الشعائر الحسينيه
الزيارة و فضلها

لا يسع الباحث في حديث مشهد الطَّفِّ المُقدّر فيه ( قمر بني هاشم ) حقّ قدره إلاّ البخوع له بتحقيق هذه الغريزة الكريمة ، أعني المواساة بأجلى مظاهرها ، وأنت إذا أعرت لما أفضنا القول في البصيرة اُذناً واعية ، عرفت كيف كان مقامه مع أخيه سيّد شباب أهل الجنّة ، وإيثاره التفاني معه على الحياة الرغيدة ، وتهالكه في المفادات منذ مغادرته الحجاز إلى هبوطه أرض كربلاء ، وحتّى لفظ نفسه الأخير تحت مشتبك النّصول ، فلا تجد مناصاً عن الإذعان بأنّه (عليه السّلام) كان على أعلا ذروة من المواساة لأخيه الإمام (عليه السّلام) ، يربوا على المواسين معه جميعاً ; لأنّ مواساته كانت عن بصيرة ، هي أنفذ البصائر يومئذ بشهادة الإمام الصادق (عليه السّلام) : ( كان عمُّنا العبّاسُ نافذَ البصيرةِ ، صلبَ الإيمان) (1) .
وقد شهد له بهذه المواساة إمامان معصومان واقفان على الضمائر ، ويعرفان مقادير الرجال ، فيقول الحجّة عجّل اللّه فرجه في زيارة النّاحية) : السّلام على أبي الفضلِ العبّاس ، المواسي أخاه بنفسِهِ ، الآخذ لغدهِ مِن أمسهِ ، الواقي لهُ ، السّاعي إليه بمائِهِ ، المقطوعة يداه . لعن اللّهُ قاتلَهُ يزيدَ بنَ الرّقادِ الجهني ، وحكيمَ بن الطّفيل السّنبسي الطائي) .
ويقول الصادق (عليه السّلام) في الزيارة المتلوة عند ضريحه الأقدس) : (( أشهدُ لقد نصحتَ للّه ولرسولِهِ ولأخيك ، فنعم الأخ المواسي) .
فجعل (عليه السّلام) الشهادة له بالمواساة المُنعم بها نتيجة نصحه للّه الذي هو مقتضى دينه ويقينه ، ونصحه لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) الذي هو تمام التوحيد ، والنّصح لأخيه الإمام الذي هو الجزء الأخير للعلّة ، وبه كمال الدِّين وتمام النّعمة : ({الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة : 3] . وبه قبول الأعمال .
(( لو أنّ عبداً صام وصلّى وزكّى ، ولم يأتِ بالولاية ، ما قبل اللّه له عملاً أبداً ))(2) . فرضى الربّ والرسول (صلّى الله عليه وآله) وطاعتهما منوطان بطاعة وليِّ الأمر : ({إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة : 55].
فأراد الإمام الصادق (عليه السّلام) بذلك الخطاب أنّ نُصح ( عباس الهداية ) لأخيه المظلوم على حدّ نصحه للّه ولرسوله ، مع حفظ المرتبة في كُلِّ منهما ، فالطاعة شرع سواء في الثلاثة تحت جامع واحد ، هو : وجوب الخضوع لهم والتسليم لأمرهم ، غاية الأمر تختلف المراتب ؛ فإنّه تجب الطاعة أولاً وبالذات بالنّسبة إليه سبحانه وتعالى ، وبما أنّ الرسول مبعوثٌ من قبله وجبت بالنّسبة إلى الرسول ، وبما أنّ الإمام خليفة لهذا المبعوث المُرسل لعدم بقائه إلى الأبد ، وعدم إهمال العباد كالبهائم ، وعدم وضوح الكتاب المجيد ؛ لوجود المُخصّص والمُقيّد ، والنّاسخ والمتشابه وعدم وفائه بالأحكام الشرعيّة بالبداهة ; وجب على الاُمّة إطاعة هذا الإمام ، فالمراد من المؤمنين في هذه الآية ، ومن اُولي الأمر في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء : 59] شيءٌ واحد ، وقد انحصر مصداقه في سيّد الوصيّين وأبنائه المعصومين الأحد عشر (عليهم السّلام) بالتواتر عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) .
فالنّصح الذي أشار إليه الإمام (عليه السّلام) في الزيارة هو لازم تلك الطاعة ومقتضى الولاية تحت جامع واحد ، وهو : لزوم مناصرة الدِّين و الصادع به المُنبسط على ذات الباري تعالى والرسول والإمام كُلٍّ في مرتبته .
وقد أفادنا هذا الخطاب أنّ مفادات أبي الفضل ومواساته لم تكُنْ لمحض الرحم الماسّة والإخاء الواشج ، ولا لأنّ الحسين (عليه السّلام) سيّدُ اُسرته وكبيرُ قومه وإنْ كان في كُلٍّ منها يُمدح عليه هذا النّاهض ، لكنّها جمعاء كانت مُندكّة في جنب ما أثاره ( عباسُ البصيرة ) من لزوم مواساة صاحب الدِّين ، والتهالك دون دعوته سواء كانت المفادات بعين المُشرّع سبحانه ، أو تحت راية الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، أو إمام الوقت ، وكُلّ بعين اللّه وعن مرضاته جلّ شأنه ، وقد اجتمعت في مشهد الطَّفِّ تحت راية الحسين (عليه السّلام).
إنّ من الواجب إمعان النّظر في عمله النّاصع حين ملك الشريعة فاغترف غرفة من الماء ليشرب ، ولكن ألزمه حقُّ اليقين وقوّةُ الإيمان أنْ ينفض الماء من يده ، حيث لم يَرَ له مساغاً في التأخير عن سقاية حجّة الوقت الإمام المعصوم ، وحرم النّبوَّة ولو بمقدار التروِّي من الماء هُنيئة ، بل عرف أنّ الواجب عليه الإبقاء على مهجة خليفة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بسقايته ولو في آنٍ يسير ، إذ الحالة شرع سواء بين قليل الزَّمان وكثيره ؛ ولذلك نُسب فعله هذا إلى الدِّين ، حيث يقول : تاللّهِ ما هذا فعالُ ديني .
على أنّ شيخنا العلاّمة الشيخ عبد الحسين الحلّي يُحدّث في النّقد النّزيه ج1 ص100 ، عن فخر الذاكرين الثقة الثبت الشيخ ميرزا هادي الخراساني النّجفي ، نقلاً عن ( عدّة الشهور ) : إنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) دعا العبّاس وضمّه إليه وقبّل عينيه ، وأخذ عليه العهد إذا ملك الماء يوم الطَّفِّ أنْ لا يذوق منه قطرة واُخوه الحسين (عليه السّلام) عطشان .
فقول أرباب المقاتل : نفضَ الماء من يده ولم يشرب ، إنّما هو لأجل الوصيّة من أبيه المرتضى (( عليه السلام(
لَـم يَـذُقْ الـفُراتَ اُسـوةً بِهِ مُـيمِّمَاً بـمائِهِ نَـحوُ الـخِبَا
لَـم يَـرَ فِـي الدِّينِ يَبلُّ غُلَّةً وصُـنُوهُ فـيِهِ الـظَّمَا قَد ألهَبَا
والمُرتَضَى أَوصَى إليهِ فِي ابنِهِ وصـيّةً صَدّتْهُ عَن أنْ يَشْرَبَا
لــذَاكَ قَـدْ أسـنَدَهُ لِـدينِهِ وعَـنْ يَـقيِنٍ فِيهِ لَنْ يَضْطَرِبَا
هَـذا مِـنَ الشَّرعِ يَرى فِعلَتَهُ ومِـن صِراطِ أحمدٍ مَا ارتَكَبَا
وَمِـثلُهُ الحُسينُ لَمّا مَلكَ الـْ ـمَاءَ فَقِيلَ رَحـلُهُ قَـد نُـهِبَا
أمَّ الـخِيامَ نَـافِضَاً لِـماِئهِ إذ عَظُمَ الأمرُ بِهِ واعَصُوصَبَا
فَـكانَ لـلعَبّاسِ فِـيهِ اُسـوةٌ إذ فَاضَ شَهمَاً غَيرَ مَفلُولِ الشِّبَا.

ــــــــــــــــــــ
(1) سرّ السّلسلة العلويّة لأبي نصر البخاري / 89 .
(2) هكذا ورد هذا المقطع من العبارة وهو ما بين قوسين ، وبعد التّتبع لم نصلْ الى كونه حديثاً عن النّبيِّ (صلّى الله عليه وآله) أو أحد المعصومين (عليهم السّلام) ، والأقرب أنّه مضمونُ حديثٍ صادرٍ عن أهل بيت العصمة والطّهارة .