نزل حريم النبوة في مسجد الجامع بدمشق و هو محل الاسرى، فجاء شيخ و دنا من نساء الحسين و عياله فقال: الحمد للّه الذي قتلكم و أهلككم و أراح البلاد من رجالكم و امكن امير المؤمنين (يزيد) منكم، فقال له عليّ بن الحسين (عليه السلام): يا شيخ هل قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل عرفت هذه الآية: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] قال الشيخ: نعم، قد قرأت ذلك، فقال له عليّ بن الحسين: فنحن القربى يا شيخ فهل قرأت هذه الآية: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } [الأنفال: 41] قال: نعم، قال عليّ: فنحن القربى يا شيخ و هل قرأت هذه الآية:
{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [الأحزاب: 33] قال الشيخ: قد قرأت ذلك، فقال عليّ: فنحن أهل البيت الذين خصصنا اللّه بآية الطهارة يا شيخ.
قال: فبكى الشيخ ساكتا نادما على ما تكلّم به و قال: باللّه انّكم هم؟ فقال عليّ بن الحسين (عليه السلام): تاللّه انا لنحن من غير شك و حقّ جدنا رسول اللّه انا لنحن هم، فبكى الشيخ و رمى عمامته و رفع رأسه الى السماء و قال: «اللهم إنّا نبرأ إليك من عدوّ آل محمد من جن و انس».
ثم قال: هل لي من توبة؟ فقال له: نعم، ان تبت تاب اللّه عليك و أنت معنا، فقال: أنا تائب، فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ فأمر به فقتل .
و روي عن الباقر (عليه السلام) ما مضمونه: انّه لما أدخل نساء و اطفال سيد الشهداء (عليه السلام) الشام و كانوا على أقتاب الجمال بلا غطاء و لا ستر فقال رجل من أهل الشام: لم نر سبايا أحسن وجوها من هؤلاء فقالت سكينة: أيها الاشقياء نحن سبايا آل محمد صلّى اللّه عليه و آله.
قال الشيخ الجليل و العالم الخبير الحسن بن عليّ الطبري، معاصر العلامة و المحقق، في كتابه كامل البهائي- الذي ألّف قبل (660) سنة- في ذكر ورود أهل بيت الحسين (عليه السلام) الى الشام: كانوا يسيرون بأهل البيت منزلا منزلا حتى وصلوا الى منطقة تبعد أربعة فراسخ عن دمشق، ثم أوقفوا أهل البيت عليهم السّلام على باب الشام ثلاثة أيام حتى يزينوا البلدة، فزينوها بكل حلية و زينة و مرآة كانت فيها، حتى لم تر عين مثلها، ثم استقبلتهم من أهل الشام زهاء خمسمائة الف من الرجال و النساء مع الدفوف.
و خرج امراء الناس مع الطبول و الصنوج و البوقات و كان فيهم ألوف من الرجال و الشبان و النسوان يرقصون و يضربون بالدف و الصنج و الطنبور و قد تزين جميع أهل الشام
بالوان الثياب و الكحل و الخضاب، و كان ذلك يوم الاربعاء في السادس عشر من شهر ربيع الاول، و كان خارج البلد من كثرة الخلائق كعرصة المحشر، يموج بعضها في بعض.
فلما ارتفع النهار ادخلوا الرءوس البلد و وصلوا وقت الزوال الى باب دار يزيد بتعب شديد من كثرة الازدحام، و نصب ليزيد سرير مرصّع و زيّنت داره بانواع الزّينة و نصب أطراف سريره كراسي من الذهب و الفضة، فخرج حجّاب يزيد و أدخلوا الذين معهم الرءوس، فلما دخلوا على يزيد قالوا: بعزّة الامير قتلنا أهل بيت أبي تراب و استأصلناهم.
ثم شرحوا الاحوال و وضعوا الرءوس عنده.
و في هذه المدة التي كان أهل البيت عليهم السّلام اسارى في أيديهم و هي ستة و ستون يوما لم يتمكن بشر أن يسلم عليهم.
و نقل أيضا عن سهل بن سعد الساعدي انّه قال: بعد ما حججت توجهت الى الشام قاصدا زيارة البيت المقدس فلما دخلت الشام رأيت الستور و الحجب و الديباج معلقا فيها و الناس فرحين مستبشرين، و رأيت جمعا في المسجد عليهم هيئة الحزن و العزاء فسألت عنهم؟ قالوا: نحن شيعة أهل البيت عليهم السّلام و هذا رأس الحسين (عليه السلام) قد أدخلوه البلد.
قال سهل: فخرجت الى الصحراء، فسمعت صهيل الخيل و صوت الطبول و الدفوف و الصنوج و رأيت كثرة الخلائق كعرصة المحشر يموج بعضها في بعض، و رأيت الرءوس على الرماح و يتقدمها رأس العباس بن عليّ (عليه السلام) و رأيت رأس الامام الحسين (عليه السلام)، و له مهابة عظيمة و يشرق منه النور بلحية مدورة قد خالطها الشيب و قد خضبت بالوسمة، أدعج العينين أزج الحاجبين واضح الجبين أقنى الانف متبسما الى السماء شاخصا ببصره الى نحو الافق، و الريح تلعب بلحيته يمينا و شمالا لكأنّه امير المؤمنين (عليه السلام).
و قال عمرو بن منذر الهمداني: رأيت أمّ كلثوم و كأنّي نظرت الى فاطمة الزهراء (عليها السلام)و عليها خرقة خلقة و خمار و نقاب، فدنوت و سلمت على زين العابدين (عليه السلام) و حريم النبوة، فقالوا لي: لو تمكّنت أن تعطي لهذا الرجل شيئا كي ينحي رأس الحسين عنّا و تنصرف الانظار عنّا.
فذهبت الى حامل الرأس الشريف فأعطيته مائة درهم كي يقدم الرأس عن ركب النساء، ففعل حتى وضع الرأس امام يزيد لعنه اللّه، انتهى .