الشعائر الحسينيه
الزيارة و فضلها

الموكب الحسيني هو عبارة عن التحرّك الجماهيري للأمّة بقيادة الإمام المعصوم أو نائبه في عصر الغيبة الكبرى من أجل تحقيق أهداف ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) . ولا زالت تراودني في الذاكرة هذه الحقيقة الذهبية من الذكريات حيث إنّي مع التدرّج في مدارج الحياة والتقدّم في العمر وحضوري إلى مجالس العزاء التي تُقام في مآتم منطقتنا أدركت ثلاثة أهداف لاستمرارية وبقاء هذه المواكب الخالدة :
أوّلاً : الهيبة المميّزة في النفوس
إنّ العزاء على أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) له هيبته المميّزة في النفوس وهذه الهيبة جعلٌ خاص من الله تعالى خصها لاستمرارية العزاء الحسيني إلى يوم الدين لا تفقد هذه المواكب هيبتها ولو حاول البعض من أصحاب النفوس الدنيئة والساقطة والحاقدة على المعزّين أن توقف المسيرات الحسينيّة عن طريق التشويه والعنف والإرهاب .
ولقد استمد شيعة أهل البيت (عليهم السّلام) هيبتهم من هيبة عزاء الموكب الحسيني ؛ لأنّ في هذه المواكب المقدّسة حشود ولائيّة وهي غاضبة على الظلم وترفض الظالمين في كلّ زمان ومكان وفي كلّ جيل من الأجيال وترفع باستمرار هذا الشعار (يا مظلوم يا حسين) (يا لثارات الحسين) .
ثانياً : العزاء الحسيني يذوّب الكبرياء من النفوس
في أثناء السير على الأقدام في المسيرات العزائيّة تجد المشاركة الفعلية بين القوي والضعيف وبين الغني والفقير لا فرق بينهما في هذا المشهد الذي ليس له نظير إلاّ في حج بيت الله الحرام وبعد الانتهاء من العزاء الكل يجلس على مائدة الإمام الحسين (عليه السّلام) لأخذ البركة من ذلك الطعام الذي يعدّ في الواقع والحقيقة دواء لكلّ داء . وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على عظمة نفوس المعزّين الذين ذوّبوا الكبرياء والطغيان من النفوس وذابت بينهم الفوارق المادية .
ثالثاً : مظلوميّة الإمام الحسين (عليه السّلام) وتأثيرها العاطفي على النفوس
إنّ تصوّر مأساة واقعة الطفّ وما جرى على الإمام الحسين (عليه السّلام) وأصحابه وأهل بيته من بعده تشعل جمر اللوعة والحرارة في قلوب الموالين والمعزّين ؛ ممّا تدفعهم وبقوّة لإحياء المسيرات الرثائيّة العزائيّة بكلّ صمود وتحدي ومهما كلّف الثمن من تضحيات كل ذلك يعد رخيصاً لما قدّمه سيد الشهداء (عليه السّلام) .
فكلّما نقدّمه ونبذله من عاطفة جياشة ودموع مالحة غزيرة إنّما تعني عن تعبير لتلك العاطفة الحارة التي عبر عنها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيث قال : إنّ لقتل ولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً . أسأل المولى جلّ ثناؤه أن يجعل هذه الحرارة ووهج هذه العاطفة في قلوبنا ؛ لكي تشملنا ألطاف الحسين (عليه السّلام) ورحمته وشفاعته .
المنشأ التأريخي للمواكب العزائيّة
منذ استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) أُصيب الشيعة بجرح عاصف لم يندمل ؛ فحقّ لهم التعبير عن تألمهم . ولو أنّهم وجدوا الحرية الكاملة في عهود الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام) لأقاموا هذه الشعائر القائمة اليوم أكثر ولكن أنّى لهم ذلك وسيوف حكّام الجور مشرعة في وجوههم . وبالرغم من هذا كلّه تمرّدوا على المحن وأبوا إلاّ انتزاع حرياتهم رغماً عن الزمن ؛ بالقوّة تارة وبالتضحيات اُخرى .
والمواكب الحسينيّة واحدة من مفردات هذه الشعائر الحسينيّة التي تأخّر خروجها عن مقتل الإمام الحسين (‏عليه السّلام) حتّى سجّل التاريخ صفحات ناجعة لأمراء البويهيِّين ؛ حيث إنّهم احتضنوا هذه الشعائر فأخرجوا المآتم من الدور والبيوت إلى الأسواق والشوارع حتّى حوّلوها مواكب مشهودة ومهرجانات مفجعة في مهدها الأوّل العراق وإيران ؛ حيث مركز حكومتهم وسلطانهم الذي ابتدأ سنة 334 هـ وانتهى 467 في أواسط الحكم العباسي بالرغم من معارضات ومخالفات معظم الخلفاء العباسيِّين لهم على هذه المواكب .
ولم يأبه البويهيّون لهذه المعارضات ؛ لأنّ الحكم الحقيقي والسلطة الفعلية سقطت من أيدي الخلفاء العباسيِّين ولم يبقَ لهم غير الاسم المجرّد ؛ إذ صارت بأيدي البويهيِّين .
وقد نصّ أكثر من مؤرّخ أنّه في سنة 352 هـ أمر معزّ الدولة أحمد بن بويه في العشر الأُوَل من المحرّم ببغداد بإغلاق جميع أسواق بغداد وإبطال البيع والشراء وأن يلبس الناس السواد وأن يُقيموا مراسم العزاء وأن يُظهروا النياحة وأن يخرج الرجال والنساء لاطمين الصدور والوجوه.
وكان معزّ الدولة البويهي يرتدي رداء الحِداد والحزن ويتقدّم عسكره المشترِك في هذه المواكبِ وقد جعل يوم عاشوراء عطلة رسمية في الدوائر الحكومية إلى أن تطوّرت تلك المواكب والمآتم بتطوّر ساسة الحكومات التي كانت تتولّى السلطة في إيران أو العراق .
وكان بعض أكابر الطائفة الإماميّة يشارك في هذه المواكب كأمثال العلاّمة السيد محمد مهدي بحر العلوم المتوفّى سنة 1212 هـ فقد كان يتقدّم أمام هذه المواكب ولمّا سُئل عن سبب اشتراكه في هذا العزاء أجاب : أنّه رأى في المنام الإمام الثاني عشر صاحب الزمان (‏عجّل الله تعالى فرجه) مشتركاً في هذا العزاء .
ناهيك عن كبار الشعراء الذين كانوا يشتركون به أمثال الكعبي وعظماء المجتهدين والفقهاء الشيعة كالشيخ زين العابدين المازندراني وغيره .
لو رجعنا بالذاكرة إلى الوراء لتبيّن لنا في تلك الفترة والحقبة الزمنية التي مرّت في عهد الأجداد (رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين) كان العزاء الحسيني يختصر على الردادية فقط بحيث ينتهي الخطيب الحسيني من القراءة فيبدأ الرادود يردّد القصيدة على المستمعين وهم جلوس في المأتم ويلطمون على رؤوسهم وصدورهم .
هذا الحال كما حدّثنا أحد الأجداد (رحمه الله تعالى) قال : هذا من قبل قرابة مئة وخمسين سنة يقول : ثمّ بعد ذلك تطوّر الأمر إلى أن الخطيب نفسه هو الذي يأتي بالقصيدة بعد مجلس العزاء ويقف المعزّون بجانب المنبر ويلطمون لمقدار ساعة أو ساعة ونصف ثمّ ينهون العزاء بلطميات عزائيّة فاستمر هذا الحال إلى ما قبل الأربعينيات .
من بعد هذا العهد بدأت المواكب العزائيّة تكبر والأجيال تتنامى إلى أن تطوّر العزاء الحسيني وانتقل من المأتم إلى الخارج, ولكن في حدود ساحات المآتم فقط لا يتعدى أكثر من هذه المسافة وبدون مكبّرات للصوت ؛ لأنّ هذه وسائل أتت في العصور المتقدّمة الحديثة .
فاستمر العزاء على هذا الحال إلى أن شيئاً فشيئاً أخذ الناس يقطعون مسافات أكبر وأكبر إلى أن وصل اتساع المواكب العزائيّة بهذا الانتشار الواسع الذي نلحظه الآن . وهذه شذرات مثمرة من تلك الشجرة المشرقة الوضّاءة التي غرسها الأجداد والآباء وحافظوا على نموّها حتّى وصلتنا على هذه الهيئة .
أقول : كما إنّ أجدادنا وآباءنا عملوا واجتهدوا وأسسوا لنا هذا الأساس الرائد نحن يجب علينا أن نجتهد ونجاهد حتّى نوصل رسالة الموكب الحسيني للأجيال الولائيّة القادمة التي ستأتي من بعدنا .