التاريخ دراسات لما يعبر في الزمن من خير وشر ودليل لمعرفة سير البشر في المعارف والصناعات والسياسيات والعادات والمؤهلات للرقي الانحطاط ومرآة صافية يتشوف منها الأعمال الصالحة والتعاليم النافعة وسير الأبطال الى اهدافهم المرموقة وما يؤثر عن العظماء من مزايا وآثار تكون قدوة في اقتصاص أثرهم والسير على هداهم ومن المؤسف جدا أهمال المؤرخين ورواة الحوادث واجبهم فنشروا فضائح وستروا فضائل طاعة للأمراء الذين استعبدوهم بالمال أو خضوعا للنزعات والأحقاد فجنوا على الحقايق الراهنة واضاعوا الأمانة المودعة عندهم فزويت معارف الرجال واعمالهم الصالحة واختلط الصحيح بالسقيم وديف السم بالعسل وان كلمة ( مقاتل ) للمنصور الدوانيقي ( اتحب ان اضع تك في فضل العباس ) تفيدنا فقهاً بتأثير الأطماع في النفوس وسحق العقائد وان اوجب غضب الرب سبحانه وتعالى خصوصاً اذا كان الوضع على لسان صاحب الشريعة وقد نبه على وخامة عاقبته فقال (صلى الله عليه واله) ستكثر القالة من بعدي فمن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار قال السبكي المؤرخون على جرف هار لتسليطهم على أعراض الناس ونقلهم مجرد ما يبلغهم من صادق أو كاذب وربما وضعوا من اناس ورفعوا اخرين أما لتعصب أو جهل أو اعتمادا على نقل من لا يوثق به والجهل في المؤرخين اكثر منه في اهل الجرح والتعديل وقل ما أرى مؤرخاً خالياً عن التعصب ولقد كان عيسى بن داب يضع للعباسيين وعوانة بن الحكم يضع لبني امية ومعاوية يستعبد سمرة بن جندب وابا هريرة وانس وزيد بن ارقم وعروة ابن الزبير لأهدافه وغاياته فأكثروا من فضائل السلف والطعن في اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب وولده وشوهوا احكام الشريعة وتجرؤا على قدس الرسالة فنسبوا اليه السهو مرة والخطأ اخرى وان السحر أثر فيه حتى خيل اليه انه يفعل الشيء ولم يفعله واستمر الحال الى سنة (8).
اذا فمن اين تبصر الأجيال المستقبلة الحوادث الصحيحة لتسير على ضوء هدى العظماء الذين لا يخضعون للدينه ويبذلون في تحصيل السعادة كل غال ورخيص.
ومن هنا اظلم الطريق ولم يهتد الباحث الى الصحيح في نسب ( الرباب ) زوجة الحسين (عليه السلام) والقصة التي يحكيها ابو الفرج الأصفهاني في مقال الطالبيين بترجمة عبدالله بن الحسين عن مجاهد عن محمد بن السائب الكلبي لا تأخذ بنا الى جهة نيرة فان القاريء لا يشك في تسطيرها على غير الواقع لغاية الحط من مقام اميرالمؤمنين الذي يقول كنت اتبع رسول الله اتباع الفصيل اثرامه يرفع لي كل يوم علما من اخلاقه ويأمرني بالاقتداء به أرى نور الوحي واشم ريح النبوة.
فان الأخلاق المحمدية التي تحلى بها صاحـب الخلافة الكبرى تتنافى مع الأسطورة التي يقصها مجاهد وابن الكلبي مع ان علمــاء الرجال تكلموا في مجــاهد ولم يقبل جملة منهم مرويــاته ومحمد بن هشام بن السائب الكلبي مجهول الحال عند علماء الشيعة ولم يعتمد عليه علماء السنة فما يتحدثان عنه في قصة زواج الحسين منها يرمي به عرض الجدار ولم يخف افتعالها على من يقرأها بروية.
ونصها المسطور في مقاتل الطالبيين بترجمة عبدالله بن الحسين (عليه السلام) ان رجلاً دخل المسجد ايام خلافة عمر بن الخطاب فحياه بتحية الاسلام وسأله عمر عن اسمه فقال انا نصراني انا امرء القيس بن عدي الكلبي ، وغرض عليه عمر الاسلام فاسلم وعقد له على من أسلم بالشام من قضاعة ولما حمل اللواء وادبر تبعه امير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعه ابناه حسن وحسين فقال له انا ابن عم رسول الله وصهره وهذان ابناي وقد رغبنا في صهرك فانكحنا فقال انكحتك يا علي ابنتي المحياة وانكحت الحسن اختها سلمى وانكحت الحسين اختها الرباب.
وهذه القصة لا مساس لها بالواقع فان الامعان في شخصية أمير المؤمنين المتحلية بالخلاق الشريعة والعادات المألوفة يفيدنا الجزم بمنافات اسراعه في المصاهرة من هذا النصراني الذي هو جديد عهد بالاسلام والمسلمين وكل احد اذا راجع وجدانه يجد منه الانكار على من يرتكب مثل هذا الذي لا يتفق مع الآداب العرفية حتى لو كان سوقة فضلا عمن هو مؤهل للزعامة الكبرى وفرضه المولى سبحانه وتعالى خليفة على البشر عامة بعد النبوة وحاشا مثل اميرالمؤمنين ان يكون مقهوراً لحكم الشهوة وتحفزه الغريزة الجنسية إلى ما تتنفر منه العامة والخاصة.
ومما يبعد القصة اهمالها اختيار رأي البنات في الرضا والعدم كما انها لم تعين المهر مع ان الشريعة المقدسة قررت اختيار الزوجة في الرضا بالزوج ومعرفة الزوجة بالمهر لازم والالتزام بفضولية العقد ووقوفه على الاجازة وان لها مهر امثالها لو لم يسم الصداق انما يتم مع فرض التنازل الى التسليم بمسارعة أمير المؤمنين وخوف فوات هذا ( الكنز ) منه لو لم يبادر الى مذاكرة الرجل في بناته.
على أنا معشر الامامية نلتزم بان الله تعالى مكن الامام الحجة المؤهل للرياسة العامة من العلم الواسع لقطع شبه المعاندين أو لتركيز عقايد المتبعين للحق وعليه فامير المؤمنين على يقين من ان بنات هذا الرجل لا يغلبه عليهن احد لو انتظر الفرصة المناسبة.
لكن الأحقاد ابت الا ان تشوه مقام ولي الله وتسجل على سيد الأوصياء (عليه السلام) ما تتقزز منه النفوس لعل ان يوجد في الأجيال من يتقبل هذه الأكذوبة فينحاز عنه وقد أصاب وأضعها الغرض فقد آمن بها من لا خبرة له بمكانة ( باب مدينة علم الرسول ) المتحلي باخلاقه الكريمة.
وهناك شيء اخر وهو بقاء الرباب حائلاً عند الحسين أكثر من عشرين سنة فان التزويج منها كان في خلافة عمر بن الخطاب ولا أقل من التقدير بآخر ايامه فانه قتل 25 سنة وولادة سكينة على أقل التقدير في سنة 47 فتكون يوم الطف ابنة 13 سنة والعادة بتعد بقاءها حائلاً هذه المدة الطويلة واذا كان الزواج في اوائل خلافته تكون المسافة ابعد.
وعلى هذا فلا حجة واضحة تأخذ بنا الى الايمان بهذه الاسطورة مع ان ابن كثير في البداية ج 8 ص 217 يسمى أباها ( انيف ) ولم ينسبه الى احد ولم يذكر هذه الأسطورة.
وعلى كل حال فالرباب من خيرات النساء وأفضلهن جاء بها الحسين مع حرمه الى الطف وحملت معهن الى الكوفة والشام ورجعت مع الحرم الى المدينة فأقامت فيها لا تهدأ ليلاً ولا نهاراً من البكاء على الحسين ولم تستظل تحت سقف حتى ماتت بعد قتله بسنة كمداً .
وليس بصحيح ما قيل انها أقامت على قبر الحسين سنة تنوح الليل والنهار وذلك بعد الرجوع من الشام ومرورهم بكربلاء فان العقيلة زينب الكبرى هي المتكفلة بحياطة الحرم وحفظهم وكلأتهم فلا تستطيع أن تفارقها بتلك البيداء المقفرة من دون عاطف ولا متحنن وهي امرأة عزلاء لا حامي لها ولا كفيل.
وكيف كان ففي تلك السنة التي عاشت فيها خطبها الاشراف فأبت وقالت ما كنت لاتخذ حماً بعد رسول الله (صلى الله عليه واله) .
وحق لها إذا أمتنعت من التزويج فانها لا ترى أي احد يوازي سيد شباب أهل الجنة لتحضى به أو أن هناك من يباري من هو من النبي (صلى الله عليه واله) بمنزلة هارون من موسى (عليه السلام) لتفوز بمصاهرته :
من يباريهم وفي الشمس معنى مجهد متعـب لمن بـاراها
قـادة علـمهم ورأى حجـاهم مسمعا كـل حكمية منظراها
ورثوا مـن محمد سبـق أولا ها وحازوا مالم تحز اخراها
وهم الأعين الصحيحات تهدي كـل عـين مكفوفة عيناها
كـم لهم ألسـن عن الله تنبي هي أقـلام حكمـة قد براها
لـم يكونوا للعـرش إلا كنوزا خافيات سبحان من أبداها
على أن الرواية جــاءت عن امـامة بنت زينب ربيبة رسول الله (صلى الله عليه واله) وكـانت في عداد أزواج أميرالمؤمنين عنه (عليه السلام) ان ازواج النبي (صلى الله عليه واله) والوصي (عليه السلام) لا يتزوجن بعده فلم تتزوج امرأة ولا أم ولد بعد أميرالمؤمنين عملاً بهذا الحديث .
والرباب هذه هي التي طلبت رأس الحسين من ابن زياد فلما رأته اخذته ووضعته في حجرها وقبلته وقالت :
واحسينا فلا نسيت حسيناً أفصـدته أسنـة الأعداء
غادروه بـكربلاء صريعاً لا سقى الله جانبي كربلاء
وهذان البيتان وراهما ياقوت في معجم البلدان ج 7 ـ 229 لعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل في رثاء الحسين وادعى انها زوجته وكان عجز البيت الثاني في روايته : لا سقى الغيث بعده كربلاء .
ولانفراده بهذا عما عليه أهل النسب والتراجم والسيرة من عدم عدها في ازواج السبط الشهيد لا يؤبه به.
وكان من رثاء الرباب لسيد الشهداء (عليه السلام) :
ان الذي كان نوراً يستضاء به بكربـلاء قتيـل غير مدفون
سبط النبي جزاك الله صالـحة عنا وجنبت خسران الموازين
قد كنت لي جبلاً صعباً ألوذ به وكنت تصحبنا بالرحم والدين
من لليتامى ومن للسائلين ومن يغني ويأوي اليـه كل مسكين
والله لا أبتغي صهراً بصهركم حتى اغيب بين الرمل والطين
ولما رجعت من الشام أقامت المأتم على الحسين وبكت النساء معها حتى جفت دموعهن :
تنعى ليوث البـأس مـن فتيانها وغيوثها إن عمت البأساء
تبكيهم بدم فقـل بالمهجة الحرى تسيـل العبـرة الحمـراء
ناحت فلما غضضت من صوتها بزفيرها أنفاسهـا الصعداء
حنت ولكـن الحنين بكـى وقد ناحت ولكن نوحهـا ايماء
ولما أعلمتها بعض جواريها بأن السويق يسيل الدمعة أمرت ان يصنع السويق وقالت انما نريد أن نقوى على البكاء .
ويقول ابن كثير توفيت الرباب بنت أنيف امرأة الحسين بن علي (عليه السلام) في سنة 62 وكانت حاظرة اهل العراق اذ هم يعدون في السبت او الجمعة على زوجها الحسين بن علي ابن بنت رسول الله .
ولدت الرباب من الحسين (عليه السلام) سكينة وعبدالله فاما عبدالله فقتل رضيعاً في حجر أبيه يوم الطف وذلك لما قتل أهل بيته وصحبه وبقي وحده استسلم للقضاء الآلهي بذبحه مظلوماً ممنوعاً من الورود.
وجاء الى عياله يودعهم ويأمرهم بلبس الأزر والصبر على ما يحل بهم من البلاء وعرفهم بأن الله تعالى يجعل عاقبة أمرهم الى خير ويعذب عدوهم بأنواع العذاب.
ثم دعا بولده الرضيع يودعه فأتته زينب بابنه عبدالله فاجلسه في حجره يودعه ويقبله ويقول :
بعداً لهؤلاء القوم اذا كان جدك المصطفى خصمهم .
ثم أتي به نحو القوم يطلب له الماء فرماه حرملة بسهم وذبحه فتلقى الحسين الدم بكفه ورمى به نحو السماء فلم يسقط منه قطرة .
وقال هون ما نزل بي أن بعين الله اللهم لا يكون أهون عليك من فصيل آلهي ان كنت حبست عنا النصر فاجعله لما هو خير منه وانتقم لنا من الظالمين واجعل ما حل بنا في العاجل ذخيرة لنا في الآجل اللهم أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولك محمد (صلى الله عليه واله) وسمع (عليه السلام) قائلاً يقول : دعه يا حسين فان له مرضعاً في الجنة .
ثم نزل عن فرسه وحفر له بجفن سيفه ودفنه مرملاً بدمه .
ويقال انه وضعه مع قتلى أهل بيته (8)
وأما سكينة فقد ذكر المؤرخون انه لقب لها من امها الرباب (9) وكأنه لسكونها وهدوئها وعليه فالمناسب فتح السين المهملة وكسر الكاف التي بعدها لا كما يجري على الألسن من ضم السين وفتح الكاف وهذا الرأي نسبه الصبان الى المشهور فانه قال :
المشهور على الآلسنة في اسمها انه مكبر بفتح السين وكسر الكاف .
والمحكى عن شرح اسماء رجال المشكاة انه مصغر بضم السين وفتح الكاف ومثله في القاموس.
واما اسمها فالذي اختاره ابن تغر بردي انه آمنة ورواية أبي اسحاق المالكي تؤكده فان فيها قول سكينة :
إنكم سميتموني باسم جدتي ام رسول الله (صلى الله عليه واله) آمنة بنت وهب.
ويحكى أبوالفرج القول بأنه أمينة واميمة.
ولم يتضح لنا سنة ولادتها ولا مقدار عمرها وان أمكننا القول بأنها قاربت السبعين بعد ملاحظة سنة وفاتها وكونها يوم الطف بالغة مبلغ النساء ولا أقل من التقدير بالعشرة. وذكرنا ولادتها سنة 47.
كما صح لنا ولادتها بالمدينة ووفاتها فيها يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الأول في سنة 117.
وقيل توفيت بمكة في طريق العمرة كما قيل رجعت الى الشام وقبرها هنالك ويذكر يوسف بن الحسن بن عبدالهادي المتوفي سنة 909 ان في دمشق مسجداً يعرف بمسجد سكينة قرب قبر بلال ويصفه المعلق على الكتاب بانه يقع في مقبرة باب الصغير الى جانب الضريحين ضريح السيدة ام كلثوم الصغرى بنت علي بن أبي طالب وضريح السيدة سكينة ويذهب الشعراني الى وفاتها بمراغة من أرض مصر وقبرها بالقرب من السيدة نفيسة .
وحكى ياقوت في معجم البلدان ج (صلى الله عليه واله) ـ ص 26 ان اهل طبرية يزعمون ان بظاهرها قبر سكينة بنت الحسين قال والحق انه بالمدينة.
وفي نور الأبصار للشبلنجي ص 160 توفيت بمكة.
وحيث أن اكثر المؤرخين على أن قبرها بالمدينة فهو بالصحة اجدر وقد حكي الصبان عن منن الشعراني إنكار قبر سكينة بنت الحسين بمصر زاعماً ان ذلك قبر سكينة بنت علي بن أبي طالب (عليه السلام).
واذا عرفت ان اهل النسب والتراجم لم يذكروا في أولاد اميرالمؤمنين سكينة تعرف بطلان تلك النسبة.
وقد عاصرت من المعصومين أباها الشهيد وأخاها الامام زين العابدين والامام الباقر وادركت أيام الصادق (عليه السلام) .
وكانت أيام أبيها بالغة مبلغ النساء كما يشهد به قول الحسين للحسن المثنى يوم جاء يخطب منه فقال اختر احدى ابنتي هاتين فاطمة وسكينة وكانت فاطمة أكبر منها.
ثم قال له الحسين (عليه السلام) اخترت لك فاطمة فهي اكثرها شبهاً بأمي فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه واله) اما في الدين فتقوم الليل كله وتصوم النهار وفي الجمال تشبه الحور العين.
وأما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله لا تصلح لرجل ولو لم تكن بالسن القابل لمقارنة الأزواج لاعتذر به الامام (عليه السلام) وقد عرفت ما تشير اليه كلمته الغالية في حق ابنته الكريمة.
كما عرفت كلمات المؤرخين الناصة على تزويج سكينة من ابن عمها عبدالله الأكبر بن الامام الحسن بن أميرالمؤمنين المقتول يوم الطف مبارزة وهو أخو القاسم لأبيه وامه رملة فكان أبا عذرتها كما في المحبر لابن حبيب ص 438.
ولا يفوت القاريء ما اتفق عليه المؤرخون وأهل النسب والتراجم من أنه لم يكن للحسين من البنات غير فاطمة وسكينة وهما المتزوجتان بابني عمهما الحسن السبط (عليه السلام) وأما غيرهما المذكور فعلى ذمة التأريخ.
ومن هنا ينكشف عدم صحة القول بتزويج القاسم من سكينة لعدم الشاهد له ولأن القاسم يومئذ لم يدرك الحلم كما نص عليه أهل المقاتل.
كما لا يفوتنا ما اختصها به أبوها الشهيد بمزيد العناية وعطف عليها عطفاً ينم عن منزلتها الكبرى عنده وانه على شرف النسبة قد تحلت بنفسية فاضلة وازدانت بخيم كريم وفضيلة رابية ومن ذلك قوله (عليه السلام) مسلياً لها لما رآها منحازة عن النساء تبكي ساعة الوداع يوم الطف ووصفها بخيرة النساء فقال :
سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي منك البكاء اذا الحمام دهاني
لا تحرقي قلبي بدمـعك حسرة ما دام مني الروح في جثماني
فاذا قتلت فـأنت اولى بـالذي تأتينـه يـا خيرة النسـوان
والجمع يقتضي عموم التفضيل على من سواها إلا من أخرجها الدليل كالصديقة والعقيلة واضرابهما.
ثم أنه (عليه السلام) حملها الوصية الى شيعته بالبكاء عليه وذكر عطشه عند شربهم الماء.
قالت لما مر القوم بالنسوة على القتلى رميت بنفسي على جسد أبي اعتنقته فسمعت صوتاً يخرج من منحره المقدس :
شيعتي ما أن شربتم عذب مـاء فاذكروني
أو سمـعتم بـغريب أو شهيـد فـاندبوني
قد يستغرب القارىء هذا الكلام من جسد فارقته الحياة كما يتباعد عن الأذعان بكلام رأس الحسين (عليه السلام) في شوارع الكوفة والشام وفي مجلس يزيد لما أمر بقتل رسول ملك الروم لانكاره فعلته التي لم يرتكبها حتى من لم ينتحل دين الاسلام فنطق الرأس بصوت جهوري ( لا حول ولا قوة الا بالله ) ولكن ما أسرع أن يتراجع الى التصديق به حينما يستضيء بتفكيره الى فعل القدرة الإلهية بالممكنات حسبما تستدعيه المصالح كما كانت ( الشجرة ) في الوادي المقدس تلقي التعاليم الآلهية على الكليم موسى بن عمران واخبرت الذراع المسمومة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه واله) يوم خيبر فامتنع النبي (صلى الله عليه واله) ومن معه من اكلها اذا فلا غرابة في تمكين الارادة الربانية رأس الحسين (عليه السلام) المنحور طاعة لله تعالى من قرائة القرآن لأنه أبلغ في توطيد اسس النهضة الكريمة وفيه تركيز العقايد على أحقية دعوته وشهادته ووخامة عاقبة من مد اليه يد العدوان.
ولئن يتحدث البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة في ان الله تعالى اودع قوة الحركة في الحجر الصلد فذهب بثياب بنيه موسى بن عمران لغاية تعريف الاسرائيليين نزاهة بنيه من العاهة ويتقبلها شراح البخاري ومسلم وان كانت المؤاخذة عليهم واضحة فالايمان بالمتواتر من الآثار الحاكية كلام رأس الحسين لتعريف اولئك المغمورين بالأطماع ومن يأتي من الأجيال بالتواء الأمراء المتغلبين على الخلافة عن صراط العدل وترددهم في الضلال ( أجدر واولى ) لأن نهضة سيد الشهداء انما هي لاحياء الدين الذي لاقى المتاعب في تشييده جده المنقذ الأكبر وقد أخبر النبي (صلى الله عليه واله) عن هذه النهضة بقوله ( حسين مني وأنا من حسين ) فانه لم يقصد بهذا التنزيل التعريف بأن الحسين بضعة منه لما فيه من الركاكة التي يأباها كلام سيد البلغاء لأن كل ولد بضعة من أبيه وانما أراد التنبيه بان نهضة الحسين اثبتت توطيد اسس الاسلام وكسحت اشواك الباطل عن صراط شريعة العدل فالنبي (صلى الله عليه واله) فاتح الدعوة والحسين ناهض لتركيزها وتثبيت دعامتها فايداع قوة الكلام في الرأس المقدس او منحره الأطهر أولى من الحجر والشجرة وذراع الشاة المسمومة.
في مثل هذه الكرامات التي تتحدث بها الشيعة عن ائمتهم المجعولين من الله تعالى خلفاء على الأمة بعد انقضاء الرسالة اعتماداً على أحاديث صحت لديهم يتقتزز منها غيرهم ويتحامل عليهم باسم البدعة والغلو ولكنه يثبت لعلمائهم امثالها غافلاً عن ورود نفس الأشكال عليه.
فيقول اليافعي الحنبلي لما ورد ابو اسحاق الشيرازي بلاد العجم اقبل الناس عليه يتبركون بثيابه ويأخذون التراب من تحت نعله للاستشفاء ويقول في سنة 725 زادت دجلة حتى خربت مقبرة احمد بن حنبل وصار الماء في دهليز البيت الذي فيه قبره علو ذراع ووقف بإذن الله تعالى عند باب الحجرة ويقول السبكي الشافعي لما امر الواثق العباسي ، بقطع رأس احمد بن نصر الخزاعي في مسألة خلق القرآن كان الرأس يتكلم بالقرآن الى ان انزل الجسد ودفن معه ويقول سافر اسماعيل الحضرمي مع خادمه واشرفت الشمس على الغروب فقال لخادمه قل لها فلتقف حتى نصل المنزل ونصلي العصر فامرها الخادم بالوقوف فوقفت الشمس حتى وصلوا المنزل وصلوا ولم تغرب فقال لخادمه أما تطلق هذا المحبوس فيأمرها الخادم بالغروب فتغيب ويظلم الأفق ثم يقول هذا الخبر من المستفيض وما ادري ولا المنجم يدري لماذا لم يصل في الطريق وان لم يكن عنده ماء فالتيمم احد الطهورين.
ويحدث شيخ احمد حجازي الفشني ان محمد بن اسماعيل البخاري صاحب الصحيح لما دفن اقبل الناس يأخذون التراب من القبر للتبرك حتى صارت حفرة عظيمة فوضع الخشبة على القبر فاخذ الناس التراب من حوله .
نحن لا نضايقهم في أمثال هذا مما لو سجلناه لخرجنا عن وضع الرسالة ولا ننكر عليهم اعتقادهم بها ولكنا نقول لماذا يرمون الشيعة بالكذب والبدعة والخيانة ورواية المناكير اذا رأوهم يؤمنون بما تفيده الآثار المتواترة في فضائل أهل البيت ويتحدثوا عن كلام رأس الحسين والاستشفاء بتربته ووقوف الماء عند قبره لما أمر المتوكل العباس بحرث القبر وارسال الماء عليه زعما منه ان يطفأ نور الله ( وليجتهدن أئمة الكفر واشياع الضلال في محوه وتطميسه فلا يزداد اثره الا علوا ). على حد تعبير رسول الله (صلى الله عليه واله).
على ان البدعة الممقوت صاحبها ولا تقال عثرتها فيما اذا أدخل في الدين ما ليس منه لأنه تهجم على الشريعة وتحكم على التكاليف الآلهية كما اشار اليه صاحب الدعوة.
( كل بدعة ضلالة ) وأما الاعتقاد بشيء عن اثر وارد فيه فليس من البدعة ولا يرمي صاحبه بالكذب والغلو.
حديثها في فضل الشيعة
روى محمد جعفر بن احمد بن علي القمي نزيل الري في كتاب المسلسلات ص 108 بسنده المفصل الى بكير ابن احنف وعنه يحدث العلامة المجلسي في البحار ج 15 ـ ص 122 في باب فضائل الشيعة.
قال حدثتني فاطمة بنت الامام على بن موسى الرضا قالت حدثتني فاطمة وزينب وام كلثوم بنات موسى بن جعفر قلن حدثتنا فاطمة بنت جعفر بن محمد قالت حدثتني فاطمة بنت محمد بن علي قالت حدثتني فاطمة بنت علي بن الحسين قالت حدثتني فاطمة وسكينة ابنتا الحسين بن علي عن ام كلثوم بنت علي عن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه واله) قالت سمعت رسول الله يقول :
لما أسرى بي الى السماء دخلت الجنة فاذا أنا بقصر من درة بيضاء مجوفة وعليه باب مكلل بالدر والياقوت وعلى الباب ستر فرفعت رأسي فاذا مكتوب :
لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي القوم.
ومكتوب على الستر : بخ بخ مثل شيعة علي.
فدخلته فاذا انا بقصر من عقيق مجوف وعليه باب من فضة فرفعت رأسي واذا مكتوب على الباب.
محمد رسول الله علي وصي المصطفى.
وعلى الستر مكتوب : بشر شيعة علي بطيب المولد.
فدخلته ورأيت قصراً من زبرجد لم أر أحسن منه وعليه باب من ياقوتة حمراء مكللة باللؤلؤ وعلى الباب ستر فرفعت الستر وإذا مكتوب عليه : شيعة علي هم الفائزون.
فقلت لجبرئيل لمن هذا ؟ قال يا محمد انه لابن عمك ووصيك علي بن ابي طالب يحشر الناس كلهم يوم القيامة حفاة عراة الا شيعة علي ويدعا الناس بأسماء أمهاتهم ما خلا شيعة علي فانهم يدعون بأسماء آبائهم لأنهم أحبوا علياً فطاب مولدهم.
وقد ورد هذا المضمون في أحاديث أهل البيت متواتراً كما جاء عنهم :
ان شيعة علي وابنائه المعصومين يحشرون آمنة روعاتهم مستورة عوراتهم فيود الخلايق يومئذ انهم كانوا فاطميين.
والمراد من ستر العورة أما بالنور الساطع منهم فيغشي الأبصار عن النظر اليهم كما يرشد اليه في معالم الزلفى ص 142 من حديث فاطمة (عليه السلام) قالت لأبيها (صلى الله عليه واله) : كيف يكون الناس يوم القيامة ؟
فقال النبي (صلى الله عليه واله) : انهم يشغلون بانفسهم فلا ينظر احد الى احد ولا والد الى ولده ولا ولد الى امه.
فقالت : هل يكون اكفان اذا خرجوا من قبورهم قال (صلى الله عليه واله) : يا فاطمة تبلى الأكفان وتبقى الأبدان تستر عورة المؤمن وتبدو عورة الكافر.
قالت : يا ابة ما يستر عورة المؤمن ؟
فقال : نور يتلألأ لا يبصرون اجسادهم من النور.
وهناك حديث آخر رواه في معالم الزلفى عن الكليني والشيخ الطوسي عن ابي خديجة عن الصادق (عليه السلام) ان الستر يكون بالأكفان فكان (عليه السلام) يقول : تأنقوا في الأكفان فانكم تبعثون بها.
وفي احتجاج الطبرسي قال الزنديق للصادق : كيف يحشر الناس بالأكفان وقد بليت ؟
فقال (عليه السلام) : ان الذي احيى ابدانهم وقد بليت يجدد اكفانهم ومن مات بلا كفن ستر الله عورته.
رثاء سكينة الحسين
في أمالي الزجاج ( ص 109 طـ مصر ثانية ) ، مما رثت به سكينة أباها الشهيد قولها :
لا تعذليـه فهـم قـاطع طرقه فـعينــه بدمـوع ذرف غدقـه
ان الحسين غداة الـطف يرشقه ريب المنون فما ان يخطىء الحدقه
بكـف شـر عبـاد الله كـلهم نسـل البغايا وجيش المرق الفسقه
أأمة السوء هاتوا مـا احتجاجكم غداً وجلكـم بالسيـف قـد صفقه
الويل حل بكـم إلا بمـن لحقه صيرتموه لا رمـاح العـدى درقه
يا عين فاحتفلي طول الحياة دماً لا تبك ولـداً ولا أهـلاً ولا رفقه
لكن على ابن رسول الله فانسكبي قيحاً ودمـاً وفـي اثريهمـا العلقه
هذا آخر ما ساغ لنا إثباته في هذه الرسالة والحمد لله رب العالمين وشكراً له على ما قدره وأمضاه في ذرية نبيه الأقدس وعترته الأكرمين ونعم الحكم الله تعالى والزعيم محمد والموعد القيامة هناك يخسر المبطلون ويعرف التالون غب ما أسس الأولون ولعنة الله على اعدائهم اجمعين.