خلال هذه الفترة الطويلة نسبياً عَلَمَ معاوية الشاميّين بطريقة أماتت فيهم الوعي الديني، وجعلهم يسلّمون له رقابهم طاعة وخضوعاً بلا أدنى اعتراض.
لم يكن معاوية يسيطر على الشاميّين من الناحية العسكرية والسياسية فقط، بل كان يهيمن عليهم فكرياً ودينياً أيضاً، وخلق منهم أُناساً صماً بكماً لا يفقهون، ليملي عليهم بما يشاء ممّا يضفي عليه طابع التعاليم الإسلامية دون اعتراض، وقد نجح وبما يتمتع به من دهاء وخديعة متميزين نجاحاً باهراً ملحوظاً في هذا المجال.
كلّنا يعرف مكره وخديعته في تشويه وجوه متألّقة من مثل علي (عليه السَّلام) وبدعته في سبّه، وفي خديعة مفضوحة تخدع العوّام أشاع معاوية بعد استشهاد عمار بن ياسر ـ المقاتل التسعيني والمجاهد الإسلامي القديم والكبير ـ في صفين بين يدي علي (عليه السَّلام) والذي تنبّأ الرسول (صلى الله عليه واله)باستشهاده على يد الفئة الباغية في جيشه الشامي بأنّ علياً هو قاتل عمار، لأنّه ورّطه في هذه المعركة وتسبب في قتله.
ويؤكد ما قلناه قصة الناقة والجمل، و قضية صلاة الجمعة في يوم الأربعاء المخزية، وهي كما يقول المسعودي: ...إنّ رجلاً من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حال منصرفهم عن صفين، فتعلّق به رجل من دمشق فقال: هذه ناقتي، أُخذت منّي بصفين، فارتفع أمرهما إلى معاوية، وأقام الدمشقي خمسين رجلاً بيّنة يشهدون أنّها ناقته، فقضى معاوية على الكوفي، وأمره بتسليم البعير إليه، فقال الكوفي: أصلحك اللّه! إنّه جمل وليس بناقة.
فقال معاوية: هذا حكم قد مضى، ودسّ إلى الكوفي بعد تفرّقهم فأحضره، وسأله عن ثمن بعيره، فدفع إليه ضعفه، وبرّه، وأحسن إليه، وقال له: أبلغ عليّاً أنّي أقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل!
وقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنّه صلّى بهم عند مسيرهم إلى صفين، الجمعة في يوم الأربعاء وأعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها....
وقد شوّهت السلطة الأموية مكانة أهل بيت الرسول الطاهرين في أعين أهل الشام وجعلت من بني أُمية أقرباء لرسول اللّه بإعلامهم المظلّل والحاقد إلى الحد الذي دفع بالمؤرخين أن يكتبوا:
قدم بعد غلبة العباسيين وتوطد حكم أبي العباس السفاح قدم إليه عشرة من أُمراء الشام، وأقسموا بأنّهم ما عرفوا قبل قتل مروان ـ آخر خلفاء الأمويين ـ قرابة لرسول اللّه ترثه حتى ملكتم أنتم.
وعليه فلا عجب من أن نقرأ في كتب المقاتل: أُتي بحرم رسول اللّه (صلى الله عليه واله)حتى أدخلوا مدينة دمشق من باب يقال له باب توماء ثمّ ، أُتي بهم حتى وقفوا على باب المسجد، وإذا بشيخ قد أقبل حتى دنا منهم و قال: الحمد للّه الذي قتلكم وأهلككم وأراح الرجال من سطوتكم وأمكن أمير المؤمنين منكم!! سكت علي بن الحسين عليمها السَّلام حتى يفرغ الرجل الشامي ما في نفسه، فقال له :«يا شيخ هل قرأت القرآن؟» فقال: نعم قد قرأته، قال:« فعرفت هذه الآية: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] ، قال الشيخ: قد قرأت ذلك.
قال (عليه السَّلام) :«وهذه الآية {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26] » قال الشيخ: قد قرأت تلك، وقال (عليه السَّلام) :«وهذه الآية { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [الأحزاب: 33] » (3)قال الشيخ: قد قرأت ذلك.
فقال علي بن الحسين عليمها السَّلام : «يا شيخ نزلت هذه الآيات فينا، فنحن ذو القربى، و نحن أهل البيت الذين خصصنا بالطهارة من الرجس» فعلم الشيخ أنّ ما سمعه عن هؤلاء ما هو إلاّ أباطيل وليسوا هم بالخوارج، بل أبناء رسول اللّه، و بقي ساعة ساكتاً نادماً على ما تكلّمه، ثمّ رفع رأسه إلى السماء و قال: اللّهمّ إنّي تائب إليك ممّا تكلّمته ومن بغض هؤلاء القوم، اللّهم إنّي أبرأ إليك من عدو محمد وآل محمّد.