالة.
2 ـ وفي الصفحة (42) من كتاب (المجالس السَنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة) لمؤلِّفه العلاّمة الأمين العاملي عند ذكر اجتماع محمّد ابن الحنفيّة ـ أخي الإمام الحسين (عليه السلام) ـ في المدينة به قُبيل مغادرة الإمام لها، ونصيحة محمّد للحسين بأن يخرج إلى مكّة، فإن اطمأنّ إلى أهلها وإلاّ فإلى اليمن، وإلاّ اللِحاق بالرمال وشعوب الجبال، هَرَباً من تعقيب يزيد وزُمرته الأمويين له، قال له الحسين:
(يا أخي، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لمَا بايعت يزيد بن معاوية، فقطعَ محمّد بن الحنفيّة عليه الكلام، وبكى فبكى الحسين (عليه السلام) معه ساعة ثُمّ قال: يا أخي، جزاك الله خيراً، فقد نصحتَ وأشرتَ بالصواب، وأنا عازم على الخروج إلى مكّة).
3 ـ وفي الصفحة (45) من الكتاب نفسه، ينقل المؤلِّف الجليل كيفيّة خروج الحسين (عليه السلام) من مكّة، وشخوصه مع أهله وأصحابه إلى العراق في (8) ذي الحِجّة سنة 60 هـ، واجتماع أخيه محمّد بن الحنفيّة به مرّة أخرى، ومنعهُ من السفر إلى العراق، والرحيل إلى اليمن، وامتناع الإمام (عليه السلام) عن ذلك، ثُمّ يقول:
(وسمعَ عبد الله بن عمر بخروج الإمام من مكّة، فقدّم راحلته وخرجَ خلفه مُسرعاً فأدركه في بعض المنازل، فقال له: أين تريد يا بن رسول الله؟ قال: (العراق) قال: مهلاً، ارجع إلى حَرَم جدّك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فأبى الحسين (عليه السلام)، فلمّا رأى ابن عمر إباءه فقال: يا أبا عبد الله، اكشِف لي عن الموضع الذي كان رسول الله يقبِّله منك، فكشفَ الحسين (عليه السلام) عن سرّته، فَقبّلها ابن عمر ثلاثاً وبكى، وقال: أستودِعُك الله يا أبا عبد الله، فإنّك مقتول في وجهتك هذه...).
الحُسين (عليه السلام) يتنبّأ الكارِثة :
لم يكِد الإمام الشهيد يغادر مكّة يوم (8) ذي الحجّة سنة 60 هـ قاصداً العراق، إلاّ وأخذَت الأنباء المُحزنة تتوارد عليه فيما يلاقيه رُسله وموفِدوه من: نشوز، وظلم، وبغي، وخيانة من أهل الكوفة بعد وصول الوالي الجديد إليها عبيد الله بن زياد، وقد أصبحَ الإمام متأكِّداً من أنّه وآله وأصحابه ملاقون أسوأ المصير فيما هم عازمون عليه، ولكن لا رادّ لإرادة الله، وفيما يلي بعض ما يؤيّد ذلك:
1 ـ جاء في كتاب (المجالس السَنيّة) صفحة (53) عند ذكر حادث مسلم بن عقيل في الكوفة، ومحاربته جلاوزة الوالي الغشوم عبيد الله بن زياد، ثُمّ مقتل مسلم، ما عبارته:
(وفي رواية المفيد: أنّ مسلم أُخذَ بالأمان بعد أن عجزَ عن القتال، فأُتيَ ببغلة فحُمِل عليها، واجتمعوا حوله وانتزعوا منه سيفه، فكأنّه عند ذلك يئس من نفسه، فدمِعت عيناه ثُمّ قال: هذا أوّل الغدر، قال له محمّد بن الأشعث: أرجو أن لا يكون عليك بأس، فقال: وما هو إلاّ الرجاء، أين أمانكم؟ إنّا لله وإنا إليه راجعون، وبكى، فقال له عبيد الله بن العبّاس السلمي: إنّ مَن يطلب مثلَ الذي تطلب إذا نزلَ به مثلَ الذي نزلَ بك لم يبكِ، فقال: إنّي والله، ما لنفسي بكيتُ ولا لها من القتل أرثي، وإن كنتُ لم أحُبّ لها طرفة عين تَلَفا، ولكنّي أبكي لأهليَ المُقبلين، أبكي للحسين وآل الحسين..).
2 ـ وجاء في الصفحة (58) من نفس الكتاب بعد ذكر مجزرة مقتل مسلم بن عقيل في الكوفة ما نصّه:
(وفي أثناء الطريق من مكّة إلى العراق، لقيَ الفرزدق الشاعر الإمام الحسين (عليه السلام) فسلّم عليه وقال له: يا بن رسول الله، كيف تركن إلى أهل الكوفة، وهم الذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته؟ فاستعبرَ الحسين (عليه السلام)، ثُمّ قال: (رحمَ الله مسلماً..).
3 ـ وفي الصفحة (64) من ذاك الكتاب، وردَ ذكر قصّة نزول الحسين (عليه السلام) في الثعلبيّة بطريقه من الحجاز إلى العراق، ووصول أحد الأسديين من الكوفة، ورؤيته مقتل مسلم ابن عقيل، وهاني بن عروة في الكوفة، وإخبار رجُلين من الرحل الحسيني بهذا النبأ المُفجع، ثُمّ يستطرد الكتاب بعد ذلك ويقول: (فسكتَ الإمام، وارتجّ الموضع بالبكاء لقتل مسلم بن عقيل، وسالَت الدموع عليه كلّ مسيل..).
4 ـ وجاء في الصفحة (73) من الكتاب المذكور، بعد ذكر وصول ركب الإمام الشهيد إلى القرب من كربلاء يوم أول محرّم سنة 61 هـ قوله: (فقال الحسين جواباً لمَن اقترحَ عليه أن يبدأ بقتال الحر وجيشه: (ما كنتُ لأبدَأهم بالقتال، فقال له زهير: فسِر بنا يا بن رسول الله حتى ننزل كربلاء؛ فإنّها على شاطئ الفرات فنكون هناك، فإن قاتَلونا قاتلناهم واستعنّا الله عليهم، قال: فدمعت عَينا الحسين (عليه السلام) ثُمّ قال: اللهمّ أعوذُ بك من الكرب والبلاء..).
هذا، ويُستدل من الروايات المتواترة والأحاديث المتوفّرة: أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان متأكِّداً من أنّه قتيل آل أُميّة مهما حاول التملّص من ذلك، وإنّ تنبّؤاته بهذا المصير المُحزن كثيرة، استناداً إلى ما كان قد سمعهُ من جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن أبيه الكرّار (عليه السلام)، وتطبيقاً منه لمجرَيات الحوادث التي كانت تمرّ عليه في كلّ يوم وليلة، منذ أواخر عهد معاوية بن أبي سفيان وبعد استيلاء يزيد على الحُكم، وفيما يلي بعض ما عثرتُ عليه في بطون الكتب في هذا الأمر:
5 ـ نقلَ كتاب (إقناع اللائم) في صفحته (189) عن مقالٍ للمستشرق الألماني الشهير (ماربين) حول فاجعة كربلاء، ما تَرجمته تالياً:
(وأكبرُ دليلٍ على أنّ الحسين (عليه السلام) كان ذاهباً لمصرعه، ولم يقصد السلطنة والرئاسة أبداً هو: أنّه مع ذلك العلم ـ وتلك السياسة والتجربة التي اكتسبَها في عهد أبيه، وأخيه في قتالهم مع بني أُميّة ـ كان يعلم أنّه لا يملك الاستعدادات اللازمة مع تلك القوّة التي كانت ليزيد؛ لتمكنّه من المقاوَمة.
وأيضاً فإنّ الحسين ـ بعد قتل أبيه ـ كان يُخبر عن نفسه أنّه مقتول لا محالة، ومن الساعة التي خرجَ فيها من المدينة كان يقول بصوتٍ عال وبلا تستّر: (إنّني ذاهب للقتل)، وكان يصرِّح بذلك لأصحابه إتماماً للحجّة، وليُبرئ نفسه من أنّه يجاهد طمعاً في الجاه، وكانت لهجته على الدوام: (إنّ أمامي طريق المصرع).
ولو لم يكن الحسين بهذه الأفكار لم يكن ليستسلم للموت، بل كان يسعى لإعداد جيش، لا أن يفرِّق الجماعة الذين معه، ولمّا لم يكن له قصد سوى القتل الذي هو مقدّمة لتلك الأفكار السامية، وتلك الثورة المقدّسة، التي كانت في نظره أنّها أكبر وسيلة لتلك الثورة التي سيفقد فيها الأنصار، ويصاب بها بالقتل مظلوماً شهيداً، لذلك اختارها لتكون مصائبه أشدّ تأثيراً في القلوب..).
ثُمّ يستطرد الكاتب الألماني فيقول: (إنّه ـ أي الحُسين ـ لم يتحمّل هذه المصائب للحصول على السلطنة، ولم يرد هذه المَهلكة العظمى على غير علم، كما تصوّر ذلك بعض مؤرّخينا، بدليل: أنّه كان ـ قبل هذه الواقعة بسِنين متطاولة ـ يترنّم بذكر مصائبه التي ستقع على سبيل التسلية لخواص أصحابه، من ذوي الأفكار العالية والأدمِغة الواسعة قائلاً: (سيُظهر الله بعد قتلي ـ وظهور تلك المصائب المفجعة ـ أقواماً يميّزون الحقّ من الباطل، ويزورون قبورنا، ويبكون على مصائبنا، ويأخذون الثار من أعداء آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، هؤلاء الجماعة يروِّجون دين الله وشريعة جدّي، ونحبّهم أنا وجدّي، وسيُحشرون معنا يوم القيامة..).
6 ـ جاء في الصفحة (29) من كتاب (لمعة من بلاغة الحسين (عليه السلام))، لمؤلِّفه السيّد مصطفى محسن الاعتماد الموسوي الحائري، من خطبة للحسين (عليه السلام) عند عزمه على المسير من الحجاز إلى العراق قوله: (وخُيّرَ لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تُقطِّعها عسلان الفَلَوات بين النَواويس وكربلاء، فيملأنّ منّي أكراشاً جوفاً، وأجرِبة سغباً، لا محيصَ عن يومٍ خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفّينا أجور الصابرين...).
7 ـ وجاء في الصفحة (32) من الكتاب نفسه، في جواب الإمام علي (عليه السلام) لأبي هرم ـ لمّا قال له: يا بن رسول الله ، ما الذي أخرجكَ عن حَرَم جدّك ـ قوله: (يا أبا هرم، إنّ بني أُميّة شَتموا عرضي فصبرت، وأخذوا مالي فصبرت، وطلبوا دَمي فهربت، وأيمَ الله ليقتلونَني فيلبِسهم الله ذلاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً...).
8 ـ جاء في الصفحة (35) من هذا الكتاب أيضاً ـ ما نصّه ـ عند مخاطَبة الإمام أصحابه قوله: قال الحسين (عليه السلام): (إنّ رسول الله قال لي: يا بُني إنّك ستُساق إلى العراق، وهي أرض قد التقَى بها النبيون وأوصياء النبيين، وهي أرض تُدعى عجوزاً وإنّك تستشهد بها، ويستشهد معك جماعة من أصحابك تكون الحرب عليك وعليهم سلماً...).
9 ـ وفي الصفحة (37) منه جاء ضمن خطبة للإمام (عليه السلام) يخاطب بها أصحابه ما لفظه: (وقد قال جدّي رسول الله: ولَدي حسين يُقتل بطف كربلاء غريباً، وحيداً، عطشاناً...).
10ـ ووردَ في الصفحة (67) منه في جوابٍ للإمام الشهيد (عليه السلام)، على كتاب عبد الله بن جعفر الطيار الذي يرجو فيه من الإمام عدم مغادرة مكّة إلى الكوفة؛ لأنّ فيها هلاك الإمام وصحبه ما نصّه: (اعلم أنّي قد رأيتُ جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في منامي، فأخبَرني بأمرٍ أنا ماضٍ له، فو الله يا ابن العم لو كنت في جِحر هامة من هوام الأرض لاستخرجوني حتى يقتلوني...).
11 ـ جاء في الصفحة (637) من كتاب (موسوعة آل النبي) للدكتورة بنت الشاطئ ما نصّه: (وكان الحسين ـ فيما يروي عدد من المؤرّخين الإخباريين ـ يعلم منذ طفولته بما قُدِّر له، كما كان دور أخته زينب حديث القوم منذ ولِدَت، فهم يذكرون: أنّ سلمان الفارسي أقبلَ على علي (عليه السلام) يهنِّئه بوليدته، فألفاه واجِماً حزيناً يتحدّث عمّا سوف تلقى ابنته في كربلاء، وبكى علي الفارس الشجاع، ذو اللواء المنصور، والمُلقّب بأسد الإسلام).
12 ـ جاء في الصفحة (685) من الموسوعة نفسها، عند ذكرها إحضار والي المدينة ـ الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ـ الحسين (عليه السلام) ليأخذَ منه البيعة ليزيد، وامتناع الإمام عن ذلك، وما حدَث له في مجلس الوليد قولها: (خرجَ الحسين حتى أتى منزله وألقى إلى أهله النبأ وأسرّ لهم بعزمه على الرحيل).
ومرّ بمسجد المدينة، ويقال: إنّه سمعَ إذ ذاك يتمثّل بقول ابن مفرّغ:
لا ذُعرت والسوام في فَلَق الصبح مـغـيراً ولا دعـيـت يـزيدا
يـوم أعـطى مـن المهانة حيناً والـمنايا يـرصدنّني إذ أحـيدا

13 ـ وفي الصفحة (702) من نفس الموسوعة، عند الحديث عن منع عبد الله بن جعفر الحسين (عليه السلام) من الشخوص إلى العراق، وامتناع الإمام عن ذلك وإصراره على الرحيل إلى الكوفة قولها: (ثُمّ مشى الحسين في طريقه لا يلوي على شيء، فزارَ قبر جدّه مودِّعاً وهو يقول: (وقد غسلتُ يدي من الحياة، وعزمتُ على تنفيذ أمر الله).
14 ـ وفي الصفحة (706) من نفس الموسوعة، ذُكرَ عن مثول الأسديين الآتيين من الكوفة بين يدي الحسين (عليه السلام) في الطريق، وإخباره بمقتل مسلم بن عقيل، ثُمّ تقول: (فسادَ القوم ـ أنصار الحسين ومرافقيه ـ وجوم حزين لم يطل، ثُمّ أعوِلت النساء وضجّ الجميع بالبكاء، وكانت مناحة في العراء).
وحين خفّت ضجّة النياح أرادَ الحسين أن يرجع بآله، فوثبَ عند ذلك بنو عقيل وهم يصيحون: لا نرجع والله أبداً، حتى ندرك ثارنا، أو نذوق ما ذاق أخونا، ونُقتل بأجمعنا.
فنظر الحسين إلى الأعرَابيَين اللذين نصحاه بالرجوع وقال في جد وأسى: (لا خير في العيش بعد هؤلاء، وأمن القدر على ما قاله بنو عقيل) فلم يرجعوا بل قُتلوا أجمعين...).
الحُسين (عليه السلام) يَنعى نفسه ويَبكي آله :
تتابَعت الروايات ـ من المؤرِّخين وأرباب السِيَر ـ على أنّ الإمام الشهيد (عليه السلام) قد أكّد ما كان قد تنبّأ به من قبل يوم التاسع من المحرّم ـ أي قبل استشهاده بأربع وعشرين ساعة ـ بأنّه مقتولٌ لا محالة، وإنّ الإسلام والمسلمين سيُفجعون بمصرعه قريباً، وإنّ خصومه وأعداءه مصمِّمون على الفتك به وبأصحابه، مهما كلّفهم الأمر، ومهما عملوا في سبيل ذلك من وِزر، وقد رويَتْ في هذا الصدد روايات كثيرة، نأتي على بعضها تالياً ونترك المكرّر منها:
1 ـ جاء في (إرشاد) الشيخ المفيد: (إنّه في يوم الخميس (9) محرّم سنة (61 هـ) عصراً، نادى عمر بن سعد: يا خيلَ الله اركبي وبالجنّة ابشِري، فركبَ الناس ثُمّ زحفَ نحوهم بعد العصر، والحسين (عليه السلام) جالس أمام بيته مُحتبٍ بسيفه، إذ خفقَ برأسه على ركبتيه، وسمعت أخته زينب الضجّة فدَنَت من أخيها فقالت: يا أخي، أمَا تسمع الأصوات قد اقترَبت فرفعَ الحسين رأسه وقال: (إنّي رأيتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الساعة في المنام فقال لي: إنّك تروح إلينا، فلطمَت أخته وجهها ونادت بالويل، فقال لها: ليس لك الويل يا أُخيّة، اسكُتي رحمكِ الله..).
وقد قال بعض المؤرِّخين: إنّ هذا أوّل عويل في فاجعة الحسين (عليه السلام).
2 ـ نقلَ الشيخ المفيد في (إرشاده) أيضاً الرواية التالية: (قال علي بن الحسين (عليهما السلام): (إنّي لجالس في تلك العشيّة التي قُتلَ أبي في صبيحتها، وعندي عمّتي زينب تُمرِّضني، إذ اعتزلَ أبي في خباء وعنده جوين مولى أبي ذر الغفاري، وهو يُعالج سيفه ويُصلحه وأبي يقول:
يـا دهرُ أُفٍّ لك من خليلِ كم لك بالإشراقِ والأصيل
من صاحبٍ أو طالبٍ قتيلِ والـدهرُ لا يـقنعُ بالبديل
وإنّـما الأمرُ إلى الجليلِ وكـل حـيٍّ سالكٌ سَبيلي
فأعادَها مرّتين أو ثلاثاً حتى فهمتها وعرفتُ ما أراد، فخنَقَتني العبرة فردَدتها ولزمتُ السكوت، وعلمتُ أنّ البلاء قد نزَل، وأمّا عمّتي فلمّا سَمعَت ما سمعتْ وهي امرأة، ومن شأن النساء الرقّة والجَزَع، فلم تملك نفسها أن وثَبَت تجرّ ثوبها وإنّها لحاسرة، حتى انتهَت إليه فقالت: واثكلاه ليتَ الموت أعدَمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة، وأبي علي، وأخي الحسن، يا خليفة الماضي وثمال الباقي، فنظرَ إليها الحسين (عليه السلام) فقال لها:
يا أُخيّة، لا يذهبنّ حلمك الشيطان، وترقَرَقت عيناها بالدموع وقال: لو ترك القطا لنام؛ فقالت: يا ويلتاه، أفتغتصِب نفسك اغتصاباً؟ فذاك أقرحُ لقلبي وأشدّ على نفسي، ثُمّ لطمَت وجهها وهوَت إلى جيبها فشقّته، وخرّت مغشيّاً عليها.
فقامَ إليها الحسين فصبّ على وجهها الماء وقال لها: يا أختاه، اتّقي الله وتَعزّي بعَزاء الله، واعلَمي أنّ أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، وإنّ كلّ شيء هالكٌ إلاّ وجهه..).
3 ـ جاء في الصفحة (95) من كتاب (نهضة الحسين) لمؤلِّفه العلاّمة السيّد هبة الدين الحسيني الشهرستاني عند ذكر نعي الحسين نفسه قوله: إنّ زينباً باغَتَت أخاها الحسين (عليه السلام) في خبائه ليلة مقتله فوجدته يصقل سيفاً له ويقول: (يا دهرُ أُفٍّ لك من خليل) إلى آخر الأبيات المار ذكرها.
ذُعِرت زينب عند تمثّل أخيها بهذه الأبيات، وعَرَفت أنّ أخاها قد يئسَ من الحياة ومن الصلح مع الأعداء، وإنّه قتيل لا مَحالة ـ إلى أن يقول المؤلِّف الجليل ـ:
(فصرَخت أخت الحسين نادبة أخاها وقالت: اليوم مات جدّي، وأبي، وأمي، وأخي، ثُمّ خرَجت مغشيّة عليها، إذ غابَت عن نفسها ولم تعد تملك اختيارها، فأخذَ أخوها الحسين (عليه السلام) برأسها في حِجره يرشّ على وجهها من مدامعه حتى أفاقت، وسعد بصرها بنظرة من شقيقها وأخذ يسلّيها فقال: يا أختاه، إنّ أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، فلا يبقى إلاّ وجهه، وقد مات جدّي، وأبي، وأمي، وأخي، وهم خيرٌ مني، فلا يذهبنّ بحلمك الشيطان، ولم يزل بها حتى أسكنَ بروحه رَوعها، ونشّفَ بطيب حديثه دَمعها.. .
4 ـ روى ابن قولويه في الكامل بسنده عن ابن خارجة، قال: كنّا عند أبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام) فذكرنا الحسين بن علي (عليه السلام)، فبكى أبو عبد الله وبكينا، ثُمّ رفعَ رأسه فقال: (قال الحسين بن علي: أنا قتيلُ العبرة، لا يذكُرني مؤمن إلاّ بكى .. .
5 ـ جاء في الصفحة (98) من كتاب (مقتل سيّد الأوصياء ونجله سيّد الشهداء) لمؤلِّفه الشيخ عبد المنعم الكاظمي قوله: (إنّه في ليلة العاشوراء ـ أي مساء الخميس ـ عندما كان الإمام الحسين يصقل سيفه ويردِّد شعر (يا دهرُ أُفٍّ لك من خليل)... سمعتهُ زينب ووثَبَت تجرّ ثوبها، وإنّها لحاسرة حتى انتَهت إليه فقالت: واثكلاه، ليتَ الموت أعدَمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة، وأبي علي، وأخي الحسن، يا خليفة المسلمين، وثِمال الباقين ـ إلى أن قالت: يا ويلتاه، أفتغتصِب نفسك اغتصاباً، فذلك أقرحُ لقلبي، وأشدّ على نفسي، ثُمّ لطمَت وجهها، وأهوت إلى جيبها فشقّته ووقَعت مغشيّةً عليها.
فقامَ إليها الحسين وصبّ على وجهها الماء حتى أفاقت، وذكّرَها المصيبة بموت أبيه وجدّه، وبكت النسوة، ولطمنَ الخدود، وشققنَ الجيوب، وجَعَلت أم كلثوم تنادي: وامحمّداه، واعليّاه، واأُمّاه، واحَسناه، واحسيناه، واضيعتاه بعدك يا أبا عبد الله..).
6 ـ جاء في الصفحة (78) من كتاب (المجالس السَنيّة) المارّ ذكره ـ بعد أن أشارَ إلى قطع ماء الفرات عن الإمام في اليوم السابع من محرّم سنة (61 هـ)، وإرسال عمر بن سعد (500) فارس لمنع أصحاب الحسين من الوصول إلى الماء، وخطبة الحسين في تعريف نفسه إلى جيش ابن سعد مخاطِباً بها إياهم ـ يقول: (فلمّا خطبَ الحسين هذه الخطبة، وسمعَ بناته وأخته زينب كلامه بكينَ وارتفعت أصواتهنّ، فوجّه إليهنّ أخاه العبّاس وعليّاً ابنه، وقال لهما: (سكّتاهنّ فلعمري ليكثرنّ بكاؤهنّ..).
7 ـ جاء في الصفحة (108) من كتاب (إقناع اللائم) المارّ الذكر ما لفظه:
(روى الكامل بأسانيده إلى جعفر الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (قال الحسين: أنا قتيلُ العبرة، قُتلتُ مكروباً، وحقيقٌ على الله أن لا يأتيني مكروبٌ إلاّ ردّه الله وقَلَبه إلى أهله مسروراً..).
8 ـ ورد في الصفحة (35) من كتاب (لمعةٌ من بلاغة الحسين (عليه السلام)) المارّ ذكره ما لفظه: ومن دعائه (عليه السلام) لمّا وصلَ أرض كربلاء، أنّه جمعَ وِلدهُ، وإخوته، وأهل بيته،
ثُمّ نظرَ إليهم وصلّى ساعة، ثُمّ قال: (اللهمّ إنّا عترة نبيّك محمّد، وقد أُزعِجنا وطُرِدنا وأُخرِجنا عن حَرَم جدّنا، وتَعدّت بنو أُميّة علينا، اللهمّ فخُذ بحقّنا، وانصُرنا على القوم الظالمين..).
9 ـ وجاء في الصفحة (718) من (موسوعة آل النبي) ما نصّه: وفي خبرٍ: إنّ أبا عبد الله الحسين خرجَ في جوف الليل يتفقّد عسكره فتبعهُ نافع بن هلال، فسألهُ الحسين عمّا أخرجهُ، قال: يا بن رسول الله، يعزُّ عليّ خروجك إلى جهة معسكر هذا الطاغية، فتلطّفَ الإمام وقال له: ألا تسلُك بين هذين الجَبَلين في جَوف الليل وتنجو بنفسك؟
أجابَ صارخاً: ثَكلَتني أمي، إنّ سيفي بألف وفرَسي مثله، فو الله الذي مَنّ بك عليّ لا أُفارِقك حتى يكِلاّ عن فري وجري.
ثُمّ دخلَ الحسين خيمة أخته زينب، ووقفَ نافع بإزاء الخيمة ينتظره، فسمعَ زينب تقول لأخيها:
هل استعلَمتَ من أصحابك ثَباتهم، فإنّي أخشى أن يُسلموك عند الوَثبَة، قال لها:
والله، لقد بَلوتهم فما وجدتُ فيهم إلاّ مَن يستأنسون بالمنيّة دوني، استئناسَ الطفل إلى مَحالِب أُمه).
فلمّا سمعَ نافع كلمة الإمام، لم يملك وضعه وذهبَ إلى حبيب بن مظاهر فحكى له ما سمع، ثُمّ تستطرد الموسوعة فتقول:
ومضى حبيب بأصحابه حتى شارفَ خيام النساء فصاح: يا معشر حرائر رسول الله، هذه صوارم فتيانكم آلَوا أن لا يَغمدوها إلاّ في رقاب مَن يُريد السوء فيكم، وهذه أسِنّة غلمانكم أقسمَوا أن لا يركِّزوها إلاّ في صدور مَن يُفرِّق ناديكم.
فخرَجت النساء إليهم، فضجّ القوم بالبكاء حتى كأنّ الأرض تمور ... .