انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

كان هاني بن عروة بن نمران بن عمرو بن قعاص يغوث بن مخدش بن عصر بن غنم بن مالك بن عوف بن منبه بن عطيف المرادي العطيفي (1) من أشراف الكوفة (2) ، وقرائها (3) ، وله منزلة في المصر ، ولبيته في العشيرة منعة ، (4) وله الزعامة الكبرى في مراد ، يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل ، فإذا تلاها أحلافها من كندة ركب في ثلاثين ألفا (5) ولازم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فاستفاد منه آدابا ، (6) وحضر معه في حروبه الثلاثة وأبلى بلاء حسنا (7) وفي يوم الجمل كان يرتجز :
يا لك حرب حشّها جمالها
قائدة ينقصها ضلالها

هذا علي حوله أقيالها (8)
وأدرك النبي (9) وله يوم قتله بضع وتسعون سنة (10).
ولسيدنا بحر العلوم الطباطبائي كلام ضاف في ترجمته في « رجاله » وقد أغرق نزعا في إثبات جلالته والدفاع عنه ، والجواب عما قيل فيه ، وتابعه على رأيه السديد السيد المحقق الأعرجي في « عدة الرجال » وكل من تعرض له من علماء الرجال ، ذكره مترحما ومترضيا عليه ، وبالغ شيخنا الحجة الشيخ عبد الله المامقاني في « تنقيح المقال » بترجمته في مدحه والثناء عليه ، و وافقه المحقق الشيخ عباس القمي.
وذكر محمد بن المشهدي من أعيان القرن السادس ، والشريف النقيب رضي الدين ابن طاووس في مزاريهما زيارة خاصة تزار في مشهده ، وفيها وصفه « بالعبد الصالح الناصح لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين : » والشهادة بأنه قتل مظلوما وأنه لقسا لله تعالى وهو راض عنه بما فعل ونصح ، وأنه بلغ درجة الشهداء السعداء بما نصح لله تعالى ولرسوله (عليه السلام) مجتهدا وبذل نفسه في ذات الله ومرضاته ثم الترحم عليه ».
ثم ذكرا بعد الزيارة صلوتها ودعاء الوداع ، وزاد ابن المشهدي « تقبيل القبر ».
وحيث أنهما ذكرا في مزاريهما أن ما أودعاه في كتابيهما على الوجة الذي ظهر لهما من الروايات يتجلّي لنا أن هاتيك الآداب مأثورة عن أهل بيت العصمة وجلالة هذين العلمين تفيدنا القطع بعثورهما على أثر حاكم بذلك العمل الخاص حتى لو لم ينصّا في الكتاب على ما حصل لديهما من جهة الرواية وإلا لتسرّب الى نقلهما شبة البدعة في الدين ، وهؤلاء الأعلام في المذهب لا يتورّطون في البدعة التي لا تقال عثرتها. إذا ففي قولهما الحجة البالغة.
ولو سلمنا عدم الورود فلا أقل من أن يكون كلامهما في حقه كشهادة من تقدم من علماء الرجال من أن الرجل متحلي بتلكم الفضائل ، ولو كان لهما كتب في الرجال لاتخذها العلماء من الأصول المسلّمة التي يعوّل عليها في هذا العلم إذ لم يقصر قولهما عن سائر الكتب في تمييز الرجال وبيان الممدوح والثقة منهم كما أن وقولهما في غير هذا العلم حجة قوية يركن اليه ويستشهد به.
ثم يكفينا في القناعة بفضل الرجل وجلالة مقامه عند آل الرسول ترحم سيد الشهداء عليه فإنه (عليه السلام) لما نزل « الثعلبية » ممسيا أخبر بقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وأنهما سُحبا من أرجلهما في الأسواق قال (عليه السلام) : « إنا لله وإنا إليه راجعون رحمة الله عليهما » ردد ذلك مرارا (11).
واذا كان ترحم الإمام الحجة الواقف على نفسيات الرجال ومقادير أعمالهم على شخص يعد تزكية له وشهادة منه في نزاهته وطهارته ، وأنه مضى محمود الطريقة متبعا للحنيفية البيضاء فأي رجل مثل هاني بن عروة يقرنه سيد شباب أهل الجنة بنائبه الخاص وخليفته في ذلك المصر المثبت له في صك الولاية شرف الأخوّة له والوثاقة في الأمور وأنه مفضّل عنده من أهل بيته ويترحّم عليه كما ترحم على ابن عمه وداعيته.
ان هذا الترحم من أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) وشهادة أولئك الأعلام تنم عن أن « ابن عروة » كان على أرفع منصّة من الإيمان ومن الراسخين في ولاء العترة الطاهرة ، وأن ما قام به من إتمام البيعة لمسلم (عليه السلام) في داره وجمع العتاد والأخذ بالتدابير اللازمة لحافز ديني وإيمان بأجر الرسالة المرغوب فيه لسيد النبيين وخاتم الرُسل أجمع.
ولم يزل يلاقي في ذلك المحن والكوارث حتى أودي به شهيدا في سبيل نصرة ابن عم رسول الله ، وهو الذي شارك شريك الأعور في التدبير لقمع جذور الفساد بقتل الدعي ابن مرجانة لكن القدر حال دون ما يريدون.
ومن أمعن النظر في سيرته من كتب التواريخ والمقاتل ولا سيما في رجال آية الله لسيد بحر العلوم الطباطبائي يزداد بصيرة فيما قلناه. وهناك تعرف أن ما تشدّق به ابن أبي الحديد من حكاية أخذه البيعة « ليزيد » من الأقاصيص التي لانعرف سندها ولا من جاء بها ، أراد به تشويه مقام هذا الرجل العظيم الناصح لأهل البيت حتى آخر نفس لفظه ، ومما يزيد في وهنه إعراض أرباب الفن من المنقبين في الآثار عن ذلك والقصة بمرأى منهم.
وكان السبب في انتقال مسلم الى داره أنه لما بلغه خطبة ابن زياد ووعيده ، وظهر له حال الناس ، وفرقهم من ابن زياد خاف أن يؤخذ غيلة فخرج من دار المختار بعد العتمة الى هذا الزعيم الكبير لعلمه بمكانته في المصر وشرفه في العشيرة ، وأنه مهاب الجانب أكثر من المختار مع ولائه الصميم وعقيدته الراسخة ونصرته الصادقة ، فلاقاه هاني بكل ترحيب ، وعلم أن تشريف ابن عقيل محله يعود عليه بأسمى السعادتين اما حياة مع ابن المصطفة أو شهادة طيبة ودرجات عالية مع النبي الأقدس.
وستعرف في الفصل الآتي من حفظ الجوار المراد من قوله لابن مرجانة آتيك بضيفي وجاري ـ الخ.
ونزل مع مسلم في دار هاني شريك بن عبد الله الأعور الحارثي الهمداني البصري وكان من كبار شيعة علي (عليه السلام) بالبصرة جليل القدر من أصحابنا شهد معه صفين ، وقاتل مع عمار بن ياسر ولشرفه وجاهه ولآه معاوية كرمان وكانت له مواصلة مع هاني.
ولشريك محاورة مع معاوية تنم عن قوة جنان وذرب لسان ، وان المال مهما تكثر من معاوية لا يغويه ، فيخضع له ؛ دخل على معاوية وكان ذميما فقال له معاوية : إنك لذميم والجميل خير من الذميم ، وإنك لشريك وليس لله شريك ، وإنك لأعور والصحيح خير من الأعور فكيف سدت قومك؟
فقال له شريك : وإنك لمعاوية وما معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت لها الكلاب وإنك ابن حرب والسلم خير من الحرب ، وإنك ابن صخر والسهل خير من الصخر ، وانك ابن أمية وأمية غلا أمة صغّرت فكيف صرت أمير المؤمنين ، وخرج منه يقول :
أيشتمُني معاوية بن حـرب
وسيفي صـارم ومعي لساني

وحولي من بني يزين ليوث
ضراغمـة تهش الى الطعان

يعير بالدمامة مـن سفاه
وربّـات الخدور من الغواني

ذوات الحسن والرئبال جُهم
شتيـم وجهـه ماضي الجنان.


____________
1) الاصابة بترجمة عروة المرادي.
2) الأخبار الطوال ص235.
3) الأغاني ج14 ص95.
4) الطبري ج6 ص213.
5) مروج الذهب ج2 ص89.
6) تاريخ ابن عساكر.
7) ذخيرة الدارين ص278.
8) مناقب ابن شهر آشوب ج1 ص614.
9) الإصابة بترجمة هاني.
10) الإصابة لابن حجر بترجمته.
11) الطبري ج6 ص225.