الشعائر الحسينيه
الزيارة و فضلها

لقد كانت العشرة الأولى من شهر المحرم ـ ولا تزال ـ مأتماً سنوياً للأحزان والآلام عند الشيعة منذ مجزرة كربلاء التي كان على رأس ضحاياها الحسين بن علي سبط الرسول وسيد شباب أهل الجنة في اليوم العاشر من المحرَّم سنة إحدى وستين للهجرة ، فكان الشيعة ولا يزالون في مختلف أنحاء دنيا الإسلام يجتمعون في مجالسهم وندواتهم يردِّدون مواقف أهل البيت وتضحياتهم في سبيل الحق والعدالة وكرامة الإنسان التي داستها أميَّة بأقدامها ، وما حلَّ بهم من أحفاد أميَّة وجلاديهم من القتل والسبي والتشريد والاستخفاف بجدِّهم الأعظم الذي بعثة الله رحمة للعالمين.
هذه الذكريات الغنية بالقيم والمثل العليا والتي تعلِّمنا كيف نعيش أحراراً وكيف نموت في مملكة الجلادين سعداء منتصرين ، لو أدركنا أهداف تلك الثورة وأحسنَّا استغلالها ، هذه الذكريات قد اقترنت كما يبدو بعد الإحصاء الدقيق لتاريخها بتلك المجزرة الرهيبة التي أيقظت المسلمين على اختلاف فئاتهم وانتماءاتهم ونزعاتهم ، وأدركوا بعدها أن كرامة الإسلام والمسلمين قد أصبحت ـ بسبب تخاذلهم ـ تحت أقدام الأمويِّين وفراعنة العصور ، فاستولى عليهم الخوف والندم لتقصيرهم في نصرته وتخاذلهم عن دعواتهم ، ففريق وجدوا أنَّ التكفير عن تخاذلهم لا يكون إلاّ بالثورة والثأر له من أولئك الطغاة ، وآخرون سيطر عليهم الخوف فخلدوا إلى الهدوء ينتظرون الظروف المناسبة ، ولكنَّ ذلك لم يكن ليمنعهم عن الاحتفال بذكراه كلَّما هلَّ شهر المحرَّم من كل عام واستبدال جميع مظاهرهم بمظاهر الحزن والأسف ، وترديد الأحداث التي رافقت تلك المجزرة من تمثيل بالضحايا وأسر وسبي وما إلى ذلك من الجرائم التي لم يعرف المسلمون لها نظير في تاريخ المعارك والغزوات قبل ذلك اليوم.
وممَّا يشير إلى أنَّ المآتم الحسينية يقترن تاريخها بتلك المجزرة ما جاء في تاريخ العراق في ظل العهد الأموي للدكتور علي الخرطبولي أنَّ بيعة أبي العبَّاس السفَّاح بدأت في الكوفة ، وشاء لها القدر أن تتمَّ لأبي العبَّاس كأوَّل خليفة من خلفاء تلك الأسرة في عيد الشيعة الأكبر ، وهو يوم عاشوراء العاشر من المحرَّم سنة 132 ، وفي نفس الوقت الذي كان الشيعة يحتفلون فيه بذكرى الحسين بن علي (ع)(1).
ومعلوم أنَّ كلمة عيد الشيعة الأكبر يوم العاشر من المحرَّم تشير إلى أنَّ الشيعة كانوا معتادين من زمن بعيد على الاحتفال بذكرى الحسين (عليه السلام) في ذلك اليوم من كل عام ، وأنَّه كان من أعظم المناسبات التي اعتادوا فيها أن يندبوا الحسين ويبكونه ويردِّدون مواقفه وتضحياته من أجل الحق والمبدأ والعدالة التي تمكِّن كل إنسان من حقِّه وتحفظ له كرامته وحرِّيَّته.
وكما اتخذ الشيعة وأهل البيت تلك الأيَّام أيَّام حزن وأسف وبكاء على ما جرى للحسين وأسرته من قتل وأسر وسبي ، اتخذها غيرهم من الأعياد يتبادلون فيها التهاني والزيارات ويتباهون بكل مظاهر الفرح والسرور في ملابسهم وندواتهم ومآكلهم وما إلى ذلك من مظاهر الفرح ؛ تحدِّياً لشعور الشيعة واستخفافاً بأهل بيت نبيِّهم الذين فرض الله ولاءهم على كل مَن آمن بمحمد ورسالته.
وجاء في ص 202 من البداية والنهاية لابن كثير المجلّد الثامن أنَّ النواصب من أهل الشام لقد عاكسوا الرافضة والشيعة فكانوا في يوم عاشوراء يطبخون الحبوب ويغتسلون ويتطيَّبون ويلبسون أفخر ثيابهم ويتَّخذون ذلك اليوم عيداً يصنعون فيه أنواع الأطعمة ويظهرون الفرح والسرور فرحاً بقتله ؛ لأنَّه حاول أن يفرِّق كلمة المسلمين بعد اجتماعها على حدِّ تعبيره.
ولا يزال المسلمون في أهل السنة يعتبرون أوَّل يوم من المحرم عيداً إسلامياً يتبادلون فيه التهاني والزيارات ويصرفون أكثر ساعاته في نوادي اللهو والطرب والحفلات ويسمُّونه بعيد الهجرة ، مع العلم بأنَّ هجرة النبي من مكَّة إلى المدينة كانت في السادس من ربيع الأوَّل وفي الثاني عشر منه دَخَل المدينة ونزل ضيفاً على أبي أيوب الأنصاري.
ومهما كان الحال ، فلقد رافقت هذه الذكرى في أوساط الشيعة مصرع الحسين (عليه السلام) وكان الأئمة يحرصون على تخليدها واستمرارها ؛ لتكون حافزاً للأجيال على مقاومة الظلم والطغيان والاستهانة بالحياة مع الظالمين تقودهم بمعانيها السامية الخيِّرة للتضحية والبذل بسخاء في سبيل المبدأ والعقيدة.
لقد دخل الإمام علي بن الحسين زين العابدين إلى المدينة بعد أن أطلق سراحه وسراح عمَّاته وأخواته يزيد بن معاوية وهو يبكي أباه وأهله وإخوته ، وظل لفترة طويلة من الزمن يبكيهم حتّى عدَّه الناس من البكَّائين ، وكان عندما يسأله سائل عن كثرة بكائه يقول : (لا تلوموني ؛ فإنَّ يعقوب فقد سبطا من ولده فبكى حتّى ابيضت عيناه من الحزن ولم يعلم أنَّه مات ، وقد نظرت إلى أربعة عشر رجلاً من أهل بيتي يذبحون في غداة واحدة ، فترون حزنهم يذهب من قلبي أبدا ؟!).
وروى الرواة عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: (بكى علي بن الحسين على أبيه حسين بن علي ( عليهما السلام ) عشرين سنة أو أربعين سنة ، وما وضع بين يديه طعام إلاّ بكى على الحسين ، حتّى قال له مولى له : جعلت فداك يا بن رسول الله ، إنِّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين ، قال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله مالا تعلمون ، إنِّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة لذلك).
وأحياناً كان الإمام السجَّاد يطلب المناسبة ويخلقها أحياناً ليحدِّث الناس بما جرى على الحسين وأهل بيته ، فيذهب إلى سوق القصَّابين في المدينة ليسألهم عمَّا إذا كانوا يسقون الشاة قبل ذبحها وإنَّه ليعلم أنَّهم يفعلون ذلك ؛ لأنَّه من السنن المأثورة ، ولكنَّه يريد أن يحدِّثهم عمَّا جرى لأبيه ليبعث في نفوسهم النقمة على الظلم والظالمين ، فيقول لهم : ( قتل ابن رسول الله عطشانا ) فيجتمعون عليه ويبكون لبكائه .
وكان إذا رأى غريباً دعاه إلى بيته لضيافته ثم يقول: (قتل ابن رسول الله جائعا) ، واستمر طيلة حياته حزيناً كئيباً . وهكذا كان غيره من الأئمة يحرصون على بقاء تلك الذكرى حيَّة في نفوس الأجيال خالدة خلود الدهر ؛ لأنَّها لا تنفصل بمعانيها السامية عن أهداف الإسلام العليا ومقاصده الكريمة.
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) لجماعة من أصحابه دخلوا عليه في اليوم العاشر: (أتجتمعون وتتحدَّثون ؟) فقالوا: نعم يا ابن رسول الله ، فقال : (أتذكرون ما صُنع بجدي الحسين ؟ لقد ذبح ـ والله ـ كما يذبح الكبش وقُتل معه عشرون شاباً من أهله وبنيه وإخوته ما لهم على وجه الأرض من مثيل).
وروى عنه معاوية بن وهب وقد دخل عليه في اليوم العاشر من المحرم فرآه حزيناً كاسف اللون وهو يدعو ويقول: (اللهم يا مَن خصَّنا بالكرامة : ارحم تلك الوجوه التي غيَّرتها الشمس ... وارحم تلك الخدود التي تقلَّبت على حفرة أبي عبد الله الحسين ... وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا) ومضى يقول في دعائه لزوَّار الحسين والباكين عليه كما جاء في رواية ابن وهب: (اللهم إنِّي استودعك تلك الأبدان وتلك الأنفس حتّى توفِّيهم على الحوض يوم العطش الأكبر ) .
ولمَّا استغرب معاوية بن وهب ما رآه من بكاء الإمام ومن دعواته لزوَّار قبر أبي عبد الله والباكين عليه ، قال له: (يا معاوية ، مَن يدعو لزوَّاره في السماء أكثر ممَّن يدعو لهم في الأرض) ودعاء الإمام لزوَّار قبر الحسين يشير إلى أنَّ الشيعة كانوا يتوافدون لزيارته من ذلك التاريخ.
ودخل جعفر بن عفَّان عليه فقال له: (بلغني أنَّك تقول الشعر في الحسين و تجيد ؟) فقال له: نعم ، جعلني الله فداك ، فقال : ( قل ) ثم قام وأجلس نساءه خلف الستر ، فلمَّا قرأ عليه من شعره في الحسين جعل يبكي وارتفع الصراخ والعويل من داخل الدار حتّى ازدحم الناس على باب الدار مخافة أن يكون قد حدث فيها حادث ، فلمَّا وقف الناس على واقع الأمر تعالى الصراخ من كل جانب ، ثم قال له: (يا جعفر ، والله لقد شهدك ملائكة الله المقرَّبون ها هنا يسمعون قولك في الحسين عليه السلام ).
وكان جعفر بن عفَّان من شعراء أهل البيت ، وله مواقف مع ابن أبي حفصة شاعر العبَّاسيِّين الذي كان يتملَّق إليهم بانتقاص العلويِّين وهجائهم ، ومن قصائده التي كان يتملَّق بها للعبَّاسيين قوله في أبيات يخاطب بها العلويِّين :


خلُّو الطريق لمعشر عاداتهم حطم المناكب كلَّ يوم زحام
ارضوا بما قسم الإله لكم به ودعوا وراثة كلَّ أصيد حام
أنَّى يكون وليس ذلك بكائن بـني البنات وراثة الأعمام

فردَّ عليه جعفر بن عفَّان بقوله :

لِـمَ لا يـكون وإنَّ ذاك لـكائن لـبني الـبنات وراثـة الأعمام
لـلبنت نـصف كـامل من ماله والـعـم مـتروك بـغير سـهام
مـا لـلطليق ولـلتراث وإنَّـما صلَّى الطليق مخافة الصمصام(2)
وكان الإمام الرضا (عليه السلام) يجلس للعزاء في العشرة الأولى من شهر المحرم ولا يرى ضاحكاً قط ، كما كانت مظاهر الحزن والأسف تستولي على الأئمة الأطهار وأصحابهم وتبدو ظاهرة في بيوتهم ومجالسهم ويقولون لمِن يحضر مجالسهم من الخاصة والعامة : (قل متى ذكرتهم [الحسين وأصحابه] : يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيما) إنَّهم كانوا يريدون من أصحابهم وشيعتهم وجميع المسلمين أن يكونوا مع الحسين وأصحاب الحسين العاملين بمبادئ القرآن وسنن الأنبياء والمصلحين العاملين لخير الإنسان في كل زمان ومكان بأرواحهم وعزيمتهم وقلوبهم وبقاء هذه الذكرى خالدة خلود الإنسان ، وأن يشحنوا النفوس بالنقمة على الظالمين وفراعنة العصور الذين يتحكَّمون بكرامة الإنسان وخيرات الأرض التي أوجدها الله لأهل الأرض لا للحاكمين والجلاّدين. ويريدون منهم أن يكونوا في كل زمان ومكان ثورة عارمة على مَن يحمل روح يزيد وجلاّديه ولا يختلف عنهما إلاّ بالاسم ، ويضحُّوا بأنفسهم من أجل الحق والعدل كما ضحَّى الحسين وأصحابه في ثورته على يزيد زمانه ، لقد أرادوا منهم ذلك صراحة تارة وتلميحاً أخرى كما يبدو ذلك من حثِّهم وترغيبهم على زيارة الحسين وتحمُّل المشاق وإنْ عظمت في سبيلها ؛ لتبقى مواقفه وتضحياته ماثلة لدى الأجيال تتَّخذ منها دروساً في الجهاد والتضحيات في سبيل العقيدة والمبدأ.
إنَّهم كانوا يحثُّون ويرغِّبون في زيارته في أكثر من فصل من فصول السنة ؛ لأنَّ الزائر عندما يقف أمام ضريحه الطاهر وكان مدركاً لواقعه ، فلابدَّ وأن يتصَّور موقف الحسين وحيداً في مقابل تلك الحشود التي اجتمعت لقتاله ، غير هيَّاب ولا وجِل ، يدافع ويناضل عن شريعة جدِّه وكرامة الإنسان بعزيمة أثبتْ من الجبال الرواسي كما وصفها بعض شعراء الطفِّ بقوله :
من تحتهم لو تزول الأرض لتنصَّبوا على الهوى هضباً أرسى من الهضب
هذه الخواطر التي تعترض زائر الحسين لا بدَّ وأن تحدث في نفسه نقمة على الظلم والظالمين وتدفعه على الصمود في الشدائد والأهوال وتؤكد صلاته بأهل هذا البيت الذين يجسدون الإسلام فكراً وقولاً وعملاً ، هذا بالإضافة إلى أنَّ الزائر يعاهد الله ورسله وملائكته بالمضي على خطى الحسين وآبائه وأبنائه ، ومتابعتهم في القول والعمل وفي مواقفهم من الظالمين حينما يقف على ضريحه ويخاطبه بقوله: (أشهد الله وملائكته وأنبياءه ورسله وأشهدكم أنِّي بكم مؤمن ولكم تابع في ذات نفسي وشرائع ديني وخواتيم عملي ومنقلبي إلى ربي).
إنَّ هذا التأكيد من الأئمة الأطهار على زيارة الحسين (عليه السلام) والترغيب المغري بها في عدد من المواسم خلال كل عام لم يصدر منهم بالنسبة لزيارة غيره من الأئمة ولا لزيارة مَن هو أعظم منه كجدِّه المصطفى وأبيه المرتضى ، في حين أنَّ كل واحد منهم كلٌّ يجسد الإسلام بجميع فصوله وخطوطه في أقواله وأفعاله وقد وهب حياته لله ولخير الناس أجمعين وهانت عنده الدنيا بكل ما فيها من مُتع ونعيم ومغريات .
إنَّ ذلك لم يكن إلاَّ لأنَّ شهادة الحسين (عليه السلام) بما رافقها من الجرائم والفظائع تثير الأحاسيس وتحرِّك الضمائر الهامدة وتحثُّ على مقارعة الظلم والصبر في الشدائد والأهوال في سبيل المبدأ والعقيدة ، ولأجل ما رافقها من تلك الأحداث القاسية التي لم يسجِّل التاريخ لها نظيراً ، فقد اتخذها الأئمة (عليه السلام) وسيلة لإثارة العواطف وإلْهاب المشاعر وبعث الروح النضالية في نفوس الجماهير المسلمة ؛ لتكون مهيَّأة للثورة على الظلمة والجبابرة في كل أرض وزمان ، وفي الوقت ذاته فإنَّ تلك المآتم والذكريات تكشف عن طبيعة القوى التي تناهض أهل البيت وتناصبهم العداء ومدى بعدها عن الإسلام ، وتبيِّن في الوقت ذاته أنَّ جوهر الصراع بينهم وبين الحاكمين ليس ذاتيَّاً ولا مصلحيَّاً كما جرت العادة عليه في الصراعات بين الناس ، بل هو من أجل الإسلام وتعاليم الإسلام والجور الذي أصاب الناس.
لقد كان موقف الأئمة (عليه السلام) من تلك المآتم والحثِّ عليها والترغيب بها منذ قتل الحسين (عليه السلام) من جملة الدوافع التي جعلت الشيعة يلتزمون بها بدون انقطاع في كل بلد حلُّوا فيه ، بالرغم ممَّا كانوا يتعرَّضون له من الحاكمين وأعداء أهل البيت من التنديد والتنكيل والسخرية ومع كل ما قام به الحاكمون من جور وإرهاب ، فلم يفلحوا في كبح ذلك التيار الشيعي الجارف الذي بقي يتعاظم باستمرار مع الزمن وبقي في تصاعد مستمر حتّى في عهد العبَّاسيِّين الذين وصلوا إلى الحكم على حساب العلويِّين كما تؤكِّد ذلك عشرات الشواهد ، ومع ذلك فقد كانوا عليهم أشدَّ من الأمويِّين وحاربوهم على جميع الجبهات وتعرَّضوا في عهودهم لأسوأ أنواع العسف والجور والتشريد.
فلقد قال المنصور العبَّاسي عندما عزم على قتل الإمام الصادق : (قتلتُ من ولد فاطمة ألفاً أو يزيدون وتركت إمامهم وسيِّدهم جعفر بن محمد) كما جاء في شرح ميمية أبي فراس والأدب في ظل التشيع(3).
وترك لخليفته المهدي ميراثاً من رؤوس العلويِّين كان قد وضعها في غرفة من غرف قصره ، ودفع مفاتيحاً لزوجة خليفته ريطة وأوصاها بأن لا تفتحها إلاّ هي وزوجها بعد وفاته ، فأيقنت أنَّها مملوءة من التحف والأموال ، ولمَّا توفِّي ، فتحها المهدي هو وزوجته ليلاً فوجدها مملوءة من رؤوس العلويِّين ، بينها رؤوس شيوخ وأطفال وشبان وفي كل رأس رقعة باسمه ونسبه(4).
وهو القائل لعمِّه عبد الصمد بن علي عندما لامه على تسرُّعه في القتل والعقوبات: إنَّ بني مروان لم تبلى رممهم وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم ، ونحن بين قوم رأونا بالأمس سوقة واليوم خلفاء ولا نستطيع أن نبسط هيبتنا إلاّ بنسيان العفو واستعمال العقوبة.
لقد وصل المنصور إلى الحكم على حساب آل أبي طالب كما ذكرنا وبعد أن استتبَّت له الأمور قتل منهم ألفاً أو يزيدون ووضع السيف في رقابهم لا لشيء إلاّ لأنَّه يخاف منهم على هيبته وسلطانه ، والخوف وحده يبرِّر له ويغره من الحاكمين قتل الملايين من البشر في كل عصر وزمان ، وفي الوقت ذاته يتغنُّون بالحرية والديمقراطية والسلام وما إلى ذلك من الشعارات كما كان العبَّاسيون والأمويون يتستَّرون بالإسلام ورسالة الإسلام ويتقرَّبون من الوعَّاظ وشيوخ السوء ليصنعوا لهم المبرِّرات لجرائمهم.
وجاء في مناقب ابن شهر آشوب أنَّ المنصور قال للإمام الصادق (عليه السلام) : لأقتلنَّك ولأقتلنَّ أهلك حتّى لا أُبقي على الأرض منكم قامة سوط ، ولقد هم بقتله أكثر من مرَّة وكان يستعين عليه بالله وحده ، فأنجاه الله من شرِّه.
ويدَّعي عبد الجواد الكليدار آل طعمة في كتابه (تاريخ كربلاء) أنَّه أوَّل مَن تجرَّأ على قبر الحسين وهدمه عندما رأى الشيعة يتوافدون إلى زيارته ويرددون تلك المأساة الدامية التي حلَّت بأهل البيت .
وجاء في (مروج الذهب) للمسعودي أنَّه جلس يوماً مع المسيَّب بن زهرة ـ وكان من أعوانه وجلاّديه ـ فذكر الحجَّاج بن يوسف ووفاءه للمروانيِّين في معرض التعريض والتنديد بأعوانه ، ففهم المسيَّب غايته ، فقال له المسيَّب : يا أمير المؤمنين ، والله إن الحجَّاج لم يسبقنا إلى أمر من الأمور ، ولم يخلق الله على وجه الأرض أحداً أحبُّ إلينا من نبينا محمد بن عبد الله (ص) ، ومع ذلك فقد أمرتنا بقتل أولاده وعترته ، فأطعناك وقتلناهم ، فهل كان الحجَّاج أنصح لبني مروان منَّا لك ؟! فسكت المنصور ولم يرد عليه.
وروى الرواة عن أساليب تعذيبه للعلويّين أنَّه كان يضع العلويِّين في الاسطوانات ويسمِّرهم في الحيطان ، وأحياناً يضعهم في سجن مظلم ويتركهم يموتون جوعاً ويترك الموتى بين الأحياء فتقتلهم الروائح الكريهة ، ثم يهدم السجن على الجميع كما جاء في تاريخ اليعقوبي . ولقد فرَّ أبو القاسم الرسي بن إبراهيم بن طباطبا المعروف بإسماعيل الديباج إلى بلاد السند خوفاً من المنصور ، وقال كما جاء عنه:
لـم يـرْوِهِ ما أراق البغي من دمنا في كلِّ أرض فلم يقصر من الطلب
وليس يشفي غليلاً في حشاه سوى أن لا يـرى فوقها ابناً لبنت نبي
وحَكَم المسلمين من بعده ولده المهدي بنفس الروح اللئيمة الحاقدة على العلويِّين وصلحاء المسلمين ، وخفَّت في عهده حدَّة القتل الجماعي للعلويِّين وشيعتهم ومطاردتهم ، ولكنَّه سخَّر جماعة من أعوانه ومرتزقته لانتحال صفة الزندقة لكل مَن يناوئه من العلويِّين وشيعتهم ، وأصبح الاتهام بالزندقة من أيسر التهم التي تلصق بالأبرياء كما جاء في التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية.
وقال عبد الرحمن بدوي: إنَّ الاتهام بالزندقة في ذلك العصر كان يسير جنباً إلى جنب مع الانتساب إلى مذهب الرافضة . وفي ذلك يقول الطغرائي من جملة أبيات له :
ومتّى تولَّى آل أحمد مسلمٌ قـتلوه ووصموه بالإلحاد
ولمَّا جاء دور خليفته الهادي العبَّاسي سلَّط على العلويِّين جلاّديه وجلاوزته ، فألحُّوا في طلبهم ومطاردتهم وقطع أرزاقهم وأُعطياتهم ، وكتب إلى سائر المقاطعات الإسلامية يهدِّد ويتوعَّد كلَّ مَن يأويهم ويحسن إليهم ، وكانت معركة فخ التي قُتل فيها أكثر من مائة وخمسين من رجال العلويِّين ونسائهم وأطفالهم بسبب ما لحقهم من الاضطهاد يومذاك وتولَّى قيادتها الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وكان موسى الهادي قد استخلف على المدينة إسحاق بن عيسى ، فأوعز إسحاق إلى رجل من ولد عمر بن الخطَّاب يعرف بعبد العزيز بن عبد الله ، فحمل على الطالبيِّين وأفرط في التحامل عليهم ومضايقتهم ، فاجتمع على الحسين بن علي صاحب فخ جماعة من الشيعة فخرج بهم ، وكانت المعركة في القرب من مكَّة وفي المكان المعروف بفخ ، وقُتل الحسين ومَن معه من العلويِّين وشيعتهم وحملت رؤوسهم إلى موسى الهادي ، ولمَّا بلغ العُمري والي المدينة ما جرى للحسين بن علي قائد معركة فخ ، أمر بهدم داره ودور الطالبيِّين وصادر أموالهم وممتلكاتهم.
وجاء في مقاتل الطالبيِّين للإصفهاني أنَّ النبي (ص) مرَّ بفخ ، فنزل وصلَّى ركعتين ، وقبل أن ينتهي منهما بكى وهو في صلاته ، فلمَّا رآه المسلمون بكوا لبكائه ، ولمَّا سألوه عن سبب بكائه قال: (نزل عليّ جبريل لمَّا صلَّيت الركعة الأولى وقال: يا محمد ، إنَّ رجلاً من ولدك يُقتل في هذا المكان وأجر الشهيد معه أجر شهيدين)(5).
ولمَّا جاء دور الرشيد ـ الخليفة العبَّاسي الخامس ـ مثَّل أسوأ الأدوار معهم ، وأقسم ـ كما جاء في الأغاني ، ط دار الكتب بالقاهرة ـ على استئصالهم وكل مَن يتشيَّع لهم وقال: حتَّام أصبر على آل أبي طالب ، والله لأقتلنَّهم وأقتل شيعتهم أينما حلُّوا . وأمر بأخراجهم من بغداد إلى المدينة وأمر واليه عليها أن يأخذ الضمانات منهم ويتعهَّد بعضهم ببعض ، وعندما أرسل الجلودي لحرب محمد بن جعفر بن محمد أمره أن يغير على دور آل أبي طالب ويسلب ما على نسائهم من الثياب ، ولا يترك لكل واحدة منهنَّ إلاّ ثوباً واحداً يسترها.
ولم يكتفي بذلك حتّى هدم قبر الحسين وقطع السدرة الكبيرة التي كانث إلى جانبه ؛ لا لشيء إلاّ لأنَّ زوَّار قبر الحسين (عليه السلام) كانوا يستظلٌُّون تحتها من حرارة الشمس ، وقد تولَّى له تنفيذ هذه المهمة موسى بن عيسى بن موسى العبَّاسي(6).
وتوَّج موبقاته كلِّها بحبس الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، وأخيراً بقتله بالسم بواسطة جلاّديه وجلاوزته ، وفي عهده امتلأت سجونه من العلويِّين وشيعتهم وكل مَن يُتَّهم بالتشيُّع لهم على حدِّ تعبير أحمد أمين في المجلَّد الثالث من ضحى الإسلام.
واشتهر المتوكِّل بعدائه الشديد للعلويِّين ؛ فقد جاء في تاريخ ابن الأثير وهو يستعرض حوادث سنة 236 أنَّ المتوكِّل العبَّاسي كان شديد البغض والكراهة لعلي وآل علي ، وإذا بلغه أنَّ أحداً يتولَّى عليَّاً وآل علي ، صادر أمواله وقتله . وأضاف إلى ذلك أنَّه كتب إلى واليه في مصر يأمره بإخراج آل أبي طالب منها وطردهم إلى العراق ، وكانوا في مصر يردِّدون في مجالسهم ما صنعه الأمويُّون مع الحسين وأسرته وأصحابه ويبكون لِمَا أصابهم ، فأخرجهم الوالي منها واستتر أكثر مَن كان فيها من شيعة آهل البيت ، كما استعمل على المدينة ومكَّة المكرَّمة عمر بن الفرج الرجحي فمنعه من البرِّ بآل أبي طالب كما منع العلويِّين من التعرُّض للناس والاتصال بأحد ، ولم يبلغه عن أحدٍ برَّ علوياً إلاّ أنهكه عقوبة وأثقله عزماً ، فساءت حالة العلويِّين واضطر نساؤهم إلى التزام بيوتهن عاريات يتبادلن القميص المرقَّع في الصلاة الواحدة تلو الأخرى ، ويجلسن عاريات على منازلهنَّ لكي يشترين ما يسد رمقهن من خبز الشعير بأثمان غزلهن.
لقد قضت مشيئة خليفة المسلمين العبَّاسي في نسبه الأموي الحاقد في روحه ومشاعره أن تعتكف العلويَّات الطاهرات في بيوتهن عاريات يتبادلن القميص المرقع إذا حضرت أوقات الصلاة ، ثم يجلسن على مغازلهن عاريات ليشترين بأثمان غزلهن ما يسد رمقهن من الخبز ، وأن تختال نساؤهم وجواريهم الفاجرات الراقصات بالحلي وحُلل الحرير والديباج بين الغلمان والسكارى من حواشي الخليفة ، ويجلسن على موائد الطعام المؤلفة من جميع المأكولات والخمور ، وأهل البيت ونساؤهم وأطفالهم يتلوُّون من آلام الجوع ، أذلَّاء صاغرين ، وكان يقرِّب إليه كلَّ مَن يكره علياً أمير المؤمنين كعلي بن الجهم وأمثاله ممَّن كانوا يشتمون عليَّاً (عليه السلام) ، ونظراً لأنَّ أباه الجهم بن بدر كان من الموالين لعلي قال بعض شعراء الشيعة في علي بن الجهم:
لعمرك ليس الجهم بن بدر بشاعر وهـذا عـلي ابنه يدَّعي الشعرا
ولـكنْ أبـي قد كان جاراً لأمِّه فلمَّا ادعى الأشعار أوهمني أمرا
يشير بهذين البيتين إلى الحديث الشائع عن النبي (ص) أنَّه قال لعلي (عليه السلام) بحضور جماعة من المهاجرين والأنصار: (ياعلي ، لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق).
وكان ابن السكِّيت من كبار العلماء والأدباء في زمانه وقد ألزمه المتوكِّل بتعليم ولديه المعتز والمؤيَّد ، فقال له يوماً: أيُّهما أحبُّ إليك ابناي هذان أو الحسن والحسين ؟ فردَّ عليه ابن السكِّيت بقوله: والله ، إنَّ قنبراً خادم الحسن والحسين أحبُّ إليَّ منك ومن ولديك ، فأوعز المتوكِّل إلى جلاَّديه من الأتراك أن يستخرجوا لسانه من قفاه ، ففعلوا به ذلك ومات من ساعته ، وكان يقول :
يـصاب الـفتى مـن عثرة بلسانه وليس يصاب المرء من عثرة الرِّجْلِ
فـعثرته فـي الـقول تُذهب رأسه وعـثرته في الرِّجْل تبرأ على مهلِ
لقد نسي (رحمه الله) هذين البيتين اللذين كان يردِّدهما وكأنَّه كان يعني نفسه بهما ، لقد سيطر عليه الولاء لأهل البيت واستفزَّه استخفاف المتوكِّل بهم ، فأبت له نفسه الكبيرة أن يتَّقيه ويقول ما لا يؤمن به ، فذهب في قافلة الشهداء ، ولعلَّه كان من أفاضلهم بمقتضى قول النبي (ص): ( أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطَّلب ورجل تكلَّم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله).
لم يكتف المتوكِّل بالتنكيل بشيعة أهل البيت ومطاردتهم فأراد أن يمنعهم عن زيارة الحسين ففرض عليهم الضرائب وهدَّدهم وتوعَّدهم بالقتل ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم ، فلم يخضعوا لتهديده ولا لوعيده واستمرت وفود الشيعة على كربلاء في تصاعد مستمر ، يكمنون بالنهار ويسيرون ليلاً ، ولمَّا لم يجد سبيلاً لاستئصال هذه الظاهرة الشيعية اتخذ قراراً بهدم القبر وإزالة معالمه ؛ ليضيع مكانه ولا يهتدون إليه ، ويأبى الله إلاّ أن يتمَّ نوره ولو كره المشركون.
لقد أراد معاوية من قبله أن لا يتحدَّث أحد عن فضل علي وآثاره ، فكتب إلى عمَّاله في جميع المقاطعات الإسلامية: برئت الذمة ممَّن يروي حديثاً في فضل عليّ وآل علي وممَّن يذكرهم بخير ، وكتب المتوكِّل الهاشمي وابن عمِّ العلويِّين إلى عمَّاله برئت الذمة ممَّن يبرُّ العلويِّين ويحسن إلى أحد منهم ، وقتل معاوية الحسن بن علي والمئات من صلحاء المسلمين لأنَّهم لم يعلنوا براءتهم من علي وآل علي ، وكذلك فعل المتوكِّل وأسلافه من أحفاد هاشم وعبد المطَّلب ، وقتل يزيد بن معاوية الحسن بن علي وعشرين شاباً من أحفاد أبي طالب ، وقال المنصور العبَّاسي حفيد عبد المطَّلب: قتلتُ من ولد فاطمة ألفاً أو يزيدون . وترك لولَده المهدي غرفة من غرف قصره مملوءة برؤوسهم ومع كل رأس رقعة باسمه ونسبه ليقتدي به خليفته من بعده(7) وهدم المتوكِّل قبر أمير المؤمنين وقبر الحسين حتّى لا يهتدي إليهما أحد من الشيعة ويذهب لزيارتهما ، ولكنَّ طيب تراب القبر دل على القبر.
فكان معاوية بمحاولته الفاشلة إخفاء فضائل أمير المؤمنين كأنَّه يأخذ بضبعه إلى السماء على حد تعبير الشعبي وعبد الله بن عروة بن الزبير لولديهما ، وكان المتوكِّل بمحاولاته لإخفاء قبر الحسين (عليه السلام) أنَّه جعله من الأبراج التي تناطح السحاب وتثير أحقاد الحاكمين من حكام العصور.
ونعود بعد هذه اللمحات القصار عن مواقف العبَّاسيِّين من العلويِّين إلى الحديث عن مرقد الحسين لنعود إلى إعطاء صورة أوسع عن جور العبَّاسيِّين بعد الفراغ من هذا الفصل الذي خصَّصناه للمآتم الحسينية وزيارة مرقده ، وما دمنا بصدد الحديث من المآتم الحسينية وزيارة مرقد الحسين نعود لأبي الفرج الأصفهاني لنرى ما فعله المتوكِّل بقبر الحسين ومع زائريه ، فقد جاء في مقاتل الطالبيين أنَّ المتوكِّل الهاشمي كان شديد الوطأة على آل أبي طالب غليظاً على جماعتهم وشديد الحقد والغيظ عليهم ، وكان وزيره عبيد الله بن يحيى بن خاقان يشاركه في سوء الرأي بهم فحسَّن له القبيح في معاملتهم وبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من بني العبَّاس قبله ، وكان من سوء فعله أن كرب قبر الحسين وعفى آثاره ووضع على سائر الطرق المؤدِّية إليه مسالح من جنده لا يجدون أحداً في طريقه لزيارته إلاّ قتلوه أو أنهكوه تعذيباً ، ومضى يقول: لقد حدَّثني أحمد بن الجعد الوشا وقد شاهد بنفسه ذلك فقال: كان السبب في حراثة قبر الحسين أنَّ بعض المغنِّيات كانت تبعث بجواريها إلى المتوكِّل قبل خلافته يغنِّين له إذا شرب ، فلمَّا تولَّى الخلافة بعث إلى تلك المغنِّية فعرف أنَّها كانت غائبة في زيارة الحسين (عليه السلام) ، ولمَّا بلغها خبره أسرعت في الرجوع وبعثت إليه بجارية من جواريها كان يألفها ، فقال لها: أين كنتم ؟ فقالت: لقد خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها وكان ذلك في شعبان ، فقال : وإلى أين حججتم ونحن في شعبان ؟ فقالت: قصدنا قبر ابن عمِّك الحسين بن علي (عليه السلام) ، فاستشاط غضباً وأمر بمولاتها فوضعها في سجنه وصادر أملاكها ، وبعث برجل من أصحابه يقال له: ( الديزج ) ـ وكان يهودياً ـ إلى مرقد الحسين وأمره بهدمه وأن يكرب محلَّه ولا يترك له أثراً ،
كما أمره بهدم كل ما حوله من الأبنية ، فمضى لذلك ونفَّذ جميع ما أمره به المتوكِّل ؛ فهدم ما حوله من البناء والبيوت التي كان أصحابها يستقبلون الزوَّار فيها وكرب نحواً من مائتين جريب حوله ، فلمَّا بلغ إلى القبر لم يتقدَّم لهدمه أحد ممَّن كانوا معه من جنود المتوكِّل وأنصاره ، فأحضر قوماً من اليهود فهدموه ثم كربوه وأجروا الماء عليه وعلى ما حوله من الأراضي ، وأوكل أمر ملاحقة الزوَّار إلى جنوده وجلاوزته ، فكل مَن وجدوه متوجِّها لزيارته اعتقلوه وأرسلوه إليه ، وأضاف إلى ذلك الأصفهاني في مقتله أنَّ محمد بن الحسين الأشتاني قال : لقد بَعُد عهدي بالزيارة في تلك الأيَّام خوفاً من السلطة الحاكمة ، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها ـ وساعدني رجل من العطَّارين على ذلك ـ فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل حتّى أتينا نواحي الغاضرية وخرجنا منها نصف الليل ، فسرنا بين مسلَّحتين حتّى أتينا محلَّ القبر ـ وقد خفي علينا ـ فجعلنا نشمَّه ونتحرَّى جهته حتّى أتيناه وقد قُلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق وأجري الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق ، فزرناه ثم انكببنا عليه فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها في جميع أنواع الطيب ، فقلت للعطَّار الذي كان معي: أيُّ رائحة هذه ؟ فقال: لا والله ما شممت مثلها شيئاً من العطر ، فودَّعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع ، فلمَّا قتل المتوكِّل ، اجتمعنا مع جماعة من الطالبيِّين والشيعة حتّى صرنا إلى القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه(8).
وجاء في الأمالي للشيخ الطوسي عن عبد الله بن دانية الطوري أنَّه قال : حججت سنة 247 فلمَّا انتهيت من أعمال الحج ورجعت إلى العراق زرت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على حال خيفة من السلطان ، ثم توجهت إلى زيارة الحسين (عليه السلام) في كربلاء فإذا مرقده قد حرث وفجِّر فيه الماء وأرسلت الثيران والعوامل في الأرض ، فبعيني وبصري رأيت الثيران تساق في الأرض فتنساق لهم حتّى إذا وصلت القبر حادت عنه يميناً وشمالاً ، فتضرب بالعصي الضرب الشديد فلا ينفع ذلك ولا تطأ القبر بحال أبداً ، فلم أتمكن من الزيارة ، فتوجهت إلى بغداد وأنا أقول :
تالله إنْ كـانت أمـيَّة قـد أتت قـتل ابـن بنت نبيها مظلوما
فـلقد أتـاه بـنو أبـيه بـمثله هـذا لـعمرك قـبره مـهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا فــي قـتله فـتتبَّعوه رمـيما
وقيل ـ كما هو الشائع ـ أنَّ الأبيات للشاعر البسامي ويجوز أن يكون عبد الله بن دانية قد استشهد بها بعد شيوعها.
وقال الطبري في المجلَّد التاسع وفي أحداث 236 أنَّ عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية التي فيها القبر: مَن وجدناه عند قبر الحسين بعد ثلاثة أيَّام بعثنا به إلى المطبِق ، فهرب الناس من حواليه(9).
وقد أثَّر هذا الإرهاب إلى حدٍّ ما على نشاط تحرُّكات الشيعة نحو زيارة مراقد الأئمة (عليه السلام) وبخاصة زيارة الحسين ، بعد أن تعاظم أسلوب القمع والإرهاب لبعض الوقت إلى حدٍّ حمل الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن (عليه السلام) إلى إصدار توجيه عام إلى الشيعة ينهاهم فيه عن زيارة مرقد الإمامين موسى بن جعفر ومحمد الجواد في مقابر قريش وحرم الحسين في كربلاء كما جاء في أعلام الورى وغيبة الطوسي ، ولكن أساليب القمع والإرهاب لم تدم طويلاً وكان لها ردَّة فعل واسعة في الأوساط الشيعية ؛ فما أن أحسَّ الشيعة بالانفراج حتّى اخذوا يتوافدون على زيارة مرقد الحسين بكثافة وبصورة أشد تنوُّعاً ممَّا كانت عليه قبل أن يصدر الحاكمون أوامرهم بالمنع والتنكيل بالزائرين.
واعتقد الشيعة أنَّ المرقد الشريف لم يتأثَّر أبداً بالماء وظلَّ على حاله والشيعة يتوافدون عليه في مواسم معدودة من كل عام ، وبعد قرن من الزمن كتب ابن حوقل عن المشهد الذي بني فوق ضريح الحسين (عليه السلام) ووصفه بأنَّه غرفة واسعة تعلوها قبة لها باب من كل جهاتها الأربع ، وفي عهد البويهيين هاجم البلدة المحيطة بضريح الحسين (عليه السلام) فريق من الأعراب جاءوا من عين التمر وضربوا المشهد وغيره من الأماكن المجاورة له ، فصب عليهم بنو بويه جام غضبهم وعاقبوهم بأقسى ما يكون من العقوبات ، وأعاد عضد الدولة بناء المرقد وما تهدم حوله إلى ما كان عليه وبسط عليها الحماية فجعل الناس يتهافتون إلى زيارته من كل مكان.
وفي ربيع الأول من سنة 407 هجرية ، 1016 ميلادية ، شبَّ حريق في البناء فتهدَّمت القبة التي على المرقد والأروقة واحترقت ، وأعاد بنائها الحسين بن الفضل وبنى سوراً حول كربلاء ، ومن ذلك الوقت تشابه تاريخ النجف وكربلاء : فاحترمهما الأتراك الذين احتلوا العراق ، وزار ملك شاه سنة 479 المشهدين ووزع الصدقات والأموال على أهالي البلدتين ، ونجتا من غزو المغول ، وتوالت زيارة أمراء الشيعة وحكَّامهم إلى البلدتين ورعايتهما . وخلال القرن السابع زار كربلاء الخان غازي ـ أحد حكَّام إيران ـ وحمل معه إلى المرقد الشريف بعض الهدايا الثمينة وشق أرغون من نهر الفرات إلى البلدة قناة أصبحت تعرف فيما بعد بنهر الحسينية ، كما حافظ العثمانيون على المشهدين في كربلاء والنجف ، وكانت الأوامر تصدر إلى الولاة في بغداد بالمحافظة عليهما والعناية بهما(10).
وبقي مرقد الحسين ومراقد الأئمة (عليه السلام) كعبة تتوافد إليهما الملايين في كل عام من مختلف أنحاء العالم للتبرُّك بهما والعبادة والتوسُّل إلى الله سبحانه بقضاء حوائجهم بالرغم من جميع وسائل الإرهاب والقمع التي استعملها الحاكمون للتنكيل بالوافدين على مراقدهم ، وبقي أعداؤهم لعنة على لسان الأجيال ومراقدهم محلَّاً لتجمُّع النفايات في البلاد التي دفنوا فيها.
ومهما كان الحال ، فلقد انفرجت الأزمة التي اجتاحت الشيعة بموت المتوكِّل العبَّاسي إلى حدٍّ ما واستيلاء ولده المنتصر على السلطة من بعده ، كما نصَّ على ذلك ابن الأثير وغيره من المؤرِّخين ؛ فلقد قال في معرض حديثه عن حوادث سنة 248 أنَّ المنتصر أمر بزيارة قبر الحسين وعلي (عليه السلام) وآمن العلويِّين وأطلق سراحهم وردَّ عليهم فدكاً ، وكان أول ما أحدثه أن عزل عن المدينة صالح بن علي الذي كان يتتبعهم بكل أنواع الأذى والظلم والجور وعيَّن مكانه علي بن الحسن بن إسماعيل بن العبَّاس بن محمد ، ولمَّا دخل عليه ليودِّعه وهو في طريقه إلى المدينة ، قال له: يا علي ، إنِّي موجِّهك إلى لحمي ودمي وساعدي فانظر كيف تكون للقوم وكيف تعاملني فيهم.
واستمر الشيعة ـ أينما حلُّوا ـ يحتفلون بذكرى الحسين الأليمة ويردِّدون ما جرى عليه وعلى أسرته وعائلته من القتل والسبي والتمثيل وبكل مظاهر التشيُّع في العشرة الأولى من المحرَّم وغيرها من المناسبات ؛ سواء في ذلك البلاد التي غلب عليها التشيُّع كالعراق أم غيرها من المقاطعات التي كان الشيعة فيها يشكِّلون الأقلِّيَّة بالنسبة إلى غيرهم كما هو الحال في مصر يوم كانت في سلطة كافور الإخشيدي الذي كان كما يصفه بعض المؤرِّخين شديد التعصُّب على أهل البيت وشيعتهم ، ومع ذلك فقد اظهروا فيها من الصلابة والتماسك مع قلَّتهم بالنسبة لغيرهم ما فرض على كافور أن يصانعهم ويتغاضى عمَّا يقومون به في كل عام من مظاهر الحزن والجزع لِمَا أصاب أهل البيت (عليه السلام).
ولم تنفرج الأزمة في مصر انفراجاً كاملاً إلاّ بعد أن تغلَّب عليها الفاطميُّون وحكمها المعز لدين الله الفاطمي ، فارتفعت معنويات الشيعة بوجودهم وهيَّأوا لهم جميع الأجواء المناسبة واشتركوا معهم في إحياء تلك الذكرى وبذلوا في سبيلها الأموال بسخاء لا مثيل له ، وكان ذلك منهم ـ كما لا يبعد ـ ردَّاً على حملات التشكيك في نسبهم التي شنَّها عليهم العبَّاسيُّون وساهم فها كبار علماء السُّـنَّة يومذاك.
وقال المقريزي في خططه: كان الفاطميون في يوم عاشوراء ينحرون الإبل والبقر لإطعام الناس ويكثرون النوح والبكاء ، ويتظاهرون بكل مظاهر الحزن والأسف ، واستمروا على ذلك حتّى انقرضت دولتهم وجاء عهد الأيوبيِّين الذين مثَّلوا أدوار الأمويين والعبَّاسيين مع الشيعة ، وأضاف المقريزي إلى ذلك بروايته عن ابن ذولاق في سيرة المعز لدين الله أنَّه في يوم عاشوراء من سنة 363 انصرف خلق من الشيعة إلى قبرَيْ أم كلثوم ونفيسة ومعهم جماعة من فرسان المغاربة ورجالهم بالنياحة والبكاء على الحسين ومَن قُتل معه من أسرته وبنيه وكسروا أواني السقَّائين.
وفي سنة 396 جرى الأمر على ما كان يجري في كل عام من تعطيل الأسواق وخروج المنشدين إلى جامع القاهرة ونزولهم مجتمعين بالنوح والبكاء والنشيد ، واستطرد المقريزي في وصف ما كان عليه حال الفاطميين من قيامهم بمناسبة ذكرى مصرع الحسين بمظاهر الحزن والأسف حكومةً وشعباً ، ومضى يقول: إذا كان يوم العاشر ، احتجب الخليفة عن الناس لمدة من الوقت ، فإذا ارتفع النهار ، ركب قاضي القضاة والشهود وغيَّروا زيَّهم ومضوا إلى مشهد الحسين ، فإذا دخلوا اخذوا ينشدون الشعر في رثاء أهل البيت (عليه السلام) إلى أن تمضي عليهم ثلاث ساعات والنشيد متواصل ، وبعدها يستدعيهم الخليفة إلى قصره ، فيدخل قاضي القضاة والداعي ومن معهما إلى باب الذهب فيجدون الدهاليز قد فرشت بالحصر ، فيجلس القاضي والداعي إلى جانب الخليفة ويجلس الباقون من سائر الطبقات في الأماكن التي أعدَّت لهم ، فيقرأ القرَّاء شيئاً من القرآن ، ثم ينشدون المراثي ويتقدَّمون بعد ذلك إلى المائدة لتناول الطعام المؤلَّف من الأجبان والألبان والعسل وغير ذلك ، وبعد الفراغ يتوجَّه فريق من الناس والمنشدين ينوحون ويبكون في شوارع القاهرة وقد أغلقت المحلاَّت والحوانيت وتعطَّلت جميع الأعمال في ذلك النهار حتّى المساء ، إلى غير ذلك من المظاهر التي كانت تعمُّ المدن والقرى في جميع أنحاء مصر طيلة العهد الفاطمي ، وظلَّت هذه المظاهر تتصاعد وتشتد في مصر وغيرها من الأقطار إلى أن جاء دور الأيوبيين فحاربوا هذه المظاهر وتوعَّدوا الناس والشيعة بأقصى العقوبات إذا استمروا عليها ، واستبدلوا مظاهر الحزن والأسى بمظاهر الفرح والسرور عند دخول شهر المحرَّم ، وأصبح اليوم العاشر منه من أعظم أعيادهم يتباهون فيه بالملابس الفاخرة وأنواع الطعام والحلوى والأواني الجديدة وما إلى ذلك ممَّا يعبِّر عن ارتياحهم واغتباطهم في ذلك اليوم ؛ ليرغموا بذلك أنوف الشيعة على حدِّ تعبير المقريزي في خططه.
وفي عهد البويهيين كان الشيعة والحكَّام يمثِّلون دور الفاطميين ، وجاء في تاريخ أبي الفداء خلال حديثه عن أحداث 352 أنَّ معزَّ الدولة كان في اليوم العاشر من المحرَّم يأمر بتعطيل الأسواق ، كما يأمر الناس أن يخرجوا بالنياحة والنساء ناشرات الشعور قد شققن ثيابهنَّ ولطمن وجوههنَّ ، وأيَّد ذلك ابن كثير في بدايته وهو يتحدَّث عن البويهيين وما كانوا يصنعونه في بغداد في الأيَّام الأولى من شهر المحرَّم والعاشر منه في كل عام ، إلى غير ذلك ممَّا رواه الرواة والمؤرِّخون عن مواقف الشيعة وحكَّامهم من ذكرى مجزرة الطفِّ منذ حدوثها خلال القرون التي حكم الشيعة فيها بعض المناطق الإسلامية وغيرها من القرون التي كان الحكم فيها لأعداء الشيعة كالأمويين والعبَّاسيين والأيوبيين والأتراك ، وبالرغم من كل وسائل العنف التي مارسها الحاكمون ضد التشيُّع ومظاهره فقد بقيت المآتم الحسينية تقام ولم تتأثَّر بالأخطار ووسائل العنف من الحاكمين وأعداء أهل البيت ، الذين أدركوا أنَّ المآتم الحسينية في واقعها ليست إلاّ تعبيراً عن المعارضة لحكمهم الجائر وإدانة صريحة لتجاوزاتهم واستغلالهم لخيرات الشعوب والمستضعفين في الأرض ، ولعل هذا المحتوى للمأتم الحسيني كان من أولى الدوافع لدعوة الأئمة (عليه السلام) على إحياء هذه الذكرى والالتزام بها مهما كانت النتائج والمضاعفات ، كما كان لتلك المآتم التي كانت تعقد هنا وهناك حتّى في أشدِّ الأدوار تعقيداً وقسوة آثاراً واضحة في حدوث تلك الانتفاضات الشيعية التي كانت ترفع شعارات الثورة الحسينية وتجعل منها مناراً وشعاراً لبعث الروح النضالية والتضحية في سبيل الحق والعقيدة إلى أبعد الحدود ، وفي الوقت ذاته فلقد كانت تلك الشعارات التي ترفع هنا وهناك ـ كما يبدو ـ من أقوى الدوافع على تمكين الثورة الحسينية في عقول الناس وقلوبهم ، سواء في ذلك ما كان منها في العصر الأموي أم العبَّاسي ، فانتفاضات الحسينيين في العصر العبَّاسي ردَّاً على ما ارتكبه أولئك الطغاة من قتل وتشريد وأسر وتفنن في أساليب التعذيب ، هذه الانتفاضات كانت روح كربلاء تحرِّكها وتدفعها إلى المضي في المقاومة مهما كلَّفها ذلك من التضحيات . وما زالت الانتفاضات التي تحدث على مرور الزمن هنا وهناك تستلهم من ثورة الحسين (عليه السلام) التي لم يحدِّث التاريخ عن ثورة أكثر منها عطاءً وتصميماً.
لقد واجهت هذه الذكرى في تاريخها الطويل قمعاً واضطهاداً كانا يضطرانها إلى الخمود والتستُّر ، كما شهدت انفراجات محدودة حيناً ، وأحياناً انفراجات واسعة ، ولكن أعمال القمع والاضطهاد لم تفلح في القضاء التام عليها ، بل بقيت تقام في مواعيدها وفي دور من التستُّر حتّى في العصر الأموي ، وفي عصري المنصور والمتوكِّل اللذين يعتبران من أشدِّ العهود قسوة وظلماً ، وكانت عندما تتوفَّر لها الانفراجات الواسعة تنفجر كالبركان كما حدث لها في عهود الفاطميين والبويهيين في بغداد وجهاتها ، والحمدانيين في سوريا والموصل ، وعندما أصبح الحكم في بلاد الفرس وغيرها بيد الشيعة ؛ لأنَّ أساليب العنف والاضطهاد من الصعب أن تستأصل المبادئ والمعتقدات وحتّى العادات ، بل تزيدها ترسيخاً وصلابة ، وعندما تتوفَّر لها الظروف والمناسبات تبرز بشكل أقوى وأشدَّ ممَّا كانت عليه وقديماً قيل: لا شيء أجدى وأنفع للأفكار والمعتقدات من محاربتها.
إنَّ الذين يحاربون الأفكار والمعتقدات يساهمون في ترسيخها وإحيائها من حيث لا يريدون ، ولا شيء أدلُّ على ذلك من مواقف الأمويين والعبَّاسيين المسعورة ، بل وجميع الحاكمين ، من أهل البيت وفضائلهم وآثارهم ، ومع كل ما بذلوه من جهود للقضاء عليها فقد بقيت من أفضل الرموز الشامخة وأقدسها ، وظلُّوا في القمة بين عظماء التاريخ ، وظهر من صحيح فضائلهم وآثارهم ما ملأ الخافقين ، وما زالت محاسنهم تُحكى وآياتهم تُروى ، هذا بالإضافة إلى ما أضافه عليها المحبُّون ممَّا كان أهل البيت أنفسهم يحاربونه ويرونه إساءة لهم ويقولون: (الله بيننا وبين من هتك سترنا وجحدنا حقنا وأفشى سرَّنا ونسبنا إلى غير جدِّنا وقال فينا ما لم نقله في أنفسنا) وكانوا في مجالسهم ومجتمعاتهم يلعنون أصحاب تلك المقالات ويتبرَّأون منهم ومن مقالاتهم.
لقد كان لتلك المواقف الجائرة التي وقفها الحاكمون من المآتم الحسينية ومن زيارة الحسين وأبيه التي تعني فيما تعنيه الإجانة لأولئك الطواغيت والمعارضة المستترة لسياستهم الجائرة ، كان لها ردود فعل في الأوساط الشيعية جعلتهم يتصلَّبون في تمسُّكهم بتلك المآتم ويعتبرونها وسيلة للتنفيس عن عواطفهم الحزينة الغاضبة والكبت النفسي الذي كان الشيعي يعانيه من ضغط الحاكمين وقسوتهم.
ومهما كان الحال ، فلقد مرَّت تلك المآتم والذكريات منذ أن ولدت بعد مصرع الحسين (عليه السلام) وحتّى عصرنا الحالي بأدوار كثيرة ولم تثبت على صيغة واحدة في تلك العصور المتعاقبة ، وكان من الطبيعي أن تتطوَّر حسب متطلَّبات العصر وأن تخمد وتنطلق بين الحين والآخر حسب الظروف المحيطة
بها.
لقد انطلقت بشكل لم يكن معروفاً ومألوفاً من قبل خلال الحكم الشيعي في مصر وبغداد وحلب وجهاتها وفي فترات متعاقبة من الزمن ، وعادت إلى ما كانت عليه في العصر الذي سبق عصر الفاطميين ، بعد أن تقلَّص ظل حكَّام الشيعة في تلك المقاطعات وظلَّت تقام في مواعيدها في أجواء تتَّسم بالسرية والتكتُّم كما كانت عليه في تلك العصور المظلمة . وفي العصور المتأخرة تطوَّرت بشكل أخرجها عمَّا وجدت من أجله ، وعمَّا كان الأئمة (عليه السلام) قد رسموه لها لتبقى منطلقاً ورمزاً لمعارضة الحكم المستبد الظالم ، وأدخلت عليها بعض الزيادات التي تسيء إليها والى التشيُّع ويستغلُّها أعداء الشيعة للتنديد والتشويه والسخرية ، وهذه الزيادات لقد أدخلت عليها كما هو الراجح عن طريق الأقطار الشيعية بعد أن حكمها الشيعة وغلب على أهلها التشيع كإيران وأفغانستان وغيرهما من الأقطار التي تسرَّبت إليها عادات الهنود القدامى كالضرب بالسلاسل الحديدية والسيوف وما إلى ذلك من المظاهر التي لا يقرُّها الشرع ولا تحقِّق الأهداف التي كان الأئمة يحرصون عليها من تلك الذكريات.
ولا يزال هذا النوع من المظاهر الدخيلة يمارس خلال الأيَّام الأولى من شهر المحرم في العراق وإيران ، في حين أنَّ الذين يضربون ظهورهم بالسلاسل الحديدية ورؤوسهم بالسيوف ليصبغوا أبدانهم بالدماء ليسوا من الملتزمين بالدين ويمارسون الكثير من المنكرات ، وقد انتقلت هذه الظاهرة الشاذة عن طريق بعض الفئات إلى بعض القرى الشيعية من جنوب لبنان في مطلع النصف الثاني من القرن الهجري المنصرم ، ولا تزال حتّى يومنا هذا مصدر لسخرية الأجانب الذين يقصدون تلك البلدة في اليوم العاشر من المحرم ويسمُّونه: يوم جنون الشيعة ، وبلا شك أنَّ الأئمة (عليه السلام) لا يرضون بهذه المظاهر ويتبرَّأون منها.
أمَّا بقية القرى الشيعية من جنوب لبنان ،