اعلم أن ترتيب المنازل التي نزلوها في كل مرحلة باتوا بها أم عبروا منا غير معلوم و لا مذكور في شيء من الكتب المعتبرة بل ليس في أكثرها كيفية مسافرة أهل البيت إلى الشام نعم وقع بعض القضايا في بعضها نحن نشير إليها في هذا الكتاب إن شاء اللّه.
قال ابن شهرآشوب في المناقب: و من مناقبه- أي الحسين (عليه السلام) - ما ظهر من المشاهد التي يقال لها مشهد الرأس من كربلاء إلى عسقلان و ما بينهما في الموصل و نصيبين و حماه و حمص و دمشق و غير ذلك .
أقول: يظهر من هذه العبارة أن للرأس المعظم المقدس في هذه الأماكن مشهد معروف:
أما مشهد الرأس بدمشق فهو معلوم و لا يحتاج الى البيان و أنا تشرفت بزيارته.
و أما مشهده بالموصل فهو كما في روضة الشهداء ما ملخصه: أن القوم لما أرادوا أن يدخلوا الموصل أرسلوا إلى عامله أن يهيء لهم الزاد و العلوفة و أن يزين لهم البلدة فاتفق أهل الموصل أن يهيئوا لهم ما أرادوا و أن يستدعوا منهم أن لا يدخلوا البلدة بل ينزلون خارجها و يسيرون من غير أن يدخلوا فيها فنزلوا ظاهر البلد على فرسخ منها و وضعوا الرأس الشريف على صخرة فقطرت عليها قطرة دم من الرأس المكرم فصارت تنبع و يغلي منها الدم كل سنة في يوم عاشوراء و كان الناس يجتمعون عندها من الأطراف و يقيمون مراسم العزاء و المآتم في كل عاشوراء و بقي هذا إلى أيام عبد الملك بن مروان فأمر بنقل الحجر فلم ير بعد ذلك منه أثر و لكن بنوا على ذلك المقام قبة سموها مشهد النقطة .
و أما السانحة التي وقعت بنصيبين: ففي الكامل البهائي ما حاصله: أنهم لما وصلوا إلى نصيبين أمر منصور بن الياس بتزيين البلدة فزينوها بأكثر من ألف مرآة فأراد الملعون الذي كان معه رأس الحسين (عليه السلام) أن يدخل البلد فلم يطعه فرسه فبدله بفرس آخر فلم يطعه و هكذا فإذا بالرأس الشريف قد سقط إلى الأرض فأخذه إبراهيم الموصلي فتأمل فيه فوجده رأس الحسين (عليه السلام) فلامهم و وبخهم فقتله أهل الشام ثم جعلوا الرأس في خارج البلد و لم يدخلوه به .
قلت: و لعل مسقط الرأس الشريف صار مشهدا.
و أما المشهد الذي كان بحماه: ففي بعض الكتب نقلا عن بعض أرباب المقاتل أنه قال: لما سافرت إلى الحج فوصلت إلى حماه رأيت بين بساتينها مسجدا يسمى مسجد الحسين (عليه السلام) . قال: فدخلت المسجد فرأيت في بعض عماراته سترا مسبلا من جدار فرفعته و رأيت حجرا منصوبا في جدار و كان الحجر مؤربا فيه موضع عنق رأس أثر فيه و كان عليه دم متجمد فسألت من بعض خدام المسجد ما هذا الحجر و الأثر و الدم؟ فقال لي: هذا الحجر موضع رأس الحسين (عليه السلام) فوضعه القوم الذين يسيرون به إلى دمشق- الخ.
و أما مشهد الرأس بحمص: فما ظفرت به كما أني لم أظفر بمشهد الرأس من كربلاء إلى عسقلان.
نعم في جنب الباب الشمالي من صحن مولانا أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) مسجد يسمى مسجد رأس الحسين (عليه السلام) و في ظهر الكوفة عند قائم الغري مسجد يسمى بالمسجد الحنانة فيه يستحب زيارة الحسين (عليه السلام) لأن رأسه (عليه السلام) وضع هناك.
قال المفيد و السيد و الشهيد في باب زيارة أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: فإذا بلغت العلم- و هي الحنانة- فصل هناك ركعتين.
فقد روى محمد بن أبي عمير عن مفضل بن عمر قال: جاز الصادق (عليه السلام) بالقائم المائل في طريق الغري فصلى ركعتين فقيل له: ما هذه الصلاة؟
فقال: هذا موضع رأس جدي الحسين بن علي عليهما السلام وضعوه هاهنا لما توجهوا من كربلاء ثم حملوه إلى عبيد اللّه بن زياد .
قال شيخ الفقهاء العظام صاحب جواهر الكلام: و يمكن أن يكون هذا المكان موضع دفن الرأس الشريف- إلى آخر ما قال مما لا أحب نقله بل أتعجب منه رحمه اللّه كيف نقله .
و أما مشهد الرأس الشريف بعسقلان ففي بعض الكتب أنه مشهور .
اعلم أن في قرب حلب مشهد يسمى بمشهد السقط على جبل جوشن بالفتح ثم السكون و الشين المعجمة و النون و هو جبل مطل على حلب في غربيها مقابر و مشاهد للشيعة منها مقبرة ابن شهرآشوب صاحب المناقب و منها مقبرة أحمد بن منير العاملي المذكور ترجمته في أمل الأمل و ذكرت أيضا ترجمته في الفوائد الرضوية .
قال الحموي في معجم البلدان في جوشن ما لفظه: جوشن جبل في غربي حلب و منه يحمل النحاس الأحمر و هو معدنه و يقال إنه بطل منذ عبر عليه سبي الحسين بن علي (عليه السلام) و نساؤه و كانت زوجة الحسين (عليه السلام) حاملا فأسقطت هناك فطلبت من الصناع في ذلك الجبل خبزا و ماء فشتموها و منعوها فدعت عليهم فمن الآن من عمل فيه لا يربح. و في قبلي الجبل مشهد يعرف بمشهد السقط و يسمى مشهد الدكة و السقط يسمى محسن بن الحسين رضي اللّه عنه .
أقول: و يحق أن يقال:
فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقي من الأواخر ما لاقى من الأول
قال الشيخ الكفعمي و شيخنا البهائي و المحدث الكاشاني : في أول صفر أدخل رأس الحسين (عليه السلام) إلى دمشق و هو عيد عند بني أمية و هو يوم تتجدد فيه الأحزان:
كانت مآتم بالعراق تعدها أموية بالشام من أعيادها
و حكي أيضا عن أبي ريحان في الآثار الباقية أنه قال: في اليوم الأول من صفر أدخل رأس الحسين (عليه السلام) مدينة دمشق فوضعه يزيد بين يديه و نقر ثناياه بقضيب في يديه و يقول: لست من خندف- الخ .
و في المناقب عن أبي مخنف في رواية: لما دخل بالرأس على يزيد كان للرأس طيب قد فاح على كل طيب .
قال السيد (رحمه الله) و سار القوم برأس الحسين (عليه السلام) و الاسراء من رجاله فلما قربوا من دمشق دنت أم كلثوم من شمر و كان من جملتهم فقالت له: لي إليك حاجة. فقال: ما حاجتك؟ قالت: إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظارة و تقدم إليهم أن يخرجوا هذه الرءوس من بين المحامل و ينحونا عنها فقد خزينا من كثرة النظر إلينا و نحن في هذه الحال. فأمر في جواب سؤالها أن يجعل الرءوس على الرماح في أوساط المحامل بغيا منه و كفرا و سلك بهم بين النظارة على تلك الصفة حتى أتى بهم باب دمشق فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي:
بنفسي النساء الفاطميات أصبحت *** من الأسر يسترئفن من ليس يرأف
و مذ أبرزوها جهرة من خدورها *** عشية لا حام يذود و يكنف
توارت بخدر من جلالة قدرها *** بهيبة أنوار الإله يسجف
لقد قطع الأكباد حزنا مصابها *** و قد غادر الأحشاء تهفو و ترجف
وروي أن بعض الفضلاء التابعين لما شاهد رأس الحسين (عليه السلام) بالشام أخفى نفسه شهرا من جميع أصحابه فلما وجدوه بعد إذ فقدوه سألوه عن سبب ذلك فقال: أ لا ترون ما نزل بنا و أنشأ يقول:
جاءوا برأسك يا بن بنت محمد *** مترملا بدمائه ترميلا
و كأنما بك يا بن بنت محمد *** قتلوا جهارا عامدين رسولا
قتلوك عطشانا و لم يترقبوا *** في قتلك التأويل و التنزيلا
و يكبرون بأن قتلت و إنما *** قتلوا بك التكبير و التهليلا
و في البحار: وروى صاحب المناقب بإسناده عن زيد عن آبائه: ان سهل بن سعد قال. خرجت إلى بيت المقدس حتى توسطت الشام فإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار و قد علقوا الستور و الحجب و الديباج و هم فرحون مستبشرون و عندهم نساء يلعبن بالدفوف و الطبول فقلت في نفسي: لا نرى لأهل الشام عيدا لا نعرفه نحن فرأيت قوما يتحدثون فقلت: يا قوم لكم بالشام عيد لا نعرفه نحن؟
قالوا: يا شيخ نراك أعرابيا. فقلت: أنا سهل بن سعد قد رأيت محمدا (صلى اللّه عليه و آله) . قالوا: يا سهل ما أعجبك السماء لا تمطر دما و الأرض لا تنخسف بأهلها. قلت: و لم ذاك؟ قالوا: هذا رأس الحسين عترة محمد (صلى اللّه عليه و آله) يهدى من أرض العراق. فقلت: وا عجبا يهدى رأس الحسين (عليه السلام) و الناس يفرحون. قلت: من أي باب يدخل؟ فأشاروا إلى باب يقال له باب ساعات. قال:
فبينا أنا كذلك حتى رأيت الرايات يتلو بعضها بعضا. فإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السنان عليه رأس من أشبه الناس وجها برسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فإذا أنا من ورائه رأيت نسوة على جمال بغير وطاء فدنوت من أولاهم فقلت: يا جارية من أنت؟ فقالت: أنا سكينة بنت الحسين. فقلت لها: أ لك حاجة إلي فأنا سهل بن سعد ممن رأى جدك و سمعت حديثه. قالت: يا سعد قل لصاحب هذا الرأس أن يقدم الرأس أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه و لا ينظروا إلى حرم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) . قال سهل: فدنوت من صاحب الرأس فقلت له: هل لك أن تقضي حاجتي و تأخذ مني أربعمائة دينار قال: ما هي؟ قلت: تقدم الرأس أمام الحرم. ففعل ذلك فدفعت إليه ما وعدته و وضع الرأس في حقة و دخلوا على يزيد لعنه اللّه فدخلت معهم و كان يزيد جالسا على سرير و على رأسه تاج مكلل بالدر و الياقوت حوله كثير من مشايخ قريش فلما دخل صاحب الرأس و هو يقول:
أوقر ركابي فضة و ذهبا *** أنا قتلت السيد المحجبا
قتلت خير الناس أما و أبا *** و خيرهم إذ ينسبون النسبا
قال: لو علمت أنه خير الناس لم قتلته؟ قال: رجوت الجائزة منك. فأمر بضرب عنقه فحز رأسه و وضع رأس الحسين (عليه السلام) على طبق من ذهب و هو يقول: كيف رأيت يا حسين. انتهى .
أقول: قد ذكر صاحب الكامل البهائي خبر سهل بن سعد بنحو أخصر و فيه:
و رأيت الرءوس على الرماح و يقدمهم رأس عباس بن علي عليهما السلام و رأس الإمام (عليه السلام) كان وراء الرءوس أمام المخدرات و للرأس الشريف مهابة عظيمة و يشرق منه النور بلحية مدورة قد خالطها الشيب و قد خضبت بالوسمة أدعج العينين أزج الحاجبين واضح الجبين أقنى الأنف متبسما إلى السماء شاخصا ببصره إلى نحو الأفق و الريح تلعب بلحيته يمينا و شمالا كأنه أمير المؤمنين .
و في الكامل البهائي أيضا قال: أوقفوا أهل البيت عليهم السلام على باب الشام ثلاثة أيام حتى يزينوا البلدة فزينوها بكل حلي و زينة و مرآة كانت فيها فصارت بحيث لم تر عين مثلها ثم استقبلتهم من أهل الشام زهاء خمس مائة ألف من الرجال و النساء مع الدفوف و خرج امراء الناس مع الطبول و الصنوج و البوقات و كان فيهم ألوف من الرجال و الشبان و النسوان يرقصون و يضربون بالدف و الصنج و الطنبور و قد تزين جميع اهل الشام بألوان الثياب و الكحل و الخضاب و كان ذلك يوم الأربعاء سادس عشر شهر ربيع الأول و كان خارج البلد من كثرة الخلائق كعرصة المحشر يموج بعضها في بعض فلما ارتفع النهار أدخلوا الرءوس البلد و وصلوا وقت الزوال إلى باب دار يزيد بن معاوية بتعب شديد من كثرة الازدحام و نصب ليزيد سرير مرصع و زينت داره بأنواع الزينة و نصب أطراف سريره كراسي من الذهب و الفضة فخرج حجاب يزيد و أدخلوا الذين معهم الرءوس فلما دخلوا على يزيد قالوا: بعزة الأمير قتلنا أهل بيت ابي تراب و استأصلناهم. ثم شرحوا الأحوال و وضعوا الرءوس عنده و في هذه المدة التي كان أهل البيت عليهم السلام اسراء في أيديهم و هي ستة و ستون يوما لم يتمكن بشر أن يسلم عليهم فإذا في هذا اليوم دنا شيخ من أهل الشام من علي بن الحسين (عليه السلام) و قال: الحمد للّه الذي قتلكم- الخ .
قال الشيخ المفيد (رحمه الله) : فلما انتهوا إلى باب يزيد رفع مخفر بن ثعلبة صوته فقال: هذا مخفر بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة. فأجابه علي بن الحسين (عليه السلام) : ما ولدت أم مخفر اشر وألْأم.
و قيل: أجابه يزيد بذلك .
و روى الشيخ الصدوق عطر اللّه مرقده في الأمالي عن حاجب ابن زياد في حديث نقلنا صدره في وقائع مجلس عبيد اللّه بن زياد قال: و بعث البشائر إلى النواحي بقتل الحسين (عليه السلام) ثم أمر بالسبايا و رأس الحسين (عليه السلام) فحملوا إلى الشام فلقد حدثني جماعة كانوا خرجوا في تلك الصحبة أنهم كانوا يسمعون بالليالي نوح الجن على الحسين (عليه السلام) إلى الصباح و قالوا: فلما دخلنا دمشق أدخل بالنساء و السبايا بالنهار فقال أهل الشام الجفاة: ما رأينا سبايا أحسن من هؤلاء فمن أنتم؟ فقالت سكينة ابنة الحسين (عليه السلام) : نحن سبايا آل محمد (صلى اللّه عليه و آله) . فأقيموا على درج المسجد حيث يقام السبايا و فيهم علي بن الحسين (عليه السلام) و هو يومئذ فتى شاب فأتاهم شيخ من أشياخ أهل الشام فقال: الحمد للّه الذي قتلكم و أهلككم و قطع قرون الفتنة. فلم يأل عن شتمهم فلما انقضى كلامه فقال له علي بن الحسين (عليه السلام) : أما قرأت كتاب اللّه عز و جل؟ قال: نعم. قال: أما قرأت هذه الآية {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] ؟ قال: بلى قال: فنحن أولئك.
ثم قال (عليه السلام) أما قرأت {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26] ؟ قال: بلى.
قال: فنحن هم ... فهل قرأت هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] ؟ قال: بلى. قال: فنحن هم.
فرفع الشامي يده إلى السماء ثم قال: اللهم إني أتوب إليك- ثلاث مرات- اللهم إني أبرأ إليك من عدو آل محمد و من قتلة أهل بيت محمد لقد قرأت القرآن فما شعرت بهذا قبل اليوم .
و روى الشيخ الطوسي (رحمه الله) عن الصادق (عليه السلام) قال: لما قدم علي بن الحسين (عليه السلام) و قد قتل الحسين (عليه السلام) استقبله إبراهيم بن طلحة بن عبيد اللّه قال: يا علي بن الحسين من غلب و هو يغطي رأسه و هو في المحمل.
قال: فقال له علي بن الحسين (عليه السلام) : إذا أردت أن تعلم من غلب و دخل وقت الصلاة فأذن و أقم .
و في الأخبار الطوال للدينوري: قالوا: ثم ان ابن زياد جهز علي بن الحسين (عليه السلام) و من كان معه من الحرم و وجه بهم إلى يزيد بن معاوية مع زحر بن قيس و مخفر بن ثعلبة و شمر بن ذي الجوشن فساروا حتى قدموا الشام و دخلوا على يزيد ابن معاوية بمدينة دمشق و أدخل معهم رأس الحسين (عليه السلام) فرمي بين يديه ثم تكلم شمر بن ذي الجوشن فقال: يا أمير المؤمنين ورد علينا هذا في ثمانية عشر رجلا من أهل بيته و ستين رجلا من شيعته فسرنا إليهم فسألناهم النزول على حكم أميرنا عبيد اللّه أو القتال- الخ .
و المشهور بين المؤرخين أن هذه الكلمات كانت لزحر بن قيس لعنه اللّه و قد أوردناها في فصل ارسال ابن زياد الرءوس المطهرة إلى الشام.
ثم ادخل نساء الحسين (عليه السلام) على يزيد بن معاوية فصحن نساء آل يزيد و بنات معاوية و أهله و ولولن و أقمن المآتم و وضع رأس الحسين (عليه السلام) بين يديه فقالت سكينة: و اللّه ما رأيت أقسى قلبا من يزيد و لا رأيت كافرا و لا مشركا شرا منه و لا أجفا منه و أقبل يقول و ينظر إلى الرأس:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
ثم أمر برأس الحسين (عليه السلام) فنصب على باب مسجد دمشق .
و قال السبط في التذكرة: و أما المشهور عن يزيد في جميع الروايات أنه لما حضر الرأس بين يديه جمع أهل الشام و جعل ينكت عليه بالخيزران و يقول أبيات ابن الزبعرى: ليت أشياخي ببدر شهدوا- إلى أن قال:
و قال الزهري: لما جاءت الرءوس كان يزيد في منظره على جيرون فأنشد لنفسه:
لما بدت تلك الحمول و أشرقـــــت *** تلك الشموس على ربا جيرون
نعب الغراب فقلت صح أو لا تصح *** فلقد قضيت من الغريم ديوني
و ذكر ابن أبي الدنيا: أنه لما نكت بالقضيب ثناياه أنشد لحصين بن الحمام المري:
صبرنا و كان الصبر منا سجية *** بأسيافنا تفرين هاما و معصما
نفلق هاما من رءوس أحبة *** إلينا و هم كانوا أعق و أظلما
قال مجاهد: فو اللّه لم يبق في الناس أحد الا من سبه و عابه و تركه.
قال ابن أبي الدنيا: و كان عنده أبو برزة الأسلمي فقال له: يا يزيد ارفع قضيبك فو اللّه لطالما رأيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يقبل ثناياه .
و قال ابن الجوزي في كتاب الرد على المتعصب العنيد: ليس العجب من فعل عمر بن سعد و عبيد اللّه بن زياد و إنما العجب من خذلان يزيد و ضربه بالقضيب على ثنية الحسين (عليه السلام) و إغارته على المدينة أ فيجوز أن يفعل هذا بالخوارج أو ليس في الشرع أنهم يدفنون أما قوله لي أن أسبيهم فأمر لا يقنع لفاعله و معتقده باللعنة و لو أنه احترم الرأس حين وصوله و صلى عليه و لم يتركه في الطست و لم يضربه بقضيب ما الذي كان يضره و قد حصل مقصوده من القتل و لكن أحقاد جاهلية و دليلها ما تقدم من إنشاده: ليت أشياخي ببدر شهدوا .
و روى ابن عبد ربه الأندلسي في العقد الفريد عن الرياشي بإسناده عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: أتى بنا يزيد ابن معاوية بعد ما قتل الحسين (عليه السلام) و نحن اثنا عشر غلاما و كان أكبرنا يومئذ علي بن الحسين (عليه السلام) فأدخلنا عليه و كان كل واحد منا مغلولة يده إلى عنقه فقال لنا: أحرزت أنفسكم عبيد أهل العراق و ما علمت بخروج أبي عبد اللّه و لا بقتله .
و قال الشيخ ابن نما: قال علي بن الحسين (عليه السلام) : أدخلنا على يزيد و نحن اثنا عشر رجلا مغللون فلما وقفنا بين يديه قلت: أنشدك اللّه يا يزيد ما ظنك برسول اللّه لو رآنا على هذه الحال؟ قال: يا أهل الشام ما ترون في هؤلاء؟ أقول:
قال رجل ملعون كلمة قبيحة لا أحب نقلها.
فقال له النعمان بن بشير: أصنع ما كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يصنع بهم لو رآهم بهذه الخيبة (الهيئة ظ) و قالت فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) : يا يزيد بنات رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) سبايا. فبكى الناس و بكى أهل داره حتى علت الأصوات فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : و أنا مغلول فقلت: أ تأذن لي في الكلام؟ فقال: قل و لا تقل هجرا. قلت: لقد وقفت موقفا لا ينبغي لمثلي أن و في إثبات الوصية للمسعودي: فلما استشهد الحسين (عليه السلام) حمل علي بن الحسين (عليه السلام) مع الحرم و أدخل على اللعين يزيد و كان لابنه أبي جعفر (عليه السلام) سنتان و شهور فأدخل معه فلما رآه يزيد قال له: كيف رأيت يا علي. قال: رأيت ما قضاه اللّه عز و جل قبل أن يخلق السماوات و الأرض. فشاور يزيد جلساءه في أمره فأشاروه بقتله و قالوا له الكلمة الخبيثة التي طويت كشحا عن نقلها فابتدر أبو جعفر (عليه السلام) الكلام فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال ليزيد: لقد أشار عليك هؤلاء بخلاف ما أشار جلساء فرعون عليه حيث شاورهم في موسى و هارون فإنهم قالوا له: أرجه و أخاه و قد أشار هؤلاء عليك بقتلنا و لهذا سبب.
فقال يزيد: و ما السبب؟ فقال: إن هؤلاء كانوا لرشدة و هؤلاء لغير رشدة و لا يقتل الأنبياء و أولادهم إلا أولاد الأدعياء. فأمسك يزيد مطرقا .
و في تذكرة السبط: و كان علي بن الحسين (عليه السلام) و النساء موثقين في الحبال فناداه علي: يا يزيد ما ظنك برسول اللّه لو رآنا موثقين في الحبال عرايا على أقتاب الجمال. فلم يبق في القوم الا من بكى .
قال الشيخ المفيد و ابن شهرآشوب: و لما وضعت الرءوس بين يدي يزيد فيها رأس الحسين (عليه السلام) جعل يضرب بقضيبه على ثنيته ثم قال: يوم بيوم بدر. و جعل يقول:
نفلق هاما من رجال أعزة *** علينا و هم كانوا أعق و أظلما
فقال يحيى بن الحكم أخو مروان بن الحكم و كان جالسا مع يزيد:
لهام بأدنى الطف أدنى قرابة *** من ابن زياد العبد ذي الحسب الرذل
أمية أمسى نسلها عدد الحصى *** و بنت رسول اللّه ليس لها نسل
فضرب يزيد في صدر يحيى بن الحكم و قال: أسكت لا أم لك .
و روى أبو الفرج عن الكلبي قال: كان عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص عند يزيد بن معاوية و قد بعث إليه عبيد اللّه بن زياد برأس الحسين بن علي عليهما السلام فلما وضع بين يدي يزيد في الطست بكى عبد الرحمن ثم قال:
أبلغ أمير المؤمنين فلا تكن *** كموتر قوس و ليس لها نبل
لهام بجنب الطف- الأبيات .
و في رواية ابن نما: أن الحسن بن الحسن لما رآه يضرب بالقضيب موضع فم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قال: و اذلاه.
سمية أمسى نسلها عدد الحصى *** و بنت رسول اللّه ليس لها نسل
روى شيخنا الصدوق عن الفضل بن شاذان قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: لما حمل رأس الحسين (عليه السلام) إلى الشام أمر يزيد فوضع و نصب عليه مائدة فأقبل هو و أصحابه يأكلون و يشربون الفقاع فلما فرغوا أمر بالرأس فوضع في طست تحت سريره و بسط عليه رقعة الشطرنج و جلس يزيد يلعب بالشطرنج و يذكر الحسين و أباه و جده صلوات اللّه عليهم و يستهزىء بذكرهم فمتى قمر صاحبه تناول الفقاع فشربه ثلاث مرات ثم صب فضلته مما يلي الطست من الأرض.
فمن كان من شيعتنا فليتورع عن شرب الفقاع و اللعب بالشطرنج و من نظر إلى الفقاع أو إلى الشطرنج فليذكر الحسين (عليه السلام) و ليلعن يزيد و آل يزيد يمحو اللّه عز و جل بذلك ذنوبه و لو كانت كعدد النجوم .
و روي عنه (عليه السلام) أيضا قال: أول من اتخذ له الفقاع في الإسلام بالشام يزيد بن معاوية لعنه اللّه فأحضر و هو على المائدة و قد نصبها على رأس الحسين (عليه السلام) فجعل يشربه و يسقي أصحابه و يقول: اشربوا فهذا شراب مبارك و من بركته أنا أول ما تناولناه و رأس الحسين عدونا بين أيدينا و مائدتنا منصوبة عليه و نحن نأكل و نفوسنا ساكنة و قلوبنا مطمئنة فمن كان من شيعتنا فليتورع من شرب الفقاع فإنه شراب أعدائنا .
و في الكامل البهائي عن كتاب الحاوية: إن يزيد شرب الخمر و صب منها على الرأس الشريف فأخذته امرأة يزيد و غسلته بالماء و طيبته بماء الورد فرأت تلك الليلة في منامها سيدة النساء فاطمة الزهراء صلوات اللّه عليها و هي تعتذر إليها بحسن صنيعها .
قال الشيخ المفيد (رحمه الله): ثم قال لعلي بن الحسين عليهما السلام: أبوك قطع رحمي و جهل حقي و نازعني سلطاني ففعل اللّه به ما قد رأيت: فقال علي بن الحسين (عليه السلام) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . فقال يزيد لابنه خالد: أجبه (أردد عليه خ ل) فلم يدر خالد ما يريد عليه. فقال يزيد: قل وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ . ثم دعا بالنساء و الصبيان فأجلسوا بين يديه فرأى هيئة قبيحة فقال: قبح اللّه ابن مرجانة لو كانت بينكم و بينه قرابة و رحم ما فعل هذا بكم و لا بعث بكم على هذه الحالة .
روى علي بن إبراهيم القمي عن الصادق (عليه السلام) قال: لما أدخل رأس الحسين بن علي عليهما السلام على يزيد و أدخل عليه علي بن الحسين (عليه السلام) و بنات أمير المؤمنين عليهم السلام و كان علي بن حسين مغلولا فقال يزيد لعنه اللّه: يا علي بن الحسين الحمد للّه الذي قتل أباك. فقال علي بن حسين (عليه السلام) : لعنة اللّه على من قتل أبي. قال: فغضب يزيد و أمر بضرب عنقه (عليه السلام) . فقال علي بن حسين (عليه السلام) : فإذا قتلتني فبنات رسول اللّه من يردهم إلى منازلهم و ليس لهم محرم غيري. فقال: أنت تردهم إلى منازلهم. ثم دعا بمبرد فأقبل يبرد الجامعة عن عنقه بيده. ثم قال له: يا علي أ تدري ما الذي أريد بذلك.
قال: بلى تريد أن لا يكون لأحد علي منة غيرك. فقال يزيد: هذا و اللّه ما أردت.
ثم قال يزيد: يا علي بن الحسين ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ .
فقال علي بن حسين (عليه السلام) : كلا ما هذه فينا نزلت إنما نزلت فينا ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها فنحن الذين لا نأسى على ما فاتنا و لا نفرح بما أتانا منها .
و في كتاب العقد الفريد: قال خرج الحسين (عليه السلام) الى الكوفة ساخطا لولاية يزيد بن معاوية فكتب يزيد إلى عبيد اللّه بن زياد و هو و إليه بالعراق إنه بلغني أن حسينا سار إلى الكوفة و قد ابتلى به زمانك من بين الأزمان و بلدك بين البلدان و ابتليت به من بين العمال و عنده تعتق أو تعود عبدا فقتله عبيد اللّه و بعث رأسه و ثقله إلى يزيد فلما وضع الرأس بين يديه تمثل بقول حصين بن الجماحم المزني:
نفلق هاما من رجال أعزة *** علينا و هم كانوا أعق و أظلما
و قال له علي بن الحسين و كان في السبي: كتاب اللّه تعالى أولى بك من الشعر يقول اللّه تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22، 23] .
فغضب يزيد و جعل يعبث بلحيته ثم قال: غير هذا من كتاب اللّه أولى بك و بأبيك قال اللّه {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] ما ترون يا أهل الشام في هؤلاء؟ فقال له رجل منهم- الكلمة المعلومة الملعونة- قال النعمان بن بشير الأنصاري: أنظر ما كان يصنعه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بهم لو رآهم في هذه الحالة فاصنعه بهم. قال: صدقت خلوا عنهم و اضربوا عليهم القباب و أمال عليهم المطبخ و كساهم و أخرج إليهم جوائز كثيرة و قال: لو كان بين ابن مرجانة و بينهم نسب ما قتلهم ثم ردهم إلى المدينة .
و في المناقب و غيره: روي أن يزيد لعنه اللّه أقبل إلى عقيلة الهاشميين أن تتكلم فأشارت العقيلة سلام اللّه عليها إلى علي بن الحسين (عليه السلام) و قالت: هو سيدنا و خطيب القوم. فأنشأ السجاد (عليه السلام) :
لا تطمعوا أن تهينونا فنكرمكم *** و أن نكف الأذى منكم و تؤذونا
اللّه يعلم أنا لا نحبكـــــــــــــــم *** و لا نلومكم إن لم تحبونا
قال يزيد: صدقت يا غلام و لكن أراد أبوك و جدك أن يكونا أميرين و الحمد للّه الذي قتلهما و سفك دماءهما. فقال (عليه السلام) : لم تزل النبوة و الأمرة لآبائي و أجدادي من قبل أن تولد . و لهذا كانت سكينة تقول: و اللّه ما رأيت أقسى قلبا من يزيد و لا رأيت كافرا و لا مشركا شرا منه و لا أجفا منه .
و في المناقب عن يحيى بن الحسن قال يزيد لعلي بن الحسين (عليه السلام) : وا عجبا لأبيك سمى عليا و عليا. فقال: إن أبي أحب أباه فسمى باسمه مرارا .
قال السيد (رحمه الله): ثم وضع رأس الحسين (عليه السلام) بين يديه و أجلس النساء خلفه لئلا ينظرن إليه فرآه علي بن الحسين (عليه السلام) فلم يأكل الرءوس بعد ذلك أبدا و أما زينب فإنها لما رأته أهوت إلى جيبها فشقته ثم نادت بصوت حزين يفزع القلوب: يا حسيناه يا حبيب رسول اللّه يا بن مكة و منى يا بن فاطمة الزهراء سيدة النسا يا بن بنت المصطفى.
قال الراوي: فأبكت و اللّه كل من كان في المجلس و يزيد عليه لعائن اللّه ساكت ثم جعلت امرأة من بني هاشم كانت في دار يزيد تندب على الحسين (عليه السلام) و تنادي: يا حبيباه يا سيد أهل بيتاه يا بن محمداه يا ربيع الأرامل و اليتامى يا قتيل أولاد الأدعياء.
قال الراوي: فأبكت كل من سمعها .
و مما يزيل القلب عن مستقرها *** و يترك زند الغيظ في الصدر واريا
وقوف بنات الوحي عند طليقها *** بحال بها يشجين حتى الأعاديا
ثم دعا يزيد لعنه اللّه بقضيب خيزران فجعل ينكت به ثنايا الحسين (عليه السلام) فأقبل عليه أبو برزة الأسلمي و قال: ويحك يا يزيد أ تنكت بقضيبك ثغر الحسين ابن فاطمة أشهد لقد رأيت النبي (صلى اللّه عليه و آله) يرشف ثناياه و ثنايا أخيه الحسن و يقول: أنتما سيدا شباب أهل الجنة فقتل اللّه قاتلكما و لعنه و أعد له جهنم و ساءت مصيرا.
قال الراوي: فغضب يزيد فأمر بإخراجه فأخرج سحبا.
قال: و جعل يزيد يتمثل بأبيات ابن الزبعرى:
ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا و استهلوا فرحا *** ثم قالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم *** و عدلناه ببدر فاعتدل
لعبت هاشم بالملك فـــــلا *** خبر جاء و لا وحي نزل
لست من خندف ان لم أنتقم *** من بني أحمد ما كان فعل
قال الراوي: فقامت زينب بنت علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقالت: «الحمد للّه رب العالمين و صلى اللّه على رسوله و آله أجمعين صدق اللّه سبحانه كذلك يقول {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} [الروم: 10] أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض و آفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا على اللّه هوانا و بك عليه كرامة و أن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك و نظرت في عطفك جذلان مسرورا حيث رأيت الدنيا لك مستوثقة و الأمور متسقة و حين صفا لك ملكنا و سلطاننا فمهلا مهلا أنسيت قول اللّه عز و جل { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178].
أ من العدل يا بن الطلقاء تخديرك حرائرك و إماءك و سوقك بنات رسول اللّه سبايا قد هتكت ستورهن و أبديت وجوههن تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد و يستشرفهن أهل المناهل و المناقل و يتصفح وجوههن القريب و البعيد و الدني و الشريف ليس معهن من رجالهن و لا من حماتهن حمي و كيف ترتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء و نبت لحمه من دماء الشهداء و كيف لا يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف و الشنآن و الاحن و الأضغان ثم تقول غير متأثم و لا مستعظم :
لأهلوا و استهلوا فرحا *** ثم قالوا يا يزيد لا تشل
منتحيا على ثنايا أبي عبد اللّه سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك و كيف لا تقول ذلك و قد نكأت القرحة و استأصلت الشأفة باراقتك دماء ذرية محمد (صلى اللّه عليه وآله) و نجوم الأرض من آل عبد المطلب و تهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم فلتردن وشيكا موردهم و لتودن أنك شللت و بكمت و لم تكن قلت ما قلت و فعلت ما فعلت. اللهم خذ لنا بحقنا و انتقم ممن ظلمنا و احلل غضبك بمن سفك دماءنا و قتل حماتنا فو اللّه ما فريت إلا جلدك و لا حززت إلا لحمك و لتردن على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بما تحملت من سفك دماء ذريته و انتكهت من حرمته في عترته و لحمته حيث يجمع اللّه شملهم ويلم شعثهم و يأخذ بحقهم وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ و حسبك باللّه حاكما و بمحمد خصيما و بجبرئيل ظهيرا و سيعلم من سول لك و مكنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلا و أيكم شر مكانا و أضعف جندا و لئن جرت علي الدواهي مخاطبتك إني لأستصغر قدرك و أستعظم تقريعك و أستكثر توبيخك لكن العيون عبرى و الصدور حرى ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب اللّه النجباء بحزب الشيطان الطلقاء فهذه الأيدي تنطف من دمائنا و الأفواه تتحلب من لحومنا و تلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل و تعفرها أمهات الفراعل و لئن اتخذتنا مغنما لتجدنا وشيكا مغرما حين لا تجد إلا ما قدمت يداك و ما ربك بظلام للعبيد فإلى اللّه المشتكى و عليه المعول فكد كيدك واسع سعيك و ناصب جهدك فو اللّه لا تمحو ذكرنا و لا تميت وحينا و لا تدرك أمدنا و لا ترحض عنك عارها و هل رأيك الافند و أيامك الاعدد و جمعك إلّا بدد يوم ينادي المنادي: ألا لعنة اللّه على الظالمين. فالحمد للّه رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة و المغفرة و لآخرنا بالشهادة و الرحمة و نسأل اللّه أن يكمل لهم الثواب و يوجب لهم المزيد و يحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود حسبنا اللّه و نعم الوكيل.
فقال يزيد لعنه اللّه:
يا صيحة تحمد من صوائح *** ما أهون الموت على النوائح
أقول: و في كتاب ابن عباس إلى يزيد: و إن من أعظم الشماتة حملك بنات رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و أطفاله و حرمه من العراق إلى الشام أسارى مجلوبين مسلوبين ترى الناس قدرتك علينا و إنك قد قهرتنا و استوليت على آل رسول اللّه و في ظنك أنك أخذت بثار أهلك الكفرة الفجرة يوم بدر و أظهرت الانتقام الذي كنت تخفيه و الأضغان التي تكمن في قلبك كمون النار في الزناد و جعلت أنت و أبوك دم عثمان وسيلة إلى إظهارها فالويل لك من ديان يوم الدين و و اللّه لئن أصبحت آمنا من جراحة يدي فما أنت بآمن من جراحة لساني بفيك الكثكث و أنت المفند المثبور و لك الأثلب و أنت المذموم و لا يغرنك ان ظفرت بنا اليوم فو اللّه لئن لم نظفر بك اليوم لنظفرن غدا بين يدي الحاكم العادل الذي لا يجور في حكمه و سوف يأخذك سريعا أليما و يخرجك من الدنيا مذموما مدحورا أثيما فعش لا أبا لك ما استطعت فقد ازداد عند اللّه ما اقترفت. و السلام على من اتبع الهدى .
قال الشيخ المفيد (رحمه الله): قالت فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) : و لما جلسنا بين يدي يزيد رق لنا فقام إليه رجل من أهل الشام أحمر فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية يعنيني و كنت جارية وضيئة.
فأرعدت و ظننت أن ذلك جائز لهم فأخذت بثياب عمتي زينب و كانت تعلم أن ذلك لا يكون فقالت عمتي للشامي: كذبت و اللّه و لؤمت و اللّه ما ذاك لك و لا له.
فغضب يزيد فقال: كذبت و اللّه إن ذلك لي و لو شئت أن أفعل لفعلت. قالت: كلا و اللّه ما جعل اللّه ذلك لك إلا أن تخرج عن ملتنا و تدين بغيرها. فاستطار يزيد غضبا و قال: إياي تستقبلين بهذا إنما خرج من الدين أبوك و أخوك. قالت زينب عليها السلام: بدين اللّه و دين أبي و دين أخي اهتديت أنت وجدك و أبوك ان كنت مسلما.
قال: كذبت يا عدوة اللّه. قالت له: أنت أمير تشتم ظالما و تقهر بسلطانك. فكأنه استحيا و سكت. فعاد الشامي فقال: هب لي هذه الجارية. فقال له يزيد: أعزب وهب اللّه لك حتفا قاضيا .
و ذكر مثله باختصار السبط في التذكرة عن هشام بن محمد كالصدوق في الأمالي و ابن الأثير في الكامل الا انهما ذكرا مكان فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) فاطمة بنت علي (عليه السلام) .
و في اللهوف فنظر رجل من أهل الشام إلى فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية. فقالت فاطمة لعمتها: يا عمتاه أوتمت و أستخدم. فقالت زينب: لا و لا كرامة لهذا الفاسق. فقال الشامي: من هذه الجارية. فقال يزيد: هذه فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) و تلك زينب بنت علي (عليه السلام) . فقال الشامي: الحسين ابن فاطمة و علي بن أبي طالب؟ قال: نعم. فقال الشامي: لعنك اللّه يا يزيد أ تقتل عترة نبيك و تسبي ذريته و اللّه ما توهمت إلّا أنهم سبي الروم. فقال يزيد: و اللّه لألحقنك بهم ثم أمر به فضرب عنقه .
و في أمالي الصدوق: (رحمه الله): ثم إن يزيد لعنه اللّه أمر بنساء الحسين (عليه السلام) فحبسن مع علي بن الحسين (عليه السلام) في محبس (مجلس) لا يكنهم من حر و لا قر حتى تقشرت وجوههم .
و في اللهوف: قال الراوي: و دعا يزيد بالخاطب و أمره أن يصعد المنبر فيذم الحسين و أباه صلوات اللّه عليهما فصعد و بالغ في ذم أمير المؤمنين و الحسين الشهيد عليهما السلام و المدح لمعاوية و يزيد فصاح به علي بن الحسين (عليه السلام) : ويلك أيها الخاطب اشتريت مرضاة المخلوقين بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار. و لقد أحسن ابن سنان الخفاجي في وصف أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه يقول:
أعلى المنابر تعلنون بسبه *** و بسيفه نصبت لكم أعوادها
أقول: الخفاجي أبو محمد عبد اللّه بن محمد بن سنان الشاعر المعروف بابن سنان منسوب إلى خفاجة من بني عامر و من شعره أيضا:
يا أمة كفرت و في أفواهها ال *** قرآن فيه ضلالها و رشادها
أعلى المنابر تعلنون بسبــــــه *** و بسيفه نصبت لكم أعوادها
تلك الخلائق بينكم بدريـــــــة *** قتل الحسين و ما خبت أحقادها
و في البحار: و قال صاحب المناقب و غيره: روي أن يزيد أمر بمنبر و خطيب ليخبر الناس بمساوئ الحسين و علي عليهما السلام و ما فعلا فصعد الخطيب المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه ثم أكثر الوقيعة في علي و الحسين عليهما السلام و أطنب في تقريظ معاوية و يزيد فذكرهما بكل جميل. قال: فصاح به علي بن الحسين (عليه السلام) : ويلك أيها الخاطب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار. ثم قال علي بن الحسين (عليه السلام) : يا يزيد ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلمات للّه فيهن رضى و لهؤلاء الجلساء فيهن أجر و ثواب. قال: فأبى يزيد عليه ذلك فقال الناس: يا أمير المؤمنين ائذن له فليصعد المنبر فلعلنا نسمع منه شيئا. فقال: إنه إن صعد لم ينزل إلا بفضيحتي و بفضيحة آل أبي سفيان.
فقيل له: يا أمير المؤمنين و ما قدر ما يحسن هذا؟ فقال: إن هذا من أهل بيت قد زقوا العلم زقا. فلم يزالوا به حتى أذن له فصعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه ثم خطب خطبة أبكى منها العيون و أوجل منها القلوب ثم قال:
أيها الناس أعطينا ستا و فضلنا بسبع: أعطينا العلم و الحلم و السماحة و الفصاحة و الشجاعة و المحبة في قلوب المؤمنين و فضلنا بأن منا النبي المختار محمدا و منا الصديق و منا الطيار و منا أسد اللّه و أسد رسوله و منا سبطا هذه الأمة من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني أنبأته بحسبي و نسبي أيها الناس أنا ابن مكة و منى أنا ابن زمزم و صفا- الخطبة .
أقول: و في الكامل البهائي: إنه (عليه السلام) سأل يزيد أن يخطب يوم الجمعة فقال: نعم. فلما كان يوم الجمعة أمر ملعونا أن يصعد المنبر و يذكر ما جاء على لسانه من المساوئ في علي و الحسين عليهما السلام و يقرر الثناء و الشكر على الشيخين. فصعد الملعون المنبر و قال ما شاء من ذلك فقال الإمام (عليه السلام) : ائذن لي حتى أخطب أنا أيضا. فندم يزيد على ما وعده من أن يأذن له فلم يأذن له فشفع الناس فيه فلم يقبل شفاعتهم ثم قال معاوية ابنه- و هو صغير السن-: يا أباه ما يبلغ خطبته ائذن له حتى يخطب. قال يزيد: أنتم في أمر هؤلاء في شك إنهم ورثوا العلم و الفصاحة و أخاف أن يحصل من خطبته فتنة علينا و بالها. ثم أجازه فصعد (عليه السلام) المنبر و قال:
الحمد للّه الذي لا بداية له و الدائم الذي لا نفاذ له و الأول الذي لا أول لأوليته و الآخر الذي لا آخر لآخريته و الباقي بعد فناء الخلق قدر الليالي و الأيام و قسم فيما بينهم الأقسام فتبارك اللّه الملك العلام.
و ساق (عليه السلام) الخطبة إلى أن قال: إن اللّه تعالى أعطانا العلم و الحلم و الشجاعة و السخاوة و المحبة في قلوب المؤمنين و منا رسول اللّه و وصيه و سيد الشهداء و جعفر الطيار في الجنة و سبطا هذه الأمة و المهدي الذي يقتل الدجال.
أيها الناس من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا أعرفه بحسبي و نسبي.: أنا ابن مكة و منى أنا ابن زمزم و صفا أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء أنا ابن خير من ائتزر و ارتدى أنا ابن خير من طاف و سعى أنا ابن خير من حج و أتى أنا ابن من أسري به إلى المسجد الأقصى أنا ابن من بلغ به إلى سدرة المنتهى أنا ابن من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى أنا ابن الحسين القتيل بكربلاء أنا ابن علي المرتضى أنا ابن محمد المصطفى أنا ابن خديجة الكبرى أنا ابن فاطمة الزهراء أنا ابن سدرة المنتهى أنا ابن شجرة طوبى أنا ابن المرمل بالدماء أنا ابن من بكى عليه الجن في الظلما أنا ابن من ناح عليه الطيور في الهوا.
فلما بلغ كلامه (عليه السلام) إلى هذا الموضع ضج الناس بالبكاء و النحيب و خشي يزيد لعنه اللّه أن يكون فتنة. فأمر المؤذن أن يؤذن للصلاة فقام المؤذن و قال: «اللّه أكبر اللّه أكبر». قال الإمام (عليه السلام) : نعم اللّه أكبر و أعلى و أجل و أكرم مما أخاف و أحذر. فلما قال: «أشهد أن لا إله إلا اللّه». قال (عليه السلام) :
نعم أشهد مع كل شاهد و أحتمل على كل جاحد أن لا إله غيره و لا رب سواه. فلما قال: «أشهد أن محمدا رسول اللّه». أخذ (عليه السلام) عمامته من رأسه و قال للمؤذن: أسألك بحق محمد هذا أن تسكت ساعة ثم أقبل على يزيد و قال: يا يزيد هذا الرسول العزيز الكريم جدي أم جدك فإن قلت إنه جدك يعلم العالمون أنك كاذب و إن قلت إنه جدي فلم قتلت أبي ظلما و انتهبت ماله و سبيت نساءه.
فقال (عليه السلام) هذا و أهوى إلى ثوبه فشقه ثم بكى و قال: و اللّه لو كان في الدنيا من جده رسول اللّه فليس غيري فلم قتل هذا الرجل أبي ظلما و سبانا كما تسبى الروم. ثم قال: يا يزيد فعلت هذا ثم تقول محمد رسول اللّه و تستقبل القبلة فويل لك من يوم القيامة حيث كان خصمك جدي و أبي. فصاح يزيد بالمؤذن أن يقيم الصلاة فوقع بين الناس دمدمة و زمزمة عظيمة فبعض صلى و بعضهم لم يصل حتى تفرقوا.
قال: ثم أرسلت زينب عليها السلام إلى يزيد تسأله الإذن أن يقمن المأتم على الحسين فأجاز ذلك و أنزلهن في دار الحجارة فأقمن المأتم هناك سبعة أيام و يجتمع عندهن في كل يوم جماعة كثيرة لا تحصى من النساء. فقصد الناس أن يهجموا على يزيد في داره و يقتلوه فاطلع على ذلك مروان و قال ليزيد: لا يصلح لك توقف أهل بيت الحسين في الشام فأعد لهم الجهاز و ابعث بهم إلى الحجاز. فهيأ لهم المسير و بعث بهم إلى المدينة .
أقول: و نقل صاحب المناقب عن المدائني: أنه لما انتسب السجاد (عليه السلام) إلى النبي (صلى اللّه عليه و آله) قال يزيد لجلوازه: أدخله في هذا البستان و اقتله و ادفنه فيه. فدخل به إلى البستان و جعل يحفر و السجاد (عليه السلام) يصلي فلما هم بقتله ضربته يد من الهواء فخر لوجهه و شهق و دهش فرآه خالد بن يزيد و ليس لوجهه بقية فانقلب إلى أبيه فقص عليه فأمر بدفن الجلواز في الحفرة و اطلاقه (عليه السلام) .
قال: و موضع حبس زين العابدين (عليه السلام) هو اليوم مسجد .
و روى صاحب البصائر عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: لما أتي بعلي بن الحسين عليهما السلام إلى يزيد بن معاوية و من معه جعلوه في بيت فقال بعضهم: إنما جعلنا في هذا البيت ليقع علينا فيقتلنا فراطن الحرس فقالوا. انظروا إلى هؤلاء يخافون أن يقع عليهم البيت و إنما يخرجون غدا فيقتلون. قال علي بن الحسين (عليه السلام) : لم يكن فينا أحد يحسن الرطانة غيري. و الرطانة عند أهل المدينة الرومية .
و نقل شيخنا المحدث النوري «قده» و العلامة المجلسي (رحمه الله) عن دعوات الراوندي: قال: روي أنه لما حمل علي بن الحسين (عليه السلام) إلى يزيد هم بضرب عنقه فوقف بين يديه و هو يكلمه ليستنطقه بكلمة يوجب بها قتله و علي (عليه السلام) يجيبه حيثما يكلمه و في يده سبحة صغيرة يديرها بأصابعه و هو يتكلم فقال له يزيد: أنا أكلمك و أنت تجيبني و تدير أصابعك بسبحة في يدك فكيف يجوز ذلك؟
فقال: حدثني أبي عن جدي (صلى اللّه عليه و آله) أنه كان إذا صلى الغداة و انفتل لا يكلم حتى يأخذ سبحة بين يديه فيقول: اللهم إني أصبحت أسبحك و أحمدك و أهللك و أكبرك و أمجدك بعدد ما أدير به سبحتي. و يأخذ السبحة في يده و يديرها و هو يتكلم بما يريد من غير أن يتكلم بالتسبيح و ذكر أن ذلك محتسب له و هو حرز إلى أن يأوي إلى فراشه فإذا آوى الى فراشه قال مثل ذلك القول و وضع السبحة تحت رأسه فهي محسوبة له من الوقت إلى الوقت فعلت هذا اقتداء بجدي فقال له يزيد مرة بعد أخرى: لست أكلم أحدا منكم إلا و يجيبني بما يفوز به. و عفا عنه (عليه السلام) و وصله و أمر بإطلاقه .
المراد بالجد أمير المؤمنين (عليه السلام) و يحتمل كونه الرسول (صلى اللّه عليه و آله) بقرينة كون المخاطب ممن لا يرى لأمير المؤمنين (عليه السلام) فضلا.
و في اللهوف: قال الراوي: و وعد يزيد علي بن الحسين (عليه السلام) في ذلك اليوم أنه يقضي له ثلاث حاجات ثم أمر بهم إلى منزل لا يكنهم من حر و لا برد فأقاموا به حتى تقشرت وجوههم و كانوا مدة إقامتهم في البلد المشار إليه ينوحون على الحسين (عليه السلام) .
قالت سكينة: فلما كان في اليوم الرابع من مقامنا رأيت في المنام رؤيا- و ذكرت مناما طويلا- تقول في آخره: رأيت امرأة راكبة في هودج و يدها موضوعة على رأسها فسألت عنها فقيل لي: هذه فاطمة بنت محمد رسول اللّه صلى اللّه عليهما و آلهما أم أبيك صلوات اللّه عليه فقلت: و اللّه لأنطلقن إليها و لأخبرن ما صنع بنا. فسعيت مبادرة نحوها حتى لحقت بها فوقفت بين يديها أبكي و أقول: يا أماه جحدوا و اللّه حقنا يا أماه بددوا و اللّه شملنا يا أماه استباحوا و اللّه حريمنا يا أماه قتلوا و اللّه الحسين أبانا. فقالت لي: كفي صوتك يا سكينة فقد قطعت نياط قلبي هذا قميص أبيك الحسين لا يفارقني حتى ألقى اللّه به .
و قال الشيخ ابن نما: و رأت سكينة في منامها و هي بدمشق كأن خمسة نجب من نور قد أقبلت و على كل نجيب شيخ و الملائكة محدقة بهم و معهم و صيف يمشي فمضى النجب و أقبل الوصيف إلي و قرب مني و قال: يا سكينة إن جدك يسلم عليك. فقلت: و على رسول اللّه السلام يا رسول رسول اللّه من أنت؟ قال:
وصيف من وصائف الجنة. فقلت: من هؤلاء المشيخة الذين جاءوا على النجب؟
قال: الأول آدم صفوة اللّه (عليه السلام) و الثاني إبراهيم خليل اللّه (عليه السلام) و الثالث موسى كليم اللّه (عليه السلام) و الرابع عيسى روح اللّه (عليه السلام) . فقلت:
من هذا القابض على لحيته يسقط مرة و يقوم أخرى؟ فقال: جدك رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) . فقلت: و أين هم قاصدون؟ قال: إلى أبيك الحسين (عليه السلام) فأقبلت أسعى في طلبه لأعرفه ما صنع بنا الظالمون بعده فبينا أنا كذلك إذ أقبلت خمسة هوادج من نور و في كل هودج امرأة فقلت: من هذه النسوة المقبلات؟
قال: الأولى حواء أم البشر و الثانية آسية بنت مزاحم و الثالثة مريم بنت عمران و الراب