) ومحبيه ومريديه ، تفانى في خدمة أهل البيت عليهم السلام، ووقف المواقف الرسالية التي تخبر عن كونه ثابت الجنان، رابط الجأش ، قوياً في دينه وعقيدته، لم يمنعه كِبَرُ السن من أن يكون جندياً من جنود كربلاء وشهيداً من شهدائها الكبار.
تميَّز بصفاء الإيمان وشدَّة الحب والولاء لأهل البيت عليهم السلام ووضوح الرؤية التي تجلَّت في مواقفه الكربلائية المتعددة النابعة من وعيه وفهمه وإخلاصه سعياً لتحصيل رضوان الله من الباب الذي يحب الله دخول المؤمن إليه منه هو " باب الشهادة الحمراء " التي تحتاج إلى التسديد الإلهي والتوفيق الرباني.
لقد كان من أوائل الذين بايعوا مسلماً بن عقيل عندما ورد الكوفة لأخذ البيعة لنصرة الحسين ( عليه السلام ) وكان ذلك في دار المختار، وأعلن الولاء والطاعة لسبط النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مع أن حبيباً لم يكن بحاجة لأن يبايع لإثبات ولائه ، إلاَّ أنه أراد أن يشجّع الاخرين من خلال ذلك وليُفرح قلب الإمام الحسين ( عليه السلام ) بأنه ما زال على العهد والطاعة وما زال المحب والناصر لآل البيت (عليهم السلام).
وحبيب لم يكتفِ بأن يكون وحده من قومه مع الإمام ( عليه السلام ) بل سعى إلى استثارتهم ليكونوا إلى جانبه أيضاً لحشد الأنصار والمؤيدين لعلمه بأن هذه الفرصة لن تتاح ثانية للقتال مع صفوة الله من خلقه في الأرض، وتمكن من ذلك أيضاً إلاَّ أن الخيانة والنفاق على عادة أهل الكوفة لم تسمح له بالنجاح في ذلك المسعى الخيّر الذي كان يهدف إليه، فرجع إلى الإمام ( عليه السلام ) وأخبره بما جرى معه مع قومه، فقال (عليه السلام) عند ذلك: " لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله ".
ومن المواقف المشرّفة جداً لحبيب رضوان الله تعالى عليه كان موقفه في ليلة العاشر من المحرَّم، حيث دخل الإمام الحسين ( عليه السلام ) على أخته العقيلة زينب عليها السلام وكان نافع منتظراً له خارج الخيمة ، فسمع العقيلة تقول للإمام ( عليه السلام ) " هل استعلمت من أصحابك نياتهم فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة " فقال لها الحسين (عليه السلام) : " والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلاَّ الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنية دوني استيناس الطفل إلى محالب أمه ".
لقد أبكى ذلك الحوار بينهما نافعاً , وسرعان ما هرع إلى حبيب دون غيره ليطلعه على ذلك ولينظر فيما ينبغي أن يفعلا ليطمئنا قلب زينب عليها السلام وقلوب نساء ال البيت (عليهم السلام) القلقات من الحالة والخائفات من أن يبقى الحسين ( عليه السلام ) وحيداً في الميدان ، وسرعان ما تفتَّق ذهنهما عن أمر فيه لله رضا وللنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المواساة ، ولزينب (عليها السلام) وللنساء إذهاب لخوفهنَّ وقلقهنَّ ، فاندفع حبيب ينادي " يا أصحاب الحمية وليوث الكريهة " فخرج الأصحاب من خيامهم ، وقال لهم ما أخبره به نافع ، ثم عقب بقوله " هلمُّوا معي لنواجه النسوة ونطيّب خاطرهن " فساروا جميعاً حتى وصلوا إلى خيم أهل البيت ( عليه السلام ) وصاح حبيب: " يا معشر حرائر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه صوارم فتيانكم الوا ألاَّ يغمدوها إلاَّ في رقاب من يريد السوء فيكم، وهذه أسنَّة غلمانكم أقسموا ألاَّ يركزوها إلاَّ في صدور من يفرق ناديكم "، عند ذلك خرجن النسوة من حجورهن وقلن لأولئك الأنصار المحبين الموالين " حاموا عن بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحرائر أمير المؤمنين (عليه السلام)" ، وضجَّ الجميع ساعتئذٍ بالبكاء على المصاب الجلل الذي هم مقبلون عليه.
إن ذلك الموقف الرسالي المعبّر عن القمة في الحب والولاء للمصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) هو مفخرة لذلك الانسان الصابر المواسي ، الذي عاش الصفاء والإخلاص والوفاء ، فلم يهدأ ولم يسكن حتى أدخل الطمأنينة إلى قلوب نسوة أهل البيت (عليهم السلام) لعلمه بأن في هذا الأمر رضا لله عزَّ وجلَّ ومواساة للزهراء (عليها السلام) في الفاجعة الجلل.
أما عن عشقه للشهادة، فهذا الموقف الرائع مما لا يجد الانسان وصفاً يعبّر به عن حالة العشق التي كانت تحملها تلك النفس الكبيرة التوَّاقة لسفك دمها على يد أخبث الخلق لتحقيق مرضاة الله عزَّ وجلّ َ، وكيف لا يعشق الشهادة وهو الذائب في حب وعشق أهل البيت (عليهم السلام) الذين لا يمكن إلاَّ أن يكونوا جزءاً لا يتجزأ من العشق الإيماني بالله سبحانه وتعالى، وقد عبَّر حبيب عما كان يختلج في صدره عن ذلك في مناسبات متعددة أثناء وجوده في كربلاء ، فتارة يقول لنافع : " والله لولا انتظار أمره الإمام ( عليه السلام ) لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة " وأخرى يقول ممازحاً وضاحكاً : " وأي موضع أحق بالسرور من هذا؟ وما هو إلاَّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم فنعانق الحور " مجيباً بذلك أحد أصحابه الذي تعجب من ضحك حبيب في الوقت الذي ينبغي أن تكون الأنفاس فيه محبوسة والأفكار فيه مضطربة ومشوَّشة والأعصاب مشدودة ، بينما نجد أن حبيباً متشوّق إلى تلك اللحظة التي تتقارع فيها السيوف لتخترق جسده ولترتفع روحه التي لم تعد تطيق البقاء في هذه الدنيا بل تريد الانطلاق إلى الله عن طريق الشهادة بين يدي الحسين ( عليه السلام ) لتشكر تلك الروح خالقها على ما وفَّقها له من السعادة الأبديَّة للقتال بين يدي سيد شباب أهل الجنة.
وهكذا بدأ سيل الدماء من أجساد أصحاب الحسين ( عليه السلام ) لترتفع الأرواح إلى الله في مسيرة منتظمة وحبيب ينتظر دوره بفارغ الصبر، فهو يريد اللحاق بهم فلم يعد يطيق صبراً على ذلك لكنه يريد ذلك من خلال الأذن، ومن خلال موقع الطاعة التي ذابت فيها روحه المتسامية الأبيَّة ويقف حبيب مع الإمام الحسين ( عليه السلام ) عند مصرع أخيه " مسلم بن عوسجة "، حيث قال له حبيب: " عزَّ عليَّ مصرعك يا مسلم ، أبشر بالجنة " فقال مسلم بصوتٍ ضعيف: " بشَّرك الله بخير "، فقال حبيب : " لو لم أعلم أني في الأثر لأحببت أن توصي إليَّ بما أهمَّك " فقال مسلم : " أوصيك بهذا أي الحسين ( عليه السلام ) أن تموت دونه " فقال حبيب : " أفعل وربّ الكعبة ".
وهل يحتاج حبيب إلى الوصيَّة أو إلى من يلفت نظره إلى ذلك الأمر؟ وهو الأشدّ شوقاً إلى تلك اللحظة التي ينزل فيها إلى الميدان ليقاتل دون الطيبين من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
إن تلك المواقف الرسالية هي المواقف التي يفتخر بها الانسان يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلاَّ من أتى الله بقلبٍ سليم.
فحبيب على كِبَرهِ في السن لم يترك فرصة الوصول إلى الشهادة تمرّ من دون أن يستفيد منها لكي يرتحل إلى الله شهيداً مخضَّباً بدمائه، مع أنه عاش حياته مؤمناً ملتزماً وفياً لدينه وإمامه ، لأن السعي للجهاد والشهادة لا يحتكرهما الشباب المجاهد، بل الاسلام فتح كل الأبواب من أي سن وفي أي مرحلة من مراحل العمر، طالما أن العروق تنبض بالدم والأجساد تحركها الأرواح المؤمنة الحرَّة من كل استعباد لطواغيت الأرض وشياطين الإنس والجان.
فهنيئاً لحبيب بن مظاهر بتاج الفخر وصولجان العز ووسام الشهادة الحمراء يزهو به يوم القيامة أمام مرأى ومسمع الخلائق أجمعين، وليذوق بذلك كل الذين سفكوا دم الحسين ( عليه السلام ) وحبيب وكل الشهداء من أهل البيت عليهم السلام والأنصار الحسرة والندامة وليلبسوا ثوب الذل والخزي والعار الذي صنعوه لأنفسهم.