لم يستطع العباس صبرا على البقاء بعد أن فني صحبه و أهل بيته و يرى «حجة الوقت» مكثورا قد انقطع عنه المدد و ملأ مسامعه عويل النساء و صراخ الأطفال من العطش فطلب من أخيه الرخصة، و لما كان العباس عليه السّلام أنفس الذخائر عند السبط الشهيد عليه السّلام لأن الأعداء تحذر صولته و ترهب اقدامه و الحرم مطمئنة بوجوده مهما تنظر اللواء مرفوعا، فلم تسمح نفس «أبيّ الضيم» القدسية بمفارقته فقال له: يا أخي «أنت صاحب لوائي» «1».
قال العباس: قد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين و أريد أن آخذ ثأري منهم، فأمره الحسين عليه السّلام أن يطلب الماء للأطفال، فذهب العباس إلى القوم و وعظهم و حذرهم غضب الجبار فلم ينفع! فنادى بصوت عال: يا عمر بن سعد، هذا الحسين ابن بنت رسول اللّه قد قتلتم أصحابه و أهل بيته و هؤلاء عياله و أولاده عطاشى، فاسقوهم من الماء قد أحرق الظمأ قلوبهم و هو مع ذلك يقول: دعوني اذهب إلى الروم أو الهند و أخلي لكم الحجاز و العراق فأثر كلامه في نفوس القوم حتى بكى بعضهم و لكن الشمر صاح بأعلى صوته: يا ابن أبي تراب لو كان وجه الأرض كله ماء و هو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلا أن تدخلوا في بيعة يزيد.
فرجع إلى أخيه يخبره فسمع الأطفال يتصارخون من العطش «2» فلم تتطامن نفسه على هذا الحال و ثارت به الحمية الهاشمية:
يوم أبو الفضل تدعو الظاميات به و الماء تحت شبا الهندية الخذم
و الخيل تصطك و الزغف الدلاص على فرسانها قد غدت نارا على علم
و أقبل الليث لا يلويه خوف ردى بادي البشاشة كالمدعو للنعم
يبدو فيغدو صميم الجمع منقسما نصفين ما بين مطروح و منهزم «3»
ثم إنه ركب جواده و أخذ القربة فأحاط به أربعة آلاف و رموه بالنبال فلم ترعه كثرتهم و أخذ يطرد أولئك الجماهير وحده و لواء الحمد يرف على رأسه و لم يشعر القوم أهو العباس يجدل الأبطال أم أن الوصي يزأر في الميدان! فلم تثبت له الرجال، و نزل إلى الفرات مطمئنا غير مبال بذلك الجمع.
و دمدم ليث الغاب يعطو بسالة إلى الماء لم يكبر عليه ازدحامها
و خاض بها بحرا يرف عبابه ظبى و يد الأقدار جالت سهامها
ألمت به سوداء يخطف برقها البصائر من رعب و يعلو قتامها
جلاها بمشحوذ الغرارين أبلج يدب به للدارعين حمامها
فحلأها عن جانب النهر عنوة و ولت هواديها يصل لجامها
ثنى رجله عن صهوة المهر و امتطى قرى النهر و احتل السقاء همامها
وهب إلى نحو الخيام مشمرا لري عطاشى قد طواها أوامها «4»
و لما اغترف من الماء ليشرب تذكر عطش الحسين و من معه فرمى الماء «5» و قال :
يا نفس من بعد الحسين هوني و بعده لا كنت أن تكوني
هذا الحسين وارد المنون و تشربين بارد المعين
تاللّه ما هذا فعال ديني «6»
ثم ملأ القربة و ركب جواده و توجه نحو المخيم فقطع عليه ريق و جعل يضرب حتى أكثر القتل فيهم و كشفهم عن الطريق و هو يقول:
لا أرهب الموت إذا الموت زقا «4» حتى أوارى في المصاليت لقى
نفسي لسبط المصطفى الطهر وقى إني أنا العباس أغدو بالسقا
و لا أخاف الشر يوم الملتقى
فكمن له زيد بن الرقاد الجهني من وراء نخلة و عاونه حكيم بن الطفيل السنبسي فضربه على يمينه فبراها فقال (عليه السّلام) :
و اللّه إن قطعتم يميني إني أحامي أبدا عن ديني
و عن إمام صادق اليقين نجل النبي الطاهر الأمين
فلم يعبأ بيمينه بعد أن كان همه إيصال الماء إلى أطفال الحسين و عياله، و لكن حكيم بن الطفيل كمن له من وراء نخلة فلما مر به ضربه على شماله فقطعها «7» و تكاثروا عليه! و أتته السهام كالمطر فأصاب القربة سهم و أريق ماؤها و سهم أصاب صدره «8» و ضربه رجل بالعمود على رأسه ففلق هامته!
و هوى بجنب العلقمي فليته للشاربين به يداف العلقم
و سقط على الأرض ينادي: عليك مني السلام أبا عبد اللّه فأتاه الحسين عليه السّلام «9» و ليتني علمت بماذا أتاه أبحياة مستطارة منه بهذا الفادح الجلل أم بجاذب من الاخوّة إلى مصرع صنوه المحبوب!؟
نعم حصل الحسين عليه السّلام عنده و هو يبصر قربان القداسة فوق الصعيد قد غشيته الدماء و جللته النبال فلا يمين تبطش و لا منطق يرتجز و لا صولة ترهب و لا عين تبصر و مرتكز الدماغ على الأرض مبدد!!
أصحيح أن الحسين ينظر إلى هذه الفجائع و معه حياة ينهض بها؟ لم يبق الحسين بعد أبي الفضل إلا هيكلا شاخصا معرّى عن لوازم الحياة و قد أعرب سلام اللّه عليه عن هذا الحال بقوله: الآن انكسر ظهري و قلت حيلتي «10».
و بان الانكسار في جبينه فاندكت الجبال من حنينه
و كيف لا و هو جمال بهجته و في محياه سرور مهجته
كافل أهله و ساقي صبيته و حامل اللوا بعالي همته «11»
و تركه في مكانه لسر مكنون اظهرته الأيام و هو أن يدفن في موضعه منحازا عن الشهداء ليكون له مشهد يقصد بالحوائج و الزيارات و بقعة يزدلف إليها الناس و تنزلف إلى المولى سبحانه تحت قبته التي ضاهت السماء رفعة و سناء فتظهر هنالك الكرامات الباهرة و تعرف الأمة مكانته السامية و منزلته عند اللّه تعالى فتؤدي ما وجب عليهم من الحب المتأكد و الزيارات المتواصلة و يكون عليه السّلام حلقة الوصل فيما بينهم و بين اللّه تعالى فشاء حجة الوقت أبو عبد اللّه عليه السّلام كما شاء المهيمن سبحانه أن تكون منزلة «أبي الفضل» الظاهرية شبيهة بالمنزلة المعنوية الأخروية فكان كما شاءا و أحبّا.
و رجع الحسين إلى المخيم منكسرا حزينا باكيا يكفكف دموعه بكمه و قد تدافعت الرجال على مخيمه فنادى: أما من مغيث يغيثنا؟ أما من مجير يجيرنا؟ أما من طالب حق ينصرنا، أما من خائف من النار فيذب عنا! «12» فأتته سكينة و سألته عن عمها، فأخبرها بقتله! و سمعته زينب فصاحت : وا أخاه وا عباساه وا ضيعتنا بعدك! و بكين النسوة و بكى الحسين معهن و قال : وا ضيعتنا بعدك!!
نادى و قد ملأ البوادي صيحة صم الصخور لهولها تتألم
أأخيّ من يحمي بنات محمد إذ صرن يسترحمن من لا يرحم
ما خلت بعدك أن تشل سواعدي و تكف باصرتي و ظهري يقصم
لسواك يلطم بالأكف و هذه بيض الظبى لك في جبيني تلطم
ما بين مصرعك الفظيع و مصرعي إلا كما أدعوك قبل و تنعم
هذا حسامك من يذل به العدى و لواك هذا من به يتقدم
هونت يا ابن أبي مصارع فتيتي و الجرح يسكنه الذي هو آلم
فأكب منحنيا عليه و دمعه صبغ البسيط كأنما هو عندم
قد رام يلثمه فلم ير موضعا لم يدمه عض السلاح فيلثم «13»
______________
(1) البحار ج 10 ص 251 و مقتل العوالم ص 94.
(2) تظلم الزهراء ص 118.
(3) من قصيدة للحاج هاشم الكعبي ذكرت في أعيان الشيعة بترجمته.
(4) للشيخ حسن مصبح الحلي ذكرت في كتابنا «قمر بني هاشم».
(5) المنتخب للطريحي ص 311 الطبعة الثالثة المجلس التاسع الليلة العاشرة و عند المجلسي في البحار ج 10 ص 201 و عنه في مقتل العوالم ص 95 و عنه في تظلم الزهراء ص 119 و في رياض المصائب ص 313.
(6) رياض المصائب ص 313 للسيد محمد مهدي الموسوي.
(7) زقا : بمعنى صاح ، و كانت العرب تزعم أن للموت طائرا يصيح و يسمونه «الهامة» و يقولون إذا قتل الإنسان و لم يؤخذ بثأره زقت هامته حتى يثأر ، قال الشاعر:
فإن تك بهراة تزقو فقد أزقيت بالمردين هاما
و سمعت العالم الفاضل الشيخ كاظم سبتي رحمه اللّه يقول: أتاني بعض العلماء الثقات و قال: أنا رسول العباس عليه السّلام إليك، رأيته في المنام يعتب عليك و يقول: لم يذكر مصيبتي شيخ كاظم سبتي، فقلت له: يا سيدي ما زلت اسمعه يذكر مصائبك فقال عليه السّلام: قل له يذكر هذه المصيبة و هي:
«أن الفارس إذا سقط من فرسه يتلقى الأرض بيديه فإذا كانت السهام في صدره و يداه مقطوعتان بماذا يتلقى الأرض»؟.
(8) مناقب ابن شهراشوب ج 1 ص 221.
(9) رياض المصائب ص 315.
(10) المنتخب للطريحي ص 312 المطبعة الحيدرية سنة 369 و رياض المصائب ص 315 و في مناقب و ابن شهراشوب ج 2 ص 222: أن حكيم بن الطفيل ضربه بعمود من حديد على رأسه.
(11) البحار ج 10 ص 251، و تظلم الزهراء ص 120.
(12) من ارجوزة آية اللّه الحجة الشيخ محمد حسين الأصفهاني قده.
(13) المنتخب ص 312.