الشعائر الحسينيه
الزيارة و فضلها

في البحار: روي في بعض مؤلفات الأصحاب عن ابن عباس قال: لما كنا في حرب صفين دعا علي (عليه السلام) ابنه محمد بن الحنفية و قال له: يا بني شد على عسكر معاوية فحمل على الميمنة حتى كشفهم ثم رجع إلى أبيه مجروحا فقال: يا أبتاه العطش العطش. فسقاه جرعة من الماء ثم صب الباقي بين درعه و جلده فو اللّه لقد رأيت علق الدم يخرج من حلق درعه فأمهله ساعة ثم قال له: يا بني شد على الميسرة فحمل على ميسرة عسكر معاوية فكشفهم ثم رجع و به جراحات و هو يقول: الماء الماء يا أباه فسقاه جرعة من الماء فصب باقيه بين درعه و جلده ثم قال: يا بني شد على القلب فحمل عليهم و قتل منهم فرسانا ثم رجع إلى أبيه و هو يبكي و قد أثقلته الجراح فقام إليه أبوه و قبل ما بين عينيه و قال له: فداك أبوك فقد سررتني و اللّه يا بني بجهادك هذا بين يدي فما يبكيك أ فرحا أم جزعا؟ فقال: يا أبة كيف لا أبكي و قد عرضتني للموت ثلاث مرات فسلمني اللّه و ها أنا مجروح كما ترى و كلما رجعت إليك لتمهلني عن الحرب ساعة ما أمهلتني و هذان أخواي الحسن و الحسين ما تأمرهما بشي‏ء من الحرب. فقام إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) و قبل وجهه و قال له: يا بني أنت ابني و هذان ابنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أ فلا أصونهما عن القتل. فقال: بلى يا أبتاه جعلني اللّه فداك و فداهما من كل سوء. انتهى‏.
أقول: إذا كان الحسين (عليه السلام) حاضرا في صفين و شاهدا ما فعل أمير المؤمنين بابنه محمد لما رجع من قتال الأعداء قائلا العطش العطش من سقيه الماء و صب باقيه بين درعه و جلده ليسكن عنه حرارة الجراحات من الحديد المحمى فكيف يكون حاله (عليه السلام) يوم عاشوراء إذا شهد ابنه علي بن الحسين راجعا من قتال الأعداء و قد أصابته جراحات كثيرة و هو يقول: يا أبه العطش قد قتلني و ثقل الحديد أجهدني و شكى إلى أبيه العطش و شدة وقع الحديد المحمى من درعه على جراحاته و لم يكن لأبيه (عليه السلام) ماء يبرد كبده و يسكن حرارة جراحاته فبكى (عليه السلام) و قال: وا غوثاه يا بني قاتل قليلا فما أسرع ما تلقى جدك محمدا (صلى اللّه عليه و آله) فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبدا .
و يحتمل أن يكون مراد علي بن الحسين من ثقل الحديد كثرة عسكر المخالفين و ما قاسى منهم فإنه سلام اللّه عليه اختص من بين الشهداء بكثرة الحملات و الشد على القوم حتى قال الراوي في حقه: و شد على الناس مرارا و قتل منهم جمعا كثيرا حتى ضج الناس من كثرة من قتل منهم‏ . و في بعض التواريخ أن حملاته بلغت اثنتي عشرة مرة .
و أما التعبير عن العسكر بالحديد فهذا تعبير شائع و قد تقدم كلام الشيخ الكشي في حبيب بن مظهر (رحمه الله)و كان حبيب من السبعين الرجال الذين نصروا الحسين (عليه السلام) و لقوا جبال الحديد- الخ‏ .
ثم إني لما ذكرت مقتله (عليه السلام) في نفس المهموم فاكتفي هاهنا عن ذكر مقتله بمختصر من الكلام:
كان علي بن الحسين (عليه السلام) من أصبح الناس وجها و أشبههم خلقا و خلقا و منطقا برسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و كان قد ربي في حجر عمه الحسن و أبيه الحسين و أدب بآدابهما كما يشهد لذلك ما في الزيارة المعتبرة المنقولة في‏ كاويب ويه‏ في السلام عليه «السلام عليك يا ابن الحسن و الحسين».
فلما لم يبق مع أبيه يوم عاشوراء سوى أهل بيته بعثته نفسه الأبية على مصادمة خيل أهل الغواية و حركته الحمية الهاشمية على اقتناص أرواح أهل الضلالة فخرج إلى القوم يسحب ذلاذل درعه آئسا من الحياة عازما على الموت و أبوه ينظر إليه نظرة آيس منه باكيا عينه محترقا قلبه مظهرا حزنه إلى اللّه تعالى كما في بعض المقاتل المعتبرة أنه (عليه السلام) رفع شيبته نحو السماء و كان لسان حاله: أصابتني مصيبة فجيعة و داهية عظيمة فإنما أشكو بثي و حزني إلى اللّه لأن الأخذ باللحية من علامة هجوم الحزن و كثرة الاغتمام كما أشار بذلك شيخنا رئيس المحدثين أبو جعفر بن بابويه القمي‏ فحمل علي بن الحسين (عليه السلام) على القوم و هو يقول:
أنا علي بن الحسين بن علي‏ نحن و بيت اللّه أولى بالنبي‏
أضربكم بالسيف حتى ينثني‏ ضرب غلام هاشمي علوي‏
و لا أزال اليوم أحمي عن أبي‏ تاللّه لا يحكم فينا ابن الدعي‏
فزحزح الناس عن أماكنهم و نهضهم عن مواضعهم حتى قتل على عطشه مائة و عشرين رجلا .
قال أبو الفرج: فجعل يشد عليهم ثم يرجع إلى أبيه فيقول يا أبا العطش فيقول له الحسين (عليه السلام) اصبر حبيبي فإنك لا تمسي حتى يسقيك رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بكأسه. و جعل يكر كرة بعد كرة حتى رمي بسهم فوقع في حلقه فخرقه و أقبل ينقلب في دمه ثم نادى: يا أبتاه عليك السلام هذا جدي رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يقرؤك السلام و يقول: عجل القدوم إلينا و شهق شهقة فارق الدنيا .
روى أهل السير و الاخبار أن النبي (صلى اللّه عليه و آله) مر بنفر من قريش و قد نحروا جزورا و كانوا يسمونها الفهيرة و يجعلونها على النصب فلم يسلم عليهم حتى انتهى إلى دار الندوة فقالت قريش: أ يمر بنا ابن أبي كبشة و لا يسلم علينا فأيكم يأتيه فيفسد عليه صلاته. فقال عبد اللّه بن الزبعرى السهمي: أنا أفعل فأخذ الفرث و الدم فانتهى به إلى النبي (صلى اللّه عليه و آله) و هو ساجد فملأ به ثيابه فانصرف النبي (صلى اللّه عليه و آله) حتى أتى عمه أبا طالب رضي اللّه عنه فقال له:
يا عم من أنا؟ فقال: و لم يا بن أخ فقص عليه القصة فقال: و أين تركتهم. فقال:
بالأبطح. فنادى في قومه: يا آل عبد المطلب يا آل هاشم يا آل عبد مناف فأقبلوا إليه من كل مكان ملبين فقال لهم: كم أنتم؟ قالوا: نحن أربعون. قال: خذوا سلاحكم فأخذوا سلاحهم فانطلق بهم حتى انتهى إليهم فلما رأت قريش أبا طالب أرادت أن تتفرق فقال: و رب البنية لا يقوم منكم أحد الا جللته بالسيف ثم أتى إلى صفاة كانت بالأبطح فضربها ثلاث ضربات فقطع منها ثلاثة أفهار ثم قال:
يا محمد سألت من أنت ثم أنشأ يقول:
أنت الأمين محمد قرم أغر مسود
لمسودين أكارم‏ طابوا و طاب المولد
نعم الأرومة أصلها عمرو الخضم الأوحد
هشم الربيكة في الجفان‏ و عيش مكة أنكد
فجرت بذلك سنة فيها الخبيزة تثرد
و لنا السقاية للحجيج‏ بها يماث العنجد
و المأزمان و ما حوت‏ عرفاتها و المسجد
أنى تضام و لم أمت‏ و أنا الشجاع العربد
و بنو أبيك كأنهم‏ أسد العرين توقد
و لقد عهدتك صادقا في القول لا تتفند
ما زلت تنطق بالصواب‏ و أنت طفل أمرد
مبدي النصيحة جاهدا و بك الغمامة ترعد
يسقي بوجهك صوبها قطراتها و الجدجد
فبك الوسيلة في الشدا ئد و الربيع المرفد
ثم قال: يا محمد أيهم الفاعل فأشار النبي (صلى اللّه عليه و آله) الى ابن الزبعرى‏ فدعاه أبو طالب فوجأ أنفه حتى أدماها ثم أمر بالفرث و الدم فأمر على‏ رءوس الملأ ثم قال: يا ابن أخ أرضيت. ثم قال: سألت من أنت أنت محمد بن عبد اللّه ثم نسبه إلى آدم (عليه السلام). قال: أنت و اللّه أشرفهم حسبا و أرفعهم منصبا يا معشر قريش من شاء منكم أن يتحرك فليفعل أنا الذي تعرفوني‏ .
أقول: ما ورد في نصرة أبي طالب لرسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يدا و لسانا و ذبه عنه فهو أكثر من أن يذكر و كان النبي (عليه السلام) في أيام الحصار إذا أخذ مضجعه و نامت العيون جاءه أبو طالب (رحمه الله)فأنهضه عن مضجعه و أضجع عليا (عليه السلام) مكانه و وكل عليه ولده و ولد أخيه فقال علي (عليه السلام): يا أبتاه إني مقتول ذات ليلة. فقال أبو طالب سلام اللّه عليه:
اصبرن يا بني فالصبر أحجى‏ كل حي مصيره لشعوب‏
قد بلوناك و البلاء شديد لفداء النجيب و ابن النجيب‏
ان تصبك المنون بالنبل تترى‏ فمصيب منها و غير مصيب‏
كل حي و إن تطاول عمرا آخذ من سهامها بنصيب‏
فقال علي (عليه السلام):
أ تأمرني بالصبر في نصر أحمد و و اللّه ما قلت الذي قلت جازعا
و لكنني أحببت أن تر نصرتي‏ و تعلم أني لم أزل لك طائعا
و سعيي لوجه اللّه في نصر أحمد نبي الهدى المحمود طفلا و يافعا
قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): ما زالت قريش كاعة عني حتى مات أبو طالب. الى غير ذلك‏ .
و لقد أجاد ابن أبي الحديد في قوله:
و لو لا أبو طالب و ابنه‏ لما مثل الدين شخص فقاما
فذاك‏ بمكة آوى و حامى‏ و ذاك بيثرب جر الحماما
الأبيات:
قلت: و لقد اقتدى بهما في ذلك سيدنا و مولانا العباس بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في نصرته لابن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و مواساته له فأشبه فعاله فعال آبائه فانظر إلى قول أبي طالب في نصرته لرسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في أيام الحصار:
فلا تحسبونا خاذلين محمدا لدى غربة منا و لا متقرب‏
ستمنعه منا يد هاشمية و مركبها في الناس أخشن مركب‏
ثم انظر إلى قول نافلته‏ أبي الفضل العباس (عليه السلام) في نصرته لابن رسول اللّه في يوم عاشوراء:
و اللّه إن قطعتم يميني‏ اني أحامي أبدا عن ديني‏
و عن إمام صادق اليقين‏ نجل النبي الطاهر الأمين‏
إلى غير ذلك و لعل إلى ذلك أشير في زيارته المنقولة عن الشيخ المفيد و غيره بهذه الفقرة «فألحقك اللّه بدرجة آبائك في دار جنات النعيم» .
روى الشيخ الأجل علي بن محمد الخزاز القمي‏ عن عمار أنه كان مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في بعض غزواته فقال له النبي في بعض حديثه: يا عمار سيكون بعدي فتنة فإذا كان ذلك فاتبع عليا و حزبه فإنه مع الحق و الحق معه يا عمار إنك ستقاتل بعدي مع علي في صفين الناكثين و القاسطين ثم تقتلك الفئة الباغية. قال: قلت يا رسول اللّه أ ليس ذلك على رضا اللّه و رضاك؟ قال: نعم على رضا اللّه و رضاي و يكون آخر زادك شربة من لبن تشربه.
فلما كان يوم صفين خرج عمار بن ياسر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: يا أخا رسول اللّه أ تأذن لي في القتال. قال: مهلا رحمك اللّه فلما كان بعد ساعة أعاد عليه الكلام فأجابه بمثله فأعاد عليه ثالثا فبكى أمير المؤمنين (عليه السلام) فنظر إليه عمار فقال: يا أمير المؤمنين إنه اليوم الذي وصف‏ لي رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فنزل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن بغلته و عانق عمارا و ودعه ثم قال: يا أبا اليقظان جزاك اللّه عن اللّه و عن نبيك خيرا فنعم الأخ كنت و نعم الصاحب كنت. ثم بكى (عليه السلام) و بكى عمار ثم قال: و اللّه يا أمير المؤمنين ما تبعتك إلا ببصيرة فإني سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يقول يوم حنين: يا عمار ستكون بعدي فتنة فإذا كان ذلك فاتبع عليا و حزبه فإنه مع الحق و الحق معه و ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين فجزاك اللّه يا أمير المؤمنين عن الإسلام أفضل الجزاء فلقد أديت و أبلغت و نصحت. ثم ركب و ركب أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم برز إلى القتال ثم دعا بشربة من ماء فقيل: ما معنا ماء. فقام إليه رجل من الأنصار فأسقاه شربة من لبن فشربه ثم قال: هكذا عهد إلي رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أن يكون آخر زادي من الدنيا شربة من اللبن. ثم حمل على‏ القوم فقتل ثمانية عشر فخرج إليه رجلان من أهل الشام فطعناه فقتل رحمة اللّه عليه.
فلما كان الليل طاف أمير المؤمنين (عليه السلام) في القتلى فوجد عمارا ملقى فجعل رأسه على فخذه ثم بكى و أنشأ يقول:
ألا أيها الموت الذي لست تاركي‏ أرحني فقد أفنيت كل خليل‏
أراك بصيرا بالذين أحبهم‏ كأنك تنحو نحوهم بدليل‏
قلت: إذا كان حال أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد قتل عمار هكذا فكيف حال ابنه الحسين (عليه السلام) بعد قتل أخيه و ناصره العباس و قد رآه ملقى على الأرض مقطوع اليدين معفر الخدين مضرجا بالدماء مرملا بالعراء.
روي أن في غزوة أحد لما قتل حمزة رضي اللّه عنه شق بطنه و أخذ كبده و مثل به فلما وضعت الحرب أوزارها قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): من له علم بعمي حمزة؟ فقال له الحارث بن صمة: أنا أعرف موضعه. فجاء حتى وقف على حمزة فكره أن يرجع الى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فيخبره فقال رسول اللّه لأمير المؤمنين: يا علي أطلب عمك. فجاء علي (عليه السلام) فوقف على حمزة فكره أن يرجع إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فجاء رسول اللّه حتى وقف عليه فلما رأى ما فعل به بكى ثم قال: اللهم لك الحمد و إليك المشتكى و أنت المستعان على ما أرى. ثم قال: لئن ظفرت لأمثلن و لأمثلن‏ فأنزل اللّه عز و جل‏ وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ‏. فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): أصبر أصبر .
و روي أن النبي (صلى اللّه عليه و آله) ألقى على حمزة بردة كانت عليه فكانت إذا مدها على رأسه بدت رجلاه و إذا مدها على رجليه بدا رأسه فمدها على رأسه‏ و ألقى على رجليه الحشيش و قال: لو لا أن أحزن نساء عبد المطلب لتركته للعقبان و السباع حتى يحشر يوم القيامة من بطون السباع و الطير .
و أما العباس سلام اللّه عليه فقد انفلقت هامته في يوم عاشوراء و قطعت يداه و قتل بعد أن أثخن بالجراح و أخذ حكيم بن الطفيل أخزاه اللّه سلبه فلما رآه الحسين (عليه السلام) بكى. و حكي عنه (عليه السلام) قال: الآن انكسر ظهري و قلت حيلتي‏ .
و يحق له (عليه السلام) أن يقول ذلك فقد حكي أنه قدم لقمان من سفر فلقي غلامه في الطريق فقال: ما فعل أبي؟ قال: مات. قال: ملكت أمري. قال: ما فعلت امرأتي. قال: ماتت. قال: جدد فراشي. قال: ما فعلت أختي؟ قال:
ماتت. قال: سترت عورتي. قال: ما فعل أخي؟ قال: مات. قال: انقطع ظهري‏ .
و حكي أنه لما توفي السيد الرضي رضي اللّه عنه في ست خلون من المحرم سنة ست و أربعمائة حضر الوزير فخر الملك و جميع الأعيان و الأشراف و القضاة جنازته و الصلاة عليه و مضى أخوه السيد المرتضى رضي اللّه تعالى عنه‏ من جزعه إلى مشهد جده موسى بن جعفر صلوات اللّه عليه لأنه لم يستطع أن ينظر جنازة أخيه و دفنه و صلى عليه فخر الملك أبو غالب و مضى بنفسه آخر النهار إلى السيد المرتضى إلى المشهد الكاظمي سلام اللّه على من شرفه فألزمه بالعود إلى داره و رثاه أخوه المرتضى بأبيات منها:
يا للرجال لفجعة جذمت يدي‏ و وددت لو ذهبت علي برأسي‏
ما زلت أحذر ردها حتى أتت‏ فحسوتها في بعض ما أنا حاسي‏
و مطلتها زمنا فلما صممت‏ لم يثنها مطلي و طول مكاسي‏
ورثاه تلميذه مهيار الديلمي بقصيدة منها قوله:
بكر النعي من الرضي بمالك‏ غاياتها متعودا الكنى أقدامها
كلح الصباح بموته عن ليلة نفضت على وجه الصباح ظلامها
بالفارس العلوي شق غبارها و الناطق العربي شق كلامها
سلب العشيرة يومه مصباحها مصلاحها عمالها علامها
برهان حجتها التي بهرت به‏ أعداؤها و تقدمت أعمامها
ورثاه بقصيدة أخرى مطلعها:
أ قريش لا نعم أراك و لا يد فتواكلي غاض الندى و خلا الندى‏
و لقد رثى العباس سلام اللّه عليه حفيده الفضل بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد اللّه بن العباس رضي اللّه عنهم:
إني لأذكر للعباس موقفه‏ بكربلاء و هام القوم تختطف‏
يحمي الحسين و يحميه على ظم ى‏ء و لا يولي و لا يثني فيختلف‏
و لا أرى مشهدا يوما كمشهده‏ مع الحسين عليه الفضل و الشرف‏
أكرم به مشهدا بانت فضيلته‏ و ما أضاع له أفعاله خلف‏
و أنا أسترق جدا من رثاء أمه فاطمة أم البنين رضي اللّه عنهما الذي أنشده أبو الحسن الأخفش في شرح الكامل و قد كانت تخرج إلى البقيع كل يوم ترثيه و تحمل ولده عبيد اللّه فيجتمع لسماع رثائها أهل المدينة و فيهم مروان بن الحكم فيبكون بشجى الندبة قولها رضي اللّه عنها:
يا من رأى العباس كر على جماهير النقد
و وراه من أبناء حيدر كل ليث ذو لبد
انبئت أن ابني أصيب‏ برأسه مقطوع يد
ويلي على شبلي أمال‏ برأسه ضرب العمد
لو كان سيفك في يديك‏ لما دنا منه أحد
(و قولها:)
لا تدعوني ويك أم البنين‏ تذكريني بليوث العرين‏
كانت بنون لي ادعى بهم‏ و اليوم أصبحت و لا من بنين‏
اربعة مثل نسور الربى‏ قد واصلوا الموت بقطع الوتين‏
تنازع الخرصان أشلاءهم‏ فكلهم أمسى صريعا طعين‏
يا ليت شعري أ كما أخبروا بأن عباسا قطيع اليمين‏
التهاب نيران الأحزان بذكر رثاء فاطمة عليها السلام لأبيها سيد الانس و الجان‏
أقول: إني لما ذكرت رثاء أم البنين رأيت أن أذكر ما رثت به فاطمة عليها السلام أباها بعد أن نذكر نبذا من حزنها و بكائها.
اعلم أنه لما قبض رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) صارت المدينة ضجة واحدة فلم يكن الا باك و باكية و نادب و نادبة و عظم رزؤه على أهل بيته الطيبين سيما علي ابن عمه و أخيه أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه فنزل به من وفاة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) ما لم يكن يظن الجبال لو حملته كانت تنهض به و لم يكن في أهل بيته أشد حزنا من سيدتنا المظلومة فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها فقد دخل عليها من الحزن ما لم يعلمه الا اللّه عز و جل و كان حزنها يتجدد و بكاؤها يشتد فلا يهدأ لها أنين و لا يسكن منها الحنين و كل يوم جاء كان بكاؤها أكثر من اليوم الأول.
فقالت ذات يوم: إني اشتهي أن أسمع صوت مؤذن أبي بالأذان فبلغ ذلك بلالا و كان امتنع من الأذان بعد النبي (صلى اللّه عليه و آله) فأخذ في الأذان فلما قال «اللّه أكبر اللّه أكبر» ذكرت عليها السلام أباها و أيامه فلم تتمالك من البكاء فلما بلغ إلى قوله «أشهد أن محمدا رسول اللّه» شهقت فاطمة صلوات اللّه عليها و سقطت لوجهها و غشي عليها فقال الناس لبلال: أمسك يا بلال فقد فارقت ابنة رسول اللّه الدنيا و ظنوا أنها قد ماتت فقطع أذانه و لم يتمه فأفاقت فاطمة عليها السلام فسألته أن يتم الأذان فلم يفعل و قال لها: يا سيدة النسوان إني أخشى عليك مما تنزلينه بنفسك إذا سمعت صوتي بالأذان فأعفته عن ذلك‏ .
قال الراوي: إنها ما زالت بعد أبيها معصبة الرأس ناحلة الجسم منهدة الركن باكية العين محترقة القلب يغشى عليها ساعة بعد ساعة و تقول لولديها: أين أبوكما الذي كان يكرمكما و يحملكما مرة بعد مرة أين أبوكما الذي كان أشد الناس شفقة عليكما فلا يدعكما تمشيان على الأرض و لا أراه يفتح هذا الباب أبدا و لا يحملكما على عاتقه كما لم يزل يفعل بكما . فكانت كما أخبر عن يومها ذلك أبوها صلوات اللّه عليه و آله محزونة مكروبة باكية تتذكر انقطاع الوحي عن بيتها مرة و تتذكر فراق والدها أخرى و تستوحش إذا جنها الليل لفقد صوته الذي كانت تسمع إليه إذا تهجد بالقرآن ثم ترى نفسها ذليلة بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة و كانت ترثي أباها و تقول:
إذا اشتد شوقي زرت قبرك باكيا أنوح و أشكو لا أراك مجاوبي‏
فيا ساكن الصحراء علمتني البكاء و ذكرك أنساني جميع المصائب‏
فإن كنت عني في التراب مغيبا فما كنت عن قلبي الحزين بغائب‏
و لها أيضا في رثاء أبيها صلوات اللّه عليهما كما في الدر النظيم للشيخ جمال الدين يوسف الشامي:
قل للمغيب تحت أثواب الثرى‏ ان كنت تسمع صرختي و ندائيا
صبت علي مصائب لو أنها صبت على الأيام صرن لياليا
قد كنت ذات حمى بظل محمد لا أخش من ضيم و كان حما ليا
فاليوم أخضع للذليل و أتقي‏ ضيمي و أدفع ظالمي بردائيا
فإذا بكت قمرية في ليلها شجنا على غصن بكيت صباحيا
فلأجعلن الحزن بعدك مونسي‏ و لأجعلن الدمع فيك وشاحيا
و روى الشيخ علي بن محمد الخزاز القمي عن محمود بن لبيد قال: لما قبض رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) كانت فاطمة عليها السلام تأتي قبور الشهداء و تأتي قبر حمزة رضي اللّه عنه و تبكي هناك فلما كان في بعض الأيام أتيت قبر حمزة فوجدتها تبكي هناك فأمهلتها حتى سكنت فأتيتها و سلمت عليها و قلت: يا سيدة النسوان قد و اللّه قطعت أنياط قلبي من بكائك. فقالت: يا با عمرو يحق لي البكاء فلقد أصبت بخير الآباء رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) وا شوقاه إلى رسول اللّه ثم أنشأت تقول:
إذا مات يوما ميت قل ذكره‏ و ذكر أبي مذ مات و اللّه أكثر
و قال المحقق رحمة اللّه عليه في المعتبر و الشيخ الشهيد «قده» في الذكرى‏ : روي أنها صلوات اللّه عليها أخذت قبضة من تراب قبر النبي (صلى اللّه عليه و آله) فوضعتها على عينها و قالت:
ما ذا على المشم تربة أحمد إن لا يشم مدى الزمان غواليا
صبت علي مصائب لو أنها صبت على الأيام صرن لياليا
أقول: و لقد أجاد البوصيري في قوله في مدح النبي (صلى اللّه عليه و آله):
لا طيب يعدل تربا شم أعظمه‏ طوبى لمنتشق منه و منتسم‏
و لقد فعلت سلام اللّه عليها بتربته الطيبة ما يفعل بالورد و الريحان فقد روي عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) قال: إذا أتي أحدكم بريحان فليشمه و ليضعه على‏ عينيه فإنه من الجنة .
و يناسب هاهنا ذكر ما رواه الشيخ جمال الدين يوسف الشامي تلميذ المحقق قدس اللّه روحيهما عن هشام بن محمد قال: لما أجري الماء على قبر الحسين (عليه السلام) نضب بعد أربعين يوما و امتحى أثر القبر فجاء أعرابي من بني أسد فجعل يأخذ قبضة قبضة و يشمه حتى وقع على قبر الحسين (عليه السلام) فبكى حين شمه و قال: بأبي و أمي ما كان أطيبك و أطيب قبرك و تربتك ثم أنشأ يقول:
أرادوا ليخفوا قبره عن وليه‏ و طيب تراب القبر دل على القبر
قلت: إني ذكرت في نفس المهموم أن المتوكل أمر بكراب قبر الحسين (عليه السلام) و محوه و اخراب كل ما حوله فكربوه و أجري الماء حوله و وكل به مسالح بين كل مسلحتين ميل لا يزوره زائر إلا أخذوه و وجه به إليه.
قال أبو الفرج: حدثني محمد بن الحسين الأشناني قال: بعد عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفا ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها و ساعدني رجل من العطارين على ذلك فخرجنا زائرين نكمن النهار و نسير الليل حتى أتينا نواحي الغاضرية و خرجنا منها نصف الليل فسرنا بين مسلحتين و قد ناموا حتى أتينا القبر فخفي علينا فجعلنا نتسمه و نتحرى حتى أتيناه و قد قلع الصندوق الذي كان حواليه و أحرق و أجري الماء عليه فانخسف موضع اللبن و صار كالخندق فزرناه و أكببنا عليه فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها قط من الطيب فقلت للعطار الذي كان معي: أي رائحة هذه؟ فقال: لا و اللّه ما شممت مثلها بشي‏ء من العطر فودعنا و جعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين و الشيعة حتى صرنا الى القبر فأخرجنا تلك العلامات و أعدناه إلى ما كان عليه‏ .
أقول: فما أحقه صلوات اللّه عليه بهذه الفقرة المنيفة في زيارته الشريفة «أشهد لقد طيب اللّه بك التراب و أوضح بك الكتاب» .
رأيت في ديوان سيدنا الأجل الشهيد السيد نصر اللّه الحائري قدس اللّه روحه‏ أنه حكى له بعض من يوثق به من أهل البحرين حماها اللّه من طوارق الزمان أن بعض الأخيار رأى في المنام فاطمة الزهراء عليها السلام مع لمة من النساء و هن ينحن على الحسين المظلوم (عليه السلام) ببيت من الشعر و هو هكذا:
وا حسيناه ذبيحا من قفا وا حسيناه غسيلا بالدما
فذيله صاحب الديوان‏ بقوله:
وا غريبا قطنه شيبته‏ اذ عدا كافوره عفر الثرى‏
وا سليبا نسجت أكفانه‏ من ثرى الطف دبور و صبا
وا طعينا ما له نعش سوى‏ الرمح في كف سنان ذي الخنا
وا وحيدا لم يغمض طرفه‏ كف ذي رفق به في كربلا
وا صريعا أوطئوا خيلهم‏ أي صدر منه للعلم حوى‏
وا ذبيحا يتلظى عطشا و ابوه صاحب الحوض غدا
وا قتيلا حرقوا خيمته‏ و هي للدين الحنيفي وعا
آه لا أنساه فردا ما له‏ من معين غير ذي دمع أسى‏
و يشبه هذا ما حكي عن بعض الدواوين: أن رجلا من الصلحاء رأى في منامه سيدتنا فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها فأمرته أن يأمر أحد الشعراء من مواليها السعداء بنظم قصيدة في رثاء سيد الشهداء (عليه السلام) يكون أولها (من غير جرم الحسين يقتل) فامتثل أمرها السيد الحائري المذكور على منوال ما أمرت و القصيدة هذه:
من غير جرم الحسين يقتل‏ و بالدماء جسمه يغسل‏
و ينسج الأكفان من عفر الثرى‏ له جنوب و صبا و شمأل‏
و قطنه شيبته و نعشه‏ رمح له الرجس سنان يحمل‏
و يوطئون صدره بخيلهم‏ و العلم فيها و الكتاب المنزل‏

القصيدة و تمامها في كتاب دار السلام فيما يتعلق بالرؤيا و المنام‏ .
(كتاب الأغاني): في أول الجزء السابع منه في أخبار السيد الحميري: و ذكر التميمي و هو علي بن إسماعيل عن أبيه قال: كنت عند أبي عبد اللّه جعفر بن محمد (عليه السلام) إذ استأذن آذنه للسيد فأمره بإيصاله و أقعد حرمه خلف ستر و دخل فسلم و جلس فاستنشده فأنشده قوله:
امرر على جدث‏ الحسين‏ فقل لأعظمه الزكية
أ أعظما لا زلت من‏ وطفاء ساكبة روية
و إذا مررت بقبره‏ فأطل به وقف المطية
و ابك المطهر للمطهر و المطهرة النقية
كبكاء معولة أتت‏ يوما لواحدها المنية
قال: فرأيت دموع جعفر بن محمد (عليه السلام) تنحدر على خديه و ارتفع الصراخ و البكاء من داره حتى أمره بالامساك فأمسك‏ .
قال الشيخ أبو محمد عبد الملك بن هشام البصري نزيل مصر المتوفى بمصر سنة 213 ثلاث عشرة و مائتين أو ثمان عشرة و مائتين في كتاب السيرة النبوية عن عدي بن حاتم قال: كان يقول فيما بلغني: ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و سلم حين سمع به مني أما أنا فكنت امرأ شريفا و كنت نصرانيا و كنت أسير في قومي بالمرباع (أي كان يأخذ ربع الغنيمة كما هو عادة سادات العرب في الجاهلية) فكنت في نفسي على دين و كنت ملكا في قومي لما كان يصنع بي فلما سمعت برسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) كرهته فقلت لغلام كان لي عربي و كان راعيا لابلي: لا أبا لك أعدد لي من إبلي أجمالا ذللا سمانا فاحتبسها قريبا مني فإذا سمعت بجيش لمحمد (صلى اللّه عليه و آله) قد وطى‏ء هذه البلاد فآذني‏ ففعل ثم إنه أتاني ذات غداة فقال: يا عدي ما كنت صانعا إذ غشيتك خيل محمد له فاصنعه الآن فإني قد رأيت رايات فسألت عنها فقالوا: هذه جيوش محمد (صلى اللّه عليه و آله). فقلت: فقرب إلي أجمالي فقربها فاحتملت بأهلي و ولدي ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام.
قال: فبكى و تهايج النساء قال: فلما أن سكتن قال لي: يا با هارون من أنشد في الحسين فأبكى عشرة فله الجنة ثم جعل ينتقص واحدا واحدا حتى بلغ الواحد فقال: من أنشد في الحسين فأبكى واحدا فله الجنة ثم قال: من ذكره فبكى فله الجنة «منه».
الحوشية و خلفت بنتا لحاتم في الحاضر فلما قدمت الشام أقمت بها و تخالفني خيل لرسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فتصيب ابنة حاتم فيمن أصابت أي سبيت فيمن سبى فقدم بها على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في سبايا من طي و قد بلغ رسول اللّه هربي الى الشام. قال: فجعلت بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد و كانت السبايا تحبس فيها فمر بها رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فقامت إليه و كانت امرأة جزلة أي عاقلة أصيلة الرأي فقالت: يا رسول اللّه هلك الوالد و غاب الوافد فامنن علي من اللّه عليك. قال: و من وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم. قال: الفار من اللّه و رسوله. قالت: ثم مضى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و تركني حتى إذا كان من الغد مرّ بي فقلت له مثل ذلك و قال لي مثل ما قال بالأمس. قالت: حتى إذا كان بعد الغد مر بي و قد يئست منه فأشار إلي رجل من خلفه أن قومي فكلميه.
قالت: فقمت إليه فقلت: يا رسول اللّه هلك الوالد و غاب الوافد فامنن علي من اللّه عليك. فقال (صلى اللّه عليه و آله): قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك الى بلادك ثم آذنيني. فسألت من الرجل الذي أشار إلي أن أكلمه فقيل علي بن أبي طالب و أقمت حتى قدم ركب من بلى أو قضاعة . قالت: و إنما أريد أن آتي أخي بالشام فجئت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فقلت: يا رسول اللّه قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة و بلاغ. قالت:
فكساني رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و حملني و أعطاني نفقة فخرجت معهم حتى قدمت الشام. انتهى‏ .
أقول: انظر إلى سيرة النبي (صلى اللّه عليه و آله) مع الكفار و إلى قوله اكرموا
كريم كل قوم‏ ثم انظر إلى سيرة بني أمية مع أهل بيته.
قال أهل السير : و أدخل عيال الحسين (عليه السلام) على ابن زياد فدخلت زينب أخت الحسين في جملتهم متنكرة و عليها أرذل ثيابها فمضت حتى جلست ناحية من القصر و حف بها إماؤها فقال ابن زياد: من هذه التي انحازت ناحية و معها نساؤها؟ فلم تجبه زينب فأعاد ثانية و ثالثة يسأل عنها فقال له بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول اللّه «ص». فأقبل عليها ابن زياد و قال لها: الحمد للّه الذي فضحكم و قتلكم و أكذب أحدوثتكم. فقالت زينب: الحمد للّه الذي أكرمنا بنبيه محمد (صلى اللّه عليه و آله) و طهرنا من الرجس تطهيرا إنما يفتضح الفاسق و يكذب الفاجر و هو غيرنا و الحمد للّه. فقال ابن زياد: كيف رأيت فعل اللّه بأهل بيتك. قالت: ما رأيت الا جميلا هؤلاء قوم كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم و سيجمع اللّه بينك و بينهم فتحاج و تخاصم فانظر لمن يكن الفلج هبلتك‏ امك يا بن مرجانة. فغضب ابن زياد و استشاط.
قلت: عيرته زينب سلام اللّه عليها بأمه مرجانة الزانية المشهورة التي أشار إليها أبو زينب‏ سلام اللّه عليه في قوله لميثم التمار «و ليأخذنك العتل الزنيم ابن الأمة الفاجرة عبيد اللّه بن زياد» و أشار إليها سراقة الباهلي في هذا البيت:
لعن اللّه حيث حل زيادا و ابنه و العجوز ذات البعول‏

كما عيرت سلام اللّه عليها يزيد بأن نسبته إلى جدته هند آكلة الأكباد في خطبتها في مجلسه حيث قالت: و كيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء
و نبت لحمه من دماء الشهداء . و من تأمل في ذلك يعرف أنها كيف أحرقت قلب يزيد اخزاه اللّه و لعنه و أخرسته عن الكلام و ذلك لأن يزيد افتخر بخندف زوجة الياس بن مضر أم مدركة أحد أجداد قريش في قوله:
لست من خندف ان لم أنتقم‏ من بني أحمد ما كان فعل‏
فكأنها قالت له لا تذكر خندف التي بينك و بينها ثلاثة عشر أبا بل اذكر جدتك القريبة هند و أفعالها.
كان الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) رجلا جليلا يلي صدقات أمير المؤمنين (عليه السلام) في وقته و كان له مع الحجاج خبر و حضر مع عمه الحسين (عليه السلام) كربلاء فلما قتل الحسين و أسر الباقون من أهله جاء أسماء بن خارجة فانتزعه من بين الأسارى و يقال أنه أسر و كان به جراح قد أشفي منها .
و روي أنه خطب إلى عمه (عليه السلام) إحدى ابنتيه فقال له الحسين: اختر يا بني أحبهما إليك فاستحيى الحسن فاختار له عمه فاطمة لأنها كانت أكثرهما شبها بفاطمة الزهراء صلوات اللّه عليها .
و قبض الحسن بن الحسن و له خمس و ثلاثون سنة و ضربت زوجته فاطمة على قبره فسطاطا و كانت تصوم النهار و تقوم الليل إلى سنة نقل ذلك الشيخ المفيد و كثير من علماء الشيعة و السنة و كان هذا شائعا بين النساء المحترمات الحانيات.
قال ابن الأثير في أحوال الرباب امرأة الحسين (عليه السلام): و بقيت بعده سنة لم يظلها سقف بيت حتى بليت و ماتت كمدا و قيل إنها أقامت على قبره سنة و عادت إلى المدينة فماتت أسفا عليه. انتهى‏ .
و حكي أنه لما بلغ موت لبيد بن ربيعة الشاعر عم حزام والد أم البنين أم العباس ابن أمير المؤمنين (عليه السلام) أوصى بنتيها بالنياحة عليه سنة فقال:
و نائحتان تندبان بعاقل‏ أخي ثقة لا عين منه و لا أثر
فقوما و قولا بالذي تعلمانه‏ و لا تخمشا وجها و لا تحلقا شعر
الى الحول ثم اسم السلام عليكما و من يبك حولا كاملا فقد اعتذر
فناحت بنتاه سنة كاملة كما أنه نيح على الحسين (عليه السلام) سنة كل يوم و ليلة.
و حكي عن فاطمة زوجة الحسن أنه لما كانت رأس السنة قالت لمواليها: إذا أظلم الليل فقوضوا هذا الفسطاط فلما أظلم الليل و قوضوه سمعت قائلا «هل وجدوا ما فقدوا» فأجابه آخر «بل يئسوا فانقلبوا» قيل فتمثلت فاطمة ببيت لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما و من يبك حولا كاملا فقد اعتذر
فظهر مما ذكرنا كذب ما نقله أبو الفرج الأصفهاني المرواني عن زبير بن‏
روى ابن الأثير في كامله عند ذكر سيرة المعتصم أنه قدم الزبير بن بكار العراق هاربا من العلويين لأنه كان ينال منهم فتهددوه فهرب منهم و قدم على عمه مصعب بن عبد اللّه بن الزبير و شكا إليه حاله و خوفه من العلويين و سأله انهاء حاله الى المعتصم. الخ.
و روى الصدوق [في العيون 2/ 224] أنه استحلف الزبير بن بكار رجل بين القبر و المنبر-
ص:611
بكار الزبيري المعروف عداوته و عداوة آبائه للعلويين و أولاد الأئمة الطاهرين في مقاتل الطالبيين‏ في ذكر ابنها محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان أنها بعد انقضاء عدتها تزوجها عبد اللّه بالتفصيل الذي لا يرضى مسلم غيور بنقله فضلا عمن كان من أهل الايمان و لا غرو منه‏ في نقل ذلك و أمثاله فإنه عرقت فيه عروق أمية و مروان. و العجب أنه روى بعد ذلك عن أحمد بن سعيد في أمر تزويجه إياها ما يكذب هذه الرواية الموضوعة أيضا فإنه روى مسندا عن اسماعيل بن يعقوب أن فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) لما خطبها عبد اللّه أبت أن تتزوجه فحلفت أمها عليها أن تزوجه و قامت في الشمس و آلت أن لا تبرح حتى تزوجه فكرهت فاطمة أن تحرج فتزوجته‏ .
فصل‏
اعلم أن في قرب حلب مشهدا يسمى مشهد السقط و مشهد الدكة على‏ جوشن و هو بالفتح ثم السكون و الشين المعجمة جبل مطل‏ على حلب فيه مقابر و مشاهد للشيعة.
منها: مقبرة قطب المحدثين ابن شهرآشوب صاحب المناقب.
و منها: مقبرة العالم الفاضل الجليل الفقيه السيد الأجل أبي المكارم بن زهرة الحسيني الحلبي و بيت بني زهرة بيت شريف بحلب و لهم تربة مشهورة.
و منها: مقبرة أحمد بن منير العاملي المذكور حاله في أمل الآمل‏ و غيرهم رضوان اللّه عليهم أجمعين.
و السقط هو محسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) و إني تشرفت بزيارته في هذه السنة و هي سنة اثنتين و أربعين بعد ثلاثمائة و ألف في مرجعي من زيارة بيت اللّه الحرام و شاهدت عمارة المشهد الشريف و كانت مبنية من صخور عظيمة في نهاية الاتقان و الاستحكام و لكن الأسف أنها لأجل المحاربة الواقعة بحلب تهدمت بنيانها و هي الآن مخروبة منهدمة ساقطة حيطانها على سقوفها خاوية على عروشها.
قال الحموي في معجم البلدان: جوشن جبل في غربي حلب و منه يحمل النحاس الأحمر و هو معدنه و يقال أنه بطل منذ عبر عليه سبي الحسين بن علي عليهما السلام و كانت زوجة الحسين (عليه السلام) حاملا فأسقطت هناك فطلبت من الصناع في ذلك الجبل خبزا أو ماء فشتموها و منعوها فدعت عليهم فمن الآن من عمل فيه لا يربح و في قبلي الجبل مشهد يعرف بمشهد السقط و مشهد الدكة و السقط سمي محسن بن الحسين رضي اللّه عنه. انتهى‏ .
قلت: و أهل حلب يعبرون عنه بالشيخ محسن بفتح الحاء و شد السين‏
المكسورة و أول من عمر هذا المشهد على ما أعلم سيف الدولة الحمداني.
قال ضياء الدين يوسف بن يحيى بن الحسين الصنعاني المتوفى سنة 1111 في كتاب نسمة السحر بذكر من تشيع و شعر و قد رأيت مجلدا منه في المشهد الغروي على ساكنه السلام قال في أحوال سيف الدولة: و ذكر ابن طي في تاريخ حلب أن سيف الدولة هو الذي عمر مشهد الدكة بظاهر حلب بسبب أنه رأى نورا على مكانه و هو بأحد مناظره في حلب فلما أصبح ركب إلى هناك و أمر بالحفر فوجد حجرا مكتوبا عليه هذا المحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) فجمع العلويين و سألهم فقال بعضهم: إنهم لما مروا بالسبي أيام يزيد من حلب فطرحت إحدى نساء الحسين (عليه السلام) بهذا الولد فعمره سيف الدولة و قال: إن اللّه أذن لي في عمارته على اسم بنت نبيه و يعرف الموضع بالجوشن.
فوائد
(الأولى) اعلم أن ممن كان مع الحسين (عليه السلام) من أهل بيته و لم يقتل فيمن لم يقتل منهم محمد بن عمر بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) و كان له فضل و جلالة.
قال شيخنا الاقدم الثقة الفقيه الأجل أبو الصلاح تقي الدين بن النجم الحلبي في محكي تقريب المعارف: و رووا عن عبيد اللّه بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: شهدت أبي محمد بن عمر و محمد بن عمر ابن الحسن و هو الذي كان مع الحسين (عليه السلام) بكربلاء و كانت الشيعة تنزله بمنزلة أبي جعفر (عليه السلام) يعرفون حقه و فضله. قال: فكلمه في أبي فلان فقال محمد بن عمر بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) لأبي: اسكت فإنك عاجز و اللّه انهما لشركاء في دم الحسين (عليه السلام) .
قلت: و كان أبوه عمر بن الحسن من أم القاسم و عبد اللّه بني الحسن و أمهم أم ولد.
قال الشيخ المفيد في الارشاد: و أما عمرو و القاسم و عبد اللّه بنو الحسن بن علي (عليهم السلام) فإنهم استشهدوا بين يدي عمهم الحسين بن علي (عليه السلام) بالطف رضي اللّه عنهم و أرضاهم‏ .
(الثانية): البحار في حديث المفضل بن عمر عن الصادق (عليه السلام) في فضل كربلاء قال: و إن الدالية التي غسل فيها رأس الحسين (عليه السلام) فيها غسلت مريم عيسى و اغتسلت لولادتها .
(الثالثة): في مكارم الأخلاق عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: كان الحسين (عليه السلام) يخضب رأسه بالوسمة و كان يصدع رأسه و عندنا لفافة رأسه التي كان يلف بها رأسه‏ .
خاتمة (فيها نصائح كافية و مواعظ شافية)
ينبغي لأهل المنبر و قراء التعزية مراعاة أشياء حتى يصيروا ممن عظم شعائر اللّه و وفق لهداية عباد اللّه:
(الأول): الاخلاص و الاجتناب من الرياء.
فقد روي عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) قال: إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قيل: و ما الشرك الأصغر يا رسول اللّه؟ قال: الرياء قال يقول اللّه عز و جل يوم القيامة إذا جاز العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا هل تجدون عندهم ثواب أعمالكم‏ .
و قال الصادق (عليه السلام) لعباد بن كثير البصري في المسجد: ويلك يا عباد إياك و الرياء فإنه من عمل لغير اللّه وكله اللّه الى من عمل له‏ .
فينبغي أن يقصد بوعظه وجه اللّه تعالى و امتثال أمره و إصلاح نفسه و إرشاد عباده إلى معالم دينه و لا يقصد بذلك عرض الدنيا فيصير من الأخسرين‏ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً . و مرتبة الاخلاص عظيمة المقدار كثيرة الأخطار دقيقة المعنى صعبة المرتقى يحتاج طالبها إلى نظر دقيق و مجاهدة تامة و ينبغي أن يعمل بما يقول لئلا يصير مثله مثل السراج يضي‏ء للناس و يحرق نفسه‏ .
(الثاني): الصدق.
فقد روي عن الصادق (عليه السلام): إن اللّه عز و جل لم يبعث نبيا الا بصدق الحديث و أداء الأمانة الى البر و الفاجر .
و عن أبي كهمش قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): عبد اللّه بن أبي يعفور يقرؤك السلام. قال: عليك و (عليه السلام) إذا أتيت عبد اللّه فاقرئه مني السلام و قل له: إن جعفر بن محمد يقول لك: انظر ما بلغ به علي (عليه السلام) عند رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فالزمه فإن عليا إنما بلغ ما بلغ به عند رسول اللّه بصدق الحديث و أداء الأمانة .
و قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل و سجوده فإن ذلك شي‏ء اعتاده فلو تركه استوحش لذلك و لكن انظروا إلى صدق حديثه و أداء أمانته‏ .
فيجتنب الكذب و الافتراء على اللّه تعالى و على حججه و على العلماء و لا يخلط الحديث و لا يدلس و لا ينقل الكذب بعنوان لسان الحال.
فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن اللّه عز و جل جعل للشر أقفالا و جعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب و الكذب شر من الشراب‏ .
و عنه (عليه السلام) قال: إن الكذب هو خراب الايمان‏ .
و قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يجد عبد حقيقة الايمان حتى يدع الكذب جده و هزله‏ .
و قال علي بن الحسين (عليه السلام): اتقوا الكذب الصغير منه و الكبير في كل جد و هزل فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير. الى غير ذلك‏ .
(الثالث): الاجتناب من الغناء.
البحار عن تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال له رجل: بأبي و أمي إني أدخل كنيفا لي و لي جيران و عندهم جوار يتغنين و يضربن بالعود فربما أطلت الجلوس استماعا مني لهن.
فقال: لا تفعل. فقال الرجل: و اللّه ما هو شي‏ء آتيه برجلي إنما هو سماع أسمعه بأذني. فقال له: (تاللّه خ ل) أنت أ ما سمعت اللّه يقول‏ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا .
قال: بلى و اللّه فكأني لم أسمع هذه الآية قط من كتاب اللّه من عجمي و لا من عربي إني لا أعود إن شاء اللّه و إني أستغفر اللّه. فقال له: قم فاغتسل و صل ما بدا لك فإنك كنت مقيما على أمر عظيم ما كان أسوأ حالك لو مت على ذلك أحمد اللّه (استغفر اللّه خ ل) و سله التوبة من كل ما يكره إنه لا يكره الا القبيح و القبيح دعه لأهله فإن لكل أهلا .
(الرابع): أن لا يروج الباطل و لا يمدح الفاسق و الفاجر.
فعن النبي (صلى اللّه عليه و آله) قال: إذا مدح الفاجر اهتز العرش و غضب الرب‏ .
(الخامس): أن لا يهين عظماء الدين.
(السادس): لا يفشي أسرار آل محمد (عليهم السلام).
(السابع): أن لا يفسد في الأرض و لا يثير الفتنة.
(الثامن): أن لا يعين الظلمة قال اللّه تعالى: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ .
و في الخبر عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الظلمة و أعوانهم و من لاق لهم دواتا و ربط لهم كيسا أو مد لهم مدة قلم فاحشروهم معهم‏ .
و في وصية امير المؤمنين (عليه السلام) لكميل: يا كميل إياك و التطرق إلى أبواب الظالمين و لا تخالط بهم. إلى أن قال: يا كميل إذا اضطررت إلى حضورهم فداوم ذكر اللّه تعالى و توكل عليه و استعذ باللّه من شرهم و اطرق عنهم و انكر بقلبك فعلهم و اجهر بتعظيم اللّه تعالى لتسمعهم فإنهم يهابوك و تكفى شرهم‏ .
و قال علي بن الحسين (عليه السلام) في كتابه للزهري بعد أن حذره عن إعانة الظلمة على ظلمهم: أو ليس بدعائه إياك حين دعاك جعلوك قطبا أداروا بك رحى مظالمهم و جسرا يعبرون عليك إلى بلاياهم و سلما إلى ضلالتهم داعيا غيهم سالكا سبيلهم يدخلون بك الشك على العلماء و يقتادون بك قلوب الجهال إليهم فلم يبلغ أخص وزرائهم و لا أقوى أعوانهم الا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم و اختلاف الخاصة و العامة إليهم فما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك و ما أيسر ما عمروا لك في كنف ما خربوا عليك فانظر لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك و حاسبها حساب رجل مسئول‏ .
(التاسع): أن لا يغر المجرمين و لا يقول ما يتجرأ به الفاسقون فإن الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة اللّه و لم يؤيسهم من روح اللّه و لم يؤمنهم من مكر اللّه‏ .
(العاشر): أن لا يصغر المعاصي في الأنظار.
ففي وصايا النبي (صلى اللّه عليه و آله) لابن مسعود: لا تحقرن ذنبا و لا تصغرنه و اجتنب الكبائر فإن العبد إذا نظر يوم القيامة إلى ذنوبه دمعت عيناه قيحا و دما يقول اللّه تعالى‏ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ‏ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً .
و عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: اتقوا المحقرات من الذنوب فإنها لا تغفر قلت: و ما المحقرات؟ قال: الرجل يذنب الذنب فيقول طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك‏ .
و عنه (عليه السلام) قال: إذا أخذ القوم في معصية اللّه فإن كانوا ركبانا كانوا من خيل إبليس و إن كانوا رجالة كانوا من رجالته‏ .
(الحادي عشر): أن لا يفسر آيات القرآن برأيه فقد صح عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) و عن الأئمة القائمين مقامه (عليهم السلام) أن تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح و النص الصريح‏ .
و روى ابن عباس عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) قال: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار .
و روى العامة عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) قال: من فسر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد أخطأ .
(الثاني عشر): أن لا يذكر للأخبار المعاني الفاسدة الباطلة و لا يتصرف فيها التصرفات الباردة كما شاع و ذاع في عصرنا أعاذنا اللّه تعالى.
(الثالث عشر): أن لا يفتي في الأحكام إذا لم يكن من أهل الفتوى و كفى في هذا المقام كلام السيد الأجل الأورع الأزهد الأسعد قدوة العارفين و مصباح المتهجدين صاحب الكرامات الباهرة أبي القاسم رضي الدين السيد ابن طاوس قدس اللّه سره و رفع في الملأ الأعلى ذكره قال في كلام له: كنت قد رأيت مصلحتي و معاذي في دنياي و آخرتي في التفرغ عن الفتوى في الأحكام الشرعية لأجل ما وجدت من الاختلاف في الرواية بين فقهاء أصحابنا في التكاليف الفعلية و سمعت كلام اللّه جل جلاله يقول عن أعز موجود من الخلائق عليه محمد (صلى اللّه عليه و آله): {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 44، 45] فلو صنفت كتبا في الفقه يعمل بعدي عليها كان ذلك نقصا لتورعي عن الفتوى و دخولا تحت خطر الآية المشار إليها لأنه جل جلاله إذا كان هذا تهديده للرسول العزيز الأعلم لو تقول عليه فكيف يكون حالي إذا تقولت عليه جل جلاله و أفتيت أو صنفت خطئا أو غلطا يوم حضوري بين يديه- إلى آخر ما ذكره رحمه اللّه‏ .
(الرابع عشر): أن لا يذكر ما ينقص الأنبياء العظام و الأوصياء الكرام إذا أراد رفع مقامات الأئمة (عليهم السلام).