انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

لم يجد السجاد (عليه السّلام) بدا من الرحيل من كربلاء إلى المدينة بعد أن أقام ثلاثة أيام، لأنه رأى عماته و نساءه و صبيته نائحات الليل و النهار يقمن من قبر و يجلسن عند آخر.
تشكو عداها Ùˆ تنعى قومها فلها حال من الشجو لف الصبر مدرجه‏
فنعيها بشجى الشكوى تؤلفه‏ Ùˆ دمعها بدم الاحشاء تمزجه‏
Ùˆ يدخل الشجو في الصخر الأصم لها تزفر من شظايا القلب تخرجه‏ «1»

قال بشير بن حذلم : لما قربنا من المدينة نزل علي بن الحسين وحط رحله Ùˆ ضرب فسطاط Ùˆ أنزل نساءه Ùˆ قال : يا بشير رحم اللّه أباك لقد كان شاعرا فهل تقدر على شي‏Ø¡ منه؟ قلت : بلى يا ابن رسول اللّه إني لشاعر فقال (عليه السّلام) : ادخل المدينة Ùˆ انع أبا عبد اللّه (عليه السّلام) ØŒ قال بشير : فركبت فرسي حتى دخلت المدينة فلما بلغت مسجد النبي (صلى اللّه عليه Ùˆ آله Ùˆ سلم) رفعت صوتي بالبكاء Ùˆ أنشأت :
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها قتل الحسين فأدمعي مدرار
الجسم منه بكربلاء مضرج‏ Ùˆ الرأس منه على القناة يدار

Ùˆ قلت: هذا علي بن الحسين مع عماته Ùˆ أخواته قد حلوا بساحتكم Ùˆ أنا رسوله إليكم أعرفكم مكانه، فخرج الناس يهرعون Ùˆ لم تبق مخدرة إلا برزت تدعو بالويل Ùˆ الثبور Ùˆ ضجت المدينة بالبكاء فلم ير باك أكثر من ذلك اليوم Ùˆ اجتمعوا على زين العابدين يعزونه، فخرج من الفسطاط Ùˆ بيده خرقة يمسح بها دموعه Ùˆ خلفه مولى معه كرسي، فجلس عليه Ùˆ هو لا يتمالك من العبرة Ùˆ ارتفعت الأصوات‏
بالبكاء و الحنين.
فأومأ إلى الناس أن اسكتوا فلما سكتت فورتهم قال عليه السّلام:
الحمد للّه رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، باري الخلائق أجمعين، الذي بعد، فارتفع في السماوات العلى، و قرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور، و فجائع الدهور، و ألم الفجائع، و مضاضة اللواذع، و جليل الرزء، و عظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة.
أيها القوم، إنّ اللّه تعالى و له الحمد ابتلانا بمصائب جليلة، و ثلمة في الإسلام عظيمة، قتل أبو عبد اللّه الحسين عليه السّلام و عترته، و سبيت نساؤه و صبيته، و داروا برأسه في البلدان، من فوق عامل السنان، و هذه الرزية التي لا مثلها رزية.
أيها الناس، فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله، أم أي فؤاد لا يحزن من أجله، أم أية عين منكم تحبس دمعها، و تضن عن أنهمالها فلقد بكت السبع الشداد لقتله، و بكت البحار بأمواجها. و السماوات بأركانها، و الأرض بأرجائها، و الأشجار بأغصانها، و الحيتان في لجج البحار، و الملائكة المقربون، و أهل السماوات أجمعون.
أيها الناس، أي قلب لا ينصدع لقتله، أم أي فؤاد لا يحن إليه أم أي سمع يسمع بهذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام و لا يصم.
أيها الناس، اصبحنا مشردين مطرودين مذودين شاسعين عن الأمصار كأننا أولاد ترك و كابل، من غير جرم اجترمناه، و لا مكروه ارتكبناه، و لا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هذا إلا اختلاق و اللّه لو أن النبي تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا، فإنا للّه و إنا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها و أفجعها و أكظها و أفظها و أمرها و افدحها، فعند اللّه نحتسب ما أصابنا، و ما بلغ بنا، فإنه عزيز ذو انتقام.
فقام إليه صوحان بن صعصعة بن صوحان العبدي و كان زمنا و اعتذر بما عنده من زمانة رجليه.
فأجابه عليه السّلام بقبول عذره Ùˆ حسن الظن فيه Ùˆ شكر له Ùˆ ترحم على أبيه ØŒ ثم‏ دخل زين العابدين المدينة بأهله Ùˆ عياله‏ «2» Ùˆ جاء إليه إبراهيم بن طلحة بن عبيد اللّه Ùˆ قال: من الغالب؟ فقال عليه السّلام: إذا دخل وقت إلى الصلاة فأذّن Ùˆ أقم تعرف الغالب‏ «3».
فأما زينب أم كلثوم فأنشأت تقول:
مدينة جدنا لا تقبلينا فبالحسرات و الأحزان جينا
خرجنا منك بالأهلين طرا رجعنا لا رجال و لا بنينا

ثم أخذت زينب بنت أمير المؤمنين بعضادتي باب المسجد و صاحت:
يا جداه إني ناعية إليك أخي الحسين.
Ùˆ صاحت سكينة: يا جداه إليك المشتكى مما جرى علينا فو اللّه ما رأيت أقسى من يزيد Ùˆ لا رأيت كافرا Ùˆ لا مشركا شرا منه Ùˆ لا أجفى Ùˆ أغلظ فلقد كان يقرع ثغر أبي بمخصرته Ùˆ هو يقول: كيف رأيت الضرب يا حسين‏ «4».
Ùˆ أقمن حرائر الرسالة المأتم على سيد الشهداء Ùˆ لبسن المسوح Ùˆ السواد نائحات الليل Ùˆ النهار Ùˆ الإمام السجاد يعمل لهن الطعام‏ «5».
Ùˆ في حديث الصادق عليه السّلام: ما اختضبت هاشمية Ùˆ لا ادهنت Ùˆ لا أجيل مرود في عين هاشمية خمس حجج حتى بعث المختار برأس عبيد اللّه بن زياد «6».
Ùˆ أما الرباب فبكت على أبي عبد اللّه حتى جفت دموعها فأعلمتها بعض جواريها بأن السويق يسيل الدمعة فأمرت أن يصنع لها السويق لاستدرار الدموع‏ «7».
Ùˆ كان من رثائها في أبي عبد اللّه عليه السّلام‏ «8» :
إن الذي كان نورا يستضاء به‏ بكربلاء قتيل غير مدفون‏
سبط النبي جزاك اللّه صالحة عنا Ùˆ جنبت خسران الموازين‏
قد كنت لي جبلا صعبا ألوذ به‏ Ùˆ كنت تصحبنا بالرحم Ùˆ الدين‏
من لليتامى Ùˆ من للسائلين Ùˆ من‏ يغني Ùˆ يؤوي إليه كل مسكين‏
Ùˆ اللّه لا أبتغي صهرا بصهركم‏ حتى أغيّب بين الرمل Ùˆ الطين‏

و أما علي بن الحسين فانقطع عن الناس انحيازا عن الفتن و تفرغا للعبادة و البكاء على أبيه و لم يزل باكيا ليله و نهاره فقال له بعض مواليه إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين فقال عليه السّلام يا هذا إنما أشكو بثي و حزني إلى اللّه و أعلم من اللّه ما لا تعلمون إن يعقوب كان نبيا فغيب اللّه عنه واحدا من أولاده و عنده اثنا عشر و هو يعلم أنه حي فبكى عليه حتى ابيضت عيناه من الحزن و إني نظرت إلى أبي و إخوتي و عمومتي و صحبي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني و إني لا أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة و إذا نظرت إلى عماتي و أخواتي ذكرت فرارهن من خيمة إلى خيمة:
رأى اضطرام النار في الخباء و هو خباء العز و الاباء
رأى هجوم الكفر و الضلالة على بنات الوحي و الرسالة
شاهد في عقائل النبوة ما ليس في شريعة المروة
من نهبها و سلبها و ضربها و لا مجبر قط غير ربها
شاهد سوق الخفرات الطاهرة سوافر الوجوه لابن العاهرة
رأى وقوف الطاهرات الزاكية قبالة الرجس يزيد الطاغية
Ùˆ هن في الوثاق Ùˆ الحبال‏ في محشد الاوغاد Ùˆ الانذال‏ «9»

إليك يا رسول اللّه المشتكى مما أتت به أمتك مع أبنائك الاطهرين من الظلم و الاضطهاد. و الحمد للّه رب العالمين.
_________
(1) لحجة الإسلام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (قده).
(2) اللهوف لابن طاووس ص 116.
(3) أمالي الشيخ الطوسي ص 66 و في المقدمة ص 56 ذكرناه مراده.
(4) رياض الأحزان ص 163.
(5) محاسن البرقي ج 2 ص 420 باب الاطعام للمأتم.
(6) مستدرك الوسائل ج 2 ص 215 باب 94.
(7) البحار ج 10 ص 235 عن الكافي.
(8) أغاني ج 2 ص 158.
(9) للحجة الشيخ محمد حسين الأصفهاني.