كان لنهضة مسلم موعد مضروب بينه وبين الناس ، ولم يزل هو ومن بايعه يتأهبون لذلك الأجل من تعبئة الرجال ، وتهيئة العتاد ، ورسم خطط الحرب الأخذ بالتدابير اللازمة ، غير أن الأمر باغته بالقبض على هاني وهو آخذ بعضده ، وموئل رأيه ، وفي داره قاعدة ولايته ، ومركز سلطته ، فاضطرّت الحالة « مسلما » أن يتعجّل الخروج قبل الأجل مخافة أن يؤخذ غيلة ولعله ينقذ صاحبه من مخلب الظالم وقد أسلمته عشيرته.
وكان رسوله الى القصر عبدالله بن حازم الكبريّ من الأزد من بني كبير (1) ليأتيه بخبر هاني ، فعرّفه حبسه وأن نسوة مراد مجتمعات ينادين واثكلاه واعثرتاه فعندها أمره أن ينادي في أصحابه : « يا منصور أمت » (2) وقد ملأبهم الدور حوله ، وتنادى أهل الكوفة بذلك الشعار فاجتمع اليه أربعة آلاف فعقد راية لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة وأمّره على الخيل ، وراية لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج واسد وأمّره على الرّجالة ، وراية لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان ، وراية للعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة.
ثم أقبل مسلم (عليه السلام) بهؤلاء الجمع الى القصر وكان ابن زياد في الجامع الأعظم يخطب الناس فدخلت النظارة المسجد من باب التمارين يهتفون بمجيء ابن عقيل فراع ذلك ابن زياد ، وأسرع الى القصر وأغلق أبوابه.
واجتمع الناس حتى امتلأ المسجد والسوق منهم وأحاطوا بالقصر وضاق بابن زياد ذرعه إذ لم يكن معه إلا ثلاثون رجلا من الشرطة وعشرون رجلا من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه (3).
فكان أسهل شيء على اولئك الدارعين الا جهاز على ابن مرجانة ومن معه لأول وهلة في طليعة الزحف وفي القوم مساعير للحرب ، ولعل منهم من لا يروعه التقحّم على أولئك النفر المعدودين بالأنامل ولم يكن لابن زياد في ذلك الوقت غير قعقعة الارهاب ، وما أدري كيف انطلت هذه البهرجة على ذوي البصائر بشؤون المصر الواقفين على ما في أرجائه من قلاقل وفي أجوائه من محن وإحن؟
ولكن لا عجب من أذناب الكوفيين إذا مالوا مع عصبة الشيطان بمجرد أن سمعوا ابن لأشعث وحجار بن أبجر وشمر بن ذي الجوشن يمنّونهم العطاء مع الطاعة ويهدّدونهم بجند الشام الموهوم ، وأشرف عليهم كثير بن شهاب حين كادت الشمس أن تغرب وقال : أيها الناس الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشر ، و لا تعرضوا أنفسكم للقتل فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت وقد أعطى الله الأمير عهدا لئن أتممتم على حربكم ولم تنصرفوا من عشيّتكم أن يحرم ذرّيّتكم العطاء ويفوّق مقاتلتكم في مغازي الشام على غير طمع ، وأن يأخذ البري بالسقيم والغائب بالشاهد حتى لا يبقى فيكم بقية من أهل المعصية إلا ذاق وبال ما جرّت يده (4).
فطفقق الأخ يخذل أخاه والمرأة تتعلّق بزوجها حتّى يرجع ، والآباء يفصلون أبناءهم عن الجهاد ويحبذون لهم العافية شأن أذناب الناس الدقاق حسباً الضعفاء حلوماً.
فتفرق أولئك الجمع عن مسلم (عليه السلام) حتى لم يبق معه إلا ثلثمائة رجل وصلى العشاء بالمسجد ومعه ثلاثون رجلا وانصرف نجو كندة (5) ومعه ثلاثة ولم يمض إلا قليلا وإذا لم يشاخد أحدا يدلّه على الطريق فنزل عن فرسه ومشى متلدّدا في أزقة الكوفة (6) لا يدري إلى أين يتوجّه (7).
انّ من العجيب الغريب أمير مصر يتفرق عنه جنده ، ووالي قارّة أسلمته أنصاره ، لماذا كان ذلك؟ للاوهام و التهافهات ، أو للمطامع الشهوات؟ أين النخوة والحفاط؟ أين الاباء والحمية؟ أيظنون أنهم لو انضووا الى راية الهدى يحرمهم صاحبه الاعطاء؟ أو يضن عليهم بالوظائف؟ أو يقيم الحق بغيرهم؟ لا ها الله ما كان يدّخر الاعطيات إلا لهم ، ولا ينضد الكراسي بمن عداهم ، ولا قيادة الجيوش إلا بهم ، ولو عدلوا لما استلم الحكم سواهم.
لكن خسّة الطباع ولؤم العنصر حالا دون أن يحضوا بالشرف وضاح والسعادة في الدنيا والآخرة فاستمرأوا أجاج الأمويين تحت راية ابن مرجانة ، وتركوا التاريخ يذكرهم منافيات المروءة والحفاظ ولوازم قول الزور وخفر الذمم « ولعذاب الله أكبر لو كانوا يعلمون ».
خطبة ابن زياد :
لما تفرق الناس عن مسلم (عليه السلام) وسكن لغطهم ولم يسمع ابن زياد أصوات الرجال أمر من معه في القصر أن يشرفوا على ظلال المسجد لينظروا هل كمنوا فيها. فكانوا يدلون القناديل ويشعلون النار في القصب ويدلونها بالحبال الى أن تصل الى صحن الجامع ، وفعلوا ذلك بالظلة التي فيها المنبر فلم يروا لأصحاب ابن عقيل أثرا ، فأعلموا ابن مرجانة فأمر مناديه أن ينادي في الناس ليجتمعوا في المسجد ، ولما امتلأ المسجد بهم رقي المنبر وقال : ان ابن عقيل قد أتى ما قد علمتم من الخلاف والشقاق فبرئت الذمة من رجل وجدناه في داره ، ومن جاء به فله ديته ، اتقو الله عباد الله والزموا طاعتكم وبيعتكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا.
الى السجن :
ثم أمر ابن زياد صاحب شرطته الحصين بن تميم أن يفتّش الدور والسكك ، وحذّره بالفتك الذريع اذا أفلت مسلم وخرج من الكوفة (8).
فقام الحصين بهذه المهمة فبثّ العيون ووضع الحرس على أفواه السكك ، وتتبّع الأشراف الناهظين مع مسلم فقبض على عبد الأعلى بن يزيد الكلبي وعمارة بن صلخب الأزدي فحبسهما ثم قتلهما.
وحبس جماعة من الوجوه استيحاشا منهم وكان فيهم المختار الثقفي وعبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب (9) وقد خرجا لنصرة ابن عقيل ، وكان المختار عند خروج مسلم في قرية له تدعى « لقفا » فجاء بمواليه يحمل راية خضراء ، ويحمل عبدالله بن الحارث راية حمراء وانتهيا الى باب الفيل (10) ووضح لهما قتل مسلم وهاني ، واشير عليهما بالدخول تحت راية عمرو بن حريث ففعلا وشعد لهما ابن حريث باجتنابهما مسلما (عليه السلام). فأمر ابن زياد بحبسهما بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر عينه وبقيا في السجن الى أن قتل الحسين (عليه السلام).
ولما أحضر سبي آل محمد (صلى الله عليه واله) في مجلسه أخرج المختار من الحبس شامتا منه ، وفرحا بما يحبسه من الظفر ، وإذ رأى المختار هيئة منكرة زفر زفرة كادت روحه أن تخرج فيها ، ولم يثن هذا من عزمه ولا أوهن من عقيدته ، فأغلظ لابن زياد في كلام جرى بينهما (11) وعرّفه بالعقيدة التي يحملها من مصدر وثيق بأن ايامه عدد ومُلكه بدد وسيلقى خزيا وبوارا يكون ذلك على يده.
فاضحك ابن زياد هذا النبأ من أسير تحت قبضته ، وليس له مساعد له يحذر سطوته خصوصا يرى أعناق الأشراف ذللا نحوه وقد ملأ السجن بمن يتحفّز لنخوته ، فأرجعه الى السجن ولم يطلق سراحه إلا بشفاعة عبدالله بن عمر بن الخطاب عند يزيد لاقترانه من « صفية » ابنة أبي عبيد الثقفي أخت المختار.
ولما خطب ابن زياد بعد قتل ابن عفيف الأزدي ونال من أمير المؤمنين بحضرة اولئك الأجلاف من الكوفيين ، ولم يلق منهم رادا عليه غير المختار ، فقد ثار في وجهه شاتما ومعرّفا بأن اللصيق لم يستحق من الإمارة موطأ قدم وان أهلها العاملون بالحق السالكون بالأمة طريق الجد المهذّبون المرشدون كابن عقيل ومن حذا حذوه من أهل هذا البيت الطاهر.
فأمر ابن مرجانة بقتله غير أن عمر بن سعد تشفّع فيه لأنه كان صهره على أخته ، أولدت له حفصا ، فأرجعه الى السجن ثم تشفع فيه ثانيا عبدالله بن عمر عند
يزيد فكتب الى ابن زياد يأمره بأطلاقه فأخرجه من السجن على أن لا يساكنه في البلد (12).
______________
1) الطبري ج6 ص208.
2) منصور رئيس الملائكة الذين نزلوا لنصرة النبي يوم بدر وكان شعار المسلمين يا منصور أمت.
3) ابن الاثير ج4 ص12.
4) الطبري ج6 ص208.
5) الأخبار الطوال ص240.
6) الشريشيّ في شرح مقامات الحريريّ ج1 ص192.
7) اللّهوف لابن طاووس.
8) الطبري ج6 ص209.
9) المصدر ، ص208 وص214 وص215.
10) أنساب الأشراف للبلاذري ج5 ص215.
11) رياض الأحزان ص52 عن روضة الشهداء.
12) المصدر ص58 عن روضة الصفا.