لما بلغ ابن زياد لعنه اللّه وصول أهل بيت الحسين (عليه السلام) و انهم على أبواب الكوفة أمر بإخراج الرءوس التي أرسلها ابن سعد لعنه اللّه، و أن توضع على القنا و تحمل مع أهل البيت، و أن تطاف مع أهل البيت في الاسواق و السكك كي يظهر غلبة يزيد لعنه اللّه، و يزيد من ارعاب الناس و تخويفهم، فلما علم أهل الكوفة قدومهم خرجوا للنظر إليهم.
روى عن مسلم الجصاص انّه قال: دعاني ابن زياد لإصلاح دار الامارة بالكوفة، فبينما أنا أجصّص الابواب و اذا أنا بالزعقات قد ارتفعت من جنبات الكوفة، فأقبلت على خادم كان معنا، فقلت: ما لي أرى الكوفة تضج؟ قال: الساعة أتوا برأس خارجي خرج على يزيد، فقلت: من هذا الخارجي؟ قال: الحسين بن عليّ.
قال: فتركت الخادم حتى خرج و لطمت وجهي حتى خشيت على عيني أن تذهب، و غسلت يدي من الجص و خرجت من ظهر القصر و أتيت الى الكناس، فبينما أنا واقف و الناس يتوقّعون وصول السبايا و الرءوس، إذ أقبلت نحو أربعين شقّة تحمل على أربعين جملا فيها الحرم و النساء و أولاد فاطمة (عليها السلام)و اذا بعليّ بن الحسين (عليه السلام) على بعيره بغير وطاء و أوداجه تشخب دما و هو مع ذلك يبكي و يقول:
يا أمة السوء لا سقيا لربعكم يا أمة لم تراع جدّنا فينا
لو انّنا و رسول اللّه يجمعنا يوم القيامة ما كنتم تقولونا
تسيّرونا على الاقتاب عارية كأنّنا لم نشيّد فيكم دينا
بني أميّة ما هذا الوقوف على تلك المصائب لا تلبون داعينا
تصفّقون علينا كفّكم فرحا و أنتم في فجاج الأرض تسبونا
أ ليس جدّي رسول اللّه ويلكم أهدى البريّة من سبل المضلّينا
يا وقعة الطف قد أورثتني حزنا و اللّه تهتك أستار المسيئينا
قال: و صار أهل الكوفة يناولون الاطفال الذين على المحامل بعض التمر و الخبز و الجوز، فصاحت بهم أم كلثوم و قالت: يا أهل الكوفة انّ الصدقة علينا حرام و صارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال و أفواههم و ترمي به الى الارض، قال: كلّ ذلك و الناس يبكون على ما أصابهم، ثم انّ أم كلثوم أطلعت رأسها من المحمل و قالت لهم: صه يا أهل الكوفة تقتلنا رجالكم و تبكينا نساؤكم؟ فالحاكم بيننا و بينكم اللّه يوم فصل القضاء، فبينما هي تخاطبهنّ اذا بضجّة قد ارتفعت فاذا هم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين (عليه السلام) ، و هو رأس زهريّ قمريّ، أشبه الخلق برسول اللّه (صلى الله عليه واله)و لحيته كسواد السبج قد انتصل منها الخضاب، و وجهه دارة قمر طالع، و الريح تلعب بها يمينا و شمالا.
فالتفتت زينب (عليها السلام)فرأت رأس أخيها فنطحت جبينها بمقدم المحمل حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها، و أومأت إليه بحرقة و جعلت تقول:
يا هلالا لما استتمّ كمالا غاله خسفه فأبدا غروبا
ما توهّمت يا شقيق فؤادي كان هذا مقدّرا مكتوبا
يا أخي فاطم الصغيرة كلّمها فقد كاد قلبها أن يذوبا
يا أخي قلبك الشفيق علينا ما له قد قسى و صار صليبا
يا أخي لو ترى عليا لدى الأ سر مع اليتم لا يطيق وجوبا
كلما أوجعوه بالضرب نادا ك بذلّ يفيض دمعا سكوبا
يا أخي ضمّه إليك و قرّبه و سكّن فؤاده المرعوبا
ما أذلّ اليتيم حين ينادي بأبيه و لا يراه مجيبا
يقول المؤلف: لا يوجد ذكر المحمل الّا في خبر مسلم الجصاص، و هذا الخبر و ان نقله العلامة المجلسي لكن مستنده هو كتاب منتخب الطريحي و كتاب نور العين، و لا يخفى على أهل الخبرة و الفن في علم الحديث، حال الكتابين المذكورين، و نستبعد القول بانّ زينب نطحت جبينها بمقدم المحمل حتى سال الدم و إنشادها تلك الابيات فانها أجلّ من ذلك و هي عقيلة الهاشميين، عالمة غير معلمة، رضيعة ثدي النبوة و ذات مقام شامخ في الرضا و التسليم.
و الذي يظهر من المقاتل المعتبرة حمل أهل البيت عليهم السّلام على أقتاب المطايا من دون أن يكون لها ستر و غطاء، بل قدموا بأهل البيت الكوفة و هم محصورون بين الجيش- كما في رواية حذلم بن ستير التي رواها الشيخان- و ذلك لخوفهم من ثورة الناس و نهوضهم ضدهم، لكثرة الشيعة في الكوفة، و النساء اللواتي خرجن لاستقبال أهل البيت شققن جيوبهنّ و نشرن شعورهنّ و بكين و نحبن، كما سنذكره.
على أي حال، لما سار ابن سعد بالسبي المشار إليه، و قربوا الكوفة اجتمع اهلها للنظر إليهم، فاشرفت امرأة من الكوفيات فقالت: من أي الأسارى أنتنّ؟ فقلن: نحن أسارى آل محمد عليهم السّلام، فنزلت المرأة من سطحها فجمعت لهنّ ملأ و أزرا و مقانع و أعطتهنّ، فتغطّين .
يقول المؤلف: نقل الشيخ العالم الجليل القدر المرحوم الحاج ملا أحمد النراقي عطر اللّه مرقده في كتابه سيف الامة، عن التوراة من كتاب أرميا النبي في باب الاخبار بشهادة الحسين (عليه السلام) في الفصل الرابع ما ملخصه:
«كيف اكدرّ الذّهب تغيّر الإبريز الجيّد، انهالت حجارة القدس في رأس كلّ شارع، بنو بيت المعمور الكرماء الموزونون بالذّهب النقيّ كيف حسبوا أباريق خزف عمل يدي فخّاري، بنات آوى أيضا أخرجت أطباءها أرضعت أجراءها، أمّا بنت شعبي فجافية كالنّعام في البريّة، لصق لسان الرّاضع بحنكه من العطش، الأطفال يسألون خبزا و ليس من يكسره لهم.
الذين كانوا يأكلون المأكل الفاخرة قد هلكوا في الشوارع، الّذين كانوا يتربّون على القرمز احتضنوا المزابل، و قد صار عقاب بنت شعبي أعظم من قصاص خطيّة سدوم التي انقلبت كأنّه في لحظة و لم تلق عليها أياد، كان نذرها أنقى من الثّلج و أكثر بياضا من اللّبن و أجسامهم أشدّ حمرة من المرجان، جرزهم كالياقوت الأزرق، صارت صورتهم أشدّ ظلاما من السواد، لم يعرفوا في الشوارع، لصق جلدهم بعظمهم، صار يابسا كالخشب ...» .
أقول: و يظهر من هذه الفقرات المنقولة عن ذلك الكتاب السماوي، التي تشير الى واقعة الطف، سرّ سؤال تلك المرأة: «من أيّ الأسارى أنتنّ»، و اللّه العالم.