الشعائر الحسينيه
الزيارة و فضلها

متى بـدأت أعمال الاحتفال بذكرى عاشوراء ؟
قد يتوهّم البعض أنّ شعائر الذكرى في عاشوراء المتداولة لدى الشيعة اليوم إنّما هي أمور مستحدثة ودخيلة لا أصل لها في العصور الإسلاميّة الأولى وبالتالي فهي من دسائس المغرضين والدخلاء الذين يضمرون الشرّ بالإسلام والمسلمين .
فأقول لهؤلاء : إنّ هذا الوهم خطأ لا يدعمه إلاّ الجهل بحقائق التاريخ وحوادث الماضي البعيد ولا يبعد أن يكون هذا التوهّم بذاته من وحي الدسّاسين وتلقين المغرضين أعداء الشيعة والتشيّع.
أمّا إقامة مظاهر الحداد والاحتفال لذكرى عاشوراء فهي قديمة جدّاً قدم مأساة عاشوراء بالذات حيث بدأت مجالس العزاء والاجتماعات للنوح والبكاء على مأساة الحسين (عليه السّلام) بعد مرور أيّام قليلة على مصرع الحسين (عليه السّلام) ؛ وذلك بتوافد أهل الضواحي والسواد إلى كربلاء بعد رحيل الجيش واجتماعهم رجالاً ونساءً حول قبر الحسين (عليه السّلام) .
ولمّا عاد الإمام زين العابدين (عليه السّلام) من الشام إلى كربلاء يوم الأربعين وجد أهل السواد مجتمعين حول قبر الحسين وقبور الشهداء بالحزن والحداد فاستقبلوه بالبكاء والعويل يتقدّمهم الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمه الله تعالى) .
ولمّا عاد أهل البيت (عليهم السّلام) إلى المدينة المنوّرة استقبلهم الناس بالحداد والأسى والنوح والبكاء وضجّت المدينة في ذلك اليوم ضجّة واحدة حتّى صار ذلك اليوم كيوم مات فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . ثمّ أُقيمت مجالس العزاء في أنحاء المدينة وخاصّة في حي بني هاشم فكان مجلس الإمام زين العابدين (عليه السّلام) ومجلس العقيلة زينب ومجلس الرباب زوجة الحسين (عليهم السّلام) ومجلس اُمّ البنين اُمّ العباس بن علي (عليه السّلام) وغيرها تملأ أجواء المدينة بالكآبة والحزن والحداد .
وكان الإمام زين العابدين (عليه السّلام) يغتنم كلّ فرصة لإثارة العواطف وإحياء ذكر المأساة في نفوس الجماهير فمن ذلك مثلاً : مرّ ذات يوم في سوق المدينة على جزّار بيده شاة يجرّها إلى الذبح فناداه الإمام (عليه السّلام) : يا هذا هل سقيتها الماء ؟ .
فقال الجزار : نعم يابن رسول الله نحن معاشر الجزارين لا نذبح الشاة حتّى نسقيها الماء . فبكى الإمام (عليه السّلام) وصاح : وا لهفاه عليك أبا عبد الله ! الشاة لا تُذبح حتّى تُسقى الماء وأنت ابن رسول الله تُذبح عطشان .
وسمع (عليه السّلام) ذات يوم رجلاً ينادي في السوق : أيّها الناس ارحموني أنا رجل غريب . فتوجّه إليه الإمام (عليه السّلام) وقال له : لو قدّر لك أن تموت في هذه البلدة فهل تبقى بلا دفن ؟ . فقال الرجل : الله أكبر ! كيف أبقى بلا دفن وأنا رجل مسلم وبين ظهراني اُمّة مسلمة ؟! فبكى الإمام زين العابدين (عليه السّلام) وقال : وا أسفاه عليك يا أبتاه ! تبقى ثلاثة أيّام بلا دفن وأنت ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله ) ! .
واستمر أئمّة الهدى (عليهم السّلام) يحثّون شيعتهم على التمسّك بإحياء ذكرى عاشوراء رغم الإرهاب والضغط الذي مارسه الحكّام ضدّهم . وكانوا هم (صلوات الله عليهم) يفتحون أبوابهم للشعراء والمعزّين أيّام عاشوراء منذ عصر الإمامين الباقر والصادق (عليهما السّلام) حتّى عصر الإمام علي الرضا (عليه السّلام) في عهد المأمون العباسي الذي توسّعت فيه شعائر الحسين (عليه السّلام) وانتشرت مجالس العزاء أيّام عاشوراء بتأييد من الإمام الرضا (عليه السّلام) ودعم من المأمون .
فكانت دار الإمام الرضا (عليه السّلام) في أيّام عاشوراء تزدحم بالناس يستمعون فيها إلى رثاء الحسين (عليه السّلام) وكلمات الحثّ والتشويق والتشجيع من الإمام (عليه السّلام) فكان من أقواله المأثورة : إنّ أهل الجاهليّة كانوا يعظّمون شهر المحرّم ويحرّمون الظلم والقتال فيه ؛ لحرمته ولكن هذه الاُمّة ما عرفت حرمة شهرها ولا حرمة نبيّها فقتلوا في هذا الشهر أبناءه وسبوا نساءه فعلى مثل الحسين فليبكي الباكون ؛ فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب .
ولم تزل شعائر عاشوراء تزداد وتتّسع بما تلاقيه من الدعم والتأييد المعنوي من قبل أهل البيت (عليه السّلام) والعلماء الأعلام في كلّ الأوساط الشيعية حتّى قامت الدولة الحمدانية الشيعية فأعطت شعائر عاشوراء قدراً كبيراً من الدعم والتأييد ثمّ قامت الدولة البويهية الموالية لأهل البيت (عليهم السّلام) فوسّعوا ذكرى عاشوراء وأعطوها صفة رسميّة تعطّل من أجلها الأسواق والأعمال والدوائر الحكومية وتخرج المواكب العزائية بالأعلام السود وشارات الحداد تحت رعاية وإشراف كبار العلماء وأقطاب رجال الدين .
فكانت بغداد مثلاً في عهد عضو الدولة الحسن بن بويه الديلمي تخرج على بكرة أبيها يوم العاشر من المحرّم في مواكب عزائية ضخمة يتقدّمها رجال الدين والدولة ولمّا قامت الدولة الفاطمية في مصر والمغرب العربي انتقلت شعائر عاشوراء إلى تلك الأقطار ودامت حوالي القرنين من الزمن إلى أنْ قضى عليها الأيوبي بالقهر والإكراه .
ثمّ لمّا قامت الدولة الصفويّة وملوكها علويّون نسباً ينحدرون من سلالة الإمام السابع موسى الكاظم (عليه السّلام) , أيّدوا شعائر عاشوراء ووسّعوها ومثّلوا واقعة كربلاء تمثيلاً حيّاً تحت رعاية وتوجيه علماء الطائفة ومراجع التقليد أمثال العلاّمة الحلّي والمحقّق المجلسي وغيرهما (رضوان الله عليهم أجمعين) .
وهذا التمثيل له جذور في سيرة الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) ؛ فإنّه قد أُخذ من حيث الأصل من ظاهرة وردت في مجلس الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السّلام) أيّام عاشوراء فقد حدّث شاعر أهل البيت الكميت بن زيد الأسدي (رحمه الله) قال : دخلت على أبي عبد الله الصادق (عليه السّلام) يوم عاشوراء فأنشدته قصيدة في جدّه الحسين (عليه السّلام) فبكى وبكى الحاضرون وكان قد ضرب ستراً في المجلس وأجلس خلفه الفاطميات فبينما أنا أنشد والإمام يبكي إذ خرجت جارية من وراء الستار وعلى يدها طفل رضيع مقمّط حتّى وضعته في حجر الإمام الصادق (عليه السّلام) فلمّا نظر الإمام إلى ذلك الطفل اشتّد بكاؤه وعلا نحيبه وكذلك الحاضرون .
ومعلوم أنّ إرسال الفاطميات لذلك الطفل في تلك الحال ما هو إلاّ بقصد تمثيل طفل الحسين (عليه السّلام) الذي ذُبح على صدر أبيه بسهم حرملة (لعنه الله) يوم العاشر من المحرّم وهو عبد الله الرضيع وغيره من الأطفال الذين قتلوا في ذلك اليوم .
والخلاصة هي : إنّ إحياء ذكرى عاشوراء قديم عند الشيعة قدم المأساة نفسها فما زال أهل البيت وشيعتهم يحتفلون بذكرى تلك المأساة الفريدة من نوعها منذ السنة الأولى لقتل الحسين (عليه السّلام) وإلى اليوم يحدوهم لذلك الحبّ والولاء للحسين (عليه السّلام) أولاً ثمّ خدمة الدين والدعوة إلى الحقّ وتركيز المفاهيم الإنسانية لدى النشء ثانياً .
والله من وراء القصد وهو والي المؤمنين وصدق الأديب الفاضل السيّد جعفر الحلّي (رحمه الله) حيث قال :
فــي كـلِّ عام لنا بالعشرِ واعية تـطبّقُ الـدورَ والأرجاء والسككا
و كـلُّ مـسـلـمة ترمي بزينتِها حتّى السماءَ رمتْ عن وجهها الحُبكا
يـا مـيّـتـاً تـرك الألباب حائرةً وبـالـعـراءِ ثـلاثـاً جسمُهُ تُركا
لماذا يلتزم الشيعة بالسجود على التربة الحسينية من أرض كربلاء ؟
هذا السؤال كثيراً ما يوجه إلى الشيعة من قبل مخالفيهم منذ القدم وإلى الآن وقد لا يحصل المتسائلون على الجواب الشافي والردّ المقنع الصحيح ؛ لأنّ المسؤولين عن هذا السؤال قد لا يكونون من أهل العلم والاختصاص . وطبيعي أن التعرّف على تقاليد الاُمّة وعادات الطائفة يجب أن يكون عن طريق علمائها وكتب عقائدها : ( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن أَبْوَابِهِا ) .
والحقيقة هي : إنّ الشيعة لا يلتزمون بالسجود على التربة الحسينية بالخصوص بل يلتزمون بالسجود على التربة الطبيعية مطلقاً من أيّ مكان كانت ؛ سواء من أرض كربلاء أو من أيّ أرض في العالم بشرط أن تكون التربة طاهرة من النجاسة ونظيفة من الأوساخ وطبيعية أوّلية يعني غير مفخورة مثل : الخزف والسمنت والجص وما شاكل . فإذا لم تحصل هذه التربة بهذه الشروط حينئذ يجوّزون السجود على ما تنبته التربة من أنواع النباتات والأخشاب وأوراق الأشجار ممّا لا يؤكل ولا يلبس عادة .
فالمأكول من النبات كالفواكه والخضر وما شاكلها التي يأكل منها الإنسان عادةوعرفاً لا يصح السجود عليها وكذلك الأعشاب التي يصنع منها بعض الملبوسات عادة كالحرير الصناعي والقطن مثلاً .
فأقول : إنّ الشيعة لا يلتزمون بالسجود على التربة الحسينية وإنّما يفضلون ويرجّحون السجود عليها فقط حيث يتيسّر لهم السجود عليها .
وإليك الآن الأدلّة التي يستندون إليها في ذلك الالتزام وهذا التفضيل :
أمّا وجوب السجود على الأرض الطبيعية ؛ فلقول الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) في الحديث المتواتر بين المسلمين : جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً .
فالأرض لغة ـ وحسب مفهومها الحقيقي ـ : هي التراب أو الرمل أو الحجر الطبيعي دون المعادن كالذهب والفضة والفحم الحجري وسائر الأحجار الكريمة وغيرها كالجص والإسمنت والآجر وكلّ المفخورات الاُخرى ولا يعدل عن هذا المعنى الحقيقي إلى غيره إلاّ بقرينة صارفة واضحة ولا يوجد في الحديث مثل تلك القرينة .
وكلمة (مسجد) تعني مكان السجود . والسجود لغة : هو وضع الجبهة على الأرض تعظيماً . وهذا هو معناه الحقيقي الذي لا يعدل عنه إلاّ بقرينة لفظية أو معنوية كما في بعض الآيات الكريمة التي جاء فيها كلمة سجود أو مشتقاتها بمعنى الطاعة والانقياد أو مطلق التعظيم والاحترام مثل قوله تعالى : {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] . وقوله تعالى : {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرعد: 15] , وفي غيرها : {يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ ... } [الحج: 18]إلى غير ذلك .
( وطهوراً ) أي مطهّراً . فالأرض الطبيعية تطهّر الإنسان من الحدث عند فقد الماء بالتيمم . قال تعالى : {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } [النساء: 43] أي طاهراً .
والصعيد وجه الأرض مطلقاً أو التراب الخالص كما أنّ الأرض تطهّر أيضاً من الخبث كلّ ما لامسها مثل : الإناء الذي ولغ فيه الكلب فإنّه يعفّر بالتراب سبعاً وباطن الخف إذا مشي به الإنسان على الأرض الطبيعية وباطن القدم كذلك وطرف العصا الملامس للأرض وما يشبه ذلك .
فعلى ضوء هذا الحديث يعرف أن السجود لا يصح إلاّ على الأرض الطبيعية الفطرية حسب معناها اللغوي والحقيقي وذلك بوضع الجبهة عليها مباشرة بدون حائل بينها وبين الجبهة .
نعم هذا هو الفرض الإسلامي بالنسبة إلى السجود ولكن بما أنّ الأرض الطبيعية الطاهرة النظيفة قد لا تتيّسر للسجود في بعض الأمكنة مثل البيوت والمساجد التي غُطي أرضها بالرخام المفخور أو الإسمنت أو ما شاكل ذلك أو التي فرش أرضها بالسجاد أو البسط الصوفية أو القطنية أو ما شابهها ممّا لا يصح السجود عليها ؛ لذلك اتّخذ الشيعة أقراصاً من التراب الخالص الطاهر يصنعونها للسجود عليها طاعة لله تعالى وامتثالاً للفرض .
فهذه الأقراص التي يسجد الشيعة عليها ما هي إلاّ جزء من الأرض الطاهرة الطبيعية أُعدت للسجود فقط ؛ تسهيلاً لأداء الفرض الأولي فهل تجد في ذلك خلافاً أو منافاة للكتاب والسنة الشريفة ؟!
أترى أيّها القارئ الكريم أنّ السجود على الفرش التي تحت الأقدام والأرجل أحسن من السجود على قطعة طاهرة نظيفة من الأرض التي لم يلامسها شيء سوى جبهة المصلّي فقط ؟
الجواب : طبعاً كلاّ ثمّ كلاّ . إنّ الشيعة بعملهم هذا يجمعون بين أداء الفرض وهو السجود على الأرض الطبيعية وبين مراعاة النظافة التي هي من لوازم الإيمان وسمات المؤمن .
وأمّا تفضيل الشيعة لتربة الحسين (عليه السّلام) على غيرها من الأرض ؛ فلأنّها ـ أي تربة الحسين (عليه السّلام) ـ رمز عمق الدلالة على أقدس بقعة وأطهر تربة حيث جرى عليها أقدس تضحية في تاريخ بني الإنسان في سبيل الحفاظ على الصلاة وإقامتها بل في سبيل الدين وبقائه .
إنّ تربة الحسين تذكّر المصلّي بعظم أهمية الصلاة في الإسلام ومدى تأكّد وجوبها على الإنسان ذلك الوجوب الذي لا يسقط عن المسلم بحال إلاّ نادراً . تذكّره بذلك ؛ لأنّ الحسين (عليه السّلام) أقامها في أحرج المواقف وأدّاها في أشدّ الحالات .
فصلى صلاة الظهر عند الزوال يوم عاشوراء في ميدان القتال وساحة الحرب حيث الأعداء يحيطون به من كلّ جانب يرمونه بالسهام وأصحابه تُصرع من حوله ولو لم يقف رجلان من أصحابه أمامه وهما سعيد بن عبد الله الحنفي وزهير بن القين اللذان وقفا أمامه يدرآن عنه سهام القوم لما استطاع الحسين (عليه السّلام) أن يكمل صلاته ولصرع في أثنائها كما صرع بعض أصحابه فيها منهم : سعيد بن عبد الله الذي سقط إلى الأرض صريعاً وقد أصابه ثلاثة عشر سهم . فأيّ عمل يمكن أنْ يعبّر عن أهميّة الصلاة ويؤكّد وجوب أدائها على المسلم مهما كانت الظروف والأحوال مثل هذا العمل الذي قام به الحسين (عليه السّلام) ؟
هذا بالإضافة إلى ما يمكن أنْ يستوحيه المصلّي أثناء صلاته من ذكرى الحسين (عليه السّلام) من معاني جمّة وعظيمة منها مثلاً تصوّر عظمة الإسلام وأهميّة الدين بشكل عام حيث دفع الحسين (عليه السّلام) ثمن بقائه وصيانته غالياًَ جدّاً فكشف (عليه السّلام) بذلك عن حقيقة أنّ الدين أثمن وأغلا وأفضل من كلّ ما في الحياة والوجود وهو أولى بالبقاء من كلّ شيء ؛ سواء في مقام دوران الأمر بين بقائه أو بقاء غيره فالغير أولى بالتضحية به لأجل بقاء الدين .
والسبب في ذلك واضح وهو أنّ الحياة بكلّ ما فيها من نعم وخيرات وزينة ولذّة من المال والبنين وغيرهما إنّما يستفاد منها حقيقة وتكون خير للإنسان وراحة له ولذّة إذا كان المجتمع يسوده الدين ونظام القرآن وشريعة الله تعالى يسوده ذلك فكرة وعملاً من حيث العقيدة والسلوك ؛ لأنّه حينئذ فقط يسود الحقّ والعدل ويأخذ كلّ ذي حقّ حقّه ويؤدي كلّ مسؤول واجبه ولا تظلم نفس شيئاً .
قال سبحانه وتعالى : {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 123، 124] و {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] .
والخلاصة هي : إنّ الشيعة إنّما يفضلّون السجود على تربة الحسين (عليه السّلام) على غيرها من بقاع الأرض ؛ لأنّ الصلاة في حقيقتها صلة مع الله تعالى وتوجّه إليه وتذكّر له وخضوع وخشوع بين يديه . ولا شك أنّ ذكرى سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) خير وسيلة للحصول على أكبر قدر ممكن من تلك الاُمور كلّها ؛ وذلك بسبب السجود على تربته المقدّسة .
وإلى هنا نكتفي بهذا القدر من الإجابة على هذا السؤال وإنْ أردت المزيد من التفصيل فيه فراجع كتاب (الأرض والتربة الحسينية) للمرحوم حجّة الإسلام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء (قدس سرّه) .
وفي الختام : أرى من المناسب أن أسجل هنا فقرة من كتاب ( أبو الشهداء ) تؤيّد الفقرات الأخيرة . قال العقاد وهو في معرض بيان ما اكتسبته أرض كربلاء من قدسية بسبب الحسين (عليه السّلام) : وليس في نوع الإنسان صفات علويات أنبل ولا ألزم له من الإيمان والفداء والإيثار ويقظة الضمير وتعظيم الحقّ ورعاية الواجب والجلد في المحنة والأنفة من الضيم والشجاعة في وجه الموت المحتوم . وهي ومثيلات لها من طرازها هي التي تجلّت في حوادث كربلاء منذ نزل بها ركب الحسين (عليه السّلام) ولم تجتمع كلّها ولا تجلّت قط في موطن من مواطن تجلّيها في تلك الحوادث التي جرت في كربلاء .
فـيا كربلا طلتِ السماءَ وربّما تناول عفواً حظَّ ذي السعي قاعدُ
لأنتِ وإن كنتِ الوضيعةَ نلتِ من جـوارهم مـا لـم تـنله الفراقدُ
هل يحدث إحياء ذكرى الحسين (عليه السّلام) تفرقة وحزازات طائفيّة بين المسلمين كما يزعم البعض ؟
قد يمرّ هذا السؤال على بعض الخواطر ويرد في أفكار بعض الناس وخاصّة شباب هذا العصر الذي نشطت فيه المحاولات الإلحادية وقويت فيه الدعاية ضدّ شعائر الدين ومظاهر الإسلام بكلّ صورها وفي مقدّمتها الشعائر الحسينية التي هي من صميم شعائر الله ومظاهر الدين . تلك الشعائر التي من أقوى الوسائل لنشر الوعي السياسي والاجتماعي والأخلاقي بين الأحداث والشباب .
ومن ثمّ نشطت الدعاية المعادية ضدّ هذه الشعائر الحسينية بكافّة أنواعها ؛ من عقد المآتم وتنظيم المواكب وغيرها . وكثيراً ما ترفع ضدّها شعارات مظلّة وخدّاعة باسم الدين وبالتظاهر بالحرص على وحدة المسلمين والاهتمام باتّفاق كلمتهم وتوحيد صفوفهم أمام العدو المشترك فيزعمون أنّ إحياء ذكرى ثورة الحسين (عليه السّلام) ينافي هذا الهدف ؛ بسبب ما تولّده هذه الذكرى من التفرقة الطائفية ؛ لأنّها ـ أي تلك الذكرى ـ تشتمل ـ كما يزعمون ـ على الطعن والتنديد والمسّ بكرامة بعض الصحابة وبعض خلفاء المسلمين وبعض رجال الاُمّة المحترمين ؛ ولذا يجب ترك هذه الشعائر وعدم إحياء تلك الذكرى حفاظاً على وحدة المسلمين .
هكذا تقول تلك الدعاية اليوم حسب ما نقرأ ونسمع منها بين حين وآخر .
والجواب عليها ببساطة هو أن نقول :
أوّلاً : إنّ ثورة الحسين (عليه السّلام) لم تخدم مصلحة الشيعة فحسب ولا مصلحة المسلمين فحسب بل خدمت مصلحة الإنسانية العُليا في كلّ زمان ومكان وعليه فالحسين ليس للشيعة فقط بل لجميع المسلمين ولكل الناس الخيرين في العالم وقد أجمعت كلمة الخبراء والعلماء بكنه ثورة الحسين وحقيقتها على أنّ واجب كلّ شعب وأمّة أن تحيي ذكرى الحسين (عليه السّلام) خدمة لمصلحة أبنائها وتربية لشبابها على الشعور بعزّة النفس وإباء الظلم والكرامة الإنسانية في حياتهم .
فذكرى ثورة الحسين (عليه السّلام) لا تفرّق بل بالعكس توحّد الكلمة على الحقّ والعدل.
ثانياً : إنّ الذي أمر بقتل الحسين (عليه السّلام) هو يزيد بن معاوية البالغ من العمر في ذلك اليوم إحدى وثلاثين عاماً فقط وإنّ الذي نفّذ الأمر هو عبيد الله بن زياد (لعنه الله) البالغ من العمر في ذلك اليوم ثمانية وعشرين عاماً وإنّ الذي باشر تنفيذ الأمر هو قائد الجيش عمر بن سعد بن أبي وقاص (لعنه الله) البالغ من العمر في ذلك اليوم حوالي خمسة وعشرين عاماً . وهم كما ترى ليسوا من صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالمعنى المعروف أي ليس منهم أحد أدرك الرسول (صلّى الله عليه وآله) وجالسه وسمع حديثه .
فمَنْ هم هؤلاء الصحابة الذين يخشى من الطعن بهم في إحياء ذكرى الحسين (عليه السّلام) ؟! نعم ربّما يتعرض في خلال الذكرى إلى معاوية بن أبي سفيان باعتباره مهّد الطريق إلى قتل الحسين (عليه السّلام) عن قصد أو غير قصد بتوليته ابنه على إمارة المسلمين .
ومعاوية معلوم الحال لدى الجميع أسلم قبل وفاة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بخمسة أشهر بعد أن ضاقت عليه الأرض وعلم أنّ الإسلام سيعمّ وينتشر فدخل في الإسلام خوفاً وطمعاً لا عن عقيدة وإيمان . وكان صعلوكاً مستحقراً لدى المسلمين ومعدوداً في المؤلّفة قلوبهم الذين لا يتجاوز الإسلام شفاههم ولا يؤمن شرّهم على المسلمين إلاّ بالمال .
والإدعاء بأنّ معاوية كان من كتّاب القرآن بين يدي النبي (صلّى الله عليه وآله) كذب وافتراء ؛ لمْ يوجّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى معاوية كتابة أي جزء من الوحي أو آية من القرآن .
نعم كان يكتب للرسول (صلّى الله عليه وآله) بعض الرسائل التي كان يرسلها النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى الملوك والرؤساء وكان المسلمون الواعين في حياة الرسول يزدرون معاوية ويكرهون مجالسته . ولا أشك أنّ المسلمين الواعين في عصرنا هذا ليس فيهم مَنْ يحبّ معاوية ويقدّسه ويحترمه وهو يقرأ ويسمع ما شاع وذاع وملأ الآفاق عن بدعه وآثامه وموبقاته إبان ملكه وإمارته .
تلك البدع والآثام التي ختمها بفرض ابنه يزيد الفاسق الماجن الخمّار السكّير فرضه خليفة على المسلمين من بعده فقتل آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأباح مدينة الرسول لجنده ثلاثة أيّام دماء وأموالاً وأعراضاً وأخيراً هدم الكعبة وأحرق أستارها .
فالغرض هو : أنّه لا يوجد في ذكرى ثورة الحسين ذكر لصحابة ولا لرجال دين محترمين يخشى أن يطعن فيهم أو تمسّ كرامتهم وبالتالي فإنّ هذه الذكرى المقدّسة لا تفرّق بين المسلمين أبداً .
نعم تفرّق بين المسلمين والمنافقين الدجّالين الذين هم على طراز معاوية ويزيد وابن زياد وعمر بن سعد . وهذا التفريق يرحّب به كلّ مسلم ويتمنّاه : ( لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ من الطّيّبِ ) . وهذه التفرقة هي من ثمرات ذكرى ثورة الحسين بلا شك ومن الأهداف المقصودة من إحيائها بل ومن أهداف ثورة الحسين (عليه السّلام) بالذات .
ثالثاً : كيف يعقل أن تكون ذكرى ثورة الحسين (عليه السّلام) مفرّقة للصف ومشتّتة للوحدة بين المسلمين مع أنّ ثورة الحسين (عليه السّلام) بالذّات ضربت أروع مثال للوحدة بين المسلين ؛ حيث جمعت بين أفراد مختلفين وأشخاص متباينين من حيث العنصر والقومية والدين والمذهب والوطن والسن والجنس .
وحدّت بينهم الثورة توحيداً كاملاً حتّى جعلتهم وكأنّهم جسم واحد وشخص واحد يتحرّكون
ويعملون وينطقون بإرادة واحدة ويد واحدة ولسان واحد وهم أصحاب الحسين (عليه السّلام) الذين كانوا حوالي الثلاثمئة والثلاثة عشر رجلاً .
كان فيهم العربي القرشي والعربي غير القرشي إلى جنب الفارسي والتركي والرومي والزنجي والمسيحي والمسلم السنّي والمسلم الشيعي من أقطار الحجاز والكوفة والبصرة واليمن منهم الفقير والغني والحرّ والعبد والرئيس والمرؤوس من مختلف مراحل العمر كالشيخ الكبير والكهل والشاب والمراهق والصبي . وكان معهم جملة من النساء من الهاشميات والعربيات يقدّر عددهن بحوالي العشرين امرأة .
أجل لقد قدّم الحسين من وحدة أصحابه نموذجاً كاملاً عن الوحدة الإنسانية العلميّة التي ينشدها الإسلام ودعا إليها القرآن وثار لأجل تحقيقها سيّد الشهداء أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام) ومن قبله أبوه الإمام علي (عليه السّلام) الذي هو القدوة المُثلى للمسلمين جميعاً في العمل لوحدة المسلمين والحفاظ عليها والتضحية في سبيلها بمصلحته ومصلحة أبنائه ومصلحة شيعته .
صبر على اغتصاب حقوقه وحقوق أهل بيته وشيعته خمساً وعشرين سنة مدّة حكم الخلفاء الثلاثة قبله ولقد تعاون مع الخلفاء الغاصبين لحقّه في الشؤون العامة وخدمة المصلحة العُليا بكلّ إمكاناته وطاقاته حسب ما هو معروف لدى الجميع . . . وكذلك جميع أبنائه الأئمّة الأحد عشر (عليهم السّلام) سالموا خلفاء الوقت وسايروا الحكومات الإسلاميّة على حساب مصلحتهم الخاصة وحقوقهم المشروعة ؛ لأجل صيانة الوحدة الإسلاميّة .
والخلاصة هي : إنّه ليس في شعائر الشيعة وذكرياتهم شعار ولا ذكرى تفرّق المسلمين أو تورث حزازات طائفية بينهم بل إنّ الذي يفرّق ويمزّق صف الوحدة الإسلاميّة ويثير الحزازات الطائفية والفتنة بين المسلمين هم اُولئك العملاء المأجورين من قبل الاستعمار وأعداء المسلمين الذين ينفثون سموم التفرقة بين حين وآخر بواسطة بعض
الكتب أو المقالات أو الخطب التي تحمل وتتحامل على الشيعة بالكذب والافتراء والتّهم والسبّ والشتم ونسبة الكفر والشرك إليهم بكلّ صراحة ووقاحة .
إنّ الذين يفرّقون كلمة المسلمين هم اُولئك الذين يكتبون عن الشيعة أنّهم صنيعة الصهيونية ومن أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي الذي ابتدع مذهب الشيعة . وعبد الله بن سبأ هذا قد أجمع الخبراء على أنّه اُسطورة خيالية لا وجود له إلاّ في أذهان هؤلاء الذين يريدون التشهير بالشيعة .
إنّ مذهب الشيعة في الإسلام إنّما هو مذهب أهل البيت (عليهم السّلام) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً . ذلك المذهب الذي يفرض التعاون بين المسلمين جميعاً على البرّ والتقوى ومصلحة الإسلام العُليا . ذلك المذهب الذي يعتبر المسلم أخاًً للمسلم شاء ذلك أمْ أبى ... . وأخيراً أقول : إنّ الشيعة لا يهاجمون ولا يعتدون بل يدافعون عن الحقّ وبالحقّ وليس في مذهب التشيّع شيء غير الحقّ .
وممّا يقوله المشاغبون على الشيعة أيضاً : هو أنّ الشيعة شُغلوا بالبكاء والعويل على الحسين (عليه السّلام) عن مصالحهم الحيويّة وقضاياهم المصيريّة فتخلّفوا عن ركب العالم علميّاً واقتصاديّاً وصناعيّاً وسياسيّاً .
أقول : إنّ قولهم هذا يذكّرني بقول بعض الملحدين الذين يقولون إنّ المسلمين شُغلوا بالصلاة والصيام والحلال والحرام عن مسايرة ركب التطوّر العالمي فظلّوا متخلّفين عن الاُمم الاُخرى .
أجل ما أشبه قول المشاغبين عن الشيعة بقول الملحدين عن المسلمين عامّة وما أقرب الدوافع والغايات للقولين . تلك الغايات التي تتلخّص بكلمة واحدة وهي (التشويه) فكلّ من القولين مغالطة مفضوحة لا تنطلي إلاّ على السذّج من عوام الناس وإلاّ فكلّ عاقل عارف يعلم يقيناً أنّ الإسلام بكلّ ما فيه لا دخل له في تخلّف المسلمين مطلقاً كما إنّ إحياء ذكرى عاشوراء بكلّ ما فيه لا دخل له في تخلّف الشيعة مطلقاً .
إنّ السبب الأساسي في تخلّف المسلمين عامّة والشيعة خاصّة في العصور الأخيرة هو الاستعمار الكافر بأساليبه وعملائه وسياساته .
وإنْ قلت : مَنْ الذي مكّن العدو المستعمر من السيطرة عليهم واستعمارهم ؟ قلت : هم الحكّام الخونة الذين اغتصبوا السلطة من أصحابها الشرعيين منذ العصور الأولى وبعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) على وجه التحديد وإلى اليوم .