الشعائر الحسينيه
الزيارة و فضلها

وما دَخلت سنة (65 هـ) حتى تفاقَمت حركة التوّابين في الكوفة، فأخذوا يطالبون بدم الحسين (عليه السلام)، وينادون بنداء (يا لثارات الحسين)، ولم يكتموا أمرهم ولا عمدوا إلى الخفاء وصاروا يشترون السلاح، ويتجهّزون من كلّ جانب، طالبين التوبة ممّا بدرَ منهم بشأن عدم تلبية نداء الحسين (عليه السلام) لهم يوم عاشوراء، وصارَ عمّال بني أُميّة في الكوفة يشاهدونهم بسلاحهم منطلقين، ساعين نحو قبر الحسين بكربلاء، لإقامة المآتم والمناحات على قبر الحسين (عليه السلام) ولا يستطيعون اتخاذ أي إجراء ضدّهم.
وعندما بلغَ هؤلاء التوّابون في بعض انطلاقاتهم قبر الحسين (عليه السلام) صاحوا صيحةً واحدة بالعويل والبكاء، وأقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرّعون، قائلين: (اللهمّ ارحم حسيناً الشهيد ابن الشهيد، اللهمّ إنّا نشهدك أنّا على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم وأولياء محبّيهم، اللهمّ إنّا خَذلنا ابن بنت نبيّنا فاغفِر لنا ما مضى منّا وتُب علينا، وإن لم تغفر لنا وترحَمنا لنكوننّ من الخاسرين).
ولقد وَصَفت كتب التاريخ هذا الحادث على الوجه التالي:
1 ـ جاء في الصفحة (70) من كتاب (مدينة الحسين) السلسلة الثانية المارّ ذكره ما نصّه: وقد جمعَ سليمان ـ يعني سليمان بن صرد الخزاعي ـ أصحابه وجماعة وساروا إلى النخيلة وعسكروا بها، وكان ذلك في غرّة ربيع الثاني، سنة (65) هـ ثُمّ رَحلوا عنها بعد أن أقاموا فيها ثلاثة أيّام يستكملون قواهم حتى بَلغت أربعة آلاف مقاتل، ثُمّ ساروا حتى أتوا أقساس بني مالك على شاطئ الفرات، ثُمّ أصبحوا عند قبر الحسين في كربلاء، وذلك في العقد الأول من ربيع الثاني سنة (65) هـ، فلمّا وصَلوا موضع القبر صاحوا صيحة واحدة، وضجّوا بالبكاء والعويل، فلم يُرَ يوماً أكثر بكاء حول قبر الحسين من ذلك اليوم، وقد خطبَ فيهم خطباء كثيرون.
ثُمّ يستطرد الكاتب فيقول: وازدَحموا على لثم القبر كازدحام الحجّاج على لثم الحجر الأسود في الكعبة، ثُمّ ودّعوا القبر ورَحلوا عنه، وبقيَ سليمان بن صرد مع ثلاثين نفراً من أصحابه عند القبر.. .
ويواصِل الكاتب كلامه فيقول: ثُمّ قامَ من بينهم وهب بن زمعة الجعفي وهو يبكي عند القبر الشريف، أنشدَ أبياتاً من قصيدة عبيد الله بن الحر الجعفي:
تبيتُ النشاوى من أُميّة نوماً وبالطف قتلى ما ينامُ حميمها
وما ضيّع الإسلام إلاّ قبيلة تآمر نوكاها ودامَ نعيمها
وأضحَت قناة الدين في كف ظالم إذا اعوجّ منها جانب لا يقيمها
فأقسمتُ لا تنفكّ نفسي حزينة وعيني تبكي لا يخف سجومها
حياتي أو تلقى أُميّة خزية يذلّ لها حتى الممات قرومها
ثُمّ ساروا عن كربلاء بعد أن باتوا ليلتهم.
أقول: أمّا العلاّمة السيّد محسن الأمين العاملي، فقد ذكرَ جميع القصيدة ونَسبها إلى وهب بن زمعة في الصفحة (169)، من المجلّد (4) القسم الرابع من (أعيان الشيعة) وهذه هي:
عجبتُ وأيّام الزمان عجائب ويظهر بين المعجبات عظيمها
تبيتُ النشاوى من أُميّة نوماً وبالطف قتلى ما ينام حميمها
وتضحى كرام من ذؤابة هاشم يحكّم فيها كيف شاء لئيمها
وربّات صون ما تبدّت لعينها قبيل الصبا إلاّ لوقت نجومها
تزاولها أيدي الهوان كأنّما تقحم ما لا عفو فيه أثيمها
وما أفسدَ الإسلام إلاّ عصابة تآمر نوكاها ودام نعيمها
وصارت قناة الدين في كف ظالم إذا مالَ منها جانب لا يقيمها
وخاضَ بها طخياء لا يهتدى لها سبيل ولا يرجو الهدى مَن يعومها
إلى حيث ألقاها ببيداء مجهل تضلّ لأهل الحلم فيها حلومها
رَمتها لأهل الطف منها عصابة حَداها إلى هدم المكارم لومها
فشفّت بها شعواء في خير فتية تخلّت لكسب المكرُمات همومها
أولئك آل الله آل محمّد كرام تحدّت ما حداها كريمها
يخوضون تيار المنايا ظوا ميا كما خاض في عذب الموارد هيمها
يقوم بهم للمجد أبيض ماجد أخو عزمات أقعدت مَن يرومها
فأقسمتُ لا تنفكّ نفسي جزوعة وعيني سفوحاً لا يملّ سجومها
حياتي أو تلقى أُميّة وقعة يذلّ لها حتى الممات قرومها
ووهب بن زمعة هو أبو دعبل الجحمي، المعاصر لمعاوية وابنه يزيد.
2 ـ جاء في الصفحة (764) من (موسوعة آل النبي) مختصراً عن الطبري (1)، وابن الأثير عن نهضة التوّابين وقيامهم ضدّ الأمويين ما عبارته: وما دخَلت سنة (65 هـ) حتى كانت صيحة التوّابين: (يا لثارت الحسين (عليه السلام) تُزلزل الأرض تحت بني أُميّة، وحتى كانت الكوفة تشهدهم في سلاحهم ينطلقون ساعين نحو قبر الحسين وهم يتلون الآية: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] فلمّا بلغوا القبر صاحوا صيحةً واحدة، فما رُئيَ أكثر باكياً من ذلك اليوم، وأقاموا عنده يوماً وليلة يتضرّعون... .
وتستطرد الكاتبة فتقول: وغادروا القبر وقد ازدادوا نَدماً وحَماسة، فاندفَعوا كالموج مُستبسلين يلقون الألوف المؤلّفة من جُند بني أُميّة، وأقصى أمانيّهم أن يُقتلوا في ثار الحسين.
وتواصِل الدكتورة عائشة بنت عبد الرحمان ـ الشهيرة ببنت الشاطئ ـ كلامها في الصفحة (765) من موسوعتها، عند ذكر مناحات التوّابين، وتُعرِّج على إثارة السيّدة زينب النفوس وإلهابها في الأخذ بثأر الحسين من بني أُميّة، وتقول:
(وكانت السيّدة زينب هي التي جَعلت من مصرع الحسين مأساة خالدة لا تعرف ما هو أبعد أثراً في تطوّر العقيدة عند الشيعة، وصيّرت من يوم مقتله مأتماً سنويّاً للأحزان والآلام.
وكانت زينب هي التي صيّرت من ليلة العاشر من المحرّم مأتماً سنويّاً للأحزان والآلام، يحجّ فيه أحفاد التوّابين إلى المشهد المقدّس في كربلاء، حيث يعيدون تمثيل المأساة، ويفرضون على أنفسهم أقسى أنواع العذاب الجَسدي، تكفيراً عن خطيئة آبائهم وأجدادهم الذين قَتلوا الحسين وآله وصحبه، وبقى شعار التوّابين إلى أن انقرَضوا.
وتستطرد هذه الدكتورة فتقول: وما أحسبُ أنّ التاريخ قد عرفَ حُزناً كهذا طال مداه حتى استمرّ بضعة عشر قرناً دون أن يفتر، فمراثي شهداء كربلاء هي الأناشيد التي يترنّم بها الشيعة في عيد حزنهم يوم عاشوراء في كلّ عام، ويتحدّون الزمن أن يغيبها في متاهة النسيان.. .
ثُمّ تستأنف الكلام وتقول: وكذلك كانت زينب عقيلة بني هاشم في تاريخ الإسلام وتاريخ الإنسانيّة بطلة، استطاعت أن تثأر لأخيها الشهيد، وأن تسلِّط معاول الهدم على دولة بني أُميّة، وأن تغيّر مجرى التاريخ... .
3 ـ جاء في الصفحة (99) من كتاب (المجالس الحسينيّة) السالف ذكره ما نصّه: (وقد ندمَ التوّابون بعد قَتل الحسين على تركهم نصرته فنهضوا، وثاروا، وقَتلوا، ولكن عملوا بعد قتل الحسين، ولا عملَ بعد قتله إلاّ الحسرة والتلهّف، قال شاعرهم عبيد الله بن الحر:
فيا لك حسرة ما دمتُ حيّاً تردّد بين حلقي والتراقي
فلو عَلق التلهف قلب حيًّ لهمّ اليوم قلبي بانفلاق
فقد جاء الأولى نصروا حسيناً وخاب الآخرون إلى النفاق
4 ـ جاء في الصفحة (190) من المجلّد الأول، قسم كربلاء من (موسوعة العتبات المقدّسة)، نقلاً عن المستشرق (رينولد نطلس) في كتاب (تاريخ العرب الأدبي) عند ذكر فاجعة كربلاء ما نصّه: وخلال بِضع سنوات من مصرع الحسين (عليه السلام) أصبحَ ضريحه في كربلاء محجّاً تشدّ إليه رحال الشيعة، وعندما ثارَ التوّابون سنة 674 م ـ 65 هـ، قَصدوها ورفعوا عقائرهم منتحبين بصوتٍ واحد، وبكوا وتضرّعوا إلى الله أن يغفرَ لهم؛ لتنكرّهم لسبط الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ساعة شدّته وضيقه، وصاحَ زعيمهم: ربّ ارحم الحسين، الشهيد ابن الشهيد، المهدي ابن المهدي، الصدّيق ابن الصدّيق: ربّ اشهد أنّنا أتباع دينهم وسبيلهم، وإنّنا أعداء قاتليهم وأحبّاء محبّيهم.. .
أجل، هاهنا تكمن نواة التعازي والمشاهد الدينيّة التي تمثّل كلّ سنة في العاشر من محرّم حيثما وجِدَ الشيعة.
5 ـ جاء في الصفحة (375) من الجزء (8) من المجلّد الرابع من مجلّة (المُرشد) البغداديّة، عند البحث عن مدينتي الأنبار والمسيّب في العراق ومُنشئيهما، ثُمّ الكلام عن التوّابين، يقول الكاتب السيّد علي نقي النقوي الكهنوري
ما نصّه: إنّ الذي نعهده من التاريخ أنّ أولئك الثائرين ـ أي التوّابين ـ لم يزالوا في الكوفة من أوّل بيعتهم لسليمان حتى خرجوا منها في المحرّم سنة (65 هـ)، فكان معسكرهم عندئذٍ النُخيلة، وهناك كانت تنظّم الثوار، ويهيّئون العدّة والعتاد، وارتَحلوا منها، فاتّفقت كلمتهم على زيارة أبي عبد الله الحسين في الطف، فحضروا هناك، وباتوا ليلتهم، باكين، متضرّعين، صارخين بالاستغفار والإنابة إلى الله تعالى، وفي صباح الغد ساروا منها متوجّهين إلى أرض الشام... .