خرج ابن زياد من البصرة و أقبل إلى الكوفة و معه مسلم بن عمرو الباهلي و شريك بن الأعور الحارثي و حشمه و أهل بيته بضعة عشر رجلا حتى دخل الكوفة و عليه عمامة سوداء و هو متلثّم، و الناس قد بلغهم إقبال حسين (عليه السلام) إليهم فهم ينتظرون قدومه، فظنّوا- حين قدم عبيد اللّه- أنه الحسين (عليه السلام) فأخذ لا يمرّ على جماعة من الناس إلا سلّموا عليه و قالوا:
مرحبا بك يا ابن رسول اللّه! قدمت خير مقدم، فرأى من تباشيرهم بالحسين عليه السّلام ما ساءه، و غاضه ما سمع منهم، و قال: أ لا أرى هؤلاء كما أرى! فلمّا أكثروا قال مسلم بن عمرو الباهلي: تأخّروا، هذا الأمير عبيد اللّه بن زياد.
فلمّا دخل القصر و علم الناس أنه عبيد اللّه بن زياد دخلهم من ذلك كآبة و حزن شديد!
و لمّا نزل القصر و أصبح نودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخرج فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال: أمّا بعد؛ فانّ أمير المؤمنين- أصلحه اللّه- ولّاني مصركم و ثغركم، و أمرني بانصاف مظلومكم، و اعطاء محرومكم، و بالإحسان إلى سامعكم و مطيعكم، و بالشدة على مريبكم و عاصيكم، و أنا متّبع فيكم أمره، و منفذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم و مطيعكم كالوالد البرّ، و سوطي و سيفي على من ترك أمري و خالف عهدي! فليبق امرؤ على نفسه! الصدق ينبئ عنك لا الوعيد ثم نزل فأخذ العرفاء و الناس أخذا شديدا، فقال: اكتبوا إليّ الغرباء و من فيكم من طلبة أمير المؤمنين و من فيكم من الحروريّة و أهل الريب الذين رأيهم الخلاف و الشقاق، فمن كتبهم لنا فبرئ، و من لم يكتب لنا أحدا فيضمن لنا ما في عرافته ألّا يخالفنا منهم مخالف و لا يبغي علينا منهم باغ، فمن لم يفعل برئت منه الذمّة، و حلال لنا ماله و سفك دمه! و أيما عرّيف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صلب على باب داره! و القيت تلك العرافة من العطاء، و سيّر إلى موضع بعمان الزارة .
و سمع مسلم بن عقيل مجيء عبيد اللّه و مقالته التي قالها و ما أخذ به العرفاء و الناس، فخرج من دار المختار- و قد علم به- حتى انتهى إلى دار هانئ بن عروة المرادي فدخل بابه و أرسل إليه أن اخرج، فخرج إليه هانئ و كره مكانه حين رآه، فقال له مسلم: (أتيتك لتجيرني و تضيّفني) فقال: (رحمك اللّه! لقد كلّفتني شططا! و لو لا دخولك داري، و ثقتك، لأحببت- و لسألتك- أن تخرج عنّي! غير أنه يأخذني من ذلك ذمام! و ليس مردود مثلي على مثلك عن جهل! ادخل) فاواه.
و أخذت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ بن عروة
و قد كان مسلم بن عقيل حيث تحوّل إلى دار هانئ بن عروة و بايعه ثمانية عشر ألفا قدّم كتابا إلى حسين (عليه السلام) مع عابس بن أبي شبيب الشاكري: (أمّا بعد فانّ الرائد لا يكذب أهله، و قد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي، فانّ الناس كلّهم معك، ليس لهم في آل معاوية رأي و لا هوى؛ و السلام) و كان ذلك قبل أن يقتل لسبع و عشرين ليلة
و دعا ابن زياد مولى له يقال له معقل ، فقال له: خذ ثلاثة آلاف درهم، ثم اطلب مسلم بن عقيل، و اطلب لنا أصحابه، ثم أعطهم هذه الثلاثة آلاف؛ فقل لهم: استعينوا بها على حرب عدوّكم، و أعلمهم أنك منهم، فانّك لو أعطيتها إيّاهم اطمانّوا إليك، و وثقوا بك، و لم يكتموك شيئا من أخبارهم؛ ثم اغد عليهم و رح.
فجاء معقل حتى أتى إلى مسلم بن عوسجة الأسدي في المسجد الأعظم و هو يصلّي، و كان سمع الناس يقولون: إنّ هذا يبايع للحسين (عليه السلام) فجاء حتى فرغ من صلاته ثم قال: يا عبد اللّه، إني امرؤ من أهل الشام مولى لذي الكلاع، أنعم اللّه عليّ بحبّ أهل هذا البيت و حبّ من أحبّهم، فهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كنت اريد لقاءه فلم أجد أحدا يدلّني عليه و لا يعرف مكانه، فانّي لجالس آنفا في المسجد إذ سمعت نفرا من المسلمين يقولون: هذا رجل له علم بأهل هذا البيت؛ و إني أتيتك لتقبض هذا المال و تدخلني على صاحبك فابايعه، و إن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه.
فقال له مسلم بن عوسجة: (أحمد اللّه على لقائك إياي، فقد سرّني ذلك لتنال ما تحب، و لينصر اللّه بك أهل بيت نبيّه، و لقد ساءني معرفتك إياي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية و سطوته) فأخذ بيعته قبل أن يبرح و أخذ عليه المواثيق المغلظة ليناصحنّ و ليكتمنّ، فأعطاه من ذلك ما رضي به.
ثم قال: (اختلف إليّ أياما في منزلي فأنا طالب لك الاذن على صاحبك) فطلب له الأذن، فأخذ يختلف مع الناس
مرض هانئ بن عروة فجاء عبيد اللّه ابن زياد عائدا له، فقال له عمارة بن عبيد السلولي: إنما جماعتنا و كيدنا قتل هذا الطاغية، فقد أمكنك اللّه منه فاقتله. قال هانئ: ما أحبّ أن يقتل في داري فعاده ابن زياد و خرج.
فما مكث إلا جمعة حتى مرض شريك بن الأعور الحارثي و كان كريما على ابن زياد و على غيره من الامراء، و كان شديد التشيّع، فأرسل إليه عبيد اللّه ابن زياد: إني رائح إليك العشيّة، فقال شريك لمسلم: إنّ هذا الفاجر عائدي العشيّة، فاذا جلس فاخرج إليه فاقتله، ثم اقعد في القصر ليس أحد يحول بينك و بينه، فان برئت من وجعي هذا أيامي هذه سرت إلى البصرة و كفيتك أمرها.
فلمّا كان من العشي أقبل عبيد اللّه ابن زياد لعيادة شريك الحارثي فقام مسلم بن عقيل ليدخل، و قال له شريك: لا يفوتنّك إذا جلس؛ فقام هانئ بن عروة إليه فقال: إني لا احبّ أن يقتل في داري- كأنه استقبح ذلك-!
فجاء عبيد اللّه بن زياد فدخل فجلس، فسأل شريكا عن وجعه و قال: ما الذي تجد؟ و طال سؤاله إياه.
و لمّا رأى شريك أنّ مسلما لا يخرج، خشي أن يفوته فأخذ يقول:
(ما تنظرون بسلمى أن تحيّوها)؟! اسقنيها و إن كانت فيها نفسي! قال ذلك مرّتين أو ثلاثا.
فقال عبيد اللّه: ما شأنه أ ترونه يهجر؟
فقال له هانئ: نعم أصلحك اللّه! ما زال هذا ديدنه قبيل عماية الصبح حتى ساعته هذه.
ف قام ابن زياد و انصرف.
فخرج مسلم، فقال له شريك: ما منعك من قتله؟ فقال: خصلتان.
أمّا أحدهما: فكراهة هانئ أن يقتل في داره.
و أمّا الاخرى: فحديث حدّثه الناس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: (إنّ الإيمان قيد الفتك، و لا يفتك مؤمن).
فقال هانئ: أما و اللّه لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا! و لكن كرهت أن يقتل في داري!
ثم انّ معقلا اختلف إلى مسلم بن عوسجة أياما ليدخله على ابن عقيل، فأقبل به حتى أدخله عليه، فأخبره خبره، فأخذ بيعته و أمر أبا ثمامة الصائدي ، فقبض ماله الذي جاء به، و أقبل يختلف إليهم فهو أول و آخر خارج، يسمع أخبارهم و يعلم أسرارهم ثم ينطلق بها حتى يقرّها في اذن ابن زياد
قال ابن زياد لجلسائه: مالي لا أرى هانئا؟ فقالوا: هو شاك و دعا عبيد اللّه بن زياد محمد بن الأشعث و أسماء بن خارجة و عمرو بن الحجاج - و كانت روعة اخت عمرو بن الحجّاج تحت هانئ بن عروة- فقال لهم: ما يمنع هانئ بن عروة من إتياننا؟ قالوا: ما ندري أصلحك اللّه! و انه ليتشكّى ، قال: بلغني أنه قد برأ، و هو يجلس على باب داره، فالقوه فمروه ألا يدع ما عليه في ذلك من الحق، فاني لا أحبّ أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب .
هانئ يدعى إلى ابن زياد
فأتوه حتى وقفوا عليه عشيّة، و هو جالس على بابه، فقالوا: ما يمنعك من لقاء الأمير، فانه قد ذكرك و قال: لو أعلم أنه شاك لعدته؟، فقال لهم:
الشكوى تمنعني، فقالوا له: يبلغه أنك تجلس كلّ عشيّة على باب دارك، و قد استبطأك، و الإبطاء و الجفاء لا يحتمله السلطان، أقسمنا عليك لمّا ركبت معنا!.
فدعا بثيابه فلبسها، ثم دعا ببغله فركبها، حتى إذا دنا من القصر؛ كأنّ نفسه أحسّت ببعض الذي كان، فقال لحسّان بن خارجة: يا ابن أخي إني- و اللّه- لهذا الرجل لخائف! فما ترى؟ قال: أي عمّ- و اللّه- ما أتخوّف عليك شيئا، و لم تجعل على نفسك سبيلا و أنت برىء؟.
فدخل القوم على ابن زياد و دخل معهم، فلمّا طلع على ابن زياد قال عبيد اللّه ابن زياد: أتتك بحائن رجلاه ، فلمّا دنا من ابن زياد- و كان عنده شريح القاضي - التفت نحوه فقال:
اريد حباءه و يريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد
فقال له هانئ: و ما ذاك أيها الأمير؟ قال: إيه يا هانئ بن عروة! ما هذه الأمور التي تربّص في دورك لأمير المؤمنين و عامّة المسلمين!، جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، و جمعت له السلاح و الرجال في الدور حولك، و ظننت أنّ ذلك يخفى عليّ لك!
قال: ما فعلت، و ما مسلم عندي.
قال: بلى قد فعلت.
قال: ما فعلت.
قال: بلى
فلما كثر ذلك بينهما و أبى هانئ إلا مجاحدته و مناكرته دعا ابن زياد معقلا- ذلك العين- فجاء حتى وقف بين يديه.
فقال: أ تعرف هذا؟
قال: نعم. و علم هانئ عند ذلك أنه كان عينا عليهم و أنه قد أتاه بأخبارهم. فقال له: اسمع منّي و صدّق مقالتي، فو اللّه لا أكذبك، و اللّه الذي لا إله غيره، ما دعوته إلى منزلي و لا علمت بشيء من أمره، حتى رأيته جالسا على بابي، فسألني النزول عليّ فاستحييت من ردّه، و دخلني من ذلك ذمام، فأدخلته داري و ضفته و آويته، و قد كان من أمره الذي بلغك، فان شئت أعطيت الآن موثقا مغلّظا و ما تطمئن إليه ألّا أبغيك سوءا، و إن شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتى آتيك و أنطلق إليه فامره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض، فأخرج من ذمامه و جواره!
فقال: لا و اللّه لا تفارقني أبدا حتى تأتيني به!
فقال: لا و اللّه لا أجيئك به أبدا! أنا أجيئك بضيفي تقتله!
قال: و اللّه لتأتيني به.
قال: و اللّه لا آتيك به.
فلمّا كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي فقال: أصالح اللّه الأمير خلّني و إيّاه حتى اكلّمه. و قال لهانئ: قم إليّ هاهنا حتى اكلّمك؛ فقام فخلا به ناحية من ابن زياد و هما منه على ذلك قريب حيث يراهما إذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان و إذا خفضا خفى عليه ما يقولان. فقال له مسلم بن عمرو الباهلي: يا هانئ؛ إني انشدك اللّه أن تقتل نفسك و تدخل البلاء على قومك و عشيرتك! فو اللّه إني لأنفس بك عن القتل، إن هذا الرجل مسلم بن عقيل ابن عمّ القوم و ليسوا قاتليه و لا ضائريه، فادفعه إليه فانه ليس عليك بذلك مخزاة و لا منقصة، إنما تدفعه إلى السلطان.
قال: بلى و اللّه، إنّ عليّ في ذلك للخزي و العار، أنا أدفع جاري و ضيفي و أنا حيّ صحيح أسمع و أرى، شديد الساعد، كثير الأعوان! و اللّه لو لم أكن إلا واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه إليه حتى أموت دونه. و هو يرى أنّ عشيرته ستحرّك في شأنه فأخذ يناشده و هو يقول: لا و اللّه لا أدفعه إليه أبدا!
فسمع ابن زياد ذلك فقال: ادنوه منّي، فأدنوه منه.
فقال: و اللّه لتأتيني به أو لأضربنّ عنقك.
قال: إذا تكثر البارقة حول دارك - و هو يظنّ أنّ عشيرته يسمعونه-.
فقال: وا لهفاه عليك! أبا لبارقة تخوّفني! ادنوه منّي، فادني، فاستعرض وجهه بالقضيب فلم يزل يضرب أنفه و جبينه و خدّه حتى كسر أنفه و سيّل الدماء على ثيابه و نثر لحم خدّيه و جبينه على لحيته حتى كسر القضيب!
و ضرب هانئ بيده إلى قائم سيف شرطيّ من تلك الرجال و جاذبه الرجل و منع.
فقال عبيد اللّه بن زياد: أ حروريّ سائر اليوم! احللت بنفسك، قد حلّ لنا قتلك، خذوه فألقوه في بيت من بيوت الدار و أغلقوا عليه بابه و اجعلوا عليه حرسا، ففعل ذلك به.
فقام إليه أسماء بن خارجة فقال: أرسل غدر سائر اليوم! أمرتنا أن نحيئك بالرجل حتى إذا جئناك به و أدخلناه عليك هشّمت وجهه و سيّلت دمه على لحيته و زعمت أنك تقتله! فقال له عبيد اللّه: و انّك لها هنا! فأمر به فلهز و تعتع به فحبس.
و أمّا محمد بن الأشعث فقال: قد رضينا بما رأي الأمير؛ لنا كان أم علينا، إنما الأمير مؤدّب!
و قام إلى عبيد اللّه بن زياد فكلّمه و قال: إنّك قد عرفت منزلة هانئ بن عروة في المصر و بيته في العشيرة، و قد علم قومه أني و صاحبي سقناه إليك، فانشدك اللّه لمّا وهبته لي، فاني أكره عداوة قومه، هم أعزّ أهل المصر و عدد أهل اليمن ، فوعده أن يفعل
و بلغ عمرو بن الحجّاج أن هانئا قد قتل، فأقبل في مذحج و معه جمع عظيم حتى أحاط بالقصر ثم نادى: أنا عمرو بن الحجّاج؛ هذه فرسان مذحج و وجوهها لم تخلع طاعة و لم تفارق جماعة! و قد بلغهم أنّ صاحبهم يقتل فأعظموا ذلك!
فقيل لعبيد اللّه هذه مذحج بالباب.
فقال لشريح القاضي: أدخل على صاحبهم فانظر إليه، ثم اخرج فأعلمهم أنه حيّ لم يقتل و أنك قد رأيته .
قال شريح: دخلت على هانئ لمّا رآني قال: يا للّه يا للمسلمين! أهلكت عشيرتي؟ فأين أهل الدين! و أين أهل المصر! تفاقدوا! و يخلّوني و عدوّهم و ابن عدوّهم! و الدماء تسيل على لحيته. إذ سمع الرجّة على باب القصر. و خرجت و اتبعني فقال: يا شريح، إني لأظنّها أصوات مذحج و شيعتي من المسلمين، إن دخل عليّ عشرة نفر أنقذوني.
قال: فخرجت إليهم، و معي حميد بن بكير الأحمري - أرسله معي ابن زياد، و كان من شرطته ممن يقوم على رأسه- فلمّا خرجت إليهم قلت: إنّ الأمير لمّا بلغه مكانكم و مقالتكم في صاحبكم أمرني الدخول إليه فأتيته فنظرت إليه، فأمرني أن ألقاكم و أن أعلمكم أنه حيّ! و أنّ الذي بلغكم من قتله كان باطلا.
فقال عمرو بن الحجّاج و أصحابه: فأما إذ لم يقتل فالحمد للّه، ثم انصرفوا!
و خشي عبيد اللّه أن يثب الناس به، فخرج و معه أشراف الناس و شرطه و حشمه، فصعد المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثم قال:
أما بعد- أيها الناس- فاعتصموا بطاعة اللّه و طاعة أئمتكم، و لا تختلفوا و لا تفرّقوا، فتهلكوا، و تذلّوا، و تقتلوا و تجفوا، و تحرموا! إنّ أخاك من صدّقك! و قد أعذر من أنذر!
(و أرسل مسلم بن عقيل، عبد اللّه بن خازم رسولا إلى القصر لينظر إلى ما صار أمر هانئ) قال: فلمّا ضرب و حبس ركبت فرسي و كنت أول أهل الدار دخل على مسلم بن عقيل بالخبر، و إذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين يا عشيرتاه! يا ثكلاه!، فدخلت على مسلم بن عقيل بالخبر، فأمرني أن انادي في أصحابه: يا منصور أمت- و قد ملأ الدور حوله و قد بايعه ثمانية عشر ألفا و في الدور أربعة آلاف رجل- فناديت يا منصور أمت، و تنادى أهل الكوفة، فاجتمعوا إليه.
فعقد مسلم عليه السّلام لعبيد اللّه بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة و ربيعة و قال: سر أمامي في الخيل، ثم عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج و أسد و قال: انزل في الرجال فأنت عليهم، و عقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم و همدان، و عقد لعبّاس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة، و أقبل مسلم يسير في الناس من مراد.
اجتماع الأشراف بابن زياد
و أقبل أشراف الناس يأتون ابن زياد من قبل الباب الذي يلي دار الروميّين .
و دعا عبيد اللّه ابن زياد كثير بن شهاب بن الحصين الحارثي ، فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيسير بالكوفة و يخذّل الناس عن ابن عقيل و يخوّفهم الحرب و يحذّرهم عقوبة السلطان.
و أمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة و حضرموت فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس.
و قال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي و شيث بن ربعي التميمي و حجّار بن أبجر العجلى و شمر بن ذي الجوشن العامري
و عقد لشبث بن ربعي لواء فأخرجه و قال: أشرفوا على الناس فمنّوا أهل الطاعة الزيادة و الكرامة، و خوّفوا أهل المعصية الحرمان و العقوبة .
قال أبو مخنف: و حدّثني يونس بن إسحاق عن عبّاس الجدلي قال: و أعلموهم فصول الجنود من الشام إليهم
فتكلم كثير بن شهاب أول الناس ... فقال: أيها الناس الحقوا بأهاليكم و لا تعجلوا الشرّ و لا تعرضوا أنفسكم للقتل، فانّ هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت، و قد أعطى اللّه الأمير عهدا لئن أتممتم على حربه و لم تنصرفوا من عشيّتكم أن يحرّم ذرّيتكم العطاء، و يفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع، و أن يأخذ البريء بالسقيم و الشاهد بالغائب، حتى لا يبقى فيكم بقيّة من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جرت أيديها.
و تكلّم الأشراف بنحو من كلام هذا.
فلمّا سمع مقالتهم الناس أخذوا يتفرّقون ... و إنّ المرأة كانت تأتي ابنها أو أخاها فتقول انصرف؛ الناس يكفونك، و يجيء الرجل ابنه أو أخيه فيقول: غدا يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب و الشر، انصرف، فيذهب به
و خرج محمد بن الأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة، و جاءه عمارة بن صلخب الأزدي عليه سلاحه و هو يريد ابن عقيل فأخذه فبعث به إلى ابن زياد فحبسه. فبعث ابن عقيل إليه من المسجد لقتاله: عبد الرحمن بن شريح الشبامي و معه ناس كثير، و جال القعقاع بن شور الذهلي على مسلم و أصحابه من موضع بالكوفة يقال له: العرار و أرسل إلى محمد بن الأشعث: قد جلت على ابن عقيل من العرار، فتأخّر عن موقفه و قاتلهم شبث بن ربعي ثم جعل يقول: انتظروا بهم الليل يتفرّقوا، فقال له القعقاع بن شور: إنك سددت على الناس وجه مصيرهم فأخرج لهم ينسربوا .
قال عبّاس الجدلي: خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف، فما بلغنا القصر إلا و نحن ثلاثمائة ، فما زالوا يتفرّقون و يتصدّعون حتى أمسى ابن عقيل و ما معه ثلاثون نفسا في المسجد؛ فما صلّى مع ابن عقيل إلا ثلاثون نفسا؛ فلمّا رأى ذلك خرج متوجّها نحو أبواب كندة و بلغ الأبواب و معه منهم عشرة؛ ثم خرج و إذا ليس معه إنسان؛ و التفت فاذا هو لا يحسّ أحدا يدلّه على الطريق و لا يدلّه على منزل و لا يواسيه بنفسه إن عرض له عدوّ!، فمضى على وجهه يتلدّد في أزقّة الكوفة لا يدري أين يذهب! حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة، فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها (طوعة) أمّ ولد كانت للأشعث بن قيس
فأعتقها، فتزوّجها اسيد الحضرمي ، فولدت له بلالا، و كان بلال قد خرج مع الناس و امّه قائمة تنتظره، فسلّم عليها ابن عقيل، فردّت عليه، فقال لها: يا أمة اللّه اسقيني ماء، فدخلت فسقته، فجلس، و أدخلت الإناء ثم خرجت.
فقالت: يا عبد اللّه أ لم تشرب! قال: بلى، قالت: فاذهب إلى أهلك؛ فسكت؛ ثم عادت فقالت مثل ذلك، فسكت؛ ثم قالت له: فيّ اللّه سبحان اللّه يا عبد اللّه! فمرّ إلى أهلك عافاك اللّه؛ فانه لا يصالح لك الجلوس على بابي و لا أحلّه لك.
فقام فقال: يا أمة اللّه، مالي في المصر منزل و لا عشيرة فهل لك إلى أجر و معروف، و لعلّي مكافؤك به بعد اليوم؟!
فقالت: يا عبد اللّه و ما ذاك؟
قال: أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء القوم و غرّوني!
قالت: أنت مسلم.
قال: نعم.
قالت: ادخل، فأدخلته بيتا في دارها- غير البيت الذي تكون فيه- و فرشت له، و عرضت عليه العشاء فلم يتعشّ.
و لم يكن بأسرع من أن جاء ابنها، فرآها تكثر الدخول في البيت و الخروج منه، فقال: و اللّه إنه ليريبني كثرة دخولك هذا البيت منذ الليلة و خروجك منه! إنّ لك لشأنا؟ قالت: يا بني أله عنه هذا، قال لها: و اللّه لتخبرنّي! قالت: أقبل على شأنك و لا تسألني عن شيء، فألحّ عليها، فقالت: يا بنيّ لا تحدّثنّ أحدا من الناس بما اخبرك به. و أخذت عليه الأيمان، فحلف لها، فأخبرته، فاضطجع و سكت .
و روى الطبري عن عمار الدهني عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال: فلمّا رأى مسلم أنه قد بقي وحده يتردد في الطرق، أتى بابا فنزل عليه، فخرجت إليه امرأة، فقال لها: اسقيني، فسقته، ثم دخلت فمكثت ما شاء اللّه ثم خرجت فاذا هو على الباب، قالت: يا عبد اللّه! إنّ مجلسك مجلس ريبة، فقم؛ قال: إني أنا مسلم بن عقيل فهل عندك مأوى؟ قالت: نعم ادخل.
و لمّا طال على ابن زياد و أخذ لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتا كما كان يسمعه قبل ذلك، قال لأصحابه: أشرفوا فانظروا هل ترون منهم أحدا؟
فأشرفوا فلم يروا أحدا؛ قال: فانظروا لعلّهم تحت الظلال قد كمنوا لكم؛ ففزعوا بحابح المسجد و جعلوا يخفضون شعل النار في أيديهم ثم ينظرون هل في الظلال أحد؟ و كانت أحيانا تضيء لهم و احيانا لا تضيء لهم كما يريدون، فدلّوا القناديل و أنصاف الطّنان تشدّ بالحبال ثم تجعل فيها النيران ثم تدلّى حتى تنتهي إلى الأرض، ففعلوا ذلك في أقصى الظلال و أدناها و أوسطها، حتى فعلوا ذلك بالظلّة التي فيها المنبر، فلمّا لم يروا شيئا أعلموا ابن زياد، ف أمر كاتبه عمرو بن نافع فنادى: ألا برئت الذمّة من رجل من الشرطة و العرفاء أو المناكب أو المقاتلة صلّى العتمة إلا في المسجد!
فلم يكن إلا ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس.
فقال له الحصين بن تميم التميمي- و كان على شرطته -: إن شئت صلّيت بالناس، أو يصلّي بهم غيرك، فاني لا آمن أن يغتالك بعض أعدائك!
فقال: مر حرسي فليقوموا ورائي كما كانوا يقفون، و در فيهم. ففتح باب السدة التي في المسجد، ثم خرج و خرج أصحابه معه ... فصلّى بالناس.
ثم صعد المنبر و قام فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال: أمّا بعد؛ فانّ ابن عقيل السفيه الجاهل! قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف و الشقاق! فبرأت ذمّة اللّه من رجل وجدناه في داره! و من جاء به فله ديته!
اتّقوا اللّه عباد اللّه و الزموا طاعتكم و بيعتكم! و لا تجعلوا على أنفسكم سبيلا!
يا حصين بن تميم! ثكلتك امّك إن صاح باب سكّة من سكك الكوفة، أو خرج هذا الرجل و لم تأتني به! و قد سلّطتك على دور أهل الكوفة! فابعث مراصدة على أفواه السكك.
و اصبح غدا و استسبر الدور و جس خلالها حتى تأتيمي بهذا الرجل!
ثم نزل ابن زياد فدخل، و عقد لعمرو بن حريث راية و أمّره على الناس ، و أمره أن يقعد لهم في المسجد.
و جاء المختار بن أبي عبيد خبر ابن عقيل أنه قد ظهر بالكوفة، و المختار في قرية له بخطرنية تدعى: لقفا و كان فيمن بايع مسلما من أهل الكوفة و ناصحه و دعا إليه من أطاعه، فأقبل في موال له حتى انتهى إلى باب الفيل بعد الغروب، و قد عقد عبيد اللّه بن زياد لعمرو بن حريث راية على جميع الناس.
فلمّا كان المختار على باب الفيل مرّ به هانئ بن أبي حيّة الوداعي ، فقال المختار: ما وقوفك هاهنا! لا أنت مع الناس و لا أنت في رحلك؟ قال: أصبح رأيي مرتجّا لعظم خطيئتكم؛ فقال له: أظنّك و اللّه قاتلا نفسك، ثم أقبل إلى عمرو بن حريث فأخبره خبره
موقف المختار
قال عبد الرحمن بن أبي عمير الثقفي كنت جالسا عند عمرو بن حريث حين بلّغه هانئ بن أبي حيّة عن المختار هذه المقالة، فقال لي ابن حريث: قم إلى عمّك فأخبره أنّ صاحبه يعني مسلم بن عقيل عليه السّلام لا يدرى أين هو؟ فلا يجعلنّ على نفسه سبيلا. فقمت لآتيه.
و وثب إليه زائدة بن قدامة بن مسعود فقال له: يأتيك على أنه آمن؟
فقال له عمرو بن حريث: أمّا منّي فهو آمن، و إن رقّى إلى الأمير عبيد اللّه بن زياد شيء من أمره أقمت له بمحضره الشهادة و شفعت له أحسن الشفاعة.
فقال له زائدة بن قدامه: لا يكوننّ مع هذا- إن شاء اللّه- إلا خيرا.
قال عبد الرحمن: فخرجت- و خرج معي زائدة- إلى المختار فأخبرناه و ناشدناه- باللّه- أن لا يجعل على نفسه سبيلا.
فنزل إلى ابن حريث فسلّم عليه و جلس تحت رايته حتى أصبح
و ان كثير بن شهاب الحارثي ألفى رجلا في بني فتيان موضع بالكوفة من كلب يقال له (عبد الأعلى بن يزيد) قد لبس سلاحه يريد ابن عقيل، فأخذه حتى أدخله على ابن زياد فأخبره خبره، فقال الكلبي لابن زياد: إنما أردتك! قال ابن زياد: و كنت وعدتني ذلك من نفسك! فأمر به فحبس فلمّا أصبح جلس مجلسه و أذن للناس فدخلوا عليه.
و أقبل محمد بن الأشعث، فقال: مرحبا بمن لا يستغشّ و لا يتّهم! ثم أقعده إلى جنبه.
و أصبح ابن تلك العجوز التي آوت ابن عقيل و هو بلال بن اسيد فغدا إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأخبره بمكان ابن عقيل عند امّه، فأقبل عبد الرحمن حتى أتى أباه فسارّه و هو عند ابن زياد، فقال له ابن زياد: ما قال لك؟ قال: أخبرني أنّ ابن عقيل في دار من دورنا، فنخس بالقضيب في جنبه، ثم قال: قم فأتني به الساعة .
و بعث ابن زياد إلى عمرو بن حريث- و هو خليفته على الناس في المسجد- أن ابعث مع ابن الأشعث ستّين أو سبعين رجلا من قيس- و إنما كره
أن يبعث معه قومه لأنه قد علم أنّ كلّ قوم يكرهون أن يصادف فيهم مثل ابن عقيل- فبعث معه عمرو بن حريث: عمرو بن عبيد اللّه بن عبّاس السلمي في ستّين أو سبعين من قيس، حتى أتوا الدار التي فيها ابن عقيل.
فلمّا سمع مسلم عليه السّلام وقع حوافر الخيل و أصوات الرجال عرف أنه قد اتي، فخرج إليهم بسيفه، و اقتحموا عليه الدار، فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك.
فضرب بكير بن حمران الأحمري الشامي فم مسلم فقطع شفته العليا، و أشرع السيف في السفلى و فصلت ثنيّتاه، فضربه مسلم ضربة في رأسه منكرة و ثنّى باخرى على حبل العاتق كادت أن تطلع على جوفه.
فلمّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق ظهر البيت فأخذوا يرمونه بالحجارة.
و يلهبون النار في أطنان القصب ثم يقلبونها عليه من فوق البيت!
فلمّا رأى ذلك خرج عليهم مصلتا بسيفه في السكّة فقاتلهم ...
فأقبل عليه محمد بن الأشعث فقال: يا فتى! لك الأمان، لا تقتل نفسك، فأقبل يقاتلهم و هو يقول:
أقسمت لا اقتل إلا حرّا و إن رأيت الموت شيئا نكرا
كلّ امرئ يوما ملاق شرّا و يخلط البارد سخنا مرّا
ردّ شعاع النفس فاستقرّا اخاف أن أكذب أو اغرّا
فقال له محمد بن الأشعث: إنك لا تكذب و لا تخدع و لا تغر، إن القوم بنو عمّك و ليسوا بقاتليك و لا ضاربيك! و اثخن بالحجارة و عجز عن القتال، فأسند ظهره إلى جنب تلك الدار، فدنا محمد بن الأشعث فقال: لك الأمان، فقال مسلم: آمن أنا؟ قال: نعم، و قال القوم: نعم أنت آمن. و قال ابن عقيل: أما لو لم تؤمّنوني ما وضعت يدي في أيديكم، فعلم أنه استسلم للأمان.
و اتي ببغلة فحمل عليها، و اجتمعوا حوله و انتزعوا سيفه من عنقه، فكأنه ايس من نفسه، فدمعت عيناه ثم قال: هذا أول الغدر.
قال محمد بن الأشعث: أرجو أن لا يكون عليك بأس!
قال ما هو إلا الرجاء، أين أمانكم! إنّا للّه و إنا إليه راجعون! و بكى.
فقال له عمرو بن عبيد اللّه بن عبّاس السلمى الذي كان على الرجال المبعوثين إليه: إنّ من يطلب مثل الذي تطلب، إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك!
قال: إني و اللّه ما لنفسي أبكي، و لا لها من القتل أرثي- و إن كنت لم أحبّ لها طرفة عين تلفا- و لكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ، أبكي لحسين و آل حسين عليهم السّلام.
ثم أقبل (عليه السلام) على محمد بن الأشعث فقال: يا عبد اللّه، إني أراك و اللّه- ستعجز عن أماني، فهل عندك خير! تستطيع أن تبعث من عندك رجلا على لساني يبلغ حسينا، فاني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم مقبلا أو هو خارج غدا هو و أهل بيته، و إن ما ترى من جزعي لذلك، فيقول الرسول: إن ابن عقيل بعثني إليك و هو في أبدي القوم أسير لا يرى أن يمشي حتى يقتل، و هو يقول: ارجع بأهل بيتك، و لا يغرّك أهل الكوفة! فانهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل! إن أهل الكوفة كذبوك و كذبوني! و ليس لمكذّب رأي! فقال ابن الأشعث: و اللّه لأفعلنّ، و لأعلمنّ ابن زياد أني قد آمنتك
و أقبل محمد بن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر، و هو عطشان، و على باب القصر ناس جلوس ينتظرون الإذن، منهم عمارة بن عاقبة بن أبي معيط، و عمرو بن حريث، و مسلم بن عمرو، و كثير بن شهاب
و كانت قلّة باردة موضوعة على الباب.
فقال ابن عقيل: اسقوني من هذا الماء.
فقال له مسلم بن عمرو الباهلي: أ تراها ما أبردها! لا و اللّه لا تذوق منها قطرة أبدا حتى تذوق الحميم في نار جهنّم!
قال له ابن عقيل: ويحك من أنت؟
قال: أنا (ابن) من عرف الحق إذ أنكرته! و نصح لإمامه إذ غششته! و سمع و أطاع إذ عصيته و خالفت! أنا مسلم بن عمرو الباهلي!
فقال ابن عقيل: لامّك الثكل! ما أجفاك و ما أفظّك، و أقسى قلبك أغلظك! أنت- يا ابن باهلة- أولى بالحميم و الخلود في نار جهنّم منّي!
ثم جلس متساندا إلى الحائط.
ف بعث عمرو بن حريث المخزومي غلاما له يدعى سليمان فجاءه بماء في قلّة عليها منديل و معه قدح، فصبّ فيه ماء ثم سقاه، فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دما، فلمّا ملأ القدح المرّة الثالثة ذهب ليشرب فسقطت ثناياه فيه، فقال: الحمد للّه! لو كان لي من الرزق المقسوم شربته
فاستأذن ابن الأشعث فأذن له ، و ادخل مسلم على ابن زياد، فلم يسلّم عليه بالإمرة!
فقال له الحرسي: أ لا تسلّم على الأمير؟!
فقال له: إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه! و إن كان لا يريد قتلى فلعمري ليكثرنّ سلامي عليه.
فقال له ابن زياد: فلعمري لتقتلن.
قال: كذلك؟
قال: نعم.
قال: فدعني أوص إلى بعض قومي.
وصيّة مسلم إلى عمر بن سعد
فنظر إلى جلساء عبيد اللّه، و فيهم عمر بن سعد، فقال: يا عمر! إنّ بيني و بينك قرابة ولي إليك حاجة، و قد يجب لي عليك نجح حاجتي و هو سرّ، فأبى أن يمكّنه من ذكرها!
فقال له عبيد اللّه: لا تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك!
فقام معه فجلس حيث ينظر إليه ابن زياد، فقال له: إن عليّ بالكوفة دينا استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمائة درهم فاقضها عنّي؛ و انظر جثتي فاستوهبها من ابن زياد فوارها، و ابعث إلى حسين (عليه السلام) من يردّه فاني كتبت إليه أعلمه أنّ الناس معه، و لا أراه إلا مقبلا .
ثم قال ابن زياد: إيه يا ابن عقيل! أتيت الناس و أمرهم جميع و كلمتهم واحدة لتشتتهم و تفرّق كلمتهم، و تحمل بعضهم على بعض!
قال: كلا، لست أتيت، و لكن أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم و سفك دماءهم، و عمل فيهم أعمال كسرى و قيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل و ندعو إلى حكم الكتاب.
قال: و ما أنت و ذاك يا فاسق! أو لم نكن نعمل بذلك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر! قال: أنا أشرب الخمر! و اللّه إنّ اللّه ليعلم أنك غير صادق، و انّك قلت بغير علم، و اني لست كما ذكرت، و انّ أحقّ بشرب الخمر منّي و أولى بها من يلغ في دماء المسلمين و لغا فيقتل النفس التي حرّم اللّه قتلها، و يقتل النفس بغير النفس، و يسفك الدم الحرام، و يقتل على الغضب و العداوة و سوء الظنّ، و هو يلهو و يلعب كأنّ لم يصنع شيئا!
قال له ابن زياد: يا فاسق! إنّ نفسك تمنّيك ما حال اللّه دونه و لم يرك أهله.
قال: فمن أهله؟ يا ابن زياد؟
قال: أمير المؤمنين يزيد.
فقال: الحمد للّه على كلّ حال، رضينا باللّه حكما بيننا و بينكم.
قال: كأنّك تظنّ أنّ لكم بها شيئا!.
قال: و اللّه ما هو بالظنّ و لكنه اليقين!
قال: قتلني اللّه إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام!
قال: أما انك لا تدع سوء القتلة و قبح المثلة و خبث السيرة و لؤم الغلبة، و لا أحد من الناس أحقّ بها منك.
و أقبل ابن سميّة يشتمه و يشتم حسينا و عليّا و عقيلا.
مقتل مسلم عليه السّلام
ثم قال: اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه ثم أتبعوا جسده رأسه.
فقال مسلم لابن الأشعث: يا ابن الأشعث؛ أما و اللّه لو لا أنّك آمنتني ما استسلمت؛ قم بسيفك دوني فقد اخفرت ذمّتك!
و أقبل محمد بن الأشعث ... فأخبر عبيد اللّه خبر ابن عقيل و ضرب بكير بن حمران إياه، و أخبره بما كان منه و ما كان من أمانه إياه.
فقال عبيد اللّه: ما أنت و الأمان! كأنّا أرسلناك تؤمّنه! إنما أرسلناك لتأتينا به؛ فسكت .
ثم قال ابن زياد: أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف و عاتقه؟
فدعى، فقال: اصعد فكن أنت الذي تضرب عنقه.
فصعد به و هو يكبّر و يستغفر و يصلّي على ملائكة اللّه و رسله، و يقول اللهمّ احكم بيننا و بين قوم غرّونا و كذبونا و أذلّونا.
و أشرف به بكير الأحمري على موضع الجزّارين اليوم فضربت عنقه، و أتبع جسده رأسه
و نزل بكير بين حمران الأحمري الذي قتل مسلما فقال له ابن زياد: قتلته؟ قال: نعم، قال: فما كان يقول و أنتم تصعدون به؟ قال: كان يكبّر و يسبّح و يستغفر فلمّا أدنيته لأقتله قال: اللهمّ احكم بيننا و بين قوم كذبونا و غرّونا و خذلونا و قتلونا، فقلت له: ادن منّي، فضربته ضربة لم تغن شيئا، ثم ضربته الثانية فقتلته ثم جيء برأسه إلى ابن زياد
فقال عمر ابن سعد لابن زياد: أ تدري ما قال لي؟ إنه ذكر كذا و كذا.
قال له ابن زياد: إنه لا يخونك الأمين و لكن قد يؤتمن الخائن !، أمّا مالك فهو لك و لسنا نمنعك أن تصنع فيه ما أحببت ، و أمّا حسين فانه إن لم يردنا لم نرده؛ و إن أرادنا لم نكفّ عنه، و أمّا جثّته فانّا لا نبالي إذ قتلناه ما صنع بها .
لمّا كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان، أبى ابن زياد أن يفي لمحمد بن الأشعث بما وعده بأن يهب له هانئا، حذرا من عداوة قومه، لأنه هو الذي ذهب به إليه، فأمر بهانئ بن عروة فقال: أخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه!
فاخرج بهانئ- و هو مكتوف- حتى انتهي به إلى مكان من السوق يباع فيه الغنم فجعل يقول: وا مذحجاه! و لا مذحج لي اليوم! وا مذحجاه! و أين منّي مذحج!
فلمّا رأى أنّ أحدا لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتّاف ثم قال: أ ما من عصا أو سكّين أو حجر أو عظم يجاحش به رجل عن نفسه!
و وثبوا إليه فشدّوه وثاقا ثم قيل له: امدد عنقك!
فقال: ما أنا بها مجد سخيّ، و ما أنا بمعينكم على نفسي!
فتقدّم مولى تركي لعبيد اللّه بن زياد يقال له: رشيد فضربه بالسيف فلم يصنع سيفه شيئا.
و قال هانئ: إلى اللّه المعاد! اللّهمّ إلى رحمتك و رضوانك!
ثم ضربه اخرى فقتله رحمة اللّه عليه و رضوانه و ذهبوا برأسه إلى ابن زياد .
ثم إنّ عبيد اللّه بن زياد لمّا قتل مسلم بن عقيل و هانئ بن عروة دعا بعبد الأعلى الكلبي الذي كان أخذه كثير بن شهاب في بني فتيان، فاتى به، فقال له: أخبرني بأمرك.
فقال: أصلحك اللّه! خرجت لأنظر ما يصنع الناس! فأخذني كثير بن شهاب.
فقال له: فعليك و عليك- من الأيمان المغلّظة- إن كان أخرجك إلا ما زعمت! فأبى أن يحلف.
فقال عبيد اللّه: انطلقوا بهذا إلى جبّانة السبيع فاضربوا عنقه بها! فانطلقوا به فضربت عنقه!
و اخرج عمارة بن صلخب الأزدي- و كان ممن يريد أن يأتي مسلم بن عقيل بالنصرة لينصره- فاتي به عبيد اللّه فقال له: ممن أنت؟ قال: من الأزد، قال: فانطلقوا به إلى قومه، فضربت عنقه فيهم
فلمّا ارتفع النهار فتح باب عبيد اللّه بن زياد و أذن للناس، فدخل المختار فيمن دخل، فدعاه عبيد اللّه فقال له: أنت المقبل في الجموع لتنصر ابن عقيل؟
فقال له: لم أفعل، و لكنّي أقبلت و نزلت تحت راية عمرو بن حريث و بتّ معه و أصبحت، فقال عمرو بن حريث: صدق أصلحك اللّه.
فرفع القضيب ابن زياد فاعترض به وجه المختار فخبط عينه فشترها ،
و قال: أولى لك! أما و اللّه لو لا شهادة عمرو لضربت عنقك؛ انطلقوا به إلى السجن، فانطلقوا به إلى السجن، فحبس فيه حتى قتل الحسين (عليه السلام)
إنّ عبيد اللّه بن زياد بعث برءوسهما مع هانئ بن أبي حيّة الوادعي الكلبي الهمداني و الزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد بن معاوية و أمر كاتبه عمرو بن نافع، أن يكتب إلى يزيد بن معاوية بما كان من مسلم و هانئ، فكتب إليه كتابا أطال فيه، فلمّا نظر فيه عبيد اللّه بن زياد كرهه و قال: ما هذا التطويل و هذه الفضول؟ اكتب:
(أمّا بعد، فالحمد للّه الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه و كفاه مؤونة عدوّه، اخبر أمير المؤمنين- أكرمه اللّه- أنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي، و انّي جعلت عليهما العيون و دسست إليهما الرجال و كدتهما حتى استخرجتهما و أمكن اللّه منهما، فقدّمتهما فضربت أعناقهما، و قد بعثت إليك برءوسهما مع هانئ بن أبي حيّة الهمداني و الزبير بن الأروح التميمي و هما من أهل السمع و الطاعة و النصيحة، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا أحبّ من أمر، فانّ عندهما علما و صدقا و فهما و ورعا، و السلام).
فكتب إليه يزيد: (أمّا بعد، فانّك لم تعد أن كنت كما احب! عملت عمل الحازم وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنيت و كفيت و صدّقت ظنّي بك و رأيي فيك، و قد دعوت رسوليك فسألتهما و ناجيتهما فوجدتهما في رأيهما و فضلهما كما ذكرت، فاستوص بهما خيرا.
و إنه قد بلغني أنّ الحسين بن علي توجّه نحو العراق، فضع المناظر و المسالح و احترس على الظنّ و خذ على التهمة، غير أن لا تقتل إلا من قاتلك، و اكتب إليّ في كلّ ما يحدث من الخبر، و السلام عليك و رحمة اللّه)
و كان مخرج مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليال مضين من ذي الحجّة سنة ستّين ... و كان مخرج الحسين عليه السّلام من مكة يوم الثلاثاء يوم التروية في اليوم الذي خرج فيه مسلم بن عقيل
فقال عبد اللّه بن الزّبير الأسدي في قتلة مسلم بن عقيل و هانئا بن عروة المرادي، و يقال الفرزدق:
ف ان كنت لا تدرين ما الموت فانظري إلى هانئ في السوق و ابن عقيل
إلى بطل قد هشّم السيف وجهه و آخر يهوي من طمار قتيل
أصابهما أمر الأمير فأصبحا أحاديث من يسري بكلّ سبيل
ترى جسدا قد غيّر الموت لونه و نضح دم قد سال كلّ مسيل
فتى هو أحيى من فتاة حيية و أقطع من ذي شفرتين صقيل
أ يركب أسماء الهماليج آمنا و قد طلبته مذحج بذحول
تطيف حواليه مراد و كلّهم على رقبة من سائل و مسول
فان أنتم لم تثأروا بأخيكم فكونوا بغايا ارضيت بقليل